توقعت أن أصل هنا وهو في مرحلة كلمته الأخيرة والتي يجب أن تكون «أنا آسف». ظننت أنه سيخبرني عن المكان الذي يود أن يُدفن فيه، حجم ديونه، عدد اللقطاء الذي سيتركهم خلفه، ومَن مِن المفترض أن يعتني بهم.

ترجمة: سلطانة إدريس

مافيز جالانت (١٩٢٢ - ٢٠١٤) كاتبة كندية تميزت في وسيط القصة القصيرة، عاشت في فرنسا وكتبت بالإنجليزية.


لوحة إدفارد مانش: «على فراش الموت».

لا أحب مغادرة كندا، لأنني أُخذل في كل مرة. لقد خذلتني أماكن لم أزرها أبدًا. زارت زوجتي فلوريدا مع والدتها مرةً. حين وصلتا إلى هناك، التقيتا ببعض الجيران الذين أخبروهما عن لافتة تقول «يمنع دخول الكنديين». لم تريا هذه اللافتة في أي مكان، لكنهما سمعتا عنها باستمرار من أشخاص رأوها، أو يعرفون أصدقاء رأوها، كل شخص يذكر مكانًا مختلفًا، مما أفسد عليهما الرحلة. العديد من الأشخاص مثلهم، لم يروها لكن سمعوا عنها، لذا لا بد من أنها موجودة بالفعل في مكانٍ ما. لثاني مرة كان عليَّ الذهاب إلى بوفالو للاعتناء بشقيقي كيني. لقد سرق بطاقة مصرفية ورُحِّل بناءً على ذلك. سافرت إلى هناك لأضمنه وأدفع كفالته وأعيده إلى المنزل. لم يهتم كلانا لأمر بوفالو.

قلت: «ما المذهل في هذا المكان؟».

رد كيني: «مارسيل بروست».

«ماذا؟»

قال: «تذكارات»، وكان يقرأ من قطعة ورقية.

سألته: «لماذا قد يُقدم شخص بتعليمك على فعلٍ أحمقٍ كسرقة بطاقة مصرفية؟»

رد كيني: «هل تعرف أمي؟»

«أمي تعرف، ولُو تعرف، وأنا أعرف، وبيريل تعرف. نُشر الخبر في الجريدة، (كينيث أبوستولسكو، من هذه المدينة…)»

«من الأفضل أن أبقى بعيدًا».

«لا. ليس من الأفضل، من أجل أمي. ليس للمرء سوى أمٌ واحدة».

رد كيني: «الحمد لله»، وأكمل: «واحدٌ من كل نوع، أمٌ واحدة وأبٌ واحد. لو كان لدي أكثر من ذلك لكنت ما زلت هاربًا».

كان والدي هو الذي هرب في الواقع. هجرنا في آخر حرب، وانضم إلى فوج البنادق الملكية، ولم يكن هذا الفوج كتيبة مونتريالية، فلم يكن مثل الآخرين في أي شيء، لم يستطع حتى الانضمام إلى الكتيبة التي كان من المفترض أن يختارها مثل الآخرين، وبعد الحرب فضل أن يمضي في طريقه بمفرده. رأيته مرة في وسط مونتريال بعد الحرب. كنت في الثانية عشرة تقريبًا، أعمل كساعٍ يُوصل الوصفات الطبية إلى الصيدلية. تعرفت عليه قبل أن يعرفني. كان يبدو بنفس مظهره المعتاد دائمًا، كأنه يمتلك كل الوقت في العالم. كان فمه منكمشًا للداخل كفم امرأة عجوز، لكنه ما زال يمتلك شعرًا فاحم السواد. يا ليتنا امتلكنا مظهره. سندت دراجتي بقدمٍ واحدةٍ على الحاجز وأتى هو ووقف بجواري، يتهادى على قدميه كراقص، وينظر بعيدًا من فوق رأسي. قال إنه حارسٌ ليلي لمصرف وأنه ينتظر من الجيش منحه طاقم أسنان. كان قد خلع كل أسنانه، على الرغم من أنها كانت سليمة. لقد كان مؤهلًا للحصول على طاقم أسنان لو قدم الطلب في نفس العام، ففكر في الحصول عليهم فعلًا. كانت مهنته الأصلية ساقي حانات، لكنه يرفض التقديم على أي وظيفة حتى يحصل على أسنانه الجديدة. قال: «أخبرتهم أن يُعجلوا بالأمر». «لا أستطيع الذهاب إلى الأماكن الجيدة بلثة فارغة». لم يسأل عن أحوال أي من في المنزل.

اضطررت إلى مغادرة كندا لأكون بجوار والدي حين مات. أنا الشخص الذي أرسلوا له، على الرغم من أنني الأصغر. اسمي كان مرفقًا بجواز سفره من الخلف. «في حالة وقوع حادث أو وفاة أبلغوا ويليام أبوستولسكو. صلة القرابة: الابن». كنت الشخص الذي اختاره. حينها كان يعمل ساقٍ في سفينة لعدة سنين ويجني أموالًا جيدة، لكنه لم يدخر شيء. أعتقد أنه لم يفكر للحظة أن حياته ستنتهي. انهار بنزيف رئوي، على حد علمي، فتركوه في ميناء في فرنسا. ذهبت إلى هناك. كان ذلك حيث رأيته. قُصفت هذه البلدة قبل عشرين عامًا وأغلب مناطقها تبدو جرداء وجديدة. لن أقول أنني كرهت المكان، لكني لم أكن لآتي هنا بمحض إرادتي. كانت أسوأ من بوفالو من عدة نواحي. لم يعجبني الطعام ولا القهوة، وفي الفندق، لا يوفرون لك أي شيء تحتاجه. كان عليَّ الخروج لشراء مناشف جيدة. لم أنزعج بشدة لأنه كان عليَّ شراء كل شيء لوالدي على أي حال، صابون ومناشف ومناديل. لم توفر المستشفى أي غرض سوى مفارش السرير، وحين تفرش هذه المفارش على سريرٍ ما يبدو أنها تظل فيه للأبد. تواجدت هناك ثلاثة وعشرين يومًا ولم أرها تُبدل سوى مرة واحدة تقريبًا. كان أجدادنا فرحين لمغادرة أوروبا. أبي هو من أعادني إليها. المشفى الذي كان يتعالج فيه كان معبدًا أو ديرًا قديمًا. كانت السرائر قريبة جدًا بعضها من بعض،حتى أن المرء يستطيع وضع كرسي بينهم بالكاد، وكانت النساء المريضات يتجولن دائمًا في عنابر الرجال. وعلى الرغم من أنني لا أستطيع الحلف بهذا، لكني أظن أن سرائر بعضهن كانت هناك في نهاية العنبر. كانوا يعطون للمرضى أواني فخارية مليئة بالماء الفاتر ليغتسلوا بها، ليس بجوار سرائرهم لكن في طاولة طويلة في منتصف العنبر. أما أي شخص يمنعه مرضه من النهوض، تفوته الفرصة المحظوظة، إلا إذا كان مثل والدي، لديه من يعتني به. رأيتُ خنافس وصراصير، وقلت لنفسي، هذا ما يجنيه المرء من مغادرة دياره.

تقبل أبي وجودي كما لو أنه حق مسلم به، وكما لو أنه لم يخسر حقه في أي اهتمام منذ سنين عديدة. ولكي لا أخيفه، ادعيت بأن والد زوجتي أرسلني إلى هنا لأنجز بعض الأعمال، لكنه بالكاد كان يصغي إليَّ، فلم ألح.

سألني: «ألم تعمل كسائق أجرة في إحدى المرات؟»، ثم أكمل: «ماذا فعلت أيضاً؟»

وددت لو أجيبه: «أتعرف ما الذي كنت أفعله؟ كنت أعيل زوجتك وأعلم أطفالك الآخرين، بلا معين حقيقي، منذ أن كنت في الثانية عشر».

توقعت أن أصل هنا وهو في مرحلة كلمته الأخيرة والتي يجب أن تكون «أنا آسف». ظننت أنه سيخبرني عن المكان الذي يود أن يُدفن فيه، حجم ديونه، عدد اللقطاء الذي سيتركهم خلفه، ومَن مِن المفترض أن يعتني بهم. تخيلتهم في ميناء مثل هذا، بلا أمهات جيدات. أحدهم يجب أن يُبلغ، إخباري لا يعني إخبار العالم بأسره. من مميزات البلد الأم أنها تسهل تنصلك من أي صلة قرابة تسبب لك المتاعب. كل ما عليك قوله هو: «لقد عاد إلى بلده الأم»، ولن يسألك أحد أي أسئلة. لذا كان بإمكانه إخباري، كان من الممكن أن أعرف ومع ذلك لا أُحزن العائلة. لكن والدي لم يبُح بأي شيء. المشكلة أنه لم يعرف أنه يُحتضر. في الواقع أخبروه أنه يتحسن، لذا لم يتصرف كرجلٍ يُحتضر.

استهلك أنفاسه المتبقية ليقول أشياء مثل «لطالما أحببت لُو القديمة»، وحين تسمعه قد تظن أنه يتحدث عن ابنة شخص آخر، فتاة بالكاد يعرفها. في مرة أخرى قال، «هل أبلى كيني بلاءً حسنًا في حياته؟ سمعت أنه التحق بالجامعة».

قلت: «لا تتكلم».

«كلا، أنا فعلًا مهتم. أود أن أعرف ما آلت إليه حياة كيني».

في بعض الأيام لم يقدر على التحدث بأعلى من الهمس، وكان حريصًا على كيفية نطق الكلمات. لم تكن لكنته متعالية أو إنجليزية، ليس الصوت الذي يدفعك للجز على أسنانك، لكن صوته كان غريبًا فحسب.

عندما أُرسلت إلى هنا، قالت أمي: «سيموت مُعدمًا بعد كل أفكاره. آمل أن يكون راضيًا». لم أُجبها، لكني قلت لنفسي، هذه ليست مسألة رضا. أردت أن أسألها، «بما أنك لم تكوني على وفاقٍ معه ولم يكن على وفاقٍ معك، لم ذهبتِ وأنجبتِ ثلاثة أطفال؟» لكن هذه هي الأسئلة التي تحتفظ بها لنفسك.

*

سأل أبي: «كيف تبدو زوجتك؟» كانت عيناه مشتعلتان بالاِهتمام. لم أكن جاهزًا لهذا، للمدى الذي ظل العقل فيه حيًا وظل فيه أرعن. يجب عليه أن يكون جادًا أكثر. «زوجتك»، ألح والدي، «كيف هي؟»

«مطيعة». قلت أول شيء خطر ببالي، لا أدري لماذا؛ ليس مهمًا. أكملت: «أكبر مني سنًا» بسهولة في الآخر. «أفضل تعليمًا مني. لقد كانت مدرسة حضانة. تعرف الكثير عن الفن». لم قلت هذا دونًا عن كل المشاكل الجانبية؟ «لا تحب أن يكون الحائط فارغًا». «تُفضل الرسامين القدامى». كنت أفكر في لوحة المنظر الطبيعي الأسكتلندية المعلقة فوق رف المدفأة.

«جيد، جيد. ما اسمها؟»

«تعرفه، بيريل. لقد أرسلنا لك إعلان زواجنا، لذلك المكان في المكسيك حيث كنت وقتها».

«هذا صحيح. بيريل». ما قاله في الواقع كان «بوريل».

شعرت بطمأنينة، لأن والدي حتى تلك اللحظة كان يتحدث كشخص غريب. لكن نطقه لـ«بيريل» بالطريقة التي اعتدت على سمعها عوضني عن وحدتي هنا ورائحة العنبر وطعم القهوة المصنوعة من اليود. تذكرت كلفة لوحة الرسام القديم، مئة وثمانين دولاراً في عام 1962. لابد من أنها تُقدر بأكثر من هذا الآن. قالت بريل أنها استثمار. دفعت عائلتها نصف المبلغ. قالت مرةً عن والدي، «يومًا ما سيمرض وسيكون علينا الاعتناء به»، «يمكننا بيع اللوحة». قلت: «أظن أنني أستطيع الاِعتناء بوالدي».

حدث بالفعل. كنت هنا أعتني به؛ لكنه أفسد اللحظة بقوله، «يبدو بأنك أبليت بلاءً حسنًا. البدلة التي ترتديها تبدو جيدة».

قلت: «في الواقع، اضطررت لاستعارتها من والد بيريل حتى آتي إلى هنا».

ظننت أنه سيقول: «آه، أنا آسف»، فكنت جاهزًا بردي التالي بألا يضايق نفسه بمقدار سنت واحد حتى. لكن والدي أغمض عينيه، مبتسمًا، ومحافظًا على مزيدٍ من الأنفاس للحديث عن اللاشيء.

«تروق لي لُو القديمة». قالها بوضوح. كنت خائفًا من أنه سيسأل «لماذا لا تكتب لي؟»، وسيتوجب عليَّ أن أقول حينها: «لأنها لم تسامحك أبدًا». وكان من المتوقع تمامًا أن يقول: «لم تسامحني أبدًا على ماذا؟» لكن بدلاً من كل ذلك أطلق ضحكةً، كانت أسوأ من أصوات الاِختناق والأزيز الذي يُصدرهم الآن، وحين أنهاها قال: «أخذتها إلى إيتون لتختار قرية لعبة. كان لدي شحنة وصلت توًّا، آخر شحنة قبل الحرب. صيف 39. رأى العجوز الإعلان، أراد أن يشتري واحدة للفتاة. أتى العجوز، كلانا ممسكين بيدها. ألقت لُو نظرة في الأرجاء، لكن كل قريةٍ كان بها علة ما، أثارت قلق سمو جلالتها. قال العجوز: هيا يا أميرة، أسرعي. لكن لا، كانت ترى خدشًا أو طلاءً سيئًا، أو مدخنة أكبر من الكوخ. قال العجوز: ألا تستطيع هذه الفتاة أخذ قرارها بشأن أي شيء؟ ستبكي في هذه الحياة أكثر مما تضحك. قال: وهذا ينطبق عليك أيضاً. لقد كان مخطئاً بشأني. لا أدري عن لُو؛ لكنها كانت ذكية تلك المرة، ألا ترغب بشيءٍ ليس مثاليًا».

أغمض عينيه مجددًا وتنفس من فمه بيأس. العجوز في القصة كان والده، جدي.

قلت: «شيء ليس مثاليًا». شعرت أنني أريد أن أقف حتى يسمعني كل شخص. ليست مرارةً، لكنها ردة الفعل التي شعرت بها وحسب تجاه تفاؤل والدي.

في بعض الأيام ظهر عليه التحسن. بعد أسبوعين بدأت أتساءل إذا كانوا قد أحضروني من تلك المسافة للاشيء. لا أقدر على الذهاب والعودة لاحقًا، يجب أن يحدث الأمر الآن، لن أستطيع البقاء على هذا المنوال. كنت قد انتقلت بالفعل إلى غرفة فندق أرخص. حلمت أنني سألته: «إلى متى؟» لكن لحسن الحظ كان الحلم بلغةٍ أجنبية. أجنبية للغاية لا أظن أنها فرنسية حتى. لغةٌ لم يسمعها أحدٌ في العالم. لم أكن أريده أن يفهمها حتى في الحلم. الممرضات لم يقدرن على قول شيء. أحيانًا كنت أتساءل إن كن يعرفنه، وإن كن يستطعن التمييز بين مريضٍ وآخر. كان مكانًا كبيرًا وفقيرًا. هؤلاء الممرضات لم يمتلكن المعدات اللازمة. حين يحتجن إلى مياه معقمة يُضطررن إلى غليها في مقلاة قديمة. ذهبت إلى الطبيب في أحد الأيام لكن الأمر لم يعجبه. كان قد قال لأبي أنه في أحسن حال وأن بإمكاني العودة إلى كندا في أي وقت. لا بد من أن الفتى الكبير بدأ يتساءل لماذا طال بقائي. قال الطبيب لي: «الشؤون العائلية لا تعنيني في شيء. قم بواجبك وأنا سأقوم بواجبي». خفت من أن يكون حلمي ظهر على وجهي وهذا ما جعلهم كلهم غير مكترثين. لم أكن أعرف كم من الوقت تبقى. أردت أن أسأل أبي لم ظن أن كل شيء يجب أن يكون مثاليًا، وإذا ما كان متمسكًا بالفكرة كأسلوب عيش حتى الآن. في كل مرة كان يتعرض للتأنيب، من قبل أمي مثلًا، كان يقول: «لا تجعلي حياتي مظلمة عليَّ». ماذا بإمكانك أن تفعل؟ لا شك في أنه جعل حياتها أظلم بكثير عليها. في أحد الأعوام عندما كنا نمتلك كوخًا صيفيًا، أخذ فتاة من القرية، ساقطة القرية، لجزيرة وسط البحيرة. في طريق عودتهما علقوا في العاصفة، وسط خمسين شخص واقفين على الشاطئ ينتظرون رؤية اِنقلاب الزورق و سقوط الآثمين. أمرتنا أمي بالبقاء في المنزل، لكن حين قال أخي كيني ليخيفني: «في هذا الوضع السيئ أظن أن أمي ذاهبة لتغرق نفسها». ركضت خلفها. لم تنبس بكلمة، لكنها خلعت معطف المطر ووضعته فوق رأسي. كان الأمر ليصبح جيدًا لو مات والدي تلك الليلة، لو صعقه البرق، أو غرق زورقه كحجر ألقى في الماء. لكن لا، لقد خاض طريقه في الماء إلى الشاطئ، والساقطة أيضًا، حتى أن شخصًا ما أعطاها بطانية. ويا للطرافة، كانت أمي الملامة. «ألا تقدرين على إبقاء زوجك في المنزل؟» قال والد هذه الفتاة. في نفس الصيف أتذكر تلك المرأة التي قالت لها، «من الأفضل لك إبعاد زوجك عن إبنتي. أنا أخبرك لمصلحتك، لأن زوجي يمتلك مسدسًا في المنزل». قال أحدهم: «آه سيدة أبوستولسكو المسكينة!» لكن أمي أجابت هذه المرة: «إن كنت تظن ذلك، إذًا أنا مسكينة مدى الحياة». كانت هذه واحدة من الأشياء التي فعلها بها. لست متأكدًا حتى إن كانت الأسوأ.

*

من الصعب تحديد المدة التي كان ينظر إلي فيها. كانت شفتاه تحاولان تشكيل كلمة. انحنيت نحوه وسمعت: «إسفنجة».

«هل قلت إسفنجة؟ هل إسفنجة هو ما قلته؟»

«إسفنجة»، قال مكررًا. بذل جهدًا: «ليلةٌ سيئة ليلة أمس. مريعة، مسحت كل شيء بإسفنجتي، دم، بصاق. أحتاج لإسفنجة جديدة».

لم يكن هناك طاولة بجوار السرير، فقط كيس بلاستيكي معلق على حاجز السرير ويحتوي أغراضه الشخصية. أخرجت الإسفنجة. كان لابد من رميها، حسنًا، قلت: «أي لون؟»

«إيه؟»

قلت: «هذه»، ورفعتها أمامه. «الجديدة. أي لونٍ تفضل؟»

«أزرق». خرج صوته مرة واحدة هامسًا. كانت عيناه تسخران مني، كطفلٍ يرى إلى أي حد يمكنه التمادي. ظننت أنه سيشكرني الآن، لكن بعدها قلت لنفسي، لا تتوقع شيء؛ إنه رجلٌ مريض، لطالما كان كذلك.

«أغلب الناس يرون أنه من الجيد مني أن آتي هنا»، أردت أن أشرح، لا أتبجح أو أي شيء، لكن لغرض التحاور فقط. كنت وحيداً هناك، ومحاولة فهم أي أحدٍ هناك كانت معاناة.

«ليلة سيئة»، همس والدي. «أحتاج إلى مسكن».

«أعرف. حاولت تبليغ الطبيب، أظن أنه لا يفهم فرنسيتي».

حرك رأسه. «أعط الممرضات بقشيشًا».

«أنت لا تعني ما قلته!»

«لا تجبرني على التحدث». بدا كأنه يستهلك احتياطي النفس. «عشرون دولار على الأقل. فتيات العنبر أقل».

قلت: «يا إلهي»، لأن هذا جديد عليَّ، وشعرت بضيق في التنفس. «إنهم لا يهتمون بك»، قلت محاولًا إقناع نفسي بفعلها: «لعلك على صواب. إن أعطيتهم هدية، سيعتنون بك أكثر. سيغسلونك. ربما يضعون ستارًا حولك، ستشعر بخصوصية أكثر حينها».

قال والدي: «لا شكرًا. لا ستار. شكرًا جزيلًا على أي حال».

*

تحدثنا مرة واحدة فقط بعد ذلك. ذكرت مسبقًا أن هناك نساء يتجولن دائمًا في العنبر، متهاديات بخفاف من اللباد، وأرواب ملطخة بالدواء والشاي. دخلت ووجدت واحدة صغيرة للغاية تمشط شعر والدي. كان بالكاد يرفع رأسه عن المخدة، لكن مع ذلك كانت تظن أنه مثير للاهتمام. طرأ على بالي كيني، آه لو يرى هذا.

قال والدي بصوت لاهث عندما رحلت المرأة: «كانت تحدثني عن نفسها. ثلاثة أبناء من ثلاثة رجال مختلفين. قابلت شمال أفريقي. تبنى الأطفال، الثلاثة كلهم. منحهم اسمه. أنجبت اثنين منه، صبيين. لكنه لم يحتمل امرأة مريضة. يومًا ما لم يعد، هكذا فحسب. كانت في مكانٍ آخر لشهر، الآن أحضروها إلى هنا. رحل الرجل. ترك الأطفال. وُضع كلٌ منهم في منزل مختلف، لا تعرف أين. خمسة أطفال. تخيل».

قلت لنفسي، أنت تركتنا. نسي. نسي بكل سهولة أنه ترك أطفاله.

«حسنًا، لا نستطيع فعل شيء حيالها، أليس كذلك؟ ستجمعهم حين تخرج من هنا».

«هذا لو خرجت من هنا».

قلت: «لا تقل هذا. انظر كيف كانت تتحدث وتتجول..». لم أستطع حمل نفسي على نطق: «وتسرح شعرك». «أنظر كيف حالك، لقد رويت لي هذه القصة الطويلة للتو».

رد والدي: «سيبدو عليها أنها تتحسن، لكن حالتها ستسوء. إنها مثلي، تسوء حالتها. هل تظن أنني لا أعرف في أي عنبر أنا؟ كل مرة يضعون الستار حول مريض، هذا لأنه يحتضر. لو كنت مريضًا بالسل كما يحاولون إقناعي، لكنت في مستشفى السل».

«هذا ليس صحيحًا».

«هل تقسم على أنني مريض سل؟ لن تقدر».

قلت دون تردد: «أنتَ تعاني من نوع عنيف من السل. ليس لديهم مكان آخر يضعونك فيه سوى هنا. العنبر قد يكون وضيعًا، لكن الدواء.. العناية الطبية..». أغمض عينيه. «أنا أنظر إليك في وجهك، وأقسم لك أنك تعاني من نوع غير مألوف من السل، ولقد قاربت على الشفاء». شاهدت، دون اعتراضٍ الآن، نوعًا جديدًا من الحشرات يزحف على قاعدة الجدار.

«شكراً يا بيلي»، قال والدي.

كنت خائفًا حقًا. كنت أنتظرُ شيئًا دون معرفة ما سيعنيه. يمكنني إخبارك كيف كان: لقد كان مثل نهاية العالم.

قلت: «لم أكن أدرك أنك قلق. كان عليك أن تسألني في لحظتها».

قال والدي: «عرفت أنك لن تكذب عليَّ، لهذا أردتك أنت، ليس البقية».

كان هذا كل شيء. بعد ذلك بفترة قصيرة لم يقدر على الكلام. لقد هجر عائلته بأسرها مرة، لكنني كنت الشخص الذي هُجر مرتين. حين مات، قالت لي الممرض:،«»أعتذر». كانت خالية من المعنى حين نطقتها، لكن قبل عدة أيام فقط كانت كل ما ظننت أنني أريد سماعه.


الترجمة خاصة بـBoring Books.

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذنه منها.