ما هو هذا الديناصور؟ من أين أتى؟ هل يتوقف أصل الشعور بالذنب عند المثالية المطلوبة من الأمهات طوال الوقت؟ هل الصورة المثالية التي يتوقعها المجتمع من الأم هي سبب وجود الديناصور الحقيقي؟ ألا يوجد شيء ما آخر يحمل بعضًا من ذنب قبوع هذا الديناصور في قلب كل أم؟
مقال لشذا لاشين
مراجعة لكتاب "كيف تلتئم: عن اﻷمومة وأشباحها" ﻹيمان مرسال
كُتب هذا المقال في برنامج بهنا للترجمة والكتابة 2021
انقرضت ديناصورات اﻷرض لعدم ملاءمتها لظروف العيش عليه. ولم تنقرض أشياءً أخرى كثيرة لنفس السبب.
لكل منا ديناصور بداخله يأبى أن ينقرض، فلقد تجسد ديناصور إيمان مرسال في كتابها "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها" في الشعور بالذنب الذي يعيش في قلب كل أم من خلال الصورة النمطية التي فرضها المجتمع عليها متغافلًا عن أدوار تلك المرأة الأم الأخرى في الحياة. تربت الكاتبة على كتف كل أم تشعر بالتقصير، وتملؤها عقدة الذنب، وتهمس في أذنها بأنها ليست أمًا سيئةً وأن محاولاتها في العيش -كونها أنثى وامرأة وغيرها من أدوار الحياة- لا يعني أنها مفرطة في أمومتها. تكتب كل ذلك في أربعة أقسام. الأول: عن الأمومة والعنف، والثاني: كيف تجد أمك؟ الأمومة والفوتوغرافيا، والثالث: يوميات، والرابع: كيف تمشي في طريق الحداد.
صدر كتاب كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها عام 2016 وهو الرابع من سلسلة كيف تـ وهو مشروع نشر يوظف شعبية كتب الأدلة للتعامل مع بعض احتياجات اليوم سواء كانت مهارات أو أدوات أو أفكار أو إدراكات أو مشاعر. تجمع هذه الكتب ما بين التقني والتأملي، بين التعليمي والفطري، وبين الحقيقي والخيالي. أسست الفنانتان مها مأمون وآلاء يونس كيف تـ في العام ٢۰۱٢. وتتكلم إيمان مرسال في الكتاب عن الأمومة من الناحية النفسية والتاريخية.
كانت فكرة الكتاب حاضرة بداخلها من قبل كتابته بكثير، حيث كان هناك خيط مربوط بينها وبين أمها الميتة وهي في السابعة من عمرها وشاغلها السؤال دومًا عن علاقتها بأمها الميتة. ويقف "كيف تلتئم" بتصويراته عن الأم بين صورة الأم المضحية التقليدية التي لا تكترث إلا لأبنائها ومحت كل ملامحها الأخرى وأدوارها الأخرى على الأرض عدا أمومتها التي غنت لها آلاف الأصوات تعبيرًا عن الامتنان لدورها في حياة الأبناء، وبين الأم القاسية المرعبة التي كانت تجلد أبناءها وتحرقهم بالملعقة الساخنة كونها استثناء. ولهذا فإن الأمومة وأشباحها تعبير متوازن عن أمٍ عادية لها احتياجات إنسانية طبيعية ولها مشاعر مستقلة عن أبنائها ولها طموحها الشخصي الخاص ولها هويات متشظية متعددة؛ فالأم أنثى ولها دين ولها تاريخ ومرجعية أمومة موروثة ومتناقلة، ولها هوية متعلقة بعلاقتها بالجنس الآخر. حول كتاب إيمان مرسال تظهر هويات الكاتبة المتشظية –كما عبرت في لقائها مع بلال فضل في برنامج عصير الكتب- كونها أمًا مصرية مسلمة مغتربة متزوجة من رجل غير مصري وكيف أن تلك الهويات أثرت على عرضها في الكتاب.
تشير إيمان مرسال في هذا الكتاب إلى أن الإحساس بالذنب وحّد الأمهات بسبب شعورهن بالتقصير، لأن المجتمع يتوقع من الأم أمومة خيالية ولانهائية وغير منقوصة، فإن أي شيء تقوم به لا يرى جديرًا بالثناء، فهذا المتوقع دومًا من أي أم. وبينما تكتب إيمان من خلفية نسوية غربية، وجدت نفسها تقوم بطرح تساؤلاتها الخاصة التي طالما شاغلتها لسنين وكانت تخشى دخول تلك المنطقة، فكان حافزها أنها ترى في الكتابة نوعًا من النور الذي يبعث المرء من رحلته الشخصية إلى توسّع جديد لأسئلتها لا يمكن أن يفهمه الإنسان إلا بالكتابة. لا تعتقد إيمان مرسال أن كتابتها أتت من خلال تجربة فكرية، لكن من الكتابة التي تجيب عن التساؤلات.
اهتمام الكاتبة بالصور فتح مجالًا لفصل كامل في الكتاب عن الأمومة والفوتوغرافيا. ولافتقاد الكاتبة لصور أمها التي كانت قليلة جدًا؛ حيث كانت لها صورة واحدة فقط وصورة شخصية لا تشبه أبدًا أمها في الحقيقة حسب ما تذكرها. وأرادت أن تقوم الكاتبة برحلة مختلفة مع صورة أمها فقررت أن ترى أمها من خلال أمهات الأخريات. وعبرت عن اختفاء الأم وراء أبنائها في صورها كنوع من الحماية لنفسها وإلغاء أدوارها الأخرى في الحياة عدا أمومتها.
*
"إذا كان هناك صراع بين ذات الأم وذات طفلها فلن ينتصر أحدهما، سينتصر الديناصور (طبعًا) إنه (الذنب)."
ما هو هذا الديناصور؟ من أين أتى؟ هل يتوقف أصل الشعور بالذنب عند المثالية المطلوبة من الأمهات طوال الوقت؟ هل الصورة المثالية التي يتوقعها المجتمع من الأم هي سبب وجود الديناصور الحقيقي؟ ألا يوجد شيء ما آخر يحمل بعضًا من ذنب قبوع هذا الديناصور في قلب كل أم؟
من الناحية المجتمعية: إن الأمهات شرقًا وغربًا مضغوطات بكم رهيب من التوقعات، ومع تزايد حدة الصراع بين: الفريق النسوي الذي ينادي باستقلال المرأة وتحديد كيانها المهني والشخصي بمعزل عن الزوج وعن الأبناء، وبين الفريق الآخر الذي ينزع من المرأة كيانها المستقل تمامًا ويحدد وجودها الإنساني على الأرض من خلال أمومتها فقط، تقع الأم ممزعة ومتذبذبة ومحتارة وتقضي حياتها في اللهث وراء تهدئة ديناصورها الداخلي. ولكن هل يهدأ؟ بعد كل هذا اللهث هل تتمكن أي أم من أن يرتاح ضميرها وتشعر بطمأنينة أنها أدّت ما عليها بحب وبلا أذية؟ هل الحركة باتجاه تلبية رغبات وسد احتياجات الأبناء كفيلة بأن تقتل الديناصور؟
إذا نظرنا للأمر من ناحية نفسية أعمق قد نجد أن هناك جرحًا متوارثًا وباقيًا في نفوس الأمهات تتناقله الأجيال. يحمل جرح الأمومة * Mother Wound في أصله شعور بالذنب العميق جدًا الذي لا تستطيع الأم تفريغه إلا من خلال نقله إلى أبنائها وخاصةً بناتها. فإن جرح الأمومة هو الشعور بالذنب المتناقل بين الأمهات وبناتهن وأحيانًا أبنائهن. إذا كنت أنا أمك وعانيتُ كل تلك المعاناة حتى أربيكِ فإني بالتالي أحتاج إلى أن أُشعِرَكِ بذنب هذه المعاناة. تقوم الأم بجرح ابنتها كما جُرحِت هي من أمها.
هذا الشعور بالذنب يتسرب بلا معرفة ولا وعي من الأم بداخل ابنتها وتنقله ابنتها إلى ابنتها المستقبلية بلا نهاية لتصبح لعنة أجيال ** Generational Curse لا تتوقف تتابعية توريث الإشعار بالذنب بشكل عميق إلا إذا اختارت إحدى الأمهات المجروحات أن تُوقِف ذلك وتذهب للعيادة النفسية بوعي وحكمة وإصرار على توقف هذه اللعنة. هو أمر لم يصنف كحالة بعد يتم تشخيصها من المختصين ولكن الالتفات إليه كجرح مؤلم يمكن التداوي منه يجعله قابلًا للتحكم به. هذا ليس من الأمومة في شيء كما عهدت الأمهات ذلك.
إن التوازن وعدم تحميل الأمور أكبر من حجمها الأصلي، كما هو منتشر الآن من استخدام المصطلحات النفسية كعلكة يلوكها الجميع في ألسنتهم، أمر لا بد المرور عليه. إن الأم التي جُرحت من أمها دون أن تعي بجرحها ستجرح ابنتها بلا شك، أما الأم التي تعي بجرحها وتتألم له وتراه وتنتحبُ بجانبه هي بالطبع ليست أمًا مثالية ولكنها قد تمنع انتقال لعنة هذا الجرح من الانتقال لابنتها. فالوعي بالذات ومعرفة هذا الشعور وأصله وجذره في نفسها سيساعدها في تربية أبنائها بشكل صحي.
إذا كان الشعور بالذنب شعورًا أصيلًا في الإنسان، فهل مطلوب أن نزيد من معاناة البشر بنقل جروح أزلية أسطورية لا معنى لها بسبب خوفنا من رؤية الحقيقة ومواجهة ألم المداواة والشفاء؟
* The Mother Wound | Psychology Today
** Generational Curses: How to Stop A Generational Family Curse (otherworldlyoracle.com)
* المقال خاص بـ Boring Books
** تحتفظ الكاتبة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقالها دون إذن منها.
One Reply to “كيف تلتئم.. الديناصور الذي يأبى أن ينقرض”
هل دائما نرى الى آلام انها هي تلك التي تلد،ام انها لعبة مجتمع رجولي يحتكر ذكوريته لحصار الانثى. واذا انطلقنا من تنشئتنا الاجتماعية في المشرق. والتي تبالغ في تصوراتها المثالية. بل احيانا حتى النمطية منها. وتصبح القوانين. بل وحتى الاعراف ،والرموز الثقافية .ترى للانثى على انها حضن وكنف للعطف والمبالغة فيه ،انطلاقا من اللعب بالدمى وترسيخ الأمومة والاستعداد لها عند اناثنا. لتكسب مشروعية وجودها في مجتمعات لا تعترف إلا بالقوة الذكورية.