أي نوع من النساء تضع نفسها في كتالوج كي يمكن شراؤها؟ هكذا فكر عقلي وهو ابن المدرسة الثانوية، فأنا أعرف الكثير عن كل شيء، شعرت بالازدراء منها، كما أزدري النبيذ.

حديقة الحيوانات الورقية

قصة كين ليو

ترجمة: أحمد تركي

كين ليو (1976) كاتب أمريكي من أصل صيني، يكتب أدب الخيال العلمي والفانتازيا، حصلت قصته المترجمة هنا على عدة جوائز.


كين ليو، عن kirkus

تبدأ واحدة من أولى ذكرياتي ببكائي، رفضت أن أهدأ مهما حاول معي والداي.

استسلم أبي وغادر غرفة النوم، فأخذتني أمي إلى المطبخ وأجلستني على مائدة الإفطار.

قالت: "كان، كان. (انظر، انظر)". وهي تسحب ورقة تغليف أطعمة من أعلى الثلاجة، اعتادت أمي لسنوات فتح أغلفة هدايا عيد الميلاد بحرص، لتحتفظ بها أعلى الثلاجة في حزمة سميكة.

وضعت الورقة ووجهها الأمامي لأعلى على المنضدة، وبدأت تطويها وتُشكلها، فتوقفت عن البكاء وراقبتها بفضول.

قلبت الورقة وطوتها مرة أخرى، ثنت الأطراف، وحشدتها في رُزم مُتتالية، ودست بعضهم داخل بعض، ودحرجت، ولوت الورقة حتى اختفت بين يديها المضمومتين، ثم رفعت الكيس الورقي المطوي إلى فمها ونفخت فيه كأنه بالون.

قالت، "كان" انظر، "لاوهو (نمر)". ووضعت يدها على الطاولة وتخلت عما تمسكه.

وقف نمر ورقي صغير على المنضدة، في حجم قبضتين وُضعتا معًا، كان جلده هو النمط المطبوع على ورق التغليف؛ خلفية بيضاء وعصيان حلوى حمراء وأشجار عيد ميلاد خضراء.

اقتربت مما صنعت أمي، انتفض ذيله ثم قبض على إصبعي بطريقة مُضحكة، قالت أمي: "راور-سا (إنه يهدر)"، صوته النابع من حلقه يأتي من مكان ما بين صوت القطط وحفيف أوراق الجرائد.

فضحكت، وانذهلت، وضربت ظهره بسبابتي، فاهتز النمر الورقي تحت إصبعي وهرهر، ما يدل على سعادته واطمئنانه.

قالت أمي: "جي جاوتسو جاتشي (يُسمى هذا بالأوريجامي)".

لم أعرف هذا وقتها، لكن أمي كانت مميزة، تتنفس فيهم ليتشاركوا أنفاسها، وبالتالي يتحركون بحياتها، وكان هذا سحرها.

• • •

اختار أبي أمي من كتالوج مُصور تصفحه.

ذات مرة، عندما كنت في المدرسة الثانوية، سألت أبي عن التفاصيل، أثناء مُحاولته لإقناعي بالتحدث إلى أمي مرة أخرى.

اشترك والدي في خدمة التقديم في ربيع عام 1973، كان يتنقل بين الصفحات بانتظام، لا يقضي سوى بضعة ثوانٍ في كل صفحة، حتى رأى صورة أمي.

لم أر تلك الصورة أبدًا، وصفها لي أبي: كانت أمي جالسة على كرسي، وجانبها يواجه الكاميرا، ترتدي الشيونجسام[1]، حولت رأسها باتجاه الكاميرا بحيث تدلى شعرها الأسود الطويل بشكل فني على صدرها وكتفها، عيناها تنتميان لطفلة هادئة.

قال: "وكانت هذه هي أخر صفحة أراها في الكتالوج".

قال الكتالوج إنها كانت في الثامنة عشرة من عمرها، تحب الرقص وتتحدث الإنجليزية بشكل جيد لأنها من هونج كونج، ولم يكن أيًا من هذا صحيحًا.

كتب لها رسائل، فكانت الشركة تنقل رسائلهما ذهابًا وإيابًا، وفي النهاية قرر السفر إلى هونج كونج ليُقابلها.

"العاملون في الشركة هم من كتبوا ردودها عليّ، لم تعرف من اللغة الإنجليزية سوى "مرحبًا" و "مع السلامة".

أي نوع من النساء تضع نفسها في كتالوج كي يمكن شراؤها؟ هكذا فكر عقلي وهو ابن المدرسة الثانوية، فأنا أعرف الكثير عن كل شيء، شعرت بالازدراء منها، كما أزدري النبيذ.

وبدلاً من اقتحام المكتب والمطالبة باسترداد أمواله، دفع لنادلة في مطعم الفندق لتترجم لهما.

"كانت تنظر إليَّ، وعيناها في منتصف الطريق بين الخوف والأمل، وبينما أتحدث بدأت الفتاة في ترجمة ما قلته، فرأيت أمك تبتسم ببطء".

طار عائدًا إلى كونيكتيكت ثم تقدم بطلب استقدامها، وُلدت بعد ذلك بعام، في عام النمر.

• • •

وبطلب مني صنعت أمي أيضًا ماعزًا وغزالة وجاموس ماء من ورق التغليف، كانوا يركضون في غرفة المعيشة ويطاردهم لاوهو، وعندما يُمسك بهم يضغط عليهم حتى يخرج الهواء منهم تمامًا ويصبحون قطعًا ورقية مُسطحة ومطوية، وأضطر بعدها لإعادة نفخهم كي يتمكنوا من الركض.

واجهت الحيوانات الورقية بعض المشاكل، فذات مرة قفز جاموس الماء في طبق من صلصة الصويا على مائدة العشاء، إذ أراد أن ينغمس في سائل كما تفعل جواميس الماء الحقيقية، التقطته بسرعة لكن الخاصية الشعرية تمكنت بالفعل من ضخ السائل الداكن إلى ساقيه، فلم تستطع قدماه الليّنتان بفعل الصلصة من حمله فانهار على الطاولة، جففته في الشمس لكن الالتواء أصاب ساقيه إلى الأبد بعد ذلك، فكان يركض هنا وهناك وهو يعرج، في النهاية لفت أمي ساقيه بأكياس طعام حتى يتمكن من الانغماس في محتوى قلبه وليس فقط صلصة الصويا.

أحب لاوهو القفز نحو العصافير عندما نلعب معًا في الفناء الخلفي، ولكن طائرًا محاصرًا هاجمه ذات مرة في المقابل ومزق أذنه، تذمر وتقلص جسده ألمًا وضيقًا، أمسكته لتُغطي أمي أذنه بشريط لاصق، وتجنب الطيور من بعد تلك الواقعة.

وفي يومٍ آخر شاهدت فيلمًا وثائقيًا في التلفاز عن أسماك القرش، فطلبت من أمي أن تصنع واحدًا لي، وقد صنعته بالفعل لكن جسده رفرف على الطاولة بحزن؛ يتوق إلى الماء، فملأت الحوض بالماء ووضعته فيه، فسبح ذهابًا وعودة بسعادة ظاهرة، لكنه أصبح شفافًا وطريًا بمرور الوقت، وغرق ببطء في القاع، ولم تعُد في جسمه أي طيات، حاولت إنقاذه لكن ما استخرجته كان قطعة ورق مُبللة ومُفتتة.

وضع لاوهو كفيه الأماميين معًا على حافة الحوض، وأسند رأسه عليهما، وأسقط أُذنيه وهدر بصوتٍ خفيض جعلني أشعر بالذنب.

صنعت لي أمي سمكة قرش جديدة من رقائق القصدير التي نُغلف بها الطعام هذه المرة، فعاش القرش سعيدًا في وعاء سمكٍ ذهبي كبير، أحببت أنا ولاوهو الجلوس بجوار الوعاء لمُشاهدته وهو يُطارد السمك الذهبي، يُلصق لاوهو وجهه على الزجاج ويحدق في وجهي عبر الوعاء، فأتمكن من حتى رؤية عينيه مُكبرتين إلى حجم فناجين القهوة على الجانب الآخر.

• • •

في العاشرة من عمري انتقلنا إلى منزل جديد وسط المدينة، وجاءت جارتان للترحيب بنا، قدم أبي لهما المشروبات ثم اعتذر لاضطراره للذهاب إلى شركة المرافق لتسوية فواتير المالك السابق: "تصرفا وكأنكما في بيتكما، زوجتي لا تتحدث الإنجليزية كثيرًا، فلا تحسبا أنها وقحة إذا لم ترد عليكما".

وبينما أنا جالس أقرأ في غرفة الطعام وأمي تُفرغ حقائبنا في المطبخ، تحدث الجيران في غرفة المعيشة، ولم يحاولوا إكساب حديثهما الخصوصية.

"يبدو أنه رجل عادي بما فيه الكفاية، لماذا فعل ذلك؟"

"هذا المزيج لا يبدو صحيحًا، الطفل يبدو غير مكتمل النمو، عيناه مائلتان، وجهه أبيض! هذا وحش صغير".

"هل تعتقدين أنه يتحدث اللغة الإنجليزية؟"

وصمتت الجارتان، بعد وهلة دخلتا غرفة الطعام.

"أهلًا بك! ما اسمك؟"

قلت: "جاك".

"هذا لا يبدو صينيًا للدرجة".

ثم جاءت أمي إلى غرفة الطعام بعد ذلك فابتسمت للسيدتين، ووقفن في مثلث حولي، يبتسمن ويومئن برؤوسهن لبعضهن البعض دون أن يقُلن شيئًا، حتى عاد أبي.

• • •

زار أحد الأولاد بالحي –واسمه مارك- بيتنا ومعه دُمى بلاستيكية لشخصيات حرب النجوم، أضاء سيف أوبي وان كينوبي الضوئي وكان بإمكان الدمية أن تُأرجح ذراعيها وتقول بصوت رقيق: "استخدم القوة!" في الحقيقة لم أرَ أن الدمية تُشبه أوبي وان الحقيقي على الإطلاق.

شاهدناه معًا يكرر نفس الأداء خمس مرات على طاولة القهوة، فسألته: "هل يمكنه فعل أي شيء آخر؟"

أجاب مارك مُنزعجًا من سؤالي: "انظر إلى كل التفاصيل".

فنظرت في تفاصيله، ولم أتأكد مما يُفترض أن أقوله.

أُصيب مارك بخيبة أمل من رد فعلي، فقال: "أرني ألعابك".

لم أمتلك أي ألعاب باستثناء حديقة الحيوانات الورقية، أحضرت لاوهو من غرفة نومي، كان في ذلك الوقت مُتهالكًا للغاية، رقعته في كل جوانبه بالأشرطة اللاصقة والغراء؛ دليلٌ على سنواتٍ من إجراء إصلاحاتي وأمي عليه، لم يعد رشيقًا وثابتًا كما كان، أجلسته على طاولة القهوة، وكان باستطاعتي سماع انزلاق باقي الحيوانات في الردهة وهي تطل برؤوسها في خجل إلى غرفة المعيشة.

قلت: "ستشي لاوهو" وسكت، ثم تحولت إلى اللغة الإنجليزية وقلت: "هذا نمر" وبحذر تقدم لاوهو وأصدر خريرًا وهو يشم يد مارك.

فحص مارك نمط غلاف عيد الميلاد على جلد لاوهو "هذا لا يشبه النمور على الإطلاق، أمك تصنع لك ألعابًا من القمامة؟"

لم أفكر أبدًا في لاوهو وكونه قمامة، لكن بالنظر إليه الآن؛ هو في الحقيقة مجرد قطعة ورق تغليف.

دفع مارك رأس أوبي وان مرة أخرى، فومض السيف الضوئي، وحرك ذراعيه لأعلى ولأسفل "استخدم القوة!"

فاستدار لاوهو وانقض على اللعبة البلاستيكية وطرحها من فوق الطاولة فاصطدمت بالأرض وتحطمت، وتدحرج رأس أوبي وان تحت الأريكة، ضحك لاوهو "راوو" فانضممت إليه.

لكمني مارك بقوة "هذه لعبة غالية جدًا! لا يُمكنك العثور عليها في المتاجر الآن، وربما تُكلف أكثر مما دفعه والدك ليشتري أمك!"

تعثرت وسقطت على الأرض، فزمجر لاوهو وقفز في وجه مارك.

صرخ مارك بدافع الخوف والمفاجأة أكثر من الألم، لأن لاوهو مصنوع من الورق فحسب بعد كل شيء.

أمسك مارك بلاوهرو فاختنقت زمجرته عندما سحقه مارك بين يديه ثم مزقه إلى نصفين، صنع من قطعتي الورق كُرتين ورماهما نحوي: "ها هي قمامتك الصينية الرخيصة الغبية".

بعد أن غادر مارك، قضيت وقتًا طويلًا في محاولة لربط قطع لاوهو معًا، وإعادة تنعيم الورق، وتتبع التجاعيد في مُحاولة لإعادة طيه، دون جدوى، دخلت الحيوانات الأخرى ببطء إلى غرفة المعيشة وتجمعت حولنا، أنا وورق التغليف الممزق الذي كان لاوهو.

• • •

معركتي مع مارك لم تنتهِ، لأنه كان معروفًا في المدرسة، ولا أريد أن أتذكر مُجددًا ما حدث في الأسبوعين التاليين.

عدت إلى المنزل يوم الجمعة في نهاية الأسبوعين، سألتني أمي: "تشويه تشاوهاوماه؟ كيف حال المدرسة؟"، لم أقل شيئًا وذهبت إلى الحمام، نظرت في المرآة، أنا لا أُشبهها، إطلاقًا.

على العشاء سألت أبي: "هل أملك وجه شينك؟"[2]

وضع أبي عيدان تناول الطعام جانبًا، لم أخبره أبدًا بما حدث في المدرسة لكن يبدو أنه فهم، أغمض عينيه وفرك أنفه: "لا، وجهك ليس كذلك".

نظرت أمي إلى أبي ولم تفهم، فعادت بنظرها إليّ: "شا جاو شنيك؟ (ما معنى شينك؟)"

قلت: "الإنجليزية، تحدثي بالإنجليزية".

فحاولت أن تقول: "ماذا يحدث؟"

دفعت عيدان تناول الطعام والوعاء بعيدًا عني؛ فلفل أخضر مقلي مع لحم بقر بخمس بهارات، قلت: "يجب أن نأكل طعامًا أمريكيًا".

فبرر أبي: "كثير من العائلات تطبخ طعامًا صينيًا في بعض الأحيان".

نظرت إليه وقُلت: "لسنا العائلات الأخرى، ليس لدى العائلات الأخرى أمهات لا ينتمين إلى هنا".

نظر بعيدًا عني، ثم وضع يده على كتف أمي وقال: "سأشتري لكِ كتاب طبخ".

فاستدارت أمي إليّ: "بو هاوتشي؟ هل الطعام سيء؟"

فقلتُ رافعًا صوتي: "الإنجليزية، تحدثي بالانجليزية".

مدت أمي لتلمس جبهتي لتتحسس درجة حرارتي: "فاوشاو لا؟ هل أنت محموم؟"

فأبعدت يدها عني وصرخت: "أنا بخير، وتحدثي بالإنجليزية!"

فقال أبي لأمي: "تحدثي إليه بالإنجليزية، كنت تعرفين أن هذا سيحدث يومًا ما، ماذا توقعت؟"

أسقطت أمي يديها، وجلست تنقل نظراتها بيني وبين أبي، حاولت التحدث، ثم توقفت، وحاولت مرة أخرى، ثم توقفت.

قال أبي: "يتحتم عليكِ ذلك، كنت رفيقًا جدًا بكِ، لكن جاك يجب أن يتلاءم مع المجتمع".

نظرت إليه أمي وقالت: "إذا قلت (الحب) فأنا أشعر هُنا". وأشارت إلى شفتيها، "وإذا قلت (آي) فأنا أشعر هنا". ووضعت كفها على قلبها.

هز أبي رأسه: "أنتِ في أمريكا".

انحنت أمي له وهي في مقعدها، بدت كجاموس الماء إذ اعتاد لاوهو الانقضاض عليه وإخراج هواء الحياة منه.

"وأريد بعض الألعاب الحقيقية".

• • •

اشترى لي أبي مجموعة كاملة من دُمى شخصيات حرب النجوم، أعطيت أوبي وان كينوبي لمارك.

حزمتُ حديقة الحيوانات الورقية في صندوق أحذية كبير ووضعته تحت السرير.

في صباح اليوم التالي، هربت الحيوانات واستعادت أماكنها القديمة المُفضلة في غرفتي، أمسكتها جميعًا وأعدتها إلى صندوق الأحذية وأغلقت غطاءه بشريطٍ لاصق، لكن الحيوانات أحدثت ضجيجًا كبيرًا في الصندوق فدفعته نهايةً في زاوية العلية بعيدًا عن غرفتي قدر المُستطاع.

إذا تحدثت أمي إليّ باللغة الصينية، أرفض الرد عليها، بعد فترة حاولت استخدام المزيد من اللغة الإنجليزية، لكن لهجتها وجُملها المُنكسرة أحرجتني، حاولت تصحيحها لكنها في النهاية توقفت عن الكلام تمامًا إذا كنت قريبًا منها.

بدأت أمي في الإيماء بالأمور إذا احتاجت إلى إخباري بشيء ما، حاولت مُعانقتي بالطريقة التي شاهدت الأمهات الأمريكيات يفعلنها على شاشة التلفزيون، ولكني ظننت أنها تُبالغ، حركات سخيفة دون تلقائية أو تأكد مما تفعل، رأت أني انزعجت فتوقفت.

قال أبي: "لا يجب أن تعامل والدتك بهذه الطريقة"، لكنه لم يستطع النظر في عيني وهو يقولها، ففي أعماق قلبه لا بد أنه أدرك خطأ محاولة أخذ فتاة من الفلاحين الصينيين وتوقع أن تتناسب مع ضواحي ولاية كونكتيكت.

تعلمت أمي الطبخ على الطريقة الأمريكية، لعبت ألعاب الفيديو ودرست اللغة الفرنسية.

بين حينٍ وآخر كنت أراها جالسة على طاولة المطبخ تدرس الجانب العلوي المُنبسط من ورق التغليف، وفي وقت لاحق ظهر حيوان ورقي جديد على منضدتي وحاول أن يحتضنني، أمسكته وضغطت عليه حتى خرج الهواء منه، ثم وضعته بعيدًا في الصندوق في العلية.

توقفت أمي عن صنع الحيوانات عندما دخلت المدرسة الثانوية، وبحلول ذلك الوقت تحسنت لغتها الإنجليزية كثيرًا، لكنني في ذلك العمر لم أعُد مُهتمًا بما يجب أن تقوله مهما كانت اللغة التي تستخدمها.

في بعض الأحيان كنت أعود إلى المنزل وأرى جسدها الصغير يتحرك بنشاط في المطبخ، تُغني لنفسها أغنية باللغة الصينية، من الصعب بالنسبة لي تصديق أنها أنجبتني، ليس بيننا أي شيء مُشترك، ربما تكون من سُكان القمر أصلًا، كُنت أسرع إلى غرفتي حيث يمكنني مواصلة مُطاردتي للسعادة بالأسلوب الأمريكي الخالص.

• • •

وقفت أنا وأبي؛ كل واحدٍ منا على جانب من سرير أمي المُستلقية في في المستشفى، لم تكن قد بلغت الأربعين من عمرها بعد، لكنها بدت أكبر من ذلك بكثير.

رفضت لسنوات الذهاب إلى الطبيب رغم الألم بداخلها، وقالت إنها ليست مشكلة كبيرة، وبحلول الوقت الذي حملتها فيه سيارة الإسعاف، كان السرطان قد انتشر إلى ما هو أبعد من قدرات الجراحة.

لم يكن عقلي في الغرفة، بل في منتصف موسم التوظيف داخل الحرم الجامعي، وكل تركيزي مُنصبًا على السير الذاتية والنصوص والجداول الزمنية للمُقابلات المُرتبة إستراتيجيًا، أفكر في كيفية الكذب على شركات التوظيف بشكل أكثر فاعلية حتى يعرضوا عليَّ العمل معهم، فهم عقلي أن التفكير في هذا بينما والدتي تحتضر أمر مريع، لكن هذا الفهم لا يعني أنني استطعت تغيير ما أشعر به.

كانت واعية، أمسك أبي يدها اليسرى بكلتا يديه، وانحنى لتقبيل جبهتها، بدا ضعيفًا وكبيرًا في السن بطريقة صدمتني، أدركت أنني أعرف القليل عن أبي كما هو الحال مع أمي.

ابتسمت له أمي: "أنا بخير".

والتفتت إليّ وقال وهي تحتفظ بابتسامتها: "أعلم أنه عليك العودة إلى المدرسة". كان صوتها ضعيفًا جدًا ومن الصعب سماعها بسبب همهمة الآلات الموصولة بها: "اذهب. لا تقلق بشأني، ليس الأمر خطيرًا، اذهب وأدي أداءً جيدًا في المدرسة".

مددت يدي لألمس يدها، ظننت أن هذا ما يُفترض أن أفعله، شعرت بالارتياح، كنت أفكر بالفعل في رحلة العودة وأشعة الشمس الساطعة في كاليفورنيا.

همست بشيء لأبي فأومأ برأسه وغادر الغرفة.

"جاك، إذا.." وأصيبت بنوبة سعال فلم تستطع التحدث لبعض الوقت "إذا لم أنجُ فلا تحزن كثيرًا، وتؤذي صحتك، ركز في حياتك، فقط احتفظ بذاك الصندوق في العلية معك، وفي كل عام، في تشينجمينج، أخرجه وتذكرني، وسأكون معك دائمًا".

تشينجمينج هو مهرجان الموتى الصيني، عندما كنت صغيرًا اعتادت أمي كتابة رسالة في تشينجمينج لوالديها المُتوفيين في الصين، تخبرهما بالأخبار السارة في العام الماضي من حياتها في أمريكا، كانت تقرأ الرسالة بصوت عالٍ وإذا قمت بالتعليق على شيء ما تقوم بتدوينه في الرسالة أيضًا، ثم تقوم بطي الرسالة في طائر كركي وترميها باتجاه الغرب، فنشاهد الكركي وهو يرفرف بجناحيه الهشين في رحلة طويلة إلى الغرب، نحو المحيط الهادئ، نحو الصين، نحو قبور عائلة أمي.

مرت سنوات عديدة منذ أن فعلت ذلك معها آخر مرة.

قلت: "لا أعرف أي شيء عن التقويم الصيني، استريحي فحسب يا أمي".

"احتفظ فقط بالصندوق معك وافتحه من حين لآخر، فقط افتح.." وبدأت تسعل مرة أخرى.

"لا بأس يا أمي". وربت على ذراعها وأنا أشعر بالإحراج.

"هايزي، ماما آي ني.. (بُنيّ، أنا أحبك)". عاد سعالها مرة أخرى، وظهرت صورة في عقلي منذ سنوات مضت؛ أمي تقول آي ثم تضع كفها على قلبها.

"حسنًا يا أمي. توقفي عن الكلام".

عاد أبي فقلت إنني بحاجة إلى الوصول إلى المطار مُبكرًا لأني لا أرغب في تفويت رحلتي.

ماتت وطائرتي في مكان ما فوق نيفادا.

• • •

تقدم العمر بأبي بسرعة بعد وفاة والدتي، كان المنزل كبيرًا جدًا بالنسبة له ولا بد من بيعه، ذهبت أنا وصديقتي سوزان لمساعدته في تنظيف المكان وحزم الأمتعة.

وجدت سوزان صندوق الأحذية في العلية؛ حديقة الحيوانات الورقية المُخبأة في ظلمة العلية غير المعزولة لفترة طويلة، وقد أضحوا هشيّن، وتلاشت أنماط ورق التغليف الساطعة.

قالت سوزان: "لم أرَ أوريجامي مثل هذا قط، والدتك فنانة رائعة".

لم تتحرك الحيوانات الورقية، ربما توقف السحر الذي يُحركها عندما ماتت أمي، أو ربما كنت أتخيل فقط أن هذه المصنوعات الورقية كانت على قيد الحياة في يوم من الأيام، لا يمكن الوثوق بذكريات الأطفال.

• • •

أول عطلة نهاية أسبوع في أبريل، بعد عامين من وفاة أمي، سوزان خارج المدينة في إحدى رحلاتها التي لا تنتهي كمُستشارة إدارية، وأنا في المنزل استعرض قنوات التلفاز بتكاسل.

توقفت عند فيلمٍ وثائقي عن أسماك القرش، فجأة رأيت -في ذهني- يدي أمي وهما يطويان ويُعيدان طيّ ورق القصدير ليصنعا لي سمكة قرش، بينما أنا ولاوهو نُتابعها.

حفيف، نظرت إلى أعلى ورأيت كرة من ورق التغليف وشريطًا مُمزقًا على الأرض بجوار رف الكتب، فمشيت لألقيه في القمامة.

تحولت كرة الورق وتفتحت كزهرة، إنه لاوهو، لم أفكر فيه منذ زمن: "راورر-سا" يبدو أن أمي قد أصلحته وأعادت شطريه معًا بعدما استسلمت للأمر الواقع.

كان أصغر مما أتذكره، أو ربما كان ذلك لأن قبضتي كانت أصغر.

وضعت سوزان الحيوانات الورقية في أماكن مُتفرقة من شقتنا كديكور، وربما تركت لاوهو في زاوية مخفية لأنه بدا مُهترئًا للغاية.

جلست على الأرض ومددت إصبعًا، فاهتز ذيل لاوهو وانقض عليَ بطريقة مُضحكة، ضحكت وضربت ظهره، هرهر لاوهو من تحت يدي.

"كيف حالك يا صديقي القديم؟"

توقف لاوهو عن اللعب، نهض وقفز برشاقة القطط وارتمى في حضني، وشرع يفك ثنيات نفسه نفسه.

تحول في حضني إلى مُربع من ورق التغليف المُجعد، الجانب المُنبسط منه يواجهني، وكان الورق مليئًا بأحرف صينية الكثيفة، لم أتعلم أبدًا قراءة اللغة الصينية لكني أعرف أحرف كلمة "ابن"، وقد كانت على قمة المكتوب، هذه رسالة موجهة إليّ مكتوبة بخط يد أمي الغريب والطفولي.

ذهبت إلى الكمبيوتر لأتصفح الإنترنت، اليوم هو تشينجمينج.

• • •

أخذت الرسالة وذهبت إلى وسط المدينة، حيث أعلم أن حافلات السياحية الصينية تتوقف، أوقفت كل سائح هُناك وسألته: "نين كوي دونج شانوان ما؟ (هل تستطيع قراءة الصينية؟)" إذ لم أتحدث الصينية منذ فترة طويلة لدرجة أنني لست مُتأكدًا إن كانوا يفهمون ما أقول.

وافقت شابة على مُساعدتي، جلسنا معًا على دكة مُستطيلة وقرأت لي الرسالة بصوتٍ عالٍ، عادت إليّ اللغة التي حاولت نسيانها لسنوات، وشعرت بالكلمات تغرق بداخلي، تتسلل عبر جلدي ومن خلال عظامي، إلى أن اعتصرت قلبي بقوة.

"بُني،

لم نتحدث منذ زمن، تغضب مني جدًا عندما أحاول أن ألمسك؛ لدرجة أنني أخاف منك، وأظن أن هذا الألم الذي أشعر به طوال الوقت سيكون أمرًا خطيرًا.

لذا قررت أن أكتب لك، سأكتب في الحيوانات الورقية التي صنعتها لك والتي اعتدت أن تُحبها كثيرًا.

ستتوقف الحيوانات عن الحركة عندما أتوقف عن التنفس، لكني إذا كتبت إليك من كل قلبي فسأترك خلفي القليل من نفسي في هذه الورقة بهذه الكلمات، وإذا فكرت بي في شينجمينج، عندما يُسمح لأرواح الراحلين بزيارة عائلاتهم، ستنبض الأجزاء التي أتركها خلفي بالحياة هي الأخرى، ستتقافز المخلوقات التي صنعتها من أجلك مرة أخرى، وتجري وتثب، وربما ستتمكن من رؤية هذه الكلمات حينها.

ولأني يجب أن أكتب من كل قلبي، سأحتاج أن أكتب إليك باللغة الصينية.

لم أخبرك قصة حياتي طوال هذا الوقت. عندما كنت صغيرًا اعتقدت جازمة أنني سأخبرك القصة عندما تكبر كي تتمكن من الاستيعاب، لكن تلك الفرصة لم تسنح لنا أبدًا.

ولدت عام 1957 في قرية سيجولو بمقاطعة هايبي، جداك كانا من عائلتين ريفيتين فقيرتين للغاية، وأقارب قليلين، وبعد سنوات قليلة من ولادتي، ضربت المجاعات الكبرى الصين، مات خلالها ثلاثون مليون شخص، أولى ذكرياتي هي الاستيقاظ لأرى والدتي تأكل التراب، حتى تتمكن من ملء جوفها وترك آخر حفنة من الدقيق لي.

تحسنت الأمور بعد ذلك، اشتهرت سيجولو بصناعاتها الورقية؛ جايتجي، وعلمتني والدتي طريقة صنع الحيوانات الورقية ومنحها الحياة، كان هذا سحرًا عمليًا في أسلوب حياة القرية، صنعنا طيورًا ورقية لطرد الجراد بعيدًا عن الحقول، وصنعنا نمورًا ورقية لإبعاد الفئران، وصنعت بمناسبة العام الصيني الجديد أنا وأصدقائي تنانين ورقية حمراء، لن أنسى أبدًا مشهد كل تلك التنانين الصغيرة وهي تحوم في السماء وتقترب من رؤوسنا، وتحمل خيوطًا من المفرقعات النارية لإخافة كل ذكريات العام الماضي السيئة، كنت ستحبها.

ثم جاءت الثورة الثقافية عام 1966، انقلب الجار على جاره، والأخ على أخيه، فتذكر أحدهم أن شقيق أمي قد سافر إلى هونج كونج عام 1946 وأصبح تاجرًا هناك، ومجرد وجود قريبٍ لنا في هونج كونج يعني أننا جواسيس وأعداء للشعب، وكان علينا مُكافحة الوضع بكل الطرق، جدتك المسكينة لم تستطع تحمل الإساءات وألقت بنفسها في قعر بئر، ثم قام بعض الشباب الحاملين بنادق الصيد بسحب جدك داخل الغابة، ولم يَعُد أبدًا.

وهكذا أصبحت يتيمة وأنا في العاشرة من عمري، وأخر قريب لي أعرفه في العالم هو عمي في هونج كونج، تسللت بعيدًا ذات ليلة وصعدت إلى قطار شحن يتجه جنوبًا.

وفي مقاطعة جوانجدونج بعد بضعة أيام أمسك بي بعض الرجال وأنا أسرِق طعامًا من مزرعة، وعندما سمعوا أنني أحاول الوصول إلى هونج كونج، ضحكوا: "إنه يوم حظك، عملنا هو أخذ الفتيات إلى هونج كونج".

أخفوني أسفل شاحنة مع فتيات أخريات وهربونا عبر الحدود.

اصطحبونا إلى قبو وطلبوا منا الوقوف وأن نستحضر صحتنا وذكائنا أمام المُشترين، دفعت العائلات رسومًا للمستودع وجاءوا لإلقاء نظرة علينا، واختيار واحدة مننا "ليتبنونها".

اختارتني عائلة تشين للاعتناء بصبيانهما الاثنين، كنت أستيقظ كل صباح في الرابعة لتحضير الإفطار، أُطعم الولدين وأُحممهما، ثم أتسوق وأشتري الطعام، أغسل الملابس وأنظف الأرضيات، أتابع الولدين حيثما ذهبا وأُنفذ طلباتهما، وفي الليل يحبسونني في خزانة في المطبخ، وهناك أنام، إذا كنت بطيئة أو ارتكبت أي خطأ؛ أُضرب، إذا ارتكب الأولاد أي خطأ، أُضرب، إذا أمسكوني وأنا أحاول تعلم اللغة الإنجليزية، أُضرب.

سألني السيد تشين: "لماذا تريدين أن تتعلمي اللغة الانجليزية؟ هل تريدين الذهاب إلى الشرطة؟ سنخبر الشرطة أنكِ من سكان البر الرئيسي وموجودة بشكل غير قانوني في هونج كونج، سيحبون وجودك في سجنهم".

عشت هكذا لست سنوات، وفي يومٍ سحبتني امرأة عجوز تبيع السمك لي في السوق الصباحية جانبًا.

"أعرف فتياتٍ مثلك، كم عمركِ الآن، ستة عشر؟ في يوم من الأيام سوف يسكر الرجل الذي يمتلكك، وسوف ينظر إليك ويجذبك إليه ولن يُمكنك إيقافه، وستكتشف الزوجة ذلك وبعدها ستظنين أنكِ ذهبت إلى الجحيم الحق، عليكِ أن تخرجي من هذه الحياة، وأنا أعرف شخصًا يمكنه مُساعدتك".

أخبرتني عن الرجال الأمريكيين الذين يريدون زوجات آسيويات، طالما بإمكاني الطهي والتنظيف والاعتناء بزوجي الأمريكي فلسوف يمنحني حياة جيدة، كان هذا أملي الوحيد، وبهذه الطريقة دخلت الكتالوج -بكل تلك الأكاذيب- والتقيت بوالدك، ليست قصة رومانسية للغاية ، لكنها قصتي.

وفي ضواحي ولاية كونيتيكت؛ كنت وحيدة، كان والدك طيبًا ولطيفًا معي، وأنا مُمتنة له للغاية، لكن لم يفهمني أحد، ولم أفهم شيئًا.

ثم وُلدت! كنت سعيدة جدًا عندما نظرت إلى وجهك، ورأيت ظلال أمي وأبي، ونفسي، لقد فقدت عائلتي بأكملها، بل وكل سيجولو؛ كل ما أعرفه وأحبه، لكنك هناك الآن، وجهك دليل على أنهم كانوا حقيقيين، وأني لم أختلقهم.

الآن لدي شخص أتحدث معه، سأُعلمك لغتي، ويمكننا معًا أن نُعيد صنع ولو قطعة صغيرة من كل ما أحببته وفقدته، عندما قلت أول كلماتك لي باللغة الصينية، وبنفس لهجتي ولهجة أمي، بكيت لساعات، وعندما صنعت أول حيوان ورقي لك ورأيتك تضحك، شعرت أن الهموم في العالم ذهبت للأبد.

ثم كبرت قليلًا، وأصبح بإمكانك مُساعدة والدك والتحدث إليه، أحسست أني في موطني حقًا، لقد وجدت أخيرًا حياة جيدة، تمنيتُ لو كان والداي هنا حتى أتمكن من طهي الطعام لهما ومنحهما حياة جيدة أيضًا، لكن والديّ لم يعودا بالجوار، هل تعرف ما يظنه الصينيون أتعس شعورٍ في العالم؟ أن يرغب الطفل أخيرًا الرغبة في رعاية والديه، ثم يُدرِك أنهما قد رحلا منذ فترة طويلة.

بُني، أعلم أنك لا تحب عينيك الصينيتين، اللتان هُما عيناي، أعلم أنك لا تحب شعرك الصيني الذي هو شعري، لكن هل يمكنك أن تُدرك مقدار السعادة الذي منحه وجودك لي؟ وهل يمكنك أن تفهم كيف شعرت عندما توقفت عن التحدث معي؟ وأنك لن تسمح لي بالتحدث معك باللغة الصينية؟

شعرت أنني أفقد كل شيء من جديد.

لماذا لا تتحدث معي يا بني؟ الألم يجعل الكتابة صعبة".

***

أعادت الشابة الورقة إليّ.

لم أستطع تحمل النظر في وجهها.

ودون بحثٍ، طلبت منها أن تُساعدني في تتبع الحرف الصيني (آي) على الورقة، فكتبت الحرف مرارًا وتكرارًا على الورقة، وشبكت ضربات قلمي بكلماتها.

مدت الشابة يدها إلى كتفي وربتت عليه، ثم غادرت وتركتني وحدي مع والدتي.

تتبعت التجاعيد وأعدت طي الورقة مرة أخرى ليعود لاوهو، جعلت من التواءة ذراعي مهدًا حملته فيه، وإذ يُصدر صوته الدال على رضاه، تمشينا معًا إلى البيت.


[1] فستان صيني تقليدي ضيق من الحرير الأخضر

[2] كلمة chink تعني صيني لكن بلهجة عنصرية مُستفزة.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه