«إياكم وقراءة روايتي على أمل أن تروا المقابر ملأى بالموتى، وبيوت العائلات يسكنها الأحياء».
أروندهاتي روي
وزارة السعادة القصوى لأروندهاتي روي: أرواح مقدسة في أرض الدنس
مقال: علي الرُميض
تقدم أروندهاتي روي بعد عشرين عامًا على صدور روايتها الأولى «إله الأشياء الصغيرة»، ملحمة استحقت كل هذا الانتظار، «وزارة السعادة القصوى»، جاعلة من الأدب وثيقة سياسية من خلال مزجها الفريد بين الفن، السياسة والمجتمع عبر سرد توثيقي تخيّلي ينضح بلغة شعرية أدبية فذة، ما يرينا دراية الكاتبة الوثيقة بالتقلبات السياسية لبلدها والعالم.
ظن الكثير بعد النجاح والشهرة الواسعين اللذين حققتهما «إله الأشياء الصغيرة» والتي حصدت جائزة البوكر العالمية عام 1997 واعتكاف روي عن الرواية الأدبية أنها من الكتّاب أصحاب الرواية الواحدة، كون روي ناشطة سياسية منذ بداياتها، وتلت روايتها الأولى عدة كتب غير سردية، فروي ناشطة في السياسية وحقوق والإنسان، ولدت عام 1959، في بلدة صغيرة شمال شرق الهند من أم مسيحية سورية وأب هندوسي، كان الأب مدمنًا، الأمر الذي جعل والداها ينفصلان وهي في سن صغيرة، عاشت روي في أحياء كيرالا الفقيرة، لتهرب لاحقًا من منزلها إلى دلهي وتلتحق بكلية الهندسة المعمارية عام 1976، تعرفها على زوجها الأول وعلى بعض الشخصيات أتاح لها الصعود لتبرز كناشطة في حقوق الإنسان والسياسة، قبل توجهها للأدب.
ناهضت روي السلطة والحروب، الاستبداد والاحتلال، واحتجت ضد الفساد الحكومي والتدهور البيئي، وعدم المساواة، لتصبح أحد أصوات اليسار الراديكالي في بلادها وفي العالم، لم تقتصر خطاها هنا، فقد وقعت خطابًا في صحيفة الجارديان البريطانية تحت اسم «حرب لبنان 2006» تدين فيه عدوان إسرائيل مع كل من نعوم تشومسكي، وهوارد زين وآخرين، سجنت إحدى المرات ووجهت لها تهم التحريض على الحكومة، واضطرت في العام 2018 لمغادرة بلادها بسبب التهديد الدائم لحياتها، من هذا كله جاءت روايات روي وثيقة الصلة بنشاطها، متشكلة عبر لغة ليس هناك أحد غيرها قادر على نسجها، فقورنت بتولستوي، وليم فوكنر، وغيرهما.
ائتناس الموتى ملاذ المهمشين والمنبوذين
«إياكم وقراءة روايتي على أمل أن تروا المقابر ملأى بالموتى، وبيوت العائلات يسكنها الأحياء».
هذه إحدى المقولات التي وصفت بها روي روايتها «وزارة السعادة القصوى»، والتي استغرقت في العمل عليها ما يقارب العشر سنوات، لتصدر في عام 2017، وأتت الترجمة العربية لها بعد عامين، بتوقيع المترجم أحمد شافعي والذي وفق لحد كبير في نقل لغة روي، كونها لغة صعبة تعتمد على التفاصيل وحافلة بأسماء ومرجعيات وإشارات لثقافة الهند المتنوعة وطبقاتها الاجتماعية.
دخول عالم روي الروائي مهمة شاقة، إذ تغوص بالقارئ لأبعد مما قد يتخيل، وتقوده عبر دهاليز لم يختبرها سواء في اللغة السردية أو الواقع الاجتماعي، وكما في روايتها السابقة تولي روي أهمية قصوى لأشد التفاصيل فجاعة وحساسية، متناولة مواضيع وشخصيات تبدو للإنسان العادي مجرد أشخاص على الهامش من الحياة والمجتمع والسياسة والدين، ولعل إحدى قدرات روي التي تحسب لها دون غيرها بساطة موضوعاتها وتعقيدها الفج في آن، إذ تسرد تاريخًا لبلد ولعالم كامل من خلال شخصيات هي أبعد ما تكون عن الاهتمام بأي نشاط سياسي، شخصيات منبوذة وعاجزة إلا أنها من خلالها تسطر الطيف الواسع للحروب والرأسمالية التي نخرت في نواة بلدها الهند والمجتمع العالمي.
في «وزارة السعادة القصوى» تسرد روي ستين سنة من تاريخ الهند الدموي، من خلال شخصيتين رئيسيتين نبذهما المجتمع فلم تجدا ملجأً لهما إلا المقابر، بداية بأفيتاب الطفل الذي يولد في ليلة باردة من يناير على نور قنديل، يراه أهله ذكرًا إلا أنه يصر على أنه أنثى، فقد ولد أفتاب بعضو ذكري واضح، إلا أن أسفل عضوه الصبياني الصغير كان هناك عضو آخر عديم الشكل لكنه أنثوي بلا مراء، يتبنى أفتاب الاسم الأنثوي «أنجم» رغم سيطرة المظهر الذكوري على شكله الخارجي، وعند بلوغ أنجم الثالثة عشر من العمر تهرب إلى الخواب جاه وهو قصر متداع بني في زمن الإمبراطور المغولي شاه جهان لثنائيي التكوين الجنسي والمثليين، أو ما يطلق عليهم في الحضارة الهندية بالهيجرات، أي الجسد الذي تعيش فيه الروح المقدسة، يأخذنا هذا المكان إلى أن الهيجرات كانت تحظى بالاحترام حتى في الأساطير الهندية وهذا ما تؤكده أكبرهن الأستاذة كلثوم بي والتي لا تتوانى في السرد لهن عن المكانة التي تحتلها الهيجرات في التاريخ الهندي «لم نكن قط من عوام الناس، كنا بعض أهل القصر الملكي» هنا في الخواب جاه حيث تتحرر الأرواح المقدسة من الأجساد الخطأ ستختبر أنجم اللذة، المتعة واللوعة، وستعيش فيه ما يقارب الثلاثين عامًا، لكن عندما يطل التعصب الديني والطائفي في الهند بوجهه القبيح وتحديدًا عقب اغتيال أنديرا غاندي على يد حرسها السيخ وتعم الفوضى لن تجد أنجم لها ملاذًا إلا المقابر، ستبني بها جمهوريتها المستقلة والتي ستستقطب كل من نبذتهم المدينة.
في ذات الوقت وفي مكان آخر تولد (تلو)، المهندسة المعمارية، والتي تنتمي لطبقة «البارايا» المنبوذة، تعيش تلو في البداية مع أمها الحقيقية كابنة متبناة، بعد أن نبذت العائلة الأم كونها أنجبت طفلة لأب من الطبقة الدنيا، وأثناء دراستها يقع في غرامها المناضل والمتمرد الكشميري (موسى)، وضابط المخابرات (بيبلاب)، والصحفي العميل (ناجا)، هنا حيث يرتكز ثلثا الرواية والتي يفوق طولها الستمائة صفحة. سنتابع تلو كشاهدة على وحشية السلطة وقمعية الطوائف الدينية، عبر مراحل نزاع الهند التاريخي، وتختفي أنجم وعالمها، إلا أنهما لا يلبثان أن يلتقيا ومن معهما في النهاية كفئات مهمشة ومنبوذة في جمهورية تضم الأحياء والأموات، في عالمين يفصلهما جدار شديد المسامية.
تتعدد حوامل الرواية مع بروز أكثر من شخصية غير تلو وأنجم، فمن الحكاية الرئيسية تتفرع عدة حكايا تبدو في لحظات وكأنها هيكل قصصي قائم بذاته، إلا أننا سنجد أنفسنا مرتبطين بشكل وثيق بالنقطة التي بدأنا منها.
لطالما كان التاريخ يكمن دائمًا في التفاصيل، وتاريخ الأمم والشعوب ينبع من مهمشيها ومنبوذيها، من الأصوات التي لا تسمع، المتمثلة في عواء بدائي أصم، وهنا تلجأ شخصيات روي لعالم الموتى، فتؤسس الهيجرا أنجم عالمًا جديدًا، يلغي كل الانقسامات حتى بين الأحياء والموتى، حيث تشكل جمهورية راسخة البنيان بإمكانها بها أن تصرخ وتسب وتحب وتلعن، إذ لا تلبث جمهورية أنجم، التي تظهر في البداية عبارة عن لوح من الصفيح، أن تستقطب كل من يماثلها، ليس بني جنسها متصارع الهوية فقط، بل رجال ونساء وحيوانات فتتسع وتتحول لما يشبه النزل، ليسمى بـ «نزل جنة للضيافة»، والذي يساعدها في توسيعه صديقها دياتشند الملقب بصدام حسين، وقد انتقل للعيش معها بعد تشرده، واتهام مجموعة من الهندوس لوالده بقتل بقرة مقدسة ثم قتله، يشاركهم المكان أيضًا الإمام الضرير ضياء الدين، يحولون ملجأهم في البداية إلى مكان لغسل جثث الأموات التي رفضت بعض الطوائف والمقابر دفنها، ليتحول فيما بعد لفندق ثم يتزايد عدد المقيمين ليغدو شبه قرية داخل مقبرة.
تشكل أنجم نموذجًا واضحًا لمأساة الإنسان المعاصر، (حتى ذي الهوية الجنسية التي لا تتضمن صراعًا فيزيولوجيًا)، الإنسان المهمش، الذي لم يجد ملاذًا لا تطاله فيه يد السلطة والمجتمع الطائفي والطبقي، الغارق في أدران الرأسمالية.
وفي تآمر خفي رغم الوضوح الذي يكتنفه، بين السياسة، الدين والمجتمع، يتابع الإنسان المهمش والمنبوذ مساره بحثًا عن عالم لا يدين له بوجوده البائس، عالم لا يُجرد فيه من إنسانيته، إلا أنه وسط تضاؤل الحلول المتاحة لهذا الإنسان، يكون منح الأشياء أحادية الجانب والغامضة تعريفات أخرى بمثابة الخلاص له، كما الموت، الذي من خلاله فقط نغدو مرئيين، عندما نراه كجانب آمن للحياة والتعايش.
وفي ظل كل هذا الدنس العالمي، تبقى أرواح المهمشين المقدسة، فريدة، هشة وطفولية، أمام وحش الاستبداد والظلم الذي يغلف العالم.
هذه الفرادة البريئة والطفولية لا تتوفر سوى لدى المهمشين والمنبوذين، أو ربما وجودها لدى كائن بذاته هو سبب تهميشه ونبذه، لذلك سيبقى العالم مكان صراع، بالنسبة لهؤلاء، ولجوء أنجم وغيرها للمقابر هو بمثابة طلب انتساب لعالم آخر، حيث الأولوية للأرواح وليس الأجساد، للألفة وليس الغربة، للحياة وليس الموت، بعد ما اتخذت حياتنا في ظل مجتمعاتنا كل هذا الكم الجحيمي.
وحيث المقابر، لا أحد يموت بالشكل المتعارف عليه، إنما موته يعني بقاءه الأزلي، لن يخشى بعد الآن حروب أو كوارث في مملكته الأبدية الآمنة، إنه ضمان الوجود لمن أحببناهم، وسنلتقي بهم دومًا دون أن تفصل بيننا مسافة واضحة.
لم يسبق أحد روي في تصويرها الموت بهذا الشكل، فأكثر الأماكن ضبابية وخوف تغدو أكثرها ألفة وحب، وسعادة، بائتناس الموت فقط نصل إلى جمهورية السعادة القصوى.
ما يشبه تاريخًا للعالم
لا تلبث الهند أن تنال استقلالها عام 1947 بعد ما يقارب المئتين سنة من الاحتلال البريطاني وتقسيم الهند وباكستان، حتى تتصاعد الصراعات الحزبية والطائفية، ويبدأ نهر الدماء بالتدفق غزيرًا أكثر من ذي قبل، ويقضى على الهند في سنة انبعاثها، تتغذى هذه الصراعات بشكل أساسي، على التنوع الطائفي والطبقي الكبير الذي تزخر به البلاد، والذي بسببه ترى روى من المستحيل قيام جمهورية موحدة في بلادها، هذا ما نراه واضحًا في الاعتصام الذي يبقى قائمًا على رصيف جنتر منتر؛ خليط من الطوائف وعمال القمامة والمتضررين من الزحف الصناعي على قراهم، كلًا يصطف في مجموعة مصرًا على مطلبه هو دون غيره، يبدو الأمر لروي في غاية السذاجة إذ لا تلبث السلطة أن تراه حدثًا قابلًا للاستثمار، بل يتعدى الأمر أن تُبنى حمامات مأجورة للتغوط، وتشيد جدران لملصقات سلعها، وترسل صحفييها كدبابيس لثقب فقاعات الغضب الواهية، «إنهم يرسلون لنا صحفييهم نحكي لهم قصصنا، فنتخفف لوهلة من عبئنا وبهذه الطريقة يسيطرون علينا».
مزج روي بين الحدث التاريخي السياسي والتخيّل الأدبي يعطي رؤية أوضح لسلسلة العنف القائمة في بلدها إلى الآن، وما يجعل الرؤية جلية وواضحة السرد الحيادي الذي تنتهجه في تقديم الوقائع، فنرى بوضوح كيف صنف البريطانيون الهنود حسب الهوية الدينية، وكيف بالغت هذه الممارسات في تهويل الاختلافات، وزرع انعدام الثقة بين المجتمعات التي تعايشت معًا سابقًا، كما نرى كارثة تسريب غاز سام لشركة يونيون كاربايد الأمريكية في ولاية بوبال عام 1984، والذي يعتبر من أسوأ الكوارث الصناعية في العصر الحديث، فقد راح ضحيته ما يقارب النصف مليون شخص بين موتى ومشوهين، وتدفق حملات أنديرا غاندي لإخصاء وتعقيم المسلمين، وفصل باكستان عن الهند وما تبع ذلك من الهجرات القسرية من الهندوس والمسلمين إلى المناطق التي اعتقدوا أنهم سيكونون فيها جزءًا من الأغلبية الدينية، وقيام الميليشيات المتطرفة على اختلاف طوائفها والجماعات المحلية بذبح المهاجرين، وبالطبع تحملت النساء العبء الأكبر منه، حيث عانين من الاغتصاب والتشويه كما حدث مع ريفاثي، التي تناوب على اغتصابها وتشويهها ستة جنود، ليثمر هذا عن الطفلة أوديه جبين التي هددت أمان تلو فيما بعد، فلاذت بها إلى المقابر.
تولي الكاتبة أهمية كبرى للحدث العالمي العام، لتنسج منه خصوصية عملها، إذ تفتح نوافذ عديدة على العالم فنرى انهيار أبراج التجارة العالمية، وما تبعها من ذرائع لغزو الولايات المتحدة لأفغانستان، وإعدام صدام حسين، وحركة المقاومة في بعض البلدان، فيغدو العالم بأكمله رقعة صراع وفوضى، ستبقى قائمة ولن تنتهي، هذا ما تؤكده رسالة موسى لابنته الصغيرة التي قضت برصاصة طائشة «في كشميرنا يعيش الموتى إلى الأبد، والأحياء ليسوا إلا موتى يتظاهرون».
الكتابة -في زمن الفوضى- عن الجندر والحب والموت
تتصارع هذه الدوائر بشكل بارز في العمل، وتتخذ كلًا منها طيف واسع من الكنايات، إضافة إلى مفاهيم أخرى ينضح بها الكتاب، تشبه الكاتبة الهند بجسد الهيجرا (ثنائيي التكوين الجنسي والمثليين)، الذين يحيون في نزاع دائم مع الهوية، مبرزة بذلك الصراع السياسي، صراع شديد الدقة، شديد القدم، شديد البقاء، ليغدو كطائفة موقوتة، لا يلبث أن يخبو، حتى ينبعث من جديد، إنه حرب لا مرئية، نزاع داخلي لا يتجلى في العلن، وهذا قد يكون أشرس وأعنف معركة دموية قد يخوضها كائن، كما نزاع الهند المستمر إلى الآن دون لفتة عالمية أو اهتمام دولي، هو فقط يثمر للآخر عن أرض لاستثمار جرائمه المشروعة، كما في حادثة الغاز التابع لشركة يونيون كاربايد، والذي ما زالت مضاعفاته على من بقوا أحياء مستمرة إلى وقتنا الحالي، ليكون المنطلق لروي في تغليف جوهر كتابها هو الحالة الجندرية التي تطغى عليه.
«ما الذي يتعسكم أنتم أيها الناس الطبيعيون؟ ارتفاع الأسعار، قبول الأولاد في المدارس، ضرب الأزواج، خيانة الزوجات، الاضطرابات بين الهندوس والمسلمين، الصراع الهندي الباكستاني، كلها أشياء خارجية تسوى في النهاية. لكن بالنسبة لنا ارتفاع الأسعار وقبول الأولاد وضرب الأزواج وخيانة الزوجات كلها بداخلنا. الاضطرابات بداخلنا. الحرب بداخلنا. الصراع الهندي الباكستاني أيضًا بداخلنا. ولن يسوى أبدًا. ولا يمكن».
وعندما يزهر التعصب الديني، وتطل الرأسمالية بوجهها البراق العنيف، تدعي السلطة والمجتمع السياسي الدولي، أن الواقع في الهند يسير على خطة منظمة آيلة لزوال حتمي، وهذا من خلال سيطرة الشركات متعددة الجنسيات وإضفاء لمسة حداثة على الواقع، القائم على أنقاض وإبادة آلاف البشر من فقراء ومهمشين، ليغدو الإنسان سواء الهندي أو العالمي عالقًا في حلقة من التكرار والاستنزاف، فيتضاعف في الهند تفشي الفقر، واللجوء والهجرة، وتزحف الشركات على الريف مزيلة آلاف القرى ومحوها بمن فيها دون أن نعلم ماذا حل بهم، كما في حالة الحزب الشيوعي الماوي، والذي يستوطن الغابات إلى وقتنا هذا، ليدخل في حرب عصابات مع الحكومة التي تريد السيطرة على أرضه ومنحها للشركات الصناعية الأجنبية.
سعيدة: «إن جراحات إعادة ضبط الجنس بدأت تتطور، وتتيسر لمزيد من الناس، ومن ثم سرعان ما ستختفي الهيجرات، لن يضطر أحد أن يمر بمثل ما مررنا به».
نمو: «قصدك لا مزيد من الصراع الهندي الباكستاني»
جاء تطرق الكاتبة للفئة الأكثر تهميشًا والموغلة في القدم في جذر الحضارة الهندية وهم المثليين، أو مضطربي الجنس اختيار بليغ لوصف واقع بلاد يرزح تحت ثقل الغضب والكبت وغياب العدالة، كما تصف القدر الذي كانت تحظى به هذه الفئة من سلام واعتراف في الأزمنة الغابرة، لكن مع تطور المجتمعات أخذت الحركات التي يفترض أنها ترسخ حقوق الإنسان واحترام الآخر، تأخذ شكلًا مبطنًا قائم على العنف والوحشية، ليغدو التطور والانفتاح لعنة، وكأنه لم يسهم سوى بابتكار أدوات الإبادة المتطورة والمبتكرة بعناية، كما وصف روي للغارات الجوية «والسماء ترسل مطرًا من حديدٍ مذاب».
الحالة الجندرية التي يتصف بها العمل سواء بأنجم أو من معها، تأخذ حيزًا كبيرًا من الاهتمام لدى الكاتبة في الوقت والتاريخ الذي تسيطر عليه قضايا أكبر وأحلك سوادًا، ففي ظل الحروب والكوارث تغدو قضية الهوية الجنسية شيئًا جانبيًا، صراعًا فرديًا لأقلية مهمشة، فهناك ما يستوجب الاهتمام أكثر الآن في ظل كل هذه الفوضى، لكن قضية أنجم في محاولة إثبات إنها امرأة ليست سوى صورة للقضايا الأخرى، حتى التي حظيت باهتمام ملفت، بأنها لن تسوى ولا يمكن «الصراع الهندي الباكستاني بداخلنا، ولن يسوى أبدًا. ولا يمكن»، «جسد الهيجرا هو ساحة قتال». إلا أنه ساحة قتال أبدية، كما كل شيء في هذا الكون الذي بات مترعًا بالدمار والخوف والاضطهاد.
على خلفية هذا كله، يوأد الحب في أرض الأحياء وسط قمعية السلطة، كما حكاية تلو وموسى المناضل الكشميري، التي يهيمن عليها طيف الحرب العنيف، وتتكلل بموت موسى الزائف وموته الحقيقي في وقت لاحق، ليلجأ الحب لعالم الأموات حيث يعيش الموتى إلى الأبد.
العائلة، الرحم الذي يودع بذوره في حضن الجحيم
تقول روي في إحدى لقاءاتها: «لكم كان مسكن الأسرة لي مكانًا بالغ القسوة والترويع، كل انكساراتي وقعت هناك، وأتوجس كلما رأيت إعلانًا يحمل رؤية لمنزل مثالي، تعيش فيه أسرة سعيدة».
المطلع على أدب روي يرى بوضوح انعكاس هذا في أعمالها ورواياتها تحديدًا، إذ لم تتخلص من توجسها هذا، وهي ترى المنظومة العائلية ليست سوى مؤسسة تفريخ، وظيفتها أن تنجب مزيدًا من الكائنات التعيسة، على اختلاف أجناسها.
نمو: «هل تعرف لم خلق الله الهجيرات؟»
«لا لماذا؟»
نمو: «كانت تجربة. قرر الرب أن يخلق شيئًا، كائنًا حيًا، بلا قدرة على السعادة. فخلقنا».
ففي الروايتين نرى العائلة كمؤسسة تعاني من التهتك بشكل مأساوي، عائلة أستا وراحيل، في «إله الأشياء الصغيرة»، تلو وأنجم وموسى وغربتهم عن عائلتهم في «وزارة السعادة القصوى»، لتتمثل العائلة بكيان مستبد، مريض، يسلب الفرد حريته، وشخصيته، وماهيته الحقيقية، إذ ليست العائلة سوى صورة أخرى من صور قسرية وجور السلطة، ليأتي الإنسان إلى عالم الأحياء وكأنه قد علق بماخور سيكسوه رداءً من العنف والضنك، فتقتصر وظيفته على المساهمة في مضاعفة عدد البائسين وجلبهم إلى هذا العالم مكررًا صورًا مشوهة منه.
لدى روي تتأثر المنظومة العائلية حتمًا بالسلطة القائمة والواقع الرأسمالي، لذلك أول ما تلجأ إليه شخصياتها هو الهروب من تخبطات هذه المؤسسة، إلا أنها حتمًا ستعلق بتخبطات وعقبات أكبر بما يخص آليات السلطة العليا، والمجتمع المعاصر، فيقع الإنسان في فك هذه الدوائر القسرية الحاكمة التي تتسع وتضيق تبعًا لارتباطه بكل منها.
تحظى المرأة أيضًا باهتمام كبير لدى الكاتبة، إذ يقع عليها العبء الأكبر من المعاناة والاستبداد الذي تنتهجه المؤسسات على اختلافها، فتكرر روي بفرادة نموذج المرأة مامو في روايتها الأولى، بعملها الحالي متمثلة بأغلب شخصيات العمل، تلو، ريفاثي، وحتى عميلة السلطة آيه سي بي بينكي، والراقصة الشرقية ريناتا ممتاز العاشقة مفطورة القلب وغيرهن، لتصور المرأة بكيان بائس، كل ما عليه هو تمرين نفسه على الجلد والتحمل في صور تبدو لنا كإنجاز وسباق بينهن.
رغم هذه التكرارية لسلسلة العنف والوحشية التي لن تنتهي، يبدو واضحًا في «وزارة السعادة» أن أي سلطة تعسفية، تحمل بين ثناياها سلاح موتها وحياتها في آن، فسلوكها هو دائمًا سلوك مرضي يرتد عليها، ينهيها رغم انبعاثها من جديد بشكل مستمر، ويبرز هذا في العمل من خلال شخصية الرائد أمريك سينج المرضية، والذي يساهم في ارتكاب مجازر لا حصر لها، لإشباع تعطشه للدماء، وفي النهاية ينتحر بعد أن يطلق النار على زوجته وأطفاله، وصولًا للضابط بيبلاب والذي يساهم مع الكاتبة في بعض الفصول باستلام دفة الروي، لتزيح روي جانبًا وحش السلطة المرعب، فنراها من خلاله، واهية وهشة، يخسر في النهاية منصبه، ليعتكف كشخص مخذول ومنعزل، ومدمن، ويقر في نهاية الأمر بأنه على شفا الزوال وبه شبه كبير من سالفه أمريك سينج «ماذا سيكون من أمري؟ إن بي شبهاً قليلاً من أمريك سينج: هرم، متورم، جريح، محروم مما أطلق عليه موسى ببلاغة (بنية الحصانة التحتية) التي كنت أعمل من خلالها طيلة حياتي. ماذا لو دمرت أنا الآخر نفسي».
وبين السياسة، الدين، المجتمع، التاريخ والإنسان، في ظل كل هذه المفاهيم الشائكة والمثيرة، تقدم روي العديد من الوقائع بآلية سرد تفصيلية يبدو للمتلقي من خلالها وكأنه يكتشف مدينة شاسعة بكل أزقتها وشعابها، في تجاور هائل لعوالم متناقضة، حيث الصورة تتجلى هنا بشكل عكسي، مقنع ومبرر رغم ما يحمله من فجاجة، لتتشابك فصول الرواية في سرد قصصي يتماهى بتعقيداته، وتقحم روي أبطالها في واقع السقوط الناجم عن الحروب والنزاعات المحلية والعالمية.
يبدو الكتاب للقارئ عمل غزير التشعب، ويتطلب منه قدرة عالية من التركيز والتأمل لمتابعة آلية السرد وملء الثغرات، ويتصف الأسلوب بالقطع والتداخل بين القصص، في إطار تشويقي بطيء، يرتكز في جله على أدق التفاصيل، كما تسبغ روي على أسلوبها العنيف ازدواجية البراءة والشر، ليبدو في الغالب غير معقد، فتنساب الخيوط التي بدت لنا في البداية شائكة ومتداخلة إلى الأمام والخلف، كل هذا سيبدو واضحًا للمتلقي منذ الصفحات الأولى باستعارات مفرطة العنف، شديدة الحساسية، في ملحمة منسوجة من السرد، مؤلمة، مضحكة، مثيرة، متشظية وقاتمة.
* المقال خاص بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه