إذا كان كل الأطفال قوطيين بالطبيعة، فسرعان ما اكتشفت أن غالبية زملائي التلاميذ كانوا خاضعين فعلًا لقوانين الواقعية الاجتماعية
ملاحظات حول ما هو قوطي في الرّيو دي لا ﭘـلاتا
مقالة لخوليو كورتاثار
ترجمة: أحمد حسان
من أجل حيرةِ النقد، الذي لا يجد تفسيراً مُرضيًا، يضمُّ أدبُ الرّيو دى لا ﭘـلاتا سلسلةً من الكتّاب يقوم عملهم بدرجةٍ أو بأخرى على ما هو فانتازي، مفهومًا بمعنىً بالغ الاتساع يمتد من الفائق للطبيعة إلى المُلغِز، من المُرعِب إلى غير المألوف، يكون فيه حضور ما هو "قوطيٌ"* بشكلٍ محدَّدٍ محسوسًا على نحوٍ متواتر. بعض القصص الشهيرة لليوﭘولدو لوجونِس، الكوابيس المروِّعة لهوراثيو كيروجا، الفانتازي الذهني لخورخى لويس بورخس، التلاعبات التهكمية أحيانًا لأدولفو بيوى كاسارِس، الغرابة داخل اليومي لسيلبينا أوكامـﭘو ولكاتب هذه السطور، و، last but not least، [أخيرًا وليس آخرًا]، العالَم السوريالي لفليسبرتو إرناندث، هي بعض الأمثلة التي يعرفها بدرجةٍ كافية مُحبّو هذا الأدبِ، الوحيدِ ربما، الذي يُتيحُ أن يُصنَّف، ولنقل هذا بصورةٍ عابرة، على أنه هروبي stricto sensu [بالمعنى المحدد] ودون قصدٍ تحقيري.
حتى أنا لا يمكنني توضيح لماذا أعطينا نحنُ، قوم الريو دى لا ﭘـلاتا، للأدب الفانتازي كلَّ هؤلاء المؤلفين والقراء. فتعدّديتُنا الشكلية الثقافية، المستمدَّة من إسهامات المهاجرين المتنوّعة، واتساعُنا الجغرافي الهائل كعنصر عزلةٍ، ورتابةٍ، وسأمٍ، بما يتبعه من اللجوء إلى غير المألوف، إلى anywhere cut of the world [أيّ مكانٍ منعزل عن العالم] الأدبي، لا تبدو لي أسبابًا كافية لتوضيح تولُّد خيول أبديرا، أو وسادة الريش، أو تلون، أوقبار، أوربيس ترتيوس، أو اختراع موريل، أو منزل السُكَّر، أو الأسلحة السرِّية أو المنزل الغارق، التي تناظر على الترتيب المؤلفين المذكورين آنفًا*
ها هي بضع صفحات حول خبرتي الخاصة في نظامٍ إبداعي يحتفظ بتناظراتٍ لا زالت محسوسةً مع بُعد ما هو "قوطي". ربما تقدِّم عنصرًا مفيدًا للنقد؛ فهذا هو السببُ الوحيد الذي يجعلني أختار أن أتحدث عن نفسي في هذا السياق، وأُحيل بشكلٍ عابر إلى كُتّابٍ من الأدب العالمي أقمنا معهم نحن أهل الريو دى لا ﭘـلاتا وما زلنا تبادلاتٍ يمكن أن تُسهم بدورها أيضا في فهمٍ أفضل لإسهامنا في خطٍ بالغ الخصوصية وبالغ الإبهار من السرد.
كلُّ طفلٍ قوطيٌ مبدئيًا، ما لم يُصادف في طريقه تربيةً لا تلين. وفي أرجنتين طفولتي، كانت التربيةُ بعيدةً عن كونها لا ترحم، ولم يجد الطفلُ خوليو خيالَه ُمقيّدًا أبدًا، بل تحبّذه على العكس تمامًا أمٌ قوطيةٌ إلى أقصى حد في أذواقها الأدبية ومُعلّماتٌ تخلطن بصورة عاطفية بين الخيال والمعرفة.
في الأولى، تسيطر خيول متحورة على مدينة، حررها هرقل in extremis [في النهاية]. وفي وسادة الريش، تموت امرأة بأنيميا ظاهرية، لكن حين يرفع زوجها وسادة فراش موتها، ينتبه أنها ثقيلة بصورة استثنائية... وقصة بورخس ورواية بيوى كاسارس معروفتان عالميًا. وفي منزل السُكَّر، تجد واحدة تُدعى كريستينا أن واحدةً تُدعى بيوليتا تحلُّ محلها ببطء. وتستجيب الأسلحة السرّية لنفس الهاجس، لكن في مناخٍ تراجيدي بصورة صارمة. وتجعلنا المنزل الغارق ندخل مقرًا يطفو فيه كل شيء على الماء، بدءًا من المالِكة في فراشها حتى شموع الاحتراق الموضوعة في صحون البودينج. أود أن أضيف أن السوابق التاريخية للجنس الأدبي القوطي في الريو دى لابلاتا نادرة وبلا شكٍل عمومًا؛ وينجو إسما خوانا مانويل جورّيتي (1818ـ 1892) التي، حسب جان أندريو، تقترب أكثر ما يمكن للنموذج القوطي الأنجلوسكسوني، وإدواردو لاديسلاو هولمبرج (1852ـ 1937)، الذي تمر نصوصه دون موهبةٍ مفرطة عبر كل تنويعات القوطي.
وكان منزلي، مرئيًا من منظور الطفولة، قوطيًا أيضًا، لا بسبب عمارته بل بسبب تراكم أوجه الرعب الذي يُولَدُ من الأشياء والمعتقدات، من الدهاليز السيئة الإضاءة ومن محادثات الكبار بعد العشاء. قوم بسطاء، كانت القراءات والغيبيات تتخلل واقعًا سيّءَ التعريف، ومنذ نعومة أظفاري أدركتُ أن الذئب الكبير يخرج في ليالي البدر، وأن اليبروح(2) هو ثمرة المشنقة، وأن أشياء بشعة تحدث في المقابر، وأن الموتى تنمو أظافرهم وشعرهم إلى ما لا نهاية، وأن في منزلنا قبوًا لا يجرؤ أحدٌ على النزول إليه أبدًا. وعلى نحو مثير للغرابة، فإن هذه العائلة المكرّسة لأسوأ حسابات الفزع كان لديها في نفس الوقت عقيدةُ الشجاعة الذكورية، ومن صغري كانوا يطالبونني ببعثاتٍ ليلية هدفها التحكّم في ذاتي، وكانت غرفة نومي سقيفةً يضيؤها رأسُ شمعة في نهاية درجٍ ينتظرني فيه الخوف على الدوام في زي مصاص دماءٍ أو شبح. لم يعرف أحدٌ منهم أبدًا بهذا الخوف، أو ربما تظاهروا بعدم معرفته.
ولذا ربما، على سبيل الاستحضارِ الخالص ودون وعيٍ واضح بالأسباب التعويضية التي تحرّكني، بدأتُ أكتب قصائد بدا فيها ما هو كئيبٌ ومُحِبٌ للموتي طبيعيين جدًا وجديرين بالثناء بالنسبة لعائلتي (وما زالت أمي تحتفظ اليوم، بعيدًا عن متناولي لسوء الحظ، بقصيدةٍ قائمة على أساس غراب إدجار آلان ﭘو، كتبتها في سن الثانية عشرة، وربما ببعض القصص التي يتنازع فيها على التيمات والأجواء ﭘو ذاته مع ﭬـيكتور هوجو كاتب هان الإيسلندي والرجل الضاحك). لم يَرْعَ أحدٌ قراءاتي، التي كانت تنتقل دون تمييز من مقالات مونتاني إلى المغامرات الشيطانية للدكتور فو ـ مان ـ شو لساكس رومر، ومن ﭘيير لوتي العزيز على أمي إلى قصص الرعب لهوراثو كيروجا. في كل مرة أرى المكتبات التي يغتذي منها الأطفال الحسنو التربية، أفكر أنني كنت محظوظًا؛ فلم يختر لي أحدٌ الكتب التي يجب أن أقرأها، ولم يقلق أحدٌ من أن ما هو فائقٌ للطبيعة وما هو فانتازي فرضا نفسيهما علىّ بنفس صلاحية مبادئ الفيزياء أو معارك الاستقلال القومي.
إذا كان كل الأطفال قوطيين بالطبيعة، فسرعان ما اكتشفت أن غالبية زملائي التلاميذ كانوا خاضعين فعلًا لقوانين الواقعية الاجتماعية؛ وقد حكيتُ في موضعٍ ما حيرتي وخيبة أملي إزاء الصديق الذي أعاد إليّ باحتقارٍ سر ويلهلم ستوريتز، لـﭼول ﭬيرن، قائلًا بكل أناقة: "إنه مفرط الفانتازية". سرعان ما انتزع رعاةُ البقر ورجالُ العصابات عرشَ الأشباح والذئاب الكبرى، لكنني ظللت وحيدًا في مملكتي ذات التخوم المخيفة، فقد غزاني العصرُ الوسيط ليليًّا ومشئومًا من والتر سكوت، ومن يوﭼين سو (كانت أبناء القرية إحدى قراءاتي الأشد حواذية). لم أكن أدري شيئًا عن الأدب القوطي بالمعنى المحدد، ويظل أمرًا مثيرًا للسخرية أن الكتّاب الكبار لهذا الجنس الأدبي لم يتكشّفوا لي إلًا بعدها بعشر أو خمس عشرة سنة، حين قرأت بالإنجليزية هوراس والـﭘول، ولي فانو، وماري شيللي و"مونك" لويس. ولما كنت مستعدًا من خلال طفولتي، من خلال قبولي الطبيعي لما هو فانتازي، لما هو uncanny خارق للطبيعة في الكتب وفي الحياة اليومية، فقد وجد هذا الأدبُ السيّءُ العظيم، في غير أوانه، قارئًا مثل قراءِ زمنه، مستعدًا للعبِ اللعبة، لقبول ما لا يُقبل، للعيش في حالة دائمة مما سمّاه كولريدج suspensión of disbelief [تعليق عدم التصديق].
في ذلك الحين كنت قد بدأت أكتب قصصاً؛ وبقيت سلسلةٌ أولى غير منشورة، فرغم أن التيمات ممتازة، لم تكن المعالجةُ الأدبية تُسقِطها بالقوة التي كانت لها في مخيلتي، وعلى نقيض غالبية الكتّابِ الشبّان أدركتُ أن ساعةَ النشر لم تحِن بعد. وحين قرَّرتُ إتاحةَ معرفةِ بعض الحكايات، كنتُ قد بلغتُ الخامسة والثلاثين وقرأتُ عدة آلافٍ من الكتب. لذا، رغم اهتمامي بالأدب القوطي، جعلني الحسُّ النقدي أبحث عن الغامض والفانتازي في أرجاءٍ بالغة الاختلاف، رغم ثقتي بأنني بدون هذا الأدبِ ما كنتُ لأجدهما أبدًا. فأثر كتّابٍ مثل إدجار آلان ﭘو ــ الذي يمدّ بعبقريةٍ ما هو قوطيٌ في قلبِ منتصف القرن الماضي ــ لا يمكن إنكاره على المستوى الأعمق للكثير من حكاياتي؛ أعتقد أنه بدون ليجيا، بدون سقوط منزل أوشر، ما كان لينبثق فيّ ذلك الاستعدادُ لما هو فانتازي الذي يُهاجمني في أقلّ اللحظات توقُّعًا ويحملني على الكتابةِ كطريقةٍ وحيدةٍ لعبور حدودٍ معينة، لموضعة نفسي في أرض الآخر. لكن منذ اللحظة الأولى، وما زلت يافعًا جدًا، أشار لي شيءٌ إلى أن الطريق الشكلي لتلك الغيرية لا يكمن في الحيل الأدبية التي لا يبلُغُ بدونها القوطيُّ "روحَه العامة" التي تلقى أشد إحتفاء، لا يكمن في تلك المشهدية اللفظية المتمثلة في بعثِ استغراب القارئ من البداية، في تقييده بمناخٍ سقيم لإجباره على العبور بخنوعٍ إلى الغموض والفزع.
على النقيض تمامًا، يتبدَّى أفضل ما في الميراث القوطي في عصرنا ضمن تعقيمٍ عامٍ لمشهديتة البسيطة، ضمن رفضٍ تهكمي لكل "gimmicks" ["الحِيَل"] و "props" ["التجهيزات"] التي استخدمها والبول، ولي فانو وغيرهما من الساردين القوطيين العظام. وغنيٌ عن الذكر أن ردَّ الفعل ذاك يسبق بكثيرٍ حقبتنا؛ ففي قلب الرومانسية الإنجليزية، كان توماس لوف ﭘيكوك يسخر فعلًا من هذا الجنس الأدبي في كتابه اللذيذ Nightmare Abbey، وهي سخريةٌ بلغت ذروتها عند نهايات القرن على صفحات شبح كانترﭬيل لأوسكار وايلد. ورغم ذلك...
في السينما، على سبيل المثال. لا أعتقد أن مُشاهد السينما، الذي هو بالطبع قارئ روايات أيضًا، يعاني من ازدواج خطيرٍ في الشخصية، يقبلُ بالرغم منه ــ أنا في المقدمة، ويا لها من متعة ــ أن تقدم له الشاشة ما هو قوطي بشكله الأشد خشونة، بالأجواء، والديكورات، والحيل الأشد ابتذالًا. سيقال إن ذلك المشاهد يتمتع بصورةٍ مفارِقة بفظاعات مصاصي الدماء أو تحوّلات المتذئبين؛ وبالنسبة لي، فإن المفارقة هي وسيلةٌ حدِّية وسيئة الطوية بحيث تمنع الهلعَ من أن يتملكني أكثر مما يجب، لتذكّرني بأنني في مقعد سينما. وحين أشاهد أفلامًا من قبيل كاليجاري، وفرنكنشتاين، وThe Night of the Living Bodies ليلة الأجساد الحية، ما من مفارقةٍ أو تباعدٍ ينقذني من الفزع، من المشاركة فيما يجري هناك. المشهدية القوطية، المنبوذة من أفضل أدبٍ فانتازي في عصرنا، تجد تجسّدًا استثنائيًا في السينما؛ والطفل الذي يظل حيًّا بنهمٍ في داخلي وفي داخل آخرين كثيرين، يعاود الاستمتاع دون موانع البالغِ المثقف، يهبط مرة أخرى السلالم المظلمة المؤدية إلى الأقبية التي ينتظر فيها الرعب بين نسيج العنكبوت والخفافيش والتوابيت.
يسعدني أن يكون الأمر كذلك، لأن السينما القوطية مثل آلة زمنٍ رائعة تعيدنا لساعاتٍ إلى نمطِ وجودِ وعيش من أبدعوا الرواية القوطية ومن قرأوها بشغف. وخارجَ السينما وأمام الحرفِ المطبوع لا يكون ممكنًا ذلك الرجوع إلى براءةٍ جزئية، أو لا يكون ممكنا إلّا بدرجةٍ لا تُذكر. بهذا المعنى أفكر في دراكولا، الرواية العظيمة لبرام ستوكر، الذي تجاسر في نهاية القرن الماضي على كتابة كتابٍ يبدو غير مسموحٍ به بالنسبة لحقبته. يكفي البدء في القراءة لننتبه إلى الاختلاف الجوهري بين منظور ستوكر وبين منظور أمثال والبول أو ماتوران. واضعا في الاعتبار استحالة إطالةِ أمدِ (ارتكاب) القوطي الأصلي في حقبةٍ نقديةٍ فائقة، يستفيد ستوكر من طريقةٍ يمكن أن تكون مثيرةً للشفقة إذا لم تكن في نفس الوقت ذكيةً وفعّالة، وتتمثل في مجردِ إظهار شخوص الكتاب باعتبارهم حمقى تماما غير قادرين على فهم الحقيقةِ الظاهرةِ أمام أنوفهم منذ الفصول الأولى، لكنه أيضا يفترض أن من البديهي أن يكتشف القارئ على الفور ما يجري لكنه بدوره سيتصرف "كجنتلمان" ويتظاهر بالحمق حتى النهاية حتى لا يُفسد الاحتفال. يعرف ستوكر أن البراءة لم تعد توجد في الأدب، لكنه بالمقابل يحقق بقوة الموهبة تواطؤًا واحترامًا منحناه إياهما نحن معجبو الكونت دراكولا جميعًا دون تردد.
وفي موقعٍ مضادٍ ومثيرٍ للرثاء تماما تقع أعمال ه. ب. لوفكرافت، الذي طالما حيّرتني مكانته. فرغم كونه مؤلفَ حكايةٍ تثير الإعجاب، هي اللون الذي سقط من السماء، فإن مجموع أعماله يُعاني من رؤيةٍ عفا عليها الزمن على نحوٍ غير مقبول. مقتنعًا بصلاحية مؤثّراته الأدبية، نجد أن لوفكرافت هو نقيض برام ستوكر بقدر ما يستغني عن كل تواطؤ مع القارئ، ويسعى بدلًا من ذلك إلى تنويمه مغناطيسيًا بوسائل كان يمكنها أن تكون كفؤة في زمن مسز رادكليف لكنها تبدو الآن مثيرة للسخرية، على الأقل في الريو دى لا ﭘـلاتا. وتقنية لوفكرافت بدائية: فقبل إطلاق عنان الأحداث الفائقة للطبيعة أو الفانتازية، يشرع في رفع الستار ببطء عن سلسلةٍ مُكرَّرةٍ ورتيبة من المشاهد المشئومة، ضبابٍ خانق في مستنقعاتٍ سيئة السمعة، أساطيرٍ كهفية ومخلوقاتٍ ذات أقدامٍ عديدة قادمة من عالمٍ شيطاني. حسنًا، لو كانت أعمال لوفكرافت سينمائيةً لتلقَّيتُها بفزعٍ ملحوظ، لكن لأنها أعمالٌ مكتوبة، فإن التكرار الرتيب لقاموسها الطفولي ومناظرها المبتذلة يكفي لإيقاظ سأمي الأشد ضراوة.
لا شك في هذا المجال أن الحسَّ النقدي تجاه السينما أقل تَطلُّبًا بكثير مما في المادة الأدبية. أفكر في الاختلاف الذي أقامه فرويد ذات حينٍ في دراسته الشهيرة حول ما هو Unheimlich (تقريبًا: المثير للقلق، ما يخرج عن اليومي الذي يقبله العقل) والذي وضعه موريس ريتشاردسون موضع المقارنة في دراسته حول القصص الفانتازية المثيرة للإعجاب لـ و. ف. هارﭬـي. ففيها، لفت فرويد الانتباه إلى أنه في حواديت الجنيات يتم تلقائيًا إزاحة الواقع جانبًا للدخول في نسقٍ وثني من المعتقدات تجاوزته الحضارةُ بالفعل ويُحيل إلى مستوى ترفيهي أو طفولي فحسب. لكن الموقف يختلف إذا حاول الكاتبُ التحرك في عالم الواقع المشترك، فهناك تُثير التبدّياتُ الغريبة أو الخارجة عن المألوف، المقبولةُ تمامًا في حدوتة الجنيات، بصورة حتمية الشعور بما هو unheimlich، الذي يسميه الإنجليز uncanny وليس له معادل دقيق في الإسبانية أو الفرنسية. ووفق فرويد، يمكن للكاتب أيضا أن يكثِّف من تأثير تلك التبديات بقدر ما يُمَوضِعها في واقعٍ يومي، بافتراض أنه يستفيدُ من معتقداتٍ وغيبيات كنا نعتقد أنها قد تم تجاوزها لكنها تعود، مثل الأشباح الأصيلة، في رائعة النهار. ويضيف ريتشاردسون من جانبه، أن ذلك يفسر ازدهار الأدب القوطي في القرن الثامن عشر وازدهار حكايات الأشباح في التاسع عشر، إذ لا يمكن أن تبلغ أقصى فعاليتها إلّا في حِقبٍ يُفترض أنها عقلانية ويبدو فيها أن الغيبيات قد تم تجاوزها تمامًا.
يدفعنا هذا الاستطراد إلى التساؤل، بصدد ما هو قوطي، إذا ما كنّا عند دخول السينما نتركُ خارجها الجهاز الثقافي الذي فرضته الكتابةُ بقسوةٍ منذ أول مقعدٍ دراسي، ونعودُ إلى مرحلةٍ سمعيةٍ ـ بصرية أساسًا مناظرةٍ لمرحلة الأطفال أمام حواديت الجنيات؛ وفيما بعد، عند العودة إلى الكتابة، يستيقظ الحسُّ النقدي بكل تطلّبه، وفي حالتي يدفعني لرفض شخصية مسرح العرائس العظيمة لدي أمثال لوفكرافت التي أكون قد قبلتها قبل ساعات قليلة في أي فيلم رعبٍ جيد.
وحتى نختتم هذه الملاحظات من حيث بدأت: أعتقد أننا كتّاب وقراء الريو دى لا ﭘـلاتا قد فتشنا عما هو قوطي في أشد مستوياته تَطَلُّبًا في الخيال وفي الكتابة. فبجانب إدجار آلان بو، شكّل مؤلفون أمثال بكفورد، وستيـﭬنسون، وﭬيليير دو ليل آدام، وﭘروسـﭘير ميريميه مؤلف La venus de Ille وLokis، و"ساكي"، ولورد دونساني، وجوستاف مييرينك، وأمبروز بيرس، ودينو بوتزاتي وكثيرون غيرهم، بعض التمثُّلات العديدة التي وَجد على أساسها ما هو فانتازيٌ خاصٌ بنا أرضًا لا علاقة لها بأدبٍ على مستوى أكثر أوليةً بكثير يواصل إخضاع مؤلفي وقرّاء أقاليمٍ أخرى لنيره. اتخذ لقاؤنا بالغموض وجهةً أخرى، وأظن أننا تلقينا التأثير القوطي دون أن نقع في سذاجة محاكاته خارجيًا؛ وفي التحليل الأخير، فهذا هو أفضل تكريمٍ من جانبنا لكل هؤلاء الأساتذة القدامى والمحبوبين.إنها الكتابة، إذن. ورغم ذلك، كيف نوفّق هذا مع تحفظات النقاد الأنجلوسكسونيين بشأن إدجار آلان ﭘو، التي تقوم بالضبط على أساس كتابةٍ يجدونها مُدَّعية، ومتباهية، وكثيرًا ما تكون "سخيفة"، بمعنى أنها مبتذلة؟ نحن القراء الفرنسيون والأرجنتينيون نعرف ﭘو مترجَمًا، وفي الحالة الأولى لم يكن المترجم أقل من بودلير؛ وفي تناقض ظاهرى، يمكن أن يكون ذلك قد أثّر في أن يصل إلينا الفظيع والاستثنائي لأفضل حكاياته دون أن يعاني الذكاءُ النقدي والجمالي في المقام الأول من ثِقل شكلٍ معيب، كان يمكن، في أسوأ الحالات، أن يُعزى إلى الترجمة. ورغم ذلك، بالمقارنة بما هو أولى بداهةً في بلاغة أمثال لوفكرافت ومقلّديه الأوروبيين المتواترين بإفراط، تصبح عيوب ﭘو تافهة وتنتمي لعصره أكثر مما تنتمي إليه ذاته. إذا بدت لي بعض التكلّفات بديهية عند إعادة قراءة حكاياته، فإن تأثيرها هو حدٌّ أدنى في مواجهة القوة السردية العبقرية التي تجعل من بيرينيس، ومن القط الأسود وحكاياتٍ كثيرة غيرهما خلاصةً حاسمةً للروح القوطي في حقبةٍ كانت تدخُل بالفعل أبعادًا أدبيةً جديدة.
هامش المترجم: الأسلوب القوطي: في الأدب أسلوب يتميز بمسرح موحش للأحداث وأفعال عنيفة أو غريبة في بشاعتها وجو من الاضمحلال والانحطاط والتفسخ. ينتمي إليه ما يعرف بالرواية القوطية، وهي جنس قصصي ظهر أواخر القرن 18 وأوائل 19. (معجم المصطلحات الأدبية، إبراهيم فتحي)
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه
الترجمة خاصة بـ Boring Books