أبي في الثامنة والأربعين من عمره، أشعث، ودود، يفتقر إلى التقدير، متوهّج بالثقة، لطالما كان سائقًا عظيمًا، يُحاورُك ولا يكرهك على شيء

رقاقات ثلج

قصة: توبياس وولف

ترجمة: فاطمة عطية الشرنوبي

توبياس وولف (1945): قاص وروائي أمريكي


توبياس وولف، عن ويكيبيديا

قبيل عيد الميلاد اصطحبني أبي للتزحلق على جبل بيكر[1]. كان عليه أن يُقاتل كي يتمكن من اصطحابي معه في تلك الرحلة، حيث لا تزال أمي غاضبة منه لإدخاله لي إحدى الملاهي الليلية لحضور معزوفة لثالونيوس منك[2] في زيارته السابقة.

لم يكن أبي ليستسلم. فقد أقسم لأمي أن يعتني بي جيدًا وأن يقلّني إلى البيت للعشاء قبل الموعد حتى أذعنت. وبينما كنّا نسجل المغادرة من الفندق ذاك الصباح أخذت تمطر ثلجًا ما دفع أبي لاصطحابي في نزهة أخيرة باعتبارها فرصة لا تتكرر. لم يكن مكترثًا بقلقي وظللنا ننتقل من نزهة لأخرى. في عواصف مريرة حاجبة للرؤية أحاطت الثلوج بنا محدثة صفير كالرّمال. استمررنا في التزلج. وبينما يحملنا مصعد التزلج إلى القمة نظر أبي إلى ساعته قائلًا في دهشة: «يا إلهي، علينا أن نسرع!»

في تلك الأثناء، لم يكُن بمقدوري رؤية المسار ولا جدوى من المحاولة، لم يكن مني إلا أن ألتصق بظهره وأن أفعل كما يفعل. ساعدني هذا بالكاد في الوصول إلى أسفل الجبل دونما أسقط في المنحدر. أعَدنا الزلاّجات. ركَّب أبي بعد ذلك سلاسل الثلج على عجل الأوستين هايلي[3] . كنت بالكاد أجرّ قدمي، مرتديًا قفّازاتي، ظللت أصفق، تمنّيت لو كنت الآن بالمنزل، لو كان كلّ شيء أمامي: مفرش المائدة الأخضر، الأطباق المزيّنة، الشموع الحمراء التي تنتظر أن نشعلها.

مررنا بمطعم صغير في طريقنا للمغادرة. «ما رأيك في أن نحتسي بعض الشوربة؟» سألني والدي، هززت رأسي بالإيجاب. «ابتهِج!» ثم أردف قائلًا «سأقلّك إلى البيت. أليس كذلك يا دكتور؟»

كان عليّ أن أردّ «نعم يا دكتور» ولكني بقيت صامتًا.

أشار لنا شرطيّ بالتّوقف حيث كان هناك حاجزين يقطعان الطريق. اقترب من السيارة وانحنى، بدا لنا الشرطي بوجه أبيض من شدّة البرودة ورقاقات ثلج عالقة بحاجبيه وبفرو معطفه وقبّعته.

قال أبي: «غير معقول!».

أبلغه الشرطي أن الطريق مغلق وقد يصبح فيما بعد سالكًا أو لا. هكذا هي العواصف تفاجئك على حين غرّة. يصعُب عليك التحرك عشية عيد الميلاد. ماذا بيدكَ أن تفعل؟

قال والدي: «انظر! نحن نتحدث عن خمسة أو ستة إنشات فقط. لقد مررت بسيارتي تلك عبر ما هو أسوأ من ذلك بكثير».

اعتدل الضابط واختفى عن ناظري ولكن كان بإمكاني سماعه. «الطريق مُغلق!» حسم الشرطي الأمر.

جلس والدي ويده على عجلة القيادة يفركه بإبهامه. نظر طويلًا إلى الحاجز الخشبي. بدا كأنه يخطط لأمر مّا. شكر الشرطيّ ثمّ - بحذر مريب كرجل عجوز - أدار السيارة. قال أبي: «لن تسامحني أمك على هذا أبدًا».

أخبرته: «كان لا بدّ أن نغادر هذا الصباح، يا دكتور».

لم يتحدّث إليّ ثانية حتى جلسنا على طاولة في المطعم في انتظار البرجر. «لن تسامحني. أتفهم؟ لن تسامحني أبدًا!» قالها ثانية.

«أعتقد ذلك». لم يكن هناك حاجة للتخمين، نعم.. لن تسامحه.

«لن أسمح بحدوث ذلك»، أمال بجسده نحوي ثم أردف قائلًا، «سأخبرك بما أفكّر فيه. أريد أن يجتمع شملنا ثانية. أهذا ما تريد؟»

«نعم.. سيدي».

داعب ذقني بأطراف أنامله قائلًا بلطف: «هذا كلّ ما أودّ سماعه».

بعد أن انتهينا من تناول الطعام اتّجه إلى الهاتف العمومي خلف المطعم ثم عاد ثانية إلى الطاولة. أظنّ أنه هاتف أمي ولكنه لم يصرِّح بذلك. ارتشف قليلًا من القهوة و راح يحملق في الطريق الخالي. «هيّا .. هيّا!» قالها وإن لم يوجّه حديثه لي. قالها ثانية بعد وقت قصير. عندما مرت سيارة الشرطة بجوارنا بمصابيحها المضيئة، نهض أبي. ألقى ببعض المال على الفاتورة وصاح: «هيا، فلنتحرك».

هدأت الرياح. وصار تساقط الثلوج أخف وطأة. تحركنا بالسيارة بعيدًا نحو الحاجز. «أزِل الحاجز وافتح الطريق!» نظرت إليه فسألني: «ماذا تنتظر؟» ترجّلت من السيارة وحرّكت أحد الحواجز جانبًا حتى مرّ أبي بالسيارة فأعدته ثانية. ركل الباب لأركب. «أنت الآن شريكي، سنهبط سويًا!» أدار السيارة ورمقني بنظرة قائلًا «مجرّد مَزْحةً يا بني».

على امتداد طريقنا هبوطًا راقبت الطريق خلفنا لأرى إن كان الشرطي يلحق بنا. تلاشى الحاجز. وبعد ذلك لم يكن هناك سوى الثلوج: ثلوج على الطريق، ثلوج تركل جنازير السيارة، ثلوج تغطي الشجر، ثلوج تغلّف السماء، ومنحدر الجليد الذي نسلك. تطلّعت أمامنا وأُصبت بصدمة. لم يكن هناك أي طرقٍ لنسلكها. كان أبي يشقّ طريقه عبر الثلوج المتساقطة حديثًا بين خطوط الأشجار وكان يدندن «نجوم سقطت على ألاباما[4]». شعرتُ باحتكاك الثلج على أرضيّة السيارة تحت قدمي. أخذتُ أصفّق بين ركبتيّ لأدفّئ يدي وأتوقّف عن الارتجاف.

تمتم أبي ثم قال: «لا تفعل هذا وحدك أبدًا».

«لن أفعل».

«هذا ما تقوله الآن. ولكن يومًا ما ستحصل على رخصة قيادة وتعتقد حينها أنك تستطيع فعل أيّ شيء. فقط هذا ما لن تستطيع فعله. أعتقد أنك بحاجة إلى موهبةٍ ما».

«ربّما أمتلكها».

«لا تمتلِكها. لديك نقاط قوتك بالطبع ولكن ليست هذه من بينها، أشير فقط إلى هذا الأمر بالذّات لأنّي أخشى أن تظنّ أنّ أيّ شخصٍ بإمكانه فعلها. أنا سائق بارع، هذه ليست ميزة. اتفقنا؟ هذه مجرّد حقيقة يجب أن تُدركها. بالطبع عليك أن تعترف بفضل هذه السيارة القديمة. اسمعني! لم أكن لأفعل هذا بأي سيارة أخرى. اسمع!»

استمعت جيدًا. سمعتُ صرير الجنازير واصطكاك المسّاحات العنيف وأزيز المحرّك. كان يُصدر أزيزًا بحق. أمست السيارة الخردة جديدة الآن. لم يستغن أبي عنها، ظلّ يعِدُ ببيعها وها هي ذا تقلّنا في أجواءٍ كتلك.

سألته: «إلى أين ذهب الشرطي في رأيك؟»

«هل تشعر بالدفء بما يكفي؟» مدّ يده وأدار المروحة ثم أوقفَ مسّاحات الزجاج. لم نكن بحاجة لها. أشرقت السُّحب. قليلًا من رقاقات الثلج انجرفت بعيدًا عن تيار المروحة. قطعنا طريق الأشجار و دخلنا إلى بساط فسيح مغطّى بالثلج مسطّح لمسافة ليست بعيدة حتى يميل بشكل حاد إلى الأسفل. أوتاد برتقالية اللّون غُرست في مسافات منتظمة على خطّين متوازيين. شقّ أبي طريقه بينهما. كانت متباعدة بما يكفي لتترك قلق كبير يدور في ذهني بشأن إلى أين يأخذنا الطريق. عادَ يدندن ثانية منشّزًا عن اللحن الأصلي.

«حسنًا.. هلّا تخبرني بنقاط قوّتي؟»

ردّ عليّ: «لا تدفعني لأُحصيها. سأستغرق يومًا كاملًا».

«أوه! حسنًا. أخبرني بواحدة فقط».

«سهلة. أنت دائما تفكّر مسبقًا فيما سيحدث».

صحيح. أفكر دائمًا بشكل مسبق. أنا الصبي الذي لطالما رتّبت ملابسي على شمّاعات مرقّمة لضمان تناوب سليم لملابسي. استاء مني أساتذتي بشأن الواجبات المنزلية التي اعتدت تسليمها بعد المواعيد المقررة بمدة كبيرة، لهذا كان باستطاعتي وضع جداول. نعم.. فكرت في المستقبل لذا أعلم جيدًا أنه سيكون هناك المزيد من الضباط  في انتظارنا في نهاية الرحلة في حال أننا سنصل أصلًا إلى نهاية الطريق. ما لم أكن أعلم أنّ والدي سيتملّقهم، سيتذرّع بأيّ شيء ثم يوصلني إلى المنزل عند ميعاد العشاء وبذلك يكون قد اكتسب المزيد من الوقت قبل أن تقرر أمي الانفصال بشكل قاطع. كان أبي على وشك أن يغني أغاني الكريسماس.  كنت قد سلّمت بفكرة أننا سنقع في قبضة الشرطة. وربما لهذا السبب توقفت عن التذمّر وفضّلت أن أستمتع بوقتي.

ولمَ لا؟ كانت تجربة مثيرة للغاية كأن تكون على متن قارب بخاري سريع. ولكن هذا أفضل بكثير. لا يمكنك الذهاب لمنحدر بقارب. نحن من فعل هذا كله. واستمرّت الإثارة: الأشجار المثمرة، مسطّحات الجليد التي لم يمسّها أحدٌ بعد تغطّي الأفق، المشاهد الخلّابة البيضاء التي تظهر هنا وهناك بين لحظة وأخرى. شاهدت إشارات الطريق، خنادق، سياج، أوتاد. رغم أنني لم أتمكّن من إيجاد طريقي في كثير من الأحيان إلا أنني - في تلك المرة - لم يكن عليّ أن أجد طريقي بنفسي، فقد كان أبي هو من يتولّى القيادة.

أبي في الثامنة والأربعين من عمره، أشعث، ودود، يفتقر إلى التقدير، متوهّج بالثقة، لطالما كان سائقًا عظيمًا، يُحاورُك ولا يكرهك على شيء، يملك براعةٌ في التعامل مع عجلة القيادة وفي الضغط على الدوّاسة. في الحقيقة وضعت كل ثقتي فيه. الأكثر إثارة لم يأت بعد، الطرق المتعرجة والمنعطفات الحادة يستحيل وصفها. ربّما باستثناء أن أقول: إن لم يكن سبق لك القيادة على الجليد وهو ما زال هشًّا فإنّك لم تذق طعم القيادة الحقّ.


[1] جبل في واشنطن بأمريكا

[2] عازف الجاز

[3] سيارة رياضية

[4] أغنية لفرانك سيناترا


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه