إن الأسترالي لا يطلب من الحياة الكثير ويكتفي بالقليل، على الرغم من بؤس عيشه مقارنة بعيش الشعوب الأكثر تحضرًا. وكل ما يحتاج إليه هو أن تتبع الطبيعة مسارها الطبيعي، أن تتوالى الفصول بانتظام، وأن يهطل المطر في وقته المعتاد بوفرة ومن دون إفراط
الدين والاقتصاد عند دوركهايم: هل هما شكلان من أشكال التماسك الاجتماعي؟
مقال فيليب شتاينر
ترجمة: أحمد إبراهيم العشماوي
نُشر المقال في مجلة Archives de sciences sociales des religions بتاريخ: يوليو / سبتمبر 2012 بمناسبة مرور 100 عام على نشر كتاب "الأشكال الأولية للحياة الدينية".
* فيليب شتاينر Philippe Steiner: أحد الأعضاء القدامى في جماعة علم الاجتماع الاقتصادي في فرنسا، ودكتور علم الاجتماع بجامعة السوربون.
أي موقع خصصه إميل دوركايم للنشاط الاقتصادي عند معالجته للممارسات الدينية للقبائل الاسترالية من أجل شرح المسألة الدينية؟ تقدم قراءة كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية Les formes élémentaires de la vie religieuse إجابة واضحة على هذا السؤال: لا يوجد موقع ما، أو لا يوجد موقع تقريبا. لا يوجد بمعنى أنه داخل بنية العمل ما من حضور للاقتصاد باعتباره بعدا هاما لنهجه. ولا يوجد تقريبا، وهو ما يجب تداركه مع ذلك، لأن قراءة كتاب الأشكال تظهر أن النشاط الاقتصادي حاضر بشكل خفي من خلال التطورات المركزية للعمل.
الغرض من هذا النص مبدأيا هو تسليط الضوء على هذا الحضور الخفي للاقتصاد في العمل؛ ومن ثم البحث فيما إذا كانت "الأطروحة الخفية" -لكن القوية- التي يضعها دوركايم في استنتاجات عمله بشأن تَمَكُّن العلاقة بين الدين والاقتصاد من العثور على الانتشار طوال قرن؛ وأخيرا النظر في التعارض الذي أقامه دوركايم بين التماسك الاجتماعي الذي يكون الدين مثاله المركزي، واللا تماسك المرتبط بالنشاط الاقتصادي، وما إذا كان هذا التعارض لا يزال مقبولا.
الحضور الخفي للاقتصاد
يحتوي كتاب الأشكال Les Formes على تعارض متكرر بين الدين والاقتصاد، مشتق من التعارض المركزي بين المقدس والدنيوي، ومُعززًا بالتعارض بين المثالي والنفعي. يمكن أن يكون التعارضان الأخيران متعلقان بأطروحة الإنسان المزدوج homo duplex، وهو جزء هام من تعريف موضوع البحث الذي قدمه دوركايم بذاته:
"الإنسان ذو طبيعة مزدوجة، ففيه كائنان: كائن فردي يستمد أساسه من الجسم البشري، ودائرة فعله محدودة جدا بسبب ذلك تحديدًا، وكائن اجتماعي يمثل فينا أسمى واقع، في النظام الفكري والأخلاقي، يمكن أن نعرفه بالملاحظة، وأقصد بذلك المجتمع. على الصعيد العملي، تؤدي هذه الازدواجية في طبيعتنا إلى عدم قابلية اختزال المثل الأخلاقي بالدافع النفعي، وعلى صعيد الفكر يؤدي ذلك إلى عدم قابلية اختزال العقل بالتجربة الفردية." 1(الأشكال: 36)
يتجلى التعارض بين المقدس والدنيوي من خلال الاختلافات في شدة الحياة الاجتماعية حسبما يكون أعضاء القبلية متفرقين من أجل القيام بالبحث عن الطعام (مطاردة، صيد، قطف)، أو على العكس، اجتماعهم معا لاستعادة الرابطة الاجتماعية وتنشيطها بالمشاركة في الاحتفالات وممارسة الشعائر الدينية2:
"تمر حياة المجتمعات الأسترالية بطورين مختلفين متناوبين. فأحيانا، يكون الأهالي مبعثرين في مجموعات صغيرة تقوم بأشغالها؛ حينذاك، تعيش كل أسرة على حدة، تصطاد الحيوانات والسمك وتسعى باختصار إلى الحصول على الغذاء اللازم بجميع الوسائل المتوافرة لديها. وأحيانا أخرى، يتمركز الأهالي ويتكثفون، لزمن يتراوح بين أيام عدة وأشهر عدة." (الأشكال: 290، يُنظَر أيضا: 295، 451- 453).
إن موضوع التناوب بين العمل والاقتصاد من جهة والاحتفالات والدين من جهة أخرى، يشغل جميع أنحاء الكتاب ويلعب دورًا رئيسيا، حيث أن المقطع المُقتبس أعلاه يسبق مباشرةً وصف لظاهرة الفوران الجماعي التي فيها "ولدت الفكرة الدينية" (الأشكال: 295). هكذا يكون الاقتصادي في كتاب الأشكال في ظل النور الساطع الذي يسقطه الديني، ترميزًا للاجتماعي.
يمكن ملاحظة الحضور الخفي للاقتصاد عندما امتدت الفكرة وتم تطويرها، وهذا في الوقت الذي تعلق الأمر فيه بإقناع مارسيل موس بتولي رئاسة قسم "علم الاجتماع الديني"3، أوضح دوركايم أنه يسعى إلى استبدال النهج المادي الاجتماعي: "نرى كل ما هو مغلوط في النظريات التي تميل إلى اشتقاق كل الحياة الاجتماعية من جبلتها المادية (إما الاقتصادية أو الإقليمية)، كمادية راتسل الجغرافية [...] هذا يعني نسيان أن الأفكار هي وقائع وقوى، وأن التصورات الجماعية هي قوى أكثر فاعلية وفعلا من التصورات الفردية" (الأشكال: 306). بعد عرض الفكرة القائلة بأن حالات الفوران الجماعي هي أصل الدين، يقيم دوركايم توازٍ بين القوى النفسية المرتبطة بالدين والمثل الأعلى وبين القوى المادية قبل تحديد الاختلاف بينهم: إذا كان هذان النوعان من القوى يعملان على الفرد، فالأولى جوهرها ذاته اجتماعي، وهو المجال الذي "ينطبق فيه الصيغة المثالية حرفيا تقريبا: إنها المملكة الاجتماعية. الفكرة في هذه المملكة هي التي تصنع الواقع، أكثر مما تصنعه في أي مكان آخر." (الأشكال: 305)
أخيرا، يتم تضخيم هذا الحضور الخفي من خلال "الأطروحة الخفية" التي أُحيلت إلى الهامش في استنتاجات العمل:
"ثمة شكل واحد للنشاط الاجتماعي لم يربط بعد صراحة بالدين: إنه النشاط الاقتصادي. غير أن التقنيات التي تشتق من السحر، ولهذا تحديدا، لها أصول دينية على نحو غير مباشر. فضلا عن ذلك، القيمة الاقتصادية نوع من السلطة، من الفاعلية، ونحن نعرف الأصول الدينية لفكرة السلطة. يمكن أن تمنح الثورة مانا؛ وهذا يعني أن لديها مانا. بذلك، نرى أن فكرة القيمة الاقتصادية وفكرة القيمة الدينية ينبغي ألا تكون إحداهما عديمة الصلة بالأخرى. لكن مسألة معرفة طبيعة هذه الصلة لم تُدرس." (الأشكال: 533)4.
حينما يؤكد دوركهايم على أن الرابط بين الدين والاقتصاد لم يتم تفسيره، هذا يعني ضمنًا أن مثل هذا الرابط موجود. وهذا التأكيد من الأهمية بمكان من أجل تجنب ارتكاب خطأ في تقدير عمله: لا يجب دفع التعارضات المذكورة حتى الآن إلى درجة جعل الديني والاقتصادي مجالين من النشاط الاجتماعي منفصلين كليًا. لقد أبرز دوركهايم مرارًا الروابط بين المجالين، فما هي هذه الروابط؟
على مستوى الممارسة اليومية، تُعتَبر الشعائر الدينية كعوامل إنتاج من قِبل الشعوب البدائية: "أما الشعائر التي يستخدمها [البدائيين] لضمان خصوبة التربة أو الأنواع الحيوانية التي يتغذّى بها، فليست في نظره أكثر لا عقلانية مما هي في نظرنا الإجراءات التقنية التي يستخدمها مهندسونا الزراعيون للغاية ذاتها" (الأشكال: 46). فالدين إذن قوة إنتاجية بالإضافة إلى كونه قوة أخلاقية. يقدم دوركهايم أمثلة أخرى تسير في نفس الاتجاه، مثل حالة الاحتفالات التي تهدف إلى ضمان ازدهار النبات أو الحيوان الطوطمي (الأشكال: 427). تمتلك هذه الاحتفالات وظيفة اقتصادية، إذ أن تبادل الغذاء بين العشائر الطوطمية يرتكز على المحظورات تجاه الحيوان أو النبات الطوطمي. ازدهار هذا الأخير يعني الوفرة في الغذاء للعشائر التي يمكن أن تتغذى عليها، حيث أن: "بالنسبة إلى هذه الأقوام من صيادي الطرائد والسمك، كان الحيوان يمثل العنصر الأساسي في البيئة الاقتصادية." (الأشكال: 312). كما يقيم دوركهايم رابطًا بين الطواطم وعلاقات الملكية. من أجل استهلاك الحيوان أو النبات الطوطمي الذي يعيش على أرض عشيرة ما، يجب الحصول على الموافقة من زعيم العشيرة، يوضح دوركهايم "أن المساهمة في تكوّن طبيعة كائن طوطمي تمنح نوعًا من التفوق على هذا الأخير" (الأشكال: 193). وهكذا يرى أن "لديهم نوعًا من حق ملكية رمزي"، "ملكية شديدة الخصوصية، ويصعب علينا نوعًا ما تكوين فكرة عنها." (الأشكال: 193، 194).
حالة المحظورات الدينية هي أيضًا مثيرة لأخذها في الاعتبار. بعد الإشارة مرة أخرى إلى الانفصال بين المقدس والدنيوي فيما يخص التعارض بين أيام العطل الرسمية المخصصة للممارسة الدينية والأيام المخصصة للعمل، يواصل دوركهايم "فمنظومة المحظورات تتسع، على غرار مفهوم القدسية القائمة عليه، لتشمل شتى أنواع العلاقات؛ بل إنها تستخدم عن عمد من أجل غايات نفعية" (الأشكال: 403). ويأخذ دوركهايم مثالًا على أن المحظورات تصبح "حق ملكية وحكما إداريًا" (الأشكال: 403). هذه الأطروحة التي تنطبق، وفقًا للمبادئ المثالية، بشكل شبه كامل على العالم الاجتماعي، هي أيضا صالحة للعالم الاقتصادي بواسطة إنتاج الخيالات القانونية التي تنظم علاقات الملكية.
خيرا، يقيم دوركهايم رابطًا بين المقدس والقيمة. تقع الحالة الأولى في التطور الموجز عن الهذيان والهلوسة التي تتبع التعرض للفوران الجماعي. يقول دوركهايم أن الطابع الهذياني لهذه الاحتفالات الدينية ليس سوى حالة خاصة لقاعدة عامة التي بموجبها "ربما لا نجد من تصور جماعي إلا ويؤدي إلى الهذيان، بمعنى ما" (الأشكال: 304). إذا كان الطابع المختوم يمكن أن يساوي ثروة، فلا يجب أن نبحث عن سبب آخر غير "أنسجة الهلوسة" التي لوحِظ حضورها في المجتمعات البدائية في استراليا. أكثر أصالة، ولكن تم تطويره بشكل أقل، هو المقطع المختصر لما يُسمى تبادل السلع الرمزي الذي يقابله دوركهايم عندما يرتبط مفهوم المقدس بأجزاء الجسد (الدم والشعر): "هل يعير إنسان إنسانا آخر التشورينعا خاصته؟ على الثاني في هذه الحالة أن يقدم هدية مصنوعة من الشعر، دلالة على الإمتنان؛ لذا، يُعتقد أن هذين النوعين من الأشياء لهما المرتبة ذاتها وقيمة متساوية" (الأشكال: 190). يدرك دوركهايم جيدًا حقيقة أن تبادل السلع الرمزية يفترض جدلًا عمليات اجتماعية للتثمين والتكافؤ. على عكس التبادل التجاري المرتبط بالمنفعة أو العمل، تستند هذه التبادلات على التصورات الجماعية، "الهذيان الراسخ" الذي يعطي قيمة مرموقة لهذا الشيء أو ذاك، لهذا الجزء من الجسد أو ذاك.
إذن، فالموقع المخصص للاقتصاد في كتاب الأشكال بسيط: يتمثل الخط الرئيسي لفكر دوركهايم في تعارض الحياة الدينية والحياة الاقتصادية: "لا نستطيع في الوقت عينه أن نستسلم كليًا للكائنات المثالية التي نتوجه إليها بالعبادة وكذلك لأنفسنا ومصالحنا؛ لا نستطيع أن ننذر أنفسنا كليًا في آن واحد للجماعة ولأنانيتنا" (الأشكال: 414). الخط الثانوي أقل تطويرًا بكثير، ويشير إلى وجود روابط بين المجالين.
من الديني إلى الاقتصادي: "الأطروحة الخفية" لكتاب الأشكال
ُعَدّ التأكيد القائل بوجود صلة بين الاقتصاد والدين، لكن هذه الصلة لم تُثبت، أطروحة هامة من استنتاجات كتاب الأشكال. باستثناء موس، قلة هم الذين أدركوا أهمية هذه الأطروحة، فهي خفية مثل الانتحار القدري في كتاب الانتحار Le suicide، حيث أن كليهما تمت إحالته في هامش أسفل الصفحة. ومع ذلك فإنه يُظهر أن برنامج دوركايم الأول –مرتكزًا على الأسئلة المطروحة حول البعد الاقتصادي في المجتمع الصناعي– يمتد داخل الكتاب، ويكرس البرنامج الثاني من البحث المنظم حول علم الاجتماع الديني وعلم اجتماع المعرفة (Steiner, 2005 : chap. 2). أبعد من السؤال عن البنية العامة لعمل دوركايم، من المثير استعراض الكيفية التي تم بها توضيح الصلة بين الدين والاقتصاد؛ فقد تم استكشاف ثلاثة مسارات حتى الآن.
مارسيل موس وفرنسوا سيميان: النقود والهبة
انطلاقًا من وجهة نظر علم الاجتماع الاقتصادي للعالم الحديث، أوضح سيميان كيف سمحت دراسة الظاهرة الدينية في فهم أفضل للنقود؛ المؤسسة المركزية للحياة الاقتصادية السوقية (Simiand, 1934). في كتابه النقود: واقع الاجتماعي La monnaie, réalité sociale، يشرح أن النقود تدين إلى النهج الذي طوره علماء الاجتماع الدوركايميين عن الدين. فالنقود ليست واقعًا اقتصاديًا مطلقًا كما أكد من يُدعون بالاقتصاديين التجاريين "المركنتيليين"، وليست "حجابًا" يخفي واقع التبادل بين السلع الذي يجب التخلص منه من أجل الوصول إلى الواقع الاقتصادي مثلما اعتقد الاقتصاديون الكلاسيكيون والكلاسيكيون الجدد. فالنقود واقع اجتماعي شأنها شأن الدين: رمز لما يحقق وحدة الجماعة، النقود هي اعتقاد وإيمان اجتماعي. باستخدام النقود، يتفق المتبادلون على تحديد قيمة السلع المنتَجة والمتداولة، من أجل تحديد الحقوق التي يجب على الجميع الاستفادة منها في الثروة الجماعية اليوم، بل وغدًا أيضًا.
في كتابه مقالة في الهبة Essai sur le don الذي صدر عام 1925، يوضح موس أن الطريقة الرمزية التي تقع في عمق البعد الديني للمجتمع حسب دوركايم –فالدين هو الطريقة التي يرمز بها العقل الجمعي إلى النقطة التي بين الإله والمجتمع، ويعتبر دوركهايم أنه لا يملك الاختيار– تغذي أنظمة التبادل المتطورة بين القبائل الميلانيزية التي درسها برونسيلاف مالينوفسكي، بل أيضًا بداخل المجتمعات الغربية الحديثة. في ختام عمله، يوضح موس أن الرمزية تتداخل مع أنسجة النشاط الاقتصادي من أجل تشكيل مجتمع أكثر عدلًا واستحسانًا، لأن المبادلات التجارية والتضامن يُجمعان سويًا بفضل المؤسسات التي تنتج العلاقة الاجتماعية الاقتصادية، مثل التأمينات الاجتماعية. يقتبس موس إذا "الأطروحة الخفية" لدوركايم ليوضح أنه يقدم بداية للإجابة عليها (Mauss,1925 : 266).
أدت الأطروحة المُقدمة بواسطة دوركايم في استنتاجات كتاب الأشكال إلى تطورات هامة في علم الاجتماع الاقتصادي، وقد طُوِّرَت ببراعة من داخل المدرسة الدوركايمية بمجرد أن تم تجذير الاقتصادي في مؤسسات محددة بوضوح، الهبة والنقود.
ماكس فيبر: التقشفية ضِمْدنيوية/ داخل–دنيوية intra mondain
يجب أن نضيف المسار الذي قدمه فيبر في أعماله حول علم اجتماع الأديان إلى هذا المسار الأول السائد ضمن الجماعة الدوركايمية. وبدلا من التركيز على التعارض بين العالم المادي والسلوك النفعي من جانب، وبين العالم الروحي وسؤال الخلاص من جانب آخر، صاغ فيبر نظرية عن العلاقات الشائكة بين مجالات الحياة الاجتماعية من جهة التوترات tensions: التوتر بين الدين والعائلة، بين الدين والسياسة، بين الدين والحرب، بين الدين والاقتصاد، بين الدين والجنسانية، وأخيرا التوتر بين الدين والعقلنة (Weber, 1920). بالنظر إلى ادعائهم تنظيم حياة المؤمن بأكملها إلى أن ينال الخلاص، فالمعتقدات الدينية تعارض المتطلبات المتعلقة بمختلف مجالات الحياة الاجتماعية. توجد فكرة جيدة عن التعارض بين الدين والمجتمع، بين وجهين للكائن الإنساني –الذي يمكن أن نجده بالمناسبة ضمن التمييز الكلاسيكي بين الفعل العقلاني الغائي والفعل العقلاني القيمي– لكن بدلا من الإشارة لهذا التعارض من جهة الإيقاعات الاجتماعية، وبدلًا من التمييز بين التسلسلات الخاصة بأحدهما وبالآخر، كما فعل دوركايم في كتاب الأشكال، يسعى فيبر للإشارة إلى التسويات، ونتيجة لذلك، التوترات الناتجة عندما يتم الاتصال بين القيم المركزية لكلا المجالين. تم تطوير هذه الأطروحة ببراعة غير مسبوقة في كتاب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية L'Éthique protestante et l'esprit du capitalisme الصادر في عام 1904، وهنا سأترك جانبا التطورات التي يجب تتبعها حول اليهودية القديمة والهندوسية والبوذية. من المثير للاهتمام التطرق إلى البروتستانتية التقشفية بما أنها تسمح بالتذكير أن دوركايم عالج التقشفية باعتبارها محورا دينيًا في كتاب الأشكال.
مع التقشفية ضمدنيوية/ داخل–دنيونية للطوائف البروتستانتية –الكالفينيين، التقويين، المعمدانيين– شغل مفهوم التوتر مكانًا مركزيًا. بدلًا من التقشفية التي ترفض العالم من أجل الحصول على الخلاص، تأخذ التقشفية داخل العالم من العالم ذاته مكانًا حيث يواجه المؤمن مشكلة الخلاص. بالأسفل هنا، لا تتعلق المسألة بالبحث عن أسباب الخلاص في العمل –الخلاص بالأعمال– فالعمل في الدنيا يوفر الدلائل فقط واختبار المصطفين. هنا يتقابل الدين والاقتصاد: فالنشاط الدنيوي مُنظم من خلال فكرة إثمار العالم الذي أعطاه الإله للبشر من أجل مجده الذاتي. إن النشاط الدوؤب تجاه هذا الإثمار إذن هو فعل ديني (تعزيز مجد الإله والبحث عن علامات لمكانة المرء الدينية) وفي نفس الوقت فعل اقتصادي (إنتاج الفائض). إن تشابك المجالين يحدد النهج تجاه الثروة، والتي تكون في آنٍ واحد؛ موضوع زهد في لحظة الإنتاج، لكن أيضا مجرد تكوين للثروة، بما أن وجودها هنا ليس سوى دليل على العلاقة المتميزة مع الإله، وبالتالي لا يمكن أن تستخدم سوى لتعزيز مجده إلى ما لا نهاية. ومن هنا التوازي الذي أجراه فيبر وحقق فيه بين الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية باعتبارهم تراكم مستمر للثروة تحت شكل رأس مال، ثروة منتجة للثروة على نطاق واسع بشكل متزايد: "راكم، راكم، واجعل التراكم من مقام الناموس واﻷنبياء" قالها كارل ماركس في عرضه لما يمكن دعوته بروح الرأسماليين (Marx, 1867, p. 3 : 35). تتمثل النقطة البارزة في حجة فيبر في المكانة التي يعطيها للتقشفية، نقطة عبور بين الخلاص والنشاط داخل العالم. سيكون من المفيد في هذه المرحلة تقديم تذكير موجز للمفهوم الذي قدمه دوركايم عن التقشفية.
من نتائج الانفصال بين المقدس والدنيوي أن التقشفية هي نتيجة للتحريم (الأشكال: 393). في الشعائر السلبية، تلعب المحرمات دورين مزدوجين: من جانب، إنها تحول دون اختلاط الأنشطة الدنيوية بالأنشطة المقدسة؛ من جانب آخر، إنها تسمح بالدخول إلى الشعائر الإيجابية. عند هذه النقطة بالتحديد يُشرك دوركايم التقشفية، وبالأخص "التقشفية المنهجية"، "كأساس نهج حقيقي للحياة" والذي بعيدًا عن كونه "ثمرة نادرة واستثنائية وشاذة إلى حد ما للحياة الدينية، إنما هو، على عكس ذلك، أحد عناصرها الجوهرية" (الأشكال: 408). فالتقشفية بالنسبة إليه مرادف للألم والمعاناة:
"فأفضل تجل لعظمة الإنسان هو طريقة مجابهته الألم. وهو لا يسمو على نفسه بتألق أكثر مما يكون عليه الوضع حين يروض طبيعته إلى حد جعلها تتبع دربًا يتعارض مع الدرب التي تتبعه تلقائيًا [...] إن المعاناة علامة على أن روابط معينة تربطه بوسطه الدنيوي تحطمت؛ وهي تشهد بالتالي على تحرره الجزئي من هذه البيئة، وتعد بالتعالي بحق أداة للخلاص [...] لقد سما بنفسه عليها حقا [الأشياء]، بمجرد فعل التخلي عنها؛ إنه أقوى من الطبيعة، لأنه أخمدها [...] وكي يخدم آلهته، عليه أن ينسى نفسه؛ وكي يفسح لها مكانا تستحقه في حياته، عليه أن يضحي بمصالحهه الدنيوية. أما العبادة الإيجابية، فلا تكون ممكنة إلا حين يدرب الرجل على التخلي ونكران الذات والانفصال عنها، بالتالي على المعاناة" (الأشكال: 412-413).
ومن ثم يعهد دوركايم إلى التقشفية بدور أكثر عمومًا، من خلال الربط بين نشاط النخبة من جهة، ووجود المجتمع ذاته من جهة أخرى. تتم التقشفية المنهجية من خلال الأشخاص الذين هم "متخصصون لتمثيل هذا الجانب من الحياة الشعائرية بإفراط" هؤلاء من يُدعون بالـ"المتقشفين العظام" الذين يكون دورهم التاريخي هو الحث على بذل الجهد (الأشكال: 413) من خلال الألم المفرط الذين يلحقونه بأنفسهم:
"لا بد لنخبة ما أن تضع غاية بالغة السمو حتى لا تضع العامة غاية بالغة الوضاعة. لا بد من بعض المبالغات كي تكون المحصلة الوسطية في سوية ملائمة. بيد أن الزهد لا يفيد الغايات الدينية فحسب. هنا، كما في أماكن أخرى، ليست المصالح الدينية إلا شكلًا رمزيًا للمصالح الاجتماعية والأخلاقية. ليست الكائنات المثالية التي تتوجه إليها العبادات هي الوحيدة التي تطلب من أتباعها ازدراء الألم، إذ لا يكون المجتمع نفسه ممكنًا إلا بهذا الثمن" (الأشكال: 413- 414).
عند دوركايم كما عند فيبر، تفرض التقشفية الحرمان، الآلام، التدريبات من أجل رفع الفرد فوق مستوى ذاته، والارتقاء به إلى مستوى المثل الأعلى. لكن هنا، حيث يصر دوركايم على الانفصال بين المقدس والدنيوي، بين النخبة والعامة، بين الديني والاقتصادي، يشدد فيبر على العلاقات بين المجالات معتبرًا أن ذلك يحدث مع التقشفية داخل العالم، يستولي المثالي على الجماهير وليس النخب، مفترضًا حياة رهبانية على الجميع إزاء الثروة، سواء تحت شكل الإنتاج أو الاستهلاك. فالثروة متاحة تجاريًا للبشر لأنها هبة مُقدمة إلى الإله. تربط التقشفية بين عالمين تتعارض قيمهما المركزية، وهذا بطريقة تختلف عن الطريقة التي سعى بها موس لربطهما بنظريته الرائعة عن الهبة.
تكمن حدود المسار الذي سلكه فيبر في حجته بحقيقة أنه لا يمتد إلى ما بعد القرن السابع عشر، لأن في القرن اللاحق، كما يقول، غرقت التقشفية في النفعية البحتة. إنه لا يشرح كيف أخذ هذا التغيير مكانًا، ولا مدلوله فيما يتعلق بالصلة بين الدين والاقتصاد في العالم الحديث. علاوة على ذلك، فإنه لا يستكشف مسألة معرفة إذا ما كانت المبادئ والممارسات النفعية مدينة إلى شكل من أشكال التقشفية عندما يتعلق الأمر بالاستفادة القصوى من الثروة المتاحة.
ميشيل فوكو: السوق والحكمانية الليبرالية
لمسار الثالث أكثر حداثة، ظهر مع أبحاث ميشيل فوكو حول الحكمانية 5gouvernementalité (Foucault, 1978, 1979)، وامتد البحث من خلال جورجيو أجامبين في شكل أركيولوجيا للفئة الاقتصادية (Agamben, 2007). يقترح الكاتبان إقامة صلة بين الديني، تحت شكله المسيحي، سواء من خلال وساطة راعي الإبراشية (فوكو)، أو من خلال وساطة المشكلة التي يطرحها إله وحيد وثلاثي (أجامبين). إذا، تتمثل نقطة الاتصال مع كتاب الأشكال في حقيقة أن استدعاء دوركايم للصلة بين المانا والنقود ينطوي على مفهوم السلطة، المفهوم المركزي في بحث فوكو (الحكمانية الليبرالية) كما هو عند أجامبين (اللاهوت السياسي).
للوهلة الأولى، يظهر أن بحث هذا الأخير هو الأقرب إلى بحث دوركايم بما أنه يتعلق بالفهم "الشروط والأسباب التي دفعت السلطة، في الغرب، لتأخذ شكل اقتصاد œconomie، 6 وهذا يعني: حكومة البشر" (Agamben, 2007 : 13). يظهر العمل برفاهية كبيرة من التفاصيل عن كيفية مجيئ المعنى الأوَّلِي لمصطلح الاقتصاد œconomie من المشكلة اللاهوتية التي تطرحها حقيقة أن الإله واحد فقط، في الحين الذي يتخذ فيه شكل الثالوث. عن طريق تنظيم هذين المستويين من الوجود الإلهي، فالاقتصاد هو المسؤول عن تحقيق التماسك بين الكائن (الحكم) والممارسة (الحكومة) للإله المسيحي. يتطور الكتاب بعدئذ حول سلسلة من التعارضات المفاهيمية –الكائن والممارسة، التعالي والتأصُّل، الحكم والحكومة.. إلخ– من أجل التركيز على دور المجد والتمجيد في تشكُّل السلطة وعملها. هذا الموضوع لا يخلو من فائدة للتفكير حول الديني في عمل دوركايم؛ لأن المجد يُعتبر مكانًا حيث يتزامن فيه المقدس والدنيوي، واللاهوت والسياسة (Agamben, 2007 : 294). ومع ذلك، يبتعد البحث الفلسفي لأجامبين عن النهج الاجتماعي وعن التجذر الإمبيريقي الذي يسعى إليه. علاوة على ذلك، لا يولي أجامبين سوى القليل من الأهمية لما حدث بعد القرن الثامن عشر، واكتفى ببعض الإشارات المقتضبة فيما يخص الاقتصاد السياسي للفيزوقراطيين. من جانبه، أخذ فوكو المسألة بشكل مختلف انطلاقًا مما بزغ في القرن الثامن عشر تحديدًا، من أجل تعقب المشكلة المطروحة من خلال سلوك الأفراد في نهاية العصر الكلاسيكي عندما تعلق الأمر بدخول وظيفة راعي الإبراشية، فيما يعني رؤية مسيحية للسلوك بحسب صورة الراعي الذي يوجه قطيعه، وبشأن الاقتصاد، هذا يعني مبادئ النظام التي يجب أن يكون المنزل أو القطاع منظمين وفقا لها. وبالتالي فإن تفكيره أقل تقدمًا من تفكير أجامبين فيما يتعلق بالأصل اللاهوتي للاقتصاد، لكنه ذا صلة أكبر نظرًا إلى أنه متجذر في الفترة التي أقلع فيها الاقتصاد الحديث، لأن هذا الأخير هو ما يهمنا كما كان يهم دوركايم عندما طرح مسألة الصلة بين الدين والمجتمع.
بتقليص بؤرة الاهتمام، يرى فوكو أن السياسة المُشملة تحت السجل اللاهوتي للراعي المسيحي تتداعى في النصف الأول من القرن السابع عشر؛ ويخلفها شكل سياسي جديد مع ما يُدعى بالحكمانية الليبرالية وآلياتها الخاصة في القيادة7. أول هذه الآليات ليست شيئًا آخرًا سوى السوق نفسه وما يخص السلعة التي ليست شيئًا تافهًا بما أن الأمر يتعلق بالقمح؛ السلعة الأساسية في النظام الغذائي للسكان. الأفضل من ذلك، مع الاستعانة بالبهرجة الكامنة في أعمال آبيل Abeille، الفيزوقراطي القاصر الذي لم يفعل سوى استعادة أعمال فرانسوا كيناي François Quesnay ذاته، يبدأ فوكو بحثه بتحديد آلية تكوين الأسعار المسؤولة عن ضمان الأمن الغذائي للسكان في إقليم معين. أصبح الاقتصاد إذًا سياسي، أو من أجل استعادة كيناي ذاته فإنه يعطي شكلًا من أشكال "الحكومة الاقتصادية". لا تبرز علاقة النسب بين الديني والسياسي من عجز الشرطة فقط –بمعنى طريقة الإدارة الخاصة بالدولة في العصر الكلاسيكي– عن إمداد الأسواق وانهيار الراعي كشكل من أشكال اللاهوت السياسي خلال مرحلة كانت الحروب الدينية فيها تمزق أوروبا، إنها تنبع كذلك من حقيقة أنها تواجه إنشاء السوق كمؤسسة مركزية للتبادل والتوريد، فاللاهوتيين ذاتهم يجادلون بالتشابه بين عالم النعمة والعالم التجاري. هذا التشابه يشير إليه صراحةً اثنان من المفكرين الرئيسيين للينسينية jansénisme في هذه المرحلة، وهما أرنو ونيكول Arnaud et Nicole، عندما قاربوا السلوك التجاري لصاحب الحانة الذي يخدم المسافر المستريح في حانته، مع السلوك المسيحي؛ إذا تغير الدافع الداخلي (in foro interno)، هنا الأنانية والبحث عن الربح، وهناك الإحسان، فإن المنظور الخارجي (in foro externo) متشابه: فصاحب الحانة يضع نفسه في خدمة احتياجات المسافر. يصبح السوق هو المؤسسة التي تسمح بإزاحة المفهوم اللاهوتي للنظام من أجل تطبيقه على العالم الدنيوي وحل مشكلة الحكومة. بعد قرن، نجد آن تيرجو Turgot، وكيل المؤن ثم المراقب العام للويس السادس عشر، الذي شرح أن عمل التجار في السوق يعادل ما يمكن أن يكون عملًا إلهيا: عندما يشتري التاجر القمح حيثما يكون وفيرًا، ويبيعه بسعر رخيص حيثما يكون نادرًا وسعره مرتفع، فإنه لا يفعل شيئًا آخرًا سوى ما سيفعله الإله ذاته، نقل القمح من مكان لآخر من أجل تلبية أفضل لاحتياجات السكان. لذلك، فإن الصلة بين اللاهوت السياسي والاقتصاد هي أقرب ما يكون في اللحظة نفسها التي ولد فيها الاقتصاد الحديث ومؤسسته المركزية؛ السوق، والذي لا يُفترض فيه على الفاعلون أن يتبعوا شيئًا آخرًا سوى مصالحهم النفعية.
هذه الإزاحة الأولى تحيل إلى أخرى. بالنظر إلى الدين المسيحي ومطالبه بشأن الحكم الذاتي، يدفع فوكو إلى التساؤل عن الشيء الذي يجب على الفرد الحديث أن يتنازل عنه من أجل تأكيد ذاته كفرد عقلاني. لا يجيب فوكو عن هذا السؤال ولا يأخذه أجامبن بالاعتبار كذلك. لكن داخل سلاسة الأفكار اللاهوتية التي برزت في نهاية القرن السابع عشر، هناك أفكار تستحق الذكر، وهي الأفكار طورها مالبرانش Malebranche وليبنتز Leibniz للإجابة على سؤال التفسير العقلاني للشر في عالم مُراد من قِبل إله خيّر ولا متناهي القوة8. ما هي الأطروحة التي دافع عنها الفيلسوفين اللاهوتيين؟ أن الإله لا يعمل سوى من خلال الطرق الأمثل، بمعنى أنه يعمل من خلال القوانين العامة وليس القوانين الخاصة التي يجب أن تتضاعف إلى ما لا نهاية، لأن الكمال وحده هو الذي يليق بعمل الإله. تُعتبر قوانين الطبيعة المُرادة من قِبل الإله على أنها نفقات، وهي نفقات يجب تقليلها من أجل الحصول على نتيجة معينة. لنقول بالمصطلحات الحديثة التي وضعها ليبنتز: مهندس مساحة géomètre، فالإله يعمل كعالم رياضيات يبحث عن حل لمشكلة الاستخدام الأمثل –يبحث عن الحد الأقصى لوظيفة موضوعية. إن السلوك العقلاني للفاعل الاقتصادي في السوق ليس إلا سلوك إلهه، وقدراته اللانهائية في حساب المعلومات واستيعابها تقريبًا. إذا، فالسوق هو المؤسسة التي تنقل وظيفة الراعي بصفتها آلية للحكومة، وفي نفس الوقت هو المؤسسة التي تنشر السلوك النفعي مُصممًا على صورة سلوك حكيم وعقلاني لإله الخلق. يجري تقديم هذا التعبير الأكثر اكتمالا للبعد اللاهوتي من السلوك العقلاني في منتصف القرن التاسع عشر من قِبل هيرمان جوسين Hermann Gossen، اقتصادي ألماني اعتنق الكاثوليكية، والذي قد تدرب –وهو أمر نادر في هذا العصر– كعالم رياضيات تطبيقية. عن طريق تطوير ما هو أساس الاقتصاد الجزئي المعياري، بمعرفة قواعد سلوك المستهلك في تحقيق المنفعة القصوى، يفصل جوسين السلوك النفعي عن الجشع، لأن تحقيق المنفعة القصوى يخضع إلى القوانين والتي أهمها تناقض المنفعة الحدية، وتلك الخاصة بتكافؤ المنافع الحدية الموزونة بالأسعار9. من خلال الخضوع لهذه القوانين، وبممارسة هذا "التقشف النفعي"10، يمكن للبشر الوصول إلى أفضل وضع مجتمعي في إطار مجتمع السوق الذي تم وضعه، لأن هذه القوانين وضعها الإله في قلوب البشر من أجل أن يتسنى لهم حكم أنفسهم.
التماسك الديني واللاتماسك الاقتصادي
الأفكار التي تم تطويرها في كتاب الأشكال لها أهمية كبيرة لأجل شرح عملية التنشئة الاجتماعية الدوركايمية، مع التكامل الاجتماعي من جانب، والضبط الاجتماعي من جانب آخر. إن أوساط الفوران في كتاب الأشكال هي لحظات من الحياة الاجتماعية يسمح فيها تراخي الضبط الاجتماعي بخلق أو إعادة خلق المثل الأعلى. إن المثل الأعلى هو بالتأكيد عنصر من عناصر الضبط الاجتماعي بالقدر الذي يُعتبر مرغوبًا فيه لأنه عادل؛ لكنه كذلك عنصرًا مركزيًا من عناصر التكامل الاجتماعي الذي يفترض ممارسات مشتركة ومشاعر مشتركة ومثل أعلى مشترك (Steiner, 1994, 2000). حقيقة أن تراخي القيود المؤسسة للضبط الاجتماعي تكون وسيلة لإنتاج أوساط الفوران الاجتماعي هي عنصر هام لنظرية التنشئة الاجتماعية هذه: إنها تفتح على ديناميكية اجتماعية تعمل من خلال وساطة لحظة (الفوران الجماعي) القادرة على تفسير تشكيل وإعادة إحياء المثل الأعلى الذي تبني المجتمعات حياتها ومستقبلها حوله، وتستقر معه عملية التنشئة الاجتماعية. لكن هذا يقودنا باتجاه تطور نظري آخر للنظر في موقع الاقتصادي داخل كتاب الأشكال. يُحدث دوركايم فرقًا بين تماسك أولئك الذين يمارسون عبادتهم ولاتماسك الأفراد المحيطين بالساحر، وهي بالنسبة له صورة للعلاقة التجارية. يرتبط الاعتقاد الديني عند دوركايم بالتكامل الاجتماعي القوي: "يشعر الأفراد الذين يشكلونها [المجتمع الديني] بارتباط بعضهم ببعض، لمجرد أن لديهم إيمانًا مشتركًا [...] هذا ما يُسمى كنيسة" (الأشكال: 68) لا يوجد شيء مثل هذا في السحر: "لدى الساحر زبائن، لا كنيسة، ويمكن ببساطة ألا تكون هناك أي صلة بين زبائنه، إلى درجة جهل بعضهم بعضًا؛ وحتى العلاقات التي يقيمونها معه هي عموما عابرة وعرضية؛ هي مشابهة تماما للعلاقات بين المريض وطبيبه" (الأشكال: 69). من الجدير بالملاحظة أن نرى دوركايم يستعين بالعلاقات التجارية ليشعرنا بالفرق بين الأفراد المجتمعين في الكنيسة والعلاقات بين الساحر وزبائنه. إن التناقض بين العلاقة مع الساحر والعلاقة مع الكنيسة شبيه بالتناقض الذي يميز التبادل عن تقسيم العمل:
"وليس أبرز أثر لتقسيم العمل أنه يزيد نتاج الوظائف المنقسمة، بل أنه يجعلها متآزرة [...] من الممكن أن يكون للفائدة الاقتصادية الناجمة عن تقسيم العمل بعض الأثر في هذه النتيجة، لكن هذا الأثر يتعدى إلى حد بعيد، دائرة المنافع الاقتصادية المحضة، ذلك أنه يقوم على نشوء نظام اجتماعي وخلقي من نوع خاص. فهناك أفرادٌ هم متصلون فيما بينهم، ولولا ذلك لكانوا مستقلين، وبدلًا من أن يشق كل منهم طريقه منفردًا، نراهم يؤلفون بين جهودهم، ويتعاونون هذا النوع من التعاون الذي لا يقتصر على اللحظات القصيرة التي تتبادل فيها الخدمات، بل يمتد بعيدًا وراء ذلك" (دوركايم، 1982: 76).
على أي شيء تستند هذه المدة التي تتجاوز لحظة التبادل وتُمكِّن من تأسيس ظاهرة أخلاقية جديدة؟ تستند على عدم اكتمال الأفراد الذين يجب أن يحصلوا على ما يحتاجون إليه من الآخرين. أيضا التبادل:
"وعلى ذلك فإنه ليس إلا التعبير السطحي عن وضع داخلي أكثر عمقًا. ولما كان هذا الوضع ثابتًا، فإنه يثير آلية كاملة من الصور تعمل باستمرار لا يعهده تبادل الخدمات. فصورة الكائن الذي يتمَّمنا تصبح في أنفسنا غير قابلة للانفصال عن صورتنا، لا أنها كثيرة الاقتران بها وحسب، بل لأنها، بشكل خاص، التتمة الطبيعية لها: وإذن فهي تصبح جزءًا مكمّلًا ثابتًا من وجداننا، بحيث أننا لا نستطيع أبدًا الاستغناء عنها، ونبحث عن كل ما يزيدها قوة" (دوركايم، 1982: 77)11.
إن الدين والسحر من جهة وتقسيم العمل والتبادل من جهة أخرى، لا يتطلبون نفس "آلية الصور". لا يقوم التبادل على المصلحة المادية، فهو نظام من المنفعة، إنه لا يقرِّب الأفراد إلا لبعض الوقت ولأجل دافع سريع الزوال؛ لأن المصلحة التي يحققها التبادل بين شخصين اليوم يمكن أن يتم التخلص منها غدًا؛ ولأن السعر سيكون أقل؛ ولأن الجودة المعروضة ستكون أفضل في مكان آخر.. إلخ. فالتبادل يرتبط بالانتشار، بالاستقلال، وجهًا لوجه مع الطبيعة (الجانب النفعي من الفرد)؛ إنه لا يُنتج إلا صلة غير مستقرة لأنه مؤسس على دافع غير مستقر (المصلحة) دون أن يسفر عن تكامل اجتماعي. تم تقديم هذه الحجة بإسهاب في الفصل السابع من كتاب في تقسيم العمل الاجتماعي De la division du travail عندما يعارض دوركايم التضامن العقدي عند هربرت سبنسر Herbert Spencer بالتضامن العضوي12. لا ينطبق نفس الأمر على تقسيم العمل، النبض العميق للمجتمع الصناعي، وبالمصطلحات الدوركايمية للتضامن العضوي. الدرس التالي هنا لأوغست كونت Auguste Comte، يربط دوركايم تقسيم العمل، وهي الركيزة التي يقوم عليها التضامن العضوي، ليس بالمصلحة وبالمنفعة، لكن بالغيرية وبالتضحية. من هنا تأتي هذه الصيغة القوية التي ينحتها دوركايم في عمله الأول: "وحيثما وجد المجتمع، وجدت الغيرية نتيجة لوجود التعاون" (دوركهايم، 1982: 226).
لذلك يجب الفهم أن التبادل لا يولد سوى صورة للمصلحة المادية، ولرضاهم بفضل السلعة أو الخدمة المُشتراة، دون أن يلتزم المبادلون بالمستقبل، دون أن تجعلهم يندمجون اجتماعيًا فيما وراء البنود غير التعاقدية للعقد. نحن نتعامل مع أنانية بلا مستقبل، بدون مؤسسة لكي تمنحها مدى طويل وتعيد تنشيط "الصور" التي كانت هي المبدأ. في المقابل، فإن تقسيم العمل يجعل العلاقات طويلة المدى، لأن الكفاءات لا تتغير بنفس إيقاع المصالح. يولَّد تقسيم العمل مصلحة مستدامة مع الحفاظ على العلاقات بين منتجي الخدمات ذوي المنفعة المتبادلة. يتم احتواء الأنانية بطريقة تفسح المجال للممارسات المشتركة والمستدامة والمنتجة للتضامن. يصبح التأهيل اللازم للإدراج داخل تقسيم العمل شكلًا من أشكال التضحية –استثمار الموارد والوقت اليوم من أجل امتياز محتمل في المستقبل– التي يفرضها المجتمع طالما أن الفرد ليس قادرًا بعد على التطلع إلى مكانة الإنسان الصادق ويجب عليه أن يختص بها.
يتمثل الاختلاف بين التبادل (النفعي) وتقسيم العمل (الاجتماعي) في وجود مؤسسات قادرة على كبح واحتواء الأنانية وعوامل التفريق والاستقلالية، بمواجهة الطبيعة الكئيبة والشاقة، بحسب التعبير الذي وصف به دوركايم النشاط الاقتصادي للاستراليين في كتاب الأشكال. في أطروحة دوركايم، إنه العقد هو من يلعب هذا الدور. في المقابل، فإن تقسيم العمل يرتكز على الالتزام الذي ينقل، مثل الغيرية، فكرة إقصاء الانتهازية الاجتماعية التي تنطوي عليها المصلحة النفعية، سواء من خلال التضحية الطوعية بالامتيازات التي يمكن للفرد الحصول عليها، أو من خلال القرار الذي يتضمن تكلفة ثابتة يصعب استردادها في حالة حدوث تغيير في مصلحته الاقتصادية. إن الالتزام لا يعني كبت المصلحة النفعية، وإنما بالأحرى اعتدالها من خلال نبذ الانتهازية. وبالتالي يولِّد الالتزام تطلعًا، هذه الظاهرة التي يرى فيها موس أساسًا اجتماعيًا (Mauss, 1934)، هذا يعني كذلك "آلية الصور" التي تنتج الاندماج الاجتماعي؛ لأنها تقوم بتنفيذ الممارسات والتمثلات والمُثُل العليا المشتركة. ومما له دلالته أن المنظرين المعاصرين يعتمدون على هذا المفهوم عندما يسعون إلى التنصل من وجهة النظر النفعية الاقتصادية البحتة. هذه هي حالة أمارتيا سن Amartya Sen (1977) عندما أوضح أن الفاعل الاقتصادي العقلاني يجب أن يوصف بالأحرى كـ"أحمق عقلاني" (rational fool)، بل أيضا أن الغيرية ليست ظاهرة من الصعب دمجها في إطار النظرية الاقتصادية. إن ما يقاوم هذه الأخيرة هو الالتزام (commitment)، الفعل الذي يتخلى فيه الفرد عن إدراك تام عن المنافع التي يمكنه الحصول عليها. إنها أيضا حالة هاريسون وايت Harrison White (1992) عندما يميز سوق التبادل البحت المُنتج للتطابق بين الأشياء والأشخاص دون أن ينشئ علاقات مستدامة، وسوق المنتجين الذي تُعرض فيه السلع من قِبل المنتجين، والذين من خلال رأس المال الثابت يلتزمون على نحو مستدام تجاه هذا المجال الاجتماعي.
الاستنتاجات
يمكننا القول إذًا، من أجل تلخيص هذه القراءة لكتاب الأشكال، أن الاقتصاد حاضر بشكل خفي داخل العمل؛ خضعت "الأطروحة الخفية" لدراسات داعمة للتخمين المُقدم من قِبل دوركايم؛ ويتعارض الديني مع الاقتصادي كما يتعارض تقسيم العمل مع التبادل. كل هذا يثير سؤالًا أساسيًا يتعلق بالأشكال، لكن أيضا بكل أعمال دوركايم.
يتمنى دوركايم أن يوضح "الواقع الحالي"، من خلال دراسة الأشكال الدينية البدائية، أو أكثر: "الإنسان اليوم" (الأشكال: 20)، كما يجب أن نتساءل إذا كان ما سمحت لنا به القبائل الأسترالية من اكتشافه فيما يتعلق بالأصل الاجتماعي للأديان وثيق الصلة أيضًا فيما يتعلق بالصلة بين الاقتصادي والديني في القرن العشرين. في الحقيقة، لا يخفي دوركايم المشكلة:
إن الأسترالي لا يطلب من الحياة الكثير ويكتفي بالقليل، على الرغم من بؤس عيشه مقارنة بعيش الشعوب الأكثر تحضرًا. وكل ما يحتاج إليه هو أن تتبع الطبيعة مسارها الطبيعي، أن تتوالى الفصول بانتظام، وأن يهطل المطر في وقته المعتاد بوفرة ومن دون إفراط (الأشكال: 519).
ضعف الحاجات المادية وبساطة إشباعها هو ما يجعلهم قريبين من مجتمعات الوفرة التي وصفها مارشال سالينز Marshall Sahlins (1972). وبالتالي فإن الأرونتا Les Aruntas غريبون عن عالم الندرة، غريبون عن العالم الذي تعبر فيه حكومة الأفراد من خلال حكومة الأشياء، والاقتران النفعي بين الإنسان والأشياء. ماذا يمكن للأرونتا أن تعلمنا عن المجتمعات التي غزا فيها البعد الاقتصادي الحياة الاجتماعية بمجرد أن احتلت الندرة مكانًا مركزيًا؟ ماذا يحدث عندما يكون الاقتصادي مكانًا للاجتماع، بل ومكانًا للفوران الاجتماعي، يمكن أن يكون الحال مثل هذا في اللحظات التي تُنشأ فيها الأسواق من جانب هؤلاء الذين يعلنون إيمانهم بالسوق، كما هو حال النيوليبراليين المعاصرين، وهو المؤسسة التي يفترض أن تكون قادرة على حل المشاكل الاجتماعية والسياسية بشكل مفيد؟ ماذا يحدث عندما يهمن على المجتمع "الإكراه النفعي"، بمعنى أن السلوك النفعي مطلوبًا بشكل متبادل من جانب الأفراد في تفاعلهم؟
هذا يقودنا للنظر في المسألة على مستوى عمل دوركايم ككل. وهذه هي النتيجة الجوهرية: داخل كتاب الأشكال كما داخل كتاب في تقسيم العمل الاجتماعي، يهمل دوركايم السوق كمؤسسة اجتماعية، من أجل الالتزام بالتبادل الذي يُفهم كسلوك نفعي منفصل عن شكله الاجتماعي الحديث. إن لهذا عواقب وخيمة، بالأخص حقيقة أنه لا يستطيع مراعاة الإكراهات المرتبطة بهذا الشكل الاجتماعي المحدد الذي هو السوق، بسبب نهجه المجرد في تقليص حجم الاقتصادي إلى شكل غير مُجسَّد للتبادل. حتى الحجة الشهيرة لدوركايم حول العقد، وهي الاتفاق على إرادة متضمنة لشروط غير مُرادة، لا يمكن أن تُأخذ كل آثارها مع غياب أخذ مؤسسة السوق في الاعتبار. إن العقد يؤطّر التبادل النفعي بالطبع من خلال فرض شروط غير تعاقدية، لكنه لا يخبرنا شيئًا حول أشكال التنشئة الاجتماعية الخاصة بالسوق، المكان الاجتماعي الذي تتحقق فيه التبادلات الفعلية، والمكان الذي يتم فيه تنشيط الأشكال العلائقية المحددة، ولا تقل توليدًا للإكراهات من المؤسسات الأخرى. وتأكيدًا، يمكننا أن نلاحظ حقيقة أن الأعمال التي تشكل صلة بين الديني والاقتصادي ترتكز على وجود السوق، وعلى الإكراهات التي لا تنفصل عنه: النقود، والمؤسسة المركزية في النظام التجاري مع سيميان؛ التقشف، المؤسسة التي تعمل على العبور بين عالمين أكسيولوجيين axiologiques مع فيبر وجوسين؛ والسوق كآلية سياسية للتحكم في السلوك مع فوكو.
إن أخذ السوق في الاعتبار كمؤسسة، والمؤسسات التجارية المرتبطة به، يُلزِمنا برفض التعارض بين التماسك الديني واللاتماسك الاقتصادي المُقدم داخل كتاب الأشكال، من أجل البحث عن الأشكال الخاصة بالتماسك التجاري. وأخذ هذه المؤسسات التجارية في الاعتبار يسمح بتطوير حدس دوركايم باتباع المبادئ التي وضعها، من أجل تجاوز الحدود التي كانت تحدّها. وهي طريقة في العمل والتفكير التأسيسي الذي يهتم بها علم الاجتماع.
الهوامش:
[1] نعتمد هنا على الترجمة المتوفرة للكتاب لترجمة الاقتباسات في النص، راجع: إميل دوركهايم، الأشكال الأولية للحياة الدينية، ترجمة: رندة بعث، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، بيروت، 2019، ص: 36.كل إحالة لاحقة في النص إلى الكتاب ستكون إحالة إلى موقع الاقتباس في الترجمة العربية. (المترجم)
[2] تم تطوير هذه الأطروحة حول الإيقاعات الاجتماعية مسبقا من خلال مارسيل موس وهنري بيوشه في عملهم حول الإيقاعات الاجتماعية للإنويت les rythmes sociaux des Inuits (Mauss et Beuchat, 1906).
[3] يُنظر خاصة الخطاب المؤرخ بـيونيه 1897 (Durkheim, 1998 : 71)
[4] هذا يتطلب التوسع من خلال مراعاة الأفكار المتعلقة بتشكيل حقوق الملكية على أساس الاعتبارات الدينية التي نعثر عليها في نهاية المحاضرات المنشورة تحت عنوان Leçons de sociologie (Durkheim, 1890-.
[5] تختلف صيغة الاقتباس في المقال عن النص الأصلي قليلا، لذلك آثرت ترجمتها بذاتي. (المترجم)
[6] أي إدارة العقول أو التحكم فيها، وهو ما يحدث على مستويات أعمق من الانضباطية كما يحللها فوكو في عدد من كتبه. (المترجم)
[7] كان هذا الشكل من كتابة كلمة الاقتصاد مُستخدما قديما قبل عصر الأنوار، وتغييرها إلى économie ليس تغييرا في المعنى ولا في النطق بل في طريقة الكتابة. يستخدم أجامبين اللفظ القديم لدلالة وجوده في هذا العصر، حيث كانت السياسة والاقتصاد ممتزجين باللاهوت، لأن اللفظ الحديث اُستخدم مع بدايات عصر الاقتصاد الكلاسيكي. (المترجم)
[8] أعتمد هنا على تعليقي على محاضرات فوكو (Steiner, 2008)، وكذلك على العمل التركيبي عن الاقتصاد السياسي في القرن الثامن عشر (Faccarello et Steiner, 2008).
[9] أعتمد هنا على التطورات المقدمة بخصوص المدرسة الدوركايمية (Steiner, 2005 : 312-316)، ثم على تلك التطورات المكرسة للاهوت الاقتصادي عند هيرمان جوسين، علم الرياضيات والاقتصادي الألماني من القرن التاسع عشر (Steiner, 2011).
[10] قانون تناقض المنفعة الحدية هو أنه كلما زادت الكمية المستهلكة من سلعة ما، فإن المنفعة الحدية من تلك السلعة تأخذ في التناقص؛ بمعنى أنه بعد استهلاك وحدات متتالية من سلعة معينة فإن مقدار الإشباع عند المستهلك يأخذ في التناقض. وقانون تكافؤ المنافع الحدية هو القانون الثاني من قوانين جوسين الثلاثة، والذي يفترض أن المنفعة محددا كميا ولو بشكل ضعيف، وفي حالة التكافؤ، يقوم العميل بتخصيص النفقات بحيث تكون نسبة المنفعة الحدية إلى السعر متساوية عبر جميع السلع والخدمات. (المترجم)
[11] في تأمله النقدي للنظرية الاقتصادية الحديثة، يعبر أندريه أورليان André Orléan (2011 : 58) عن هذه الفكرة على النحو التالي: "وذلك بفرض أن رغبة الفاعلين لا تنحرف أبدا عما يمليه حساب المنفعة، فإن هذه الفرضية [الاتفاق الناتج عن التوازن الويليرسي l'équilibre walrassien] لها تأثر على إدخال عامل قوي للاعتدال في الصراع التنافسي".
[12] نعتمد في ترجمة هذا الاقتباس وغيره على الترجمة العربية المتوفرة، أنظر: إميل دوركهايم، في تقسيم العمل الاجتماعي، ترجمة: حافظ الجمالي، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت، 1982، ص: 76. كل إحالة لاحقة في النص إلى الكتاب ستكون إحالة إلى موقع الاقتباس في الترجمة العربية. (المترجم)
[13] "إذا كانت المصلحة تقرب بين الناس، فلا يكون ذلك إلا لوقت قصير. فالمصلحة لا تملك أن تنشئ بينهم إلا صلة خارجية. ذلك أن العملاء، في المبادلة، يظلون على شيء من البعد فيما بينهم. وإذا انتهت العملية، عاد كل منهم بتمامه إلى نفسه. فالمشاعر ليست متماسة إلا بصورة سطحية، فلا هي تتداخل ولا هي تلتصق بعضها ببعض. وإذا نفذنا إلى أعماق الأشياء رأينا أن كل انسجام في المصالح يضمر نزاعا كامنا أو مؤجلا إلى حين. إذ حيث تسود المصلحة وحدها، ولا يكون هناك شيء آخر يوقف الأنانية المتقابلة، فإن كل فرد يقف على أهبة الحرب تجاه الآخر. وكل هدنة في هذا التعادي الخالد، لا يسعها أن تكون طويلة الأجل". (دوركهايم، 1982: 233)
[14] البحث الذي أجراه دونالد ماكنزي Donald Mackenzie (2006) حول تشكيل سوق للمشتقات (le Chicago Exchange Board of Trade) في سبعينات القرن العشرين، والالتزام الشخصي لأحد مؤسسيها الرئيسيين –Leo Mellamed– يوفر مثالًا توضيحيًا معاصرًا ممتازًا.
بيليوغرافيا:
Agamben Giorgio, 2008 [2007], Le règne et la gloire. Homo Sacer, II, 2, trad. française, Paris, Seuil.
Durkheim Émile, 1893, De la division du travail social, Paris, Alcan.
–, 1950 [1890-1900]. Leçons de sociologie, Paris, Presses universitaires de France.
–, 1968 [1912], Les formes élémentaires de la vie religieuse. Le système totémique en Australie, Paris, Presses universitaires de France.
–, 1998, Correspondance avec Marcel Mauss, Paris, Presses universitaires de France.
Faccarello Gilbert et Steiner Philippe, 2008, « Interest, Sensationism and the science of the legislator: French “Philosophie économique”, 1695-1830 », European Journal of the History of Economic Thought, 15-1,p.1-23.
Foucault Michel, 2004 [1978], Sécurité, territoire, population, Paris, Gallimard-Seuil.
–, 2004 [1979], Naissance de la biopolitique, Paris, Gallimard-Seuil.
Mackenzie Donald, 2006, An Engine, not a Camera, Harvard, the MIT Press.
Marx Karl, 1972 [1867], Le capital, critique de l'économie politique, trad. française, Paris, Éditions sociales.
–, 1974, Le capital, critique de l'économie politique, trad. française, Paris, Éditions sociales.
Mauss Marcel, 1980 [1925]. « Essai sur le don. Forme et raison de l'échange dans les sociétés archaïques », in Mauss Marcel, Sociologie et anthropologie, Paris, Presses universitaires de France, p. 143-279.
–, 2006 [1934], « Discussion », in Simiand François, Critique sociologique de l'économie, Paris, Presses universitaires de France, p. 259-279.
Mauss Marcel et Beuchat Henri, 1950 [1906], « Essai sur les variations saisonnières des sociétés eskimos : étude de morphologie sociale », in Mauss Marcel, Sociologie et anthropologie, Paris, Presses universitaires de France, p. 389-477.
Orléan André, 2011, L'empire de la valeur. Refonder l'économie, Paris, Seuil.
Pickering William, 1984, Durkheim's Sociology of Religion. Themes and Theories, Londres, Routledge and Kegan Paul.
Salhins Marshall, 1976 [1972], Âge de pierre, âge d'abondance. L'économie des sociétés primitives, trad. française, Paris, Gallimard.
Sen Amartya, 1977, « Rational Fools. A Critique of the Behavioral Foundation of Economic Theory », Economic and Public Affairs, 6-4, p. 317-344.
Simiand François, 2006 [1934], « La monnaie, réalité sociale », in Simiand François, Critique sociologique de l'économie, Paris, Presses universitaires de France, p. 215-279.
Steiner Philippe, 1994, La sociologie de Durkheim, Paris, La Découverte.
–, 2000, « Crise, effervescence sociale et socialisation », in Borlandi Massimo et Cherkaoui Mohamed (eds.), Le suicide, un siècle après Durkheim, Paris, Presses universitaires de France, p. 63-85.
–, 2005, L'école durkheimienne et l'économie. Sociologie, religion et connaissance, Genève, Droz.
–, 2008, « Foucault, Weber and the history of the economic subject », European Journal of the History of Economic Thought, 15-3, p. 503-527.–, 2011, « The Creator, human conduct and the maximisation of utility in Gossen's economic theory », European Journal of the History of Economic Thought, 18-3, p. 353-379.
Weber Max, 2003 [1904-5], L'éthique protestante et l'esprit du capitalisme, trad. française, Paris, Gallimard.
–, 1996 [1920], « Considération intermédiaire : théorie des degrés et des orientations du refus religieux du monde », in Weber Max, Sociologie des religions, trad. française, Paris, Gallimard, p. 410-460.
White Harrison, 1992, Identity and Control. Toward a Structural Theory of Action, Princeton, Princeton university Press.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه