حسنًا، انظري. قالها كثيرًا. من يشبه؟ الطريقة التي تحدث بها كانت تشبه طريقة المربّية. ربما يكون ابنها، ولذلك شعرت بانزعاج، فكل ما له علاقة بالمربّية مزعج. 

تحت سطح البحر

قصة لستيلا بنسون

ترجمة: إبراهيم سيد فوزي

نشرت القصة في مجلة هابرز الأمريكية، عدد سبتمبر 1929

ستيلا بنسون (1892-1933): روائية إنجليزية وشاعرة وكاتبة رحلات؛ بالإضافة لكونها ناشطة نسوية. كتبت ثمان روايات والعديد من المجموعات القصصية وكتابين في أدب الرحلات وديوانين شعريين بالإضافة إلى عدد من المذكرات، واهتمت أعمالها بمعالجة القضايا الإجتماعية. كانت بنسون كاتبة ناجحة، ولاقت أعمالها ثناءً كبيرًا من فيرجينيا وولف وريبيكا ويست وكاثرين مانسفيلد، إلا أنها لم تحظ باهتمام نقدي كبير، والكثير لا يعرفونها الآن. حازت روايتها الأخيرة ”العروسة البعيدة“ -المنشورة في بريطانيا بعنوان ”نفي طوبيا“- على الجائزة الفضية لمجتمع الأدب الملكي وجائزة FEMINA VIE HEUREUSE عام 1932.
من أبرز أعمالها: أحيا وحيدًا (1919)، وداعًا أيها الغريب (1926)، هذه هي النهاية (1919)، زمّارون وراقصة (1924)، أمل ضد أمل (1931)، أتساءل (1915). 


ستيلا بنسون، عن china rhyming

امتلأت أذنها بضوضاء صاخبة، وكأن تلك الضوضاء ترجمة صوتية للضوء الأخضر المنتشر حولها، تسلل الهدوء والصفاء إلى داخل رأسها، شاهدت آموس أمامها مستدير الرأس، يمشى بشكل غريب وكأنه حيوان غاضب يضع قدمه الضخمة على الحدائق فيحرك المخلوقات والأزهار.

تأملته عبر الماء قائلة: ”هذا هو الرجل الذي أحبه“. وبينما هي مستغرقة فى تفكيرها، تحركت قدمه بغير اكتراث، وقفز بعيدًا إلى مكان لم تعد تراه فيه، فقد رأت من خلال النافذة الموجودة فى خوذتها منظرًا داكنًا.

لم تكن مرتدية بدلة الغوص كاملة؛ فقد ارتدت فقط مايوهًا وخوذة. شعرت بثِقَلٍ فى الجزء العلوي؛ حيث كانت أنبوبة الهواء تحت ذراعها، بينما حُبست فقط كمية محددة من الهواء فى الخوذة التي اعتلت رأسها. استطاعت أن تميل جسدها منعدم الجاذبية قليلًا لتطل على المنظر حولها. رأت فروعًا وفتحات بيضاء ونباتات وحشائش وأسماك صغيرة تتحرك حول قدميها كحركة الذباب الصغير. نظرت إلى قدميها اللتين تبدوان بلون أخضر تحت جسد مثقل أعلاه، حاولت أن تتمايل خطوة أو خطوتين، نهضت فجأة بالخطأ، فتحركت على الجانبين ثم إلى الخلف قبل أن تنزل على قدم واحدة. وبينما تتحرك فى الماء، غير قادرة على الوقوف أو حتى السقوط، تبادر إلى ذهنها فجأة: ”من يشبه ذلك الرجل؟“ كانت تفكر في الرجل المسؤول عن المضخة فوقها عند سطح البحر. ”من يشبه ذلك الرجل؟“  تذكرته عيناها واقفًا مرتديًا قميصًا، وغاضبًا من الرجال الذين شغّلوا المضخة. تذكرته أذناها: ”نادرًا ما تأتي سيدة إلينا هنا للغوص من أجل الاستمتاع بهذا النشاط، لكن لا يمكنك ارتداء بدلة الغوص كاملة أيتها السيدة. حسنًا، انظري. لا يمكنك تحريكها. جربي واحدًا من الأحذية. حسنًا، انظري. لا يمكنك حمل هذا الوزن أعلى الخصر. بالطبع، سيخف هذا الحجم المقدر بثلاثمئة وخمسة وعشرين رطلًا عندما تكونين تحت سطح الماء، ولكن لا يمكنك الوصول هناك، ولكنّي أود أن تنزلي للأسفل لتري تلك السفينة -إرادة السراب- قابعة بكل بهاء، فقط على بعد ثمانية وعشرين قدمًا بالأسفل هناك. أعتقد أننا سنستخرج الويسكي منها ليلة الغد. إذا كان يوجد حقًا مئة حاوية فحسب، فلا فائدة من إحضار السفينة نفسها؛ فهي قديمة ومحطمة ومصطدمة بتلك الصخرة هناك. كان البحر هائجًا، ولا بد أن القائد فقد وعيه، والمُلّاك فقط هم من أرادوا استخراج الويسكي منها، فالويسكي يستحق شيئًا، أستطيع أن أخبرك. حسنًا، انظري. أيتها السيدة، أود أن تريها. لماذا لا تنزلين بالخوذة فقط؟ فالخوذة والأنبوبة -كما ترين- تفيان بالغرض في رحلة قصيرة“.

حسنًا، انظري. قالها كثيرًا. من يشبه؟ الطريقة التي تحدث بها كانت تشبه طريقة المربّية. ربما يكون ابنها، ولذلك شعرت بانزعاج، فكل ما له علاقة بالمربّية مزعج. إن خاطرة المربّية جلبت إلى ذهنها على عجالة عمرًا قصيرًا من المواساة والغفران، حتى جاء اليوم الذي اكتشف فيه آموس أن المربّية -التي كانت حينها ربَّة المنزل-  قد سرقت خلال هذه العشرين عامًا ثمانمئة وثلاثين جنيهًا من النقود التي كانت تُعطَى لها من أجل العناية بالطفل.

طُرِدَت المربّية من المنزل، وصرخ آموس في وجهها، قائلًا: ”أنتِ محظوظة لأننا لم نرد أن نستدعي الشرطة“. وعندما أُحضر ابنها الذي يعمل بحارًا، قال بصوت عالٍ: ”هل تعتبر نفسك رجلًا نبيلًا، هكذا تكافئ أمي التي قضت عمرها في خدمتكم. انتظر حتى أستفرد بك. ستتاح لي الفرصة أن أنتقم منك يومًا ما“.

قابلت ابن المربّية حينها فقط. لم تقابله قبل ذلك، ولم تقابله منذ ذلك الحين.

الرجل بالأعلى كان يشبهه. لم يلحظ آموس لأنه لا يستطيع رؤية الأشياء البعيدة جيدًا، إلى جانب أن هذا الحدث كان منذ عشر سنوات، ولكنّ الرجل بالأعلى هناك تحدث تمامًا كابن المرّبية. هل كانت مجرد صدفة؟

هي وآموس كانا هنا في جزر الهند الغربية بمحض الصدفة، فلقد أتيا بلا هدف بعدما سمعا عن حُطام السفينة. ”رائع، يوجد غطس، رائع يا ڨــي! هيا بنا نغطس“. لذلك ها هم بالصدفة في قاع البحر تحت رحمة الرجل بالأعلى الذي يشبه ابن المربّية. لقد توعد: ”ستتاح لي فرصة الانتقام منك“. هل كان ابن المربّية؟ الآن، تذكرت فجأة أنه قد قال لآموس: ”بعض الناس يحبون الغوص، وبعضهم يقومون به مرة واحدة ولا يمارسونه ثانية“. رد عليه آموس: ”لن نحصل على فرصة أبدًا لممارسته مرة ثانية، سواء أحببناه أم لا“. فردّ ابن المربّية عليه: ”على الأرجح لا“. لقد كان ابن المربّية، ولقد صرخ في الرجال بخصوص المضخة: ”اللعنة، سأشغلها بنفسي“.

وحيدة في المياه الهادئة، نظرت المرأة الشابة حولها بخوف. فكرت باشتياق في الهواء الآمن، في ضوء السماء، في الطيور، في إنجلترا. حسنًا، أن تكون في إنجلترا حيث شهر أبريل الآن. سحبت بخفة أنبوب الهواء الخاص بها، وهي إشارة طلب المساعدة من الأعلى. لم يكن هناك استجابة بالجذب، من المحتمل أنها استطاعت السباحة لأعلى بلا مساعدة، ولكن كان لديها بالفعل بعض الصعوبة في البقاء في القاع. آموس كان مرتديًا بدلة الغوص الثقيلة الخاصة به. أين كان آموس؟ أين كان حطام إرادة السراب؟ سيكون هناك. بدأت تسلُّق جانب أخدود، وهو عبارة عن منحدر  خفيف الميل، ربما يبلغ طوله ستة أقدام، ولكن بالنسبة لأقدامها كان صعبًا كجبل. وصلت للقمة، استطاعت أن ترى الحُطام قريبًا إلى حد ما، ويبدو مختلفًا كثيرًا عما توقعت. بدت كمنزل مائل ذي باب متأرجح، والضوء الأخضر أكسبه منظرًا تهديديًا. بعد ذلك، رأت آموس. انسحبت زوجته بالقرب منه، لكنه توجَّه ناحية الحُطام بخطوة واحدة طويلة. وصل إليه، تعثرت قدمه وسقط. فعل كل ذلك وعلى ظهره حمل سخيف، وخوذته لم تستطع حقًا أن تغير التعبير الذي اعتلى وجهه إلى ابتسامة، وهذا أعطاه نظرة جادة ككلب صغير يحاول لأول مرة أن يتسلق درجات السلم لكنّه يفشل، ولكنّ زوجته لم تبتسم، ووصلت بطريقة ما إلى الجانب المنخفض من السفينة. استطاعت أن تصل إلى قدم آموس، وهو يحاول أن يقف. سحبت قدمه فجلس فجأة، وأصدر إشارة غضب كإشارة ”لا تلمسني“ التي يصدرها الرضيع.

”آموس، تعال بسرعة. إنه ابن المربّية. نحن في خطر“. نادت زوجته فتوجعت أذناها، وكادت تسقط، ولكنّ آموس لم يسمع صوتًا وتحرك بحماقة مرة أخرى. ”آموس ... آموس“. حاولت أن تسحب قدمه التي كانت كل ما استطاعت أن تصل إليه منه. حاول أن يسحب قدمه بعيدًا، بدا غاضبًا، أشارت للأعلى، أدار الخوذة نحوها، رأت نصف فمه يتحرك خلف الزجاج، أشار إليها، وأشار إلى الأعلى، وهو يرقد على الحطام، وبدا وكأنه يقول: ”اصعدي بنفسك، إن أردتِ، ولكن اتركيني وحدي“. أما هو، فكان مستغرقًا في عالمه ومفصولًا عن الأصوات الخارجية. سبحت سمكة بينهما.

”آموس... آموس“. صرخت، وتوقفت مرة أخري بسبب الضوضاء داخل خوذتها، هل كان الهواء بالأعلى ينقطع؟ سحب آموس قدمه بعيدًا عن متناولها، وبالكاد وقف، وأشار إليها مرة ثانية أنه ينبغي أن تصعد للأعلى بعيدًا عنه. أخذ خطوة وحيدة بعيدًا عنها، كخطوة فشلت، لكنّها كانت تحليقًا ناجحًا. بدا أنه يتراجع للخلف. حلَّق ناحية زوجته وجلس لثانية بخفة على وجهها الحديدي. أمسكته حول خصره، لكنه هرب منها. قبضت على ذراعه. ”إنه ابن المربّية بالأعلى هناك، عدو“. حاولت أن تسحبه للأعلى. استطاعت أن ترى خوف آموس حينها، فلم يستطع أن يفهم سلوك زوجته المجنون. سحب حبله، وعلى الفور سُحبا للأعلى سويًا، طافيَين على جانبيهما، اصطدمت رأساهما الحديديتان المستديرتان ببعضهما البعض فوق السطح عند قدم السلم. رفع شخص ما الرأس الزائفة لامرأتنا الشابة، فثابت إلى رشدها، كانت كما هي في المايوه الخاص بها، آمنة وكأنها جاءت على متن السفينة بعد سباحة عادية.

مال وجهٌ عليها. ابن المربّية؟ فيم كانت تفكر؟ هذا الرجل لم يكن مطلقًا يشبه ابن المربّية، كان قصيرًا وعريضًا، بينما كان ابن المربّية طويلًا. بدا جليًا أن هذا الرجل كان أستراليًا، عرفت ذلك من كلامه. كلماته الأولى لم تكن”حسنًا، انظري“ ولكن ”اسمعي، يا سيدة“. أي جنون ذاكرة أصابها بالأسفل هناك في ذلك العالم الجديد الفارغ المظلم؟

أما آموس، فكان يتم مساعدته لتسلق السلم، وفتح شخص ما نافذته الصغيرة، وقفز صوته منها كطائر من قفص: ”عزيزتي ڨـــي، ماذا حدث لك؟“