كيف لنا أن نغفل شخصيات ديفو؟ أدرك الروائي الرائد أهمية إلصاق صور مادية لا تُنسى بسرده وشخصياته. فرايداي وآثار أقدامه المميزة في الرمال هما إحدى أهم اللحظات في تاريخ الرواية الإنجليزية
روبنسون كروزو لدانييل ديفو (1719)
مقال روبرت مكروم
نُشر في الجارديان سبتمبر 2013
ترجمة: آية نبيه
بدأت رحلة الأدب الإنجليزي برواية «رحلة الحاج»، لكن مر 50 عامًا تقريبًا من الاضطرابات، بينها الثورة المجيدة[1]، قبل أن يحقق هذا الأدب قفزته الكبيرة إلى الأمام. مؤلف العمل الأدبي البارز الذي حقق تلك القفزة هو أديب محتال في الستين من عمره تقريبًا، ذو شخصية جذابة على نحو غريب، اسمه الأصلي دانييل فو (قبل أن يضيف «دي» لتحسين مكانته الاجتماعية)، وقد عمل صحفيًا، ومؤلف كتيبات، وجاسوسًا، واشتغل في كل شيء تقريبًا. ومثل جون بونيان، كان ممن عانوا على يد الدولة (بالتشهير ثم الحبس عام 1703)، لكن على عكس بونيان، لم يكن متدينًا.
روايته التي نالت شهرة عالمية هي عمل أدبي عَذب ومُلغز، يزعم أنه تاريخ كتبه كروزو بنفسه وحرره دانييل ديفو الذي يكتب في المقدمة مازحًا أنه «يعتقد أن محتوى هذا الكتاب هو تاريخ حقيقي محض، لا مكان فيه للخيال».
فما الذي نجده في هذا «التاريخ»؟ ثمة ثلاثة عناصر تجعل من روبنسون كروزو رواية لا تقاوم. أولًا، صوت الراوي، بطل الرواية المنعزل، هو تجسيد لعبقرية ديفو. جاء السرد في أسلوب مثير، متأنٍ، حواري، يجمع بين المشاعر الجياشة والهادئة، ويشبه الكتابة الصحفية في كثير من الأحيان، وهو ما يلائم أسلوب ديفو. هذا المزيج المتناغم من الأصوات هو مدخل القارئ للتوغل في أعماق عقل التائه ومأزقه. تصير مغامراته مغامراتنا، نخوضها معه قلبًا وقالبًا، تلقائيًا، بكل جوارحنا. وغالبًا ما يفتتن القراء خاصة بيوميات كروزو الرائعة، الفصل المحوري في عزلته القسرية.
أما إلهام ديفو الثاني العظيم، فيكمن في خلقه حكاية، يتردد أنها مستوحاة من قصة تائه حقيقي هو ألكسندر سيلكيرك، تتبع نمطًا إنجيليًا تقريبًا مثل رواية بونيان، فهي تبدأ بالخطيئة (تمرد الشباب)، ثم الجزاء (تحطم السفن المتوالي)، وبعده التوبة (دروس العزلة المؤلمة)، وأخيرًا الخلاص (عودة كروزو إلى وطنه). وفي عالم السرد القصصي، هذا ما نطلق عليه ذهبًا خالصًا.
وثالثًا، كيف لنا أن نغفل شخصيات ديفو؟ أدرك الروائي الرائد أهمية إلصاق صور مادية لا تُنسى بسرده وشخصياته. فرايداي وآثار أقدامه المميزة في الرمال هما إحدى أهم اللحظات في تاريخ الرواية الإنجليزية، وفقًا لروبرت لويس ستيفنسون. كروزو مع ببغائه ومع مظلته: أصبحت تلك المشاهد جزءًا من الخيال الإنجليزي. لقد اختار ديفو، مثل ثربانتس، أن يجعل لبطله صاحبًا؛ فرايداي بالنسبة إلى كروزو هو سانشو بانزا بالنسبة إلى كيخوته. وسوف يتوالى ظهور ثنائيات الأدب الإنجليزي في هذه القائمة: جيكل وهايد، هولمز وواتسون، جيفز ووستر.
وهنا نصل إلى آخر ما يميز ديفو ككاتب. لقد كان محترفًا بمعنى الكلمة، كاتبًا حتى النخاع، أنتج خلال حياته كتيبات صغيرة ومقالات هجاء وقصائد سردية وغير ذلك من المحتوى العابر بأسماء مختلفة (يُقال إنه استخدم 200 اسم مستعار تقريبًا). كان ديفو رجلًا يحب أن يحصل على مقابل لما يكتبه، وعاش حياة طيبة وكان مديونًا طوال الوقت تقريبًا. لم يكن «أديبًا روائيًا»، ولم يكن ليفهم هذا الوصف، لكن روايته الكلاسيكية روبنسون كروزو تمثل الأدب الإنجليزي في أبهى حالاته، وقد استطاع عبرها أن يحقق نجاحًا منقطع النظير.
بنهاية القرن التاسع عشر، لم يخرج أي كتاب في تاريخ الأدب الإنجليزي في عدد طبعات وأعمال مقتبسة وترجمات أكثر من روبنسون كروزو، وتجاوزت النسخ البديلة من القصة 700 نسخة، منها قصص مصورة للأطفال. صِيغ المصطلح المندثر «الروبنسونادة» لوصف الأعمال المصنفة ضمن نوع رواية كروزو، الذي لا يزال في ازدهار، وقد أعادته هوليوود إلى الساحة مؤخرًا بفيلم توم هانكس كاست أواي (2000).
ملحوظة على النص:
نُشر النص لأول مرة في لندن بواسطة و. تايلور في 25 أبريل عام 1719. نُسبت الطبعة الأولى إلى البطل الخيالي روبنسون كروزو، وكان عنوانها «حياة روبنسون كروزو اليوركي البحَّار ومغامراته الغريبة المدهشة: كتبها بنفسه». باع هذا الإصدار عددًا كبيرًا من النسخ، وبعد أربعة أشهر، تبعه إصدار بعنوان «مغامرات جديدة لروبنسون كروزو». وبعد عام، وكان قد حقق نجاحًا باهرًا، جاء إصدار بعنوان «تأملات جادة خلال حياة روبنسون كروزو ومغامراته المدهشة». وسيصادف معظم القراء الإصدار الأول فقط.
[1] الثورة المجيدة: جرت عام 1688، وفيها عُزل الملك الكاثوليكي جيمس الثاني عن حُكم إنجلترا، وتولت الحكم ابنته ماري الثانية وزوجها وليام الثالث، في أعقاب غزو هولندي واضطرابات داخلية.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها