يختلف تصنيف ابن النديم للكتب عن أي تصنيف آخر للعلوم كان قبله أو أتى بعده. وعلى الرغم من أنَّ مصنفين آخرين كانوا معروفين لديه كجابر بن حيان والكندي والخوارزمي والفارابي، وأنّه كان صديقًا لمنطقيّ عصره يحيى بن عَديّ، فهو لم يصنّف الكتب التي لديه حسب اعتقاده لتصنيف العلوم.

مقال لعمر زكريا


يَقفُ مصطلح "بِبليوغرافيا" أمام بقيّة المصطلحات عصيًّا عن الترجمة المباشرة إلى اللّغة العربية ويُستعمل دائمًا بصيغته المُعرّبة باستثناءٍ واحدٍ هو عند استعماله كقائمة مراجع في نهاية بحثٍ ما، حيث يُستبدل بعبارة "مسرد" أو "قائمة المراجع". لكن ما هو هذا المصطلح؟

طبعًا النصف الأول من الكلمة هو كتاب، أمّا "غرافيا" فهو مشتق من الفعل الإغريقي لكَتَب أو نَسَخَ. وحتى منتصف القرن الثامن عشر بقي يُستعمل بمعنى "كتابة الكُتُب" أو "نسخ الكتب"، لكنّه تحوّل بعد ذلك إلى معنى "الكتابة عن الكتب".

البِبليوغرافيا هي حصر قوائم الكتب والرسائل والمجلات والمجموعات الأُخرى المكتوبة مع إعطاء وصف معيّن لها، كأن تعتني بأوصافها ومقاييسها الخارجية وسنة إصدارها وعدد صفحات الكتاب وحالته وربما نبذة عن محتواه. وتكون هذه القوائم عادة لمجموعات خاصة أو ضمن مكتبات عامّة وحتى متاجر بيع الكتب بالإضافة إلى قوائم المراجع المُستعملة من قبل فردٍ ما لإكمال تصنيف بحث. وقد تكون البِبليوغرافيا لدى الكاتب أيضًا هي قائمة عناوين الكتب التي قام بتأليفها أمّا لدى خليل صويلح في نص ’ضد المكتبة‘ فإنَّ البِبليوغرافيا هي ميراث الكاتب المتثّمل بسلسلة القراءات التي تأثّر بها.

الفرع الإحصائي من البِبليوغرافيا يُسمّى "بِبليومتريقا" أو "بِبليومتريّة" وهو إحصاء عددي للإنتاج الفكري. وقد تكون العملية محصورة بمجموعة محدّدة دون غيرها. لكنّني وجدت ترجمة للبِبليومتريقا وهي "تحليل الاستشهادات المرجعيّة".

ليست البِبليوغرافيا الكلمة اليونانية الوحيدة التي تنتهي بلفظ غرافيا ولم تكن لها ترجمة مباشرة فعلى عكس "بَيوغرافية" التي تُرجمت إلى السيرة و"فوتوغرافيا" التي تُرجمت إلى التصوير، فالجغرافيا هي أيضًا إحدى الكلمات الدخيلة إلى اللّغة العربية. قد يعود ذلك إلى عدم تكافؤ المصطلحات اليونانية والعربية في هذه الحالات. فالقول إنَّ البِبليوغرافيا هي الكتابة عن الكتب هو كالقول بأنَّ الكتابة عن الكتب لا يُمكن أن تكون إلا عملًا بِبليوغرافيًّا، ممّا يجعل هذا المقال مثلًا الماثل أمام عينيك الآن والكثير من الكتب التي تتحدّث عن الكتب بصفته شيئًا أو عن تاريخ الكتب أيضًا أعمالًا بِبلوغرافيّة وليست كُتُبَ تاريخ أو كتبًا أدبية أو نقدية؛ ومن النظر فقط إلى تعريف البِبليوغرافيا يمكن استنتاج أنَّ هذا ليس صحيحًا.

قد يُحاول أحدهم القول إنَّ البِبليوغرافيا هي "وصف الكتب" لكنَّ الوصف في عالم الكتب يتعدّى الشكل ويذهب إلى المضمون فكلمة وصف في هذه الحالة تغطي جوانب لا تدخل ضمن البِبليوغرافيا. وكذلك الأمر بالقول إنَّ القوائم تدخل ضمن إطار العمل البِبليوغرافي يجعل كلمة "وصف" قاصرةً عن تغطية هذا المعنى المقصود من مفهوم المصطلح.

تعود بي دائمًا هذه الملاحظات إلى التاريخ كالعادة. أنظر لأبحث عن بديلٍ في عالم الكتب الكائن في الماضي لأجد أنَّ المُمارسة البِبليوغرافية كانت موجودة لكنّها استعارت تسميتها عبر تعريب مصطلحات أعجميّة. وكأنَّ الشفاهة المُتأصّلة في الألفاظ العربية بقيت مستعصية أمام هذا الحدث المُتشكّل على الورق؛ حَدَث الكتاب الذي أبهر محمد بن إسحق النديم.

لم يكن النّديم (أو ابن النديم) أوّل من وضع كتابًا عن كتب عصره لكنّه أول من قرّر استعمال تسمية الفِهرست. هُناك مَن يشكُّ بأنَّ لهذا الكتاب عنوانًا أصلًا وأنَّ التسمية هي اختصار قول عبارة "فِهرست النديم"، رغم أنَّ النديم نفسه بدأ مقدمته المختصرة بقوله: "هذا فِهرست كتب جميع الأمم من الأمم من العرب والعجم..."

 ورّاقٌ عاش في العصر العبّاسي الثاني رأى مِن الكتب ما رأى وقرأ منها ما قرأ وعاشر من العلماء والنحويين مَن عاشر لم يقدر أن يجد كلمة عربية واحدة تُعبّر عمّا سيتضمنّه كتابه فذهب إلى "فِهرست" الفارسيّة لأنّها كانت الوحيدة بالنسبة له الحاملة للمعنى الذي أراده في مضمون كتابه.

المفهوم انتقل، كما الكلمة، إلى العربية بحذف حرف التاء من آخر الكلمة. فأصبحت كلمةً عربيةً خاضعةً لنظام التفعيلة حيث الفعل "فَهرَسَة" هو وضع قائمة في محتويات مُستوعَبٍ ما، حيث يمكن له أن يكون محتويات كتاب أو مكتبة كاملة. إلّا أنَّ كلمة فِهرس الآن معروفة لدينا بأنّها المُلحق الذي يحتوي ما يشمل عليه كتابٌ ما أو مسرد للعنواين الفرعية داخل أيّ من فصول الكتاب، لكن هذا المعنى أُضيف إلى تعريف كلمة فهرس المُعرّبة الأولى، أمّا في المعاجم الأقدم كلسان العرب أو المعجم المحيط فإنَّ الفِهرس هو الكتاب الجامع للكتب.

كلمة واحدة بمفهوم واضح، كان يُمكن أن يقوم النديم بما قام به بعد عقود ياقوت الحموي باستخدام كلمة معجم بصيغة الإضافة؛ فكما كتاب الحموي ’معجم الأُدباء‘ و’معجم البلدان‘ كان يمكن للنديم أن يذهب لعبارة ’معجم الكتب‘ لتكون عنوانًا لكتابه. لكنَّ خصوصيّة مشروعه جعلت لكتاب الكتب هذا، أي الحدث الجامع للأحداث الأُخرى، حالة مختلفة عن المعاجم العادية. فالكتاب الحدث لا يجمع بين طيّاته أسماء فقط بل هو دليل لعدد ضخم من أحداث حدثت وتحدث بشكلٍ كان يمكن له أن يبقى مستمرًّا بفعل القراءة إلى الأبد. إنّه مسردٌ متميّزٌ عن المسارد الأُخرى. إنّه ليس فقط قائمة بأسماء الكتب، إنّه فِهرست، أو بِبليوغرافيا.

ينقل عبد الحسين مهدي إبراهيم في دراسته ’الوراقة والورّاقون في الشرق الإسلامي عبر العصور الإسلامية‘ (مجلّة دراسات في التاريخ والآثار) ادعاءً عن ’تاريخ العرب المطوّل‘ بأنَّ فِهرست النديم كان سجلًّا لمكتبة يُديرها، وينفي ذلك بحجة أنَّ مكتبةً تحتوي على كلّ الكتب المذكورة في الفهرست لا يمكن لها أن تكون مجهولة. لا أستطيع الموافقة مع هذا النفي، ليس بسبب عدم صحته بل لأنَّ تاريخانيّة المكتبة الأسطوريّة ليست ذا أهمية. إنّها مكتبة النديم الشخصيّة، مكتبته الذهنية التي وإن لم يمتلكها فعلًا استطاع الاعتناء بها وتصنيفها وترتيبها والحفاظ عليها. مكتبة النديم حقيقيّة حتى ولو كانت بلا كتب.

يختلف تصنيف ابن النديم للكتب عن أي تصنيف آخر للعلوم كان قبله أو أتى بعده. وعلى الرغم من أنَّ مصنفين آخرين كانوا معروفين لديه كجابر بن حيان والكندي والخوارزمي والفارابي، وأنّه كان صديقًا لمنطقيّ عصره يحيى بن عَديّ، فهو لم يصنّف الكتب التي لديه حسب اعتقاده لتصنيف العلوم. بل بدأ من الأحداث الواقعية المُتأكّد منها وهي الكتب التي رآها أو قرأها أو أخبره عنها أحد الذين يثق بهم، وقام بتبويبها حسب حدوثها الواقعي. أيُّ جديد في عالم الكتابة كان من الممكن له أن يخلخل عوالم التصنيف المُسقطة على الكتب من فوق أمّا تصنيف النديم فكان سيجد مكانًا لأي كتابٍ جديد، وفي أكثر الأحوال شدّة قد يستحدثُ تبويبًا جديدًا.

لا توجد كُتُبٌ منبوذة لدى النديم. وفعلًا فإنَّ بعض تصنيفاته غائبة تمامًا عن تصنيفات العلوم القديمة لأنّها ليست علومًا بالنسبة لهم، وكأنَّ تلك الكتب لم تحدث لأنّهم لا يعترفون بها. صورة البِبليوغرافيّ هي المنعزِل الذي لا يجيد التعاطي مع الناس فآثر الكتب عليهم، فكيف عسى لهذا البِبليوغرافيّ أن يكون نديمًا؟ مَن اعتبر أنَّ اسمه ابن النديم قالوا بأنَّ أباه كان ورّاقًا أيضًا لأنّه إمّا نادم الوزراء والأمراء أو لأنّه حلو الحديث وحسن المعشر. أمّا مَن سمّوه هو بالنديم فقالوا بأنّه إمّا بسبب وراثة اللقب عن أبيه أو أنَّ الأمر يعود لطبيعة معشره أيضًا. يبدو أنَّ صاحب مكتبة الفِهرست كان نديمًا ابن نديم. لكن هل هو معشره للناس حقًّا؟ إن كان الكتاب، حسب رأي الجاحظ، أنيسًا للإنسان وخير جليسٍ لا يُطري، وكان الصديق الذي لا يُغري والصاحب الذي يستخرج منه بلا ملق، أفلا يكون أوفى صديقٍ لخير جليسٍ نديمًا ابن نديم؟


خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.