"تكاد هذه التجربة تنسيني متعة الرحلة" تمتمتُ لنفسي وأنا أستخرج الصور التي التقطُّها في إسبانيا من على هاتفي مستعيدًا متعة خوضي هذه الرحلة.
اختفت قرطبة
قصة عمر زكريا
وصلنا أخيرًا إلى مالقة، محطتنا الأخيرة في مشوارنا الإسباني الذي دام أسبوعين. على المرء أن يعترف قبل سرد ما حصل أنَّها كانت رحلة عائلية جميلة استهلّيناها في مالقة حيث حطت الطائرة واستأجرنا سيارة أعانتنا على ربط قرطبة بإشبيلية بغرناطة بسهولة. ثمَّ انتهت في مالقة حيث أعدنا السيارة واتجهنا إلى المطار للعودة.
نزلنا من السيارة ليستقبلنا موظف الاستلام فتحقق من هيكل السيارة وكمية الوقود ومن دون أي مقدمات قال لنا: "الأمور كلّها تمام، ستستلمون إشعارًا عبر البريد الإلكتروني بعودة مبلغ التأمين المسترد إلى البطاقة التي دفعتم بها". التفتُّ إلى زوجتي مستغربًا هذه السلاسة، "ولكن..." قلت له، "السيارة أخذت مخالفة". نظر إليّ باستغرابٍ كما لو أنني ألقيت عليه لغزًا. شعرتُ لوهلة أنَّ منظري يتغير أمامه، وكأنَّ بي أشيخ بسرعة كبيرة لذكري المخالفة. بدا وكأنني ذكرتُ له عادةً قديمةً كان يقوم بها جيل سابق ولم تعُد ممارسةً حديثة. "مخالفة؟" سألني باستغراب. "لقد حصلتُ على مخالفة اصطفاف في قرطبة، لم نعرف ماذا نفعل وكنّا قد رأيناها على مقدمة السيارة في اليوم الذي تحرّكنا فيه باتجاه إشبيلية".
أدخلتُ رأسي داخل السيارة لكي أسحب الورقة من جيبها وأريته إياها ظانًّا أنه سيطلب منا الدخول لكي نقوم بإجراءات الدفع. "ولكنّنا هنا لا نتعامل مع المخالفات، كان يتوجّب عليكم دفعها عبر البنك، لعلّكم تستطيعون دفعها عبر الإنترنت". وأخذ الورقة من يدي وقلبها بين يديه وأشار بشكلٍ عشوائي إلى رقمٍ طويل وقال لنا أنه رقم الحساب البنكي الذي يمكننا التحويل إليه. طلبنا منه الدخول إلى المكتب وحسم العملية قبل السفر فأجابني ألّا إنترنت في مكتب السيارات، فأتى دوري لبدء بعث نظرات الاستغراب عبر الأثير الفاصل بيننا.
عدنا ذلك اليوم وأردنا الانتهاء من الأمر فشرعنا باتباع نصيحة الرجل لكي ندفع لكنّه للأسف كان مخطئًا. الرقم كان رقمًا تسلسليًّا عاديًّا. والدفع عبر الإنترنت لا يحصل إلا لدى دائرة السير الوطنية والتي تشمل العديد من المخالفات، ليست مخالفة الاصطفاف منها، فتلك لا يُتابعها إلا السلطة المحلية مما يعني أنَّ غريمنا كان بلدية قرطبة وليس دائرة السير.
دخلنا إلى موقع البلدية ولم نجد طريقةً واضحةً للدفع باستثناء الدفع البنكي المباشر داخل إسبانيا فلجأنا إلى إرسال رسالة إلى بريدٍ إلكتروني وجدناه على صفحة مخالفات السير لتفسير الوضع، لكنَّ الرسالة ارتدَّت. فجرَّبنا بريدَ البلدية العام فارتدَّت الرسالة أيضًا. حاولنا عدّة عناوين أُخرى، أحدها مطبوعٌ على ورقة المخالفة نفسها، ونحن نتأفَّفُ من سوء حال بلديات المدن الصغيرة في جنوب أوروبا وكأنها تسعى للانضمام إلى جامعة الدول العربية.
استجمعتُ شجاعتي وقرَّرتُ استعمال ما أملكه من لغة إسبانية ركيكة للاتصال بالبلدية. أخذتُ الرقم من الموقع الإلكتروني واتصلت لكن الخطَّ كان غير مستعمل. وجدتُّ رقمًا ثانيًا على ورقة المخالفة نفسها لكن النتيجة كانت ذاتها. حاولتُ على محرّك البحث غوغل أن أجد رقمًا ثالثًا مستعينًا كذلك بصفحاتٍ ممكنة من وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضًا لا شيء. عدتُ إلى الموقع الإلكتروني لعلّي أجد طرف خيطٍ جديد لكنّه لم يعد يستجيب، فأغلقتُ الحاسوب حنقًا مؤجّلًا البحث عن هذا الأمر إلى وقت لاحق.
"تكاد هذه التجربة تنسيني متعة الرحلة" تمتمتُ لنفسي وأنا أستخرج الصور التي التقطُّها في إسبانيا من على هاتفي مستعيدًا متعة خوضي هذه الرحلة. تصفحّتُ صور الأماكن المفتوحة كالشوارع والحدائق التي زرتها وكذلك الوجبات التي استمتعتُ بها والتماثيل التي مررتُ بجانبها وأجزاء من المدينة القديمة والمواقع الأثرية. أحببتُ بعض المناطق البعيدة عن التجمّعات السياحية حيث يقضي القرطبيين والإشبيليين والغرناطيين نهارهم. أردتُ رؤية هذه المناطق من جديد وتذكير نفسي بجمال تجربة التسكُّع في مدينة جديدة. كان عليَّ فعل ذلك لكي أتناسى عدم الكفاءة الذي أضطر لمواجهته عن بعد.
لم يكن لدي صور لتلك المناطق فأحببت تذكّر التجربة عبر تتبُّع الخريطة بدءًا بقرطبة. خرجتُ من متحف الصور المتنقل في هاتفي وذهبت إلى تطبيق الخرائط وأدخلت كلمة "قرطبة"، فأخذتني الخريطة إلى مدينة أرجنتينية كبيرة. فأعدتُ البحث مستخدمًا عبارة قرطبة إسبانيا فأطال التطبيق البحث قبل أن يعود عليَّ بلا شيء. بدأ الاستياء يعود للتغلغل إلى تجربة رحلتي ممتزجًا بالإصرار على استعادتها. فأدخلتُ في محرك البحث كلمة إسبانيا وحدها وحرَّكت باتجاه الجنوب ولكن لسببٍ ما لم أستطع الوصول إلى قرطبة. بحثتُ طويلًا وبدأت بالشك في معرفتي المزعومة بخريطة إسبانيا. بعد نصف ساعة ملؤها الفشل، خرجتُ من تطبيق الخريطة عائدًا إلى غوغل لاستخراج صورة لخريطة إسبانيا تُعينني على البحث، ولمفاجأتي لم تكن أي من الصور فيها قرطبة.
تنقسم إسبانيا إلى مناطق حكم ذاتي وفي كل منطقة عدة مقاطعات إحداها العاصمة. مقاطعات أندلوسيا (الأندلس)، حسب ما كنت أعرف، ثماني مقاطعات عاصمتها إشبيلية أما الآن فلا أجد إلا سبعة. جميع الخرائط تري أنَّ إشبيلية وجيّان وغرناطة ومالقة تتشارك حدودًا مشتركة. مقاطعة قرطبة التي فصلت بينها لم تعد هُناك.
أخذت بتصفّح الأخبار بجميع اللُّغات التي أعرفها بحثًا عن تفسير. شككتُ في البداية أن تغيّراتٍ إدارية كانت قيد الحدوث ولولا هذه الصدفة لما سمعتُ بها. ولكنني لم أجد شيئًا. كما أنَّ تعديلًا إداريًّا لا يفسّر اختفاء قرطبة عن كلّ الخرائط التي كانت على الشبكة قبل الرحلة. ثمَّ إن ألغت الدولة مقاطعة قرطبة، التي تضمُّ مدينة قرطبة وما حولها، فكيف تمحو مدينة قرطبة نفسها من الوجود؟ ألا يعني هذا أنَّها انضمت إلى مقاطعة أُخرى؟
أغلقتُ هاتفي وفتحت الحاسوب فهذا الأمر يستدعي شاشة أكبر. قلتُ لنفسي إن كانت الخرائط على غوغل لن تخدمني فسأجرب محرّك البحث؛ قرطبة، بحث، صفحة ويكيبيديا، توضيح: قرطبة إسبانيا، قرطبة الأرجنتين، قرطبة الرقة، قرطبة الكويت، قرطبة المكسيك، قرطبة كولومبيا، قرطبة فينزويلا...
انفرجت أساريري فويكيبيديا لا يزال يدعمني. اخترت الخيار الأول، وجاءني التعريف التالي: قرطبة مدينة أسطورية قديمة عُرفت بين حكام الأندلس أنّها أرض الحكمة حيث قيل إنها حوت مكتبةً شيّدها ملكٌ اسمه الحكم المستنصر الذي ضمَّ مكتبتي أخيه وأبيه بعد وفاتهما إلى مكتبته فوصلت أعداد المجلدات فيها ما بين المائة ألف والأربع مائة ألف تبعًا لقائل الأسطورة. اعتقد الكثيرون بوجود المدينة بشكلٍ حقيقي وقامت الكثير من البعثات في البحث عنها وعن مكتبتها. لا يوجد أي دليلٍ على وجودها رغم ادعاء الكثيرين أنّهم وجدوا آثارًا لها. كثيرٌ من الدول أطلقت على مدنٍ ومناطق هذا الاسم تيمّنًا بالأسطورة أبرزها مدينة قرطبة الأرجنتينية التي تُعدُّ الثانية بعد العاصمة.
لم أصدق أول الأمر، ظننت أنَّني دخلت إلى الصفحة الخطأ عدت إلى صفحة التوضيح. لا يوجد أي قرطبة إسبانيا غيرها. جربت مقالات أخرى على شبكة وجميعها حوت نفس ما قيل على وكيبيديا منسوخًا بالحرف. عدتُ إلى المقال الأصلي وأكملت القراءة: ذكر العديد من المؤرخين هذه المدينة، بعضهم أرّخ لها على أنّها حقيقية والبعض الآخر أرّخ لذكر الأسطورة في الآداب العربية واللاتينية. وقد وجد الباحثون خريطةً تعود للعام 462 هـ الموافق 1070 م لطائفة إشبيلية تضم نقطةً في الشمال قيل إنّها قرطبة. أمر برسمها الأمير المعتمد بن عبّاد بعد أن وسّع رقعة طائفة إشبيلية، ويعتقد المؤرخون أنّه أمر بإضافة قرطبة إلى الخريطة ليُقال عنه إنّه كان حاكمًا لأرض الحكمة.
قمت وأحضرت ورقة المخالفة، لا تزال موجودة والحبر المطبوع عليها واضح؛ اسم بلدية قرطبة مع الرقم التسلسلي والبريد الإلكتروني ورقم الهاتف كلّها هناك. ذاكرتي القريبة لا تزال ناضحة بالصور، لقد ذهبتُ إلى قرطبة، ودخلتها بسيارة مستأجرة من مالقة. رميتُ الورقة وذهبتُ إلى خزانة فيها بعض حاجياتٍ قديمةٍ لي. أخرجتُ أطلسًا أهدتني إياه أمي وأنا مراهق. فتحتُ على صفحات خرائط العالم وأوروبا وإسبانيا، النتيجة كانت هي هي، لقد اختفت قرطبة.
* القصة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بقصته دون إذن منه