لأن الكاتب في كل الأحوال هياخد موقف، فالأفضل يكون ملتزم بموقف نضيف، موقف ضد الظلم أو ضد الطبقات الطاغية والمسيطرة، مش موقف فيه خيانة أو تخاذل، أو يتخلى بيه عن استقلاله
الالتزام
مقال لأمير زكي وحسين الحاج
من كام أسبوع الممثلة المصرية إلهام شاهين اتكلمت عن إنها هتمثل في مسرحية من تأليف جان بول سارتر اسمها «المومس الفاضلة»، لكن اسم المسرحية الصادم بالنسبة للبعض عمل مشكلة كبيرة، لدرجة إن بعض الناس سعت لوقف المسرحية، وعضو برلماني قال عليها «فن إباحي».
إلهام شاهين وغيرها من الفنانين، منها المخضرمة في المسرح القومي سميحة أيوب، وغيرهم من المدافعين عن المسرحية، اتكلموا عن موضوع المسرحية اللي بيواجه العنصرية وعن قضيتها المهمة، وهما بالتأكيد كان عندهم حق، لأن من الحاجات المحزنة في الموضوع هو ربط فيلسوف كبير في القرن العشرين، زي جان بول سارتر، بالكتابة أو الفن الإباحي اللي ممكن ما يبقاش بيحمل دايمًا قضية كبيرة، في حين إن هو نفسه أكتر حد كان بيدافع عن التزام الكاتب بموقفه العادل ضد الظلم والسلطة، وعشان كده صاغ نظرية الالتزام في الأدب.
الحكاية بدأت سنة 1945، مع صدور أول عدد من مجلة سارتر الشهيرة «الأزمنة الحديثة»، في العدد ده سارتر كتب مقال بدأت تظهر فيه معالم نظرية أدبية بيتبناها.
في المقال ده قال إن الكتاب لازم يكونوا أفراد «ملتزمين» وبيعبروا عن «الالتزام» ده من خلال كتابتهم، التزام الكاتب بقضايا عصره بيتطلب بالتالي نوع من المسؤولية، والمسؤولية بتدفعه إنه يسعى للتغيير. بدأ سارتر ينتقد الكتاب «البرجوازيين»، رغم إنهم أسماء تقيلة، زي بالزاك وفلوبير، لأنهم ما كانوش منغمسين في التغيرات الاجتماعية اللي بتحصل، وكانوا بيحاولوا يفصلوا نفسهم عن عصرهم. سارتر اتهم كتاب القرن الـ 19 دول بأنهم أذوا دور الأدب في المجتمع.
لكن واحنا بنقرا الجدل ده لازم ما نفصلش سارتر عن سياق عصره، سارتر والمجتمع الفرنسي في الوقت ده كانوا طالعين من الحرب العالمية التانية، واحتلال ألماني لفرنسا، وخطر فاشي بيهدد العالم كله، ورغم انتهاءه في صورة ألمانيا النازية، كان لسه قائم بأشكال تانية، خاصة في صورة القطبين المنتصرين: أمريكا والاتحاد السوفيتي، وزي ما كان في الفترة دي فيه مقاومة وأدب مقاومة، كان فيه برضو خيانة وتخاذل وبيع للقلم لصالح المحتل والفاشية، وفي وسط ده مفيش مفر إن يبقى ليك موقف.
ولكن لأن سارتر ابن عصره برضو، فالعصر ده كان فيه صعود للشيوعية، مع انتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب، وفي الوقت ده كان الأدب الواقعي الاشتراكي هو الذوق الأقرب للتيارات الشيوعية.
والحقيقة إن كلام سارتر في مقال «الأزمنة الحديثة» ما عداش بالساهل، ولقى ناس تقول له: «والله لو ده الأدب الملتزم اللي بتتكلم عنه، فروح بقى انضم للحزب الشيوعي» .
دي جملة ضايقت سارتر، اللي كان معتز بأنه مفكر مستقل، ولقى نفسه محتاج يوضح أفكاره بشكل أحسن، وإنه مش قصده نوع معين من الأدب أو أو أدب بيعتنق أيدولوجيا بعينها ولا حاجة، عشان كده كتب مجموعة مقالات بتعمل كتاب اسمه «ما الأدب؟»، حاول فيهم يكون واضح ومباشر لدرجة إن العناوين بتتسم باستقامة كاملة: «ما الكتابة؟»، «لماذ نكتب؟»، «لمن نكتب؟»
في المقالات دي سارتر بيفرق مبدئيًا بين النثر والشعر؛ الشعر أشبه بالفنون التانية زي الرسم والنحت، بيخرج من فكرة ضرورة الالتزام. في حين إن النثر ضروري يكون ملتزم، لأن النثر دايمًا بيحمل جواه معنى، وحوار بين الكاتب والقارئ، النثر لازم يكون موجه لناس تانية، لقراء، بيعملوا مجهود عشان يفهموا المعنى، وإلا احنا بننشر اللي بنكتبه ليه؟
الحقيقة إن دور الكاتب في نظر سارتر هو الكشف، كشف العالم للقارئ، كشف الحرية للقارئ، وبالتالي القراء هيقدروا يستوعبوا موقفهم من العالم، حريتهم ومسئوليتهم، وبالتالي مفيش حد هيقدر يدَّعي إنه بريء بسبب الجهل.
إحنا لو جبنا نظرية سارتر عن الالتزام على العضم هنلاقي إن مفيش مفر من وجود موقف للكاتب، حتى لو الكاتب تجاهل إنه ياخد موقف، فده في حد ذاته موقف، وحتى لو خد موقف إنه بيكتب عشان تقدير الجمال، أو حتى يقول أنا تافه وبسلي الناس، فده برضو موقف.
ولكن لأن سارتر زي ما كانت نقطة انطلاقه عصر ما بعد الحرب العالمية التانية، فنظريته الأدبية برضو نابعة من مذهبه الفلسفي الوجودي، سارتر كان مؤمن بالحرية الكامنة عند الإنسان، ولأن الكاتب كمان حر وبيكتب بشكل مستقل، فهو محتاج قارئ حر، ومحتاج يعزز الحرية والاستقلال عند قارئه، ولأن الكاتب في كل الأحوال هياخد موقف، فالأفضل يكون ملتزم بموقف نضيف، موقف ضد الظلم أو ضد الطبقات الطاغية والمسيطرة، مش موقف فيه خيانة أو تخاذل، أو يتخلى بيه عن استقلاله.
من غير التزام
هتفضل فيه فراغات ومساحات كبيرة بتستدعي النقد في نظرية سارتر، منها إنها معتمدة بشكل كبير على فلسفته الوجودية، وكمان رغم إنه نفى إنه بيقدم نظرية اشتراكية، فمش صعب أبدًا يتم هضمها في الفكر الاشتراكي أو الشيوعي، كمان تفرقته بين الشعر والنثر متعسفة زيادة عن اللزوم، لأنه مين قال إن الشعر مش ممكن يبقى ثوري وبيحمل معنى وبيسعى لتحرير القارئ؟ لدرجة إن بعض النقاد شافوا إن التفرقة دي راجعة لذوق سارتر الشخصي، اللي بيفضل النثر على الشعر، واللي كتب في كل الأشكال النثرية، في حين إنه ما كانش بيكتب شعر.
في سنة 1962، كتب الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو مقال بعنوان «الالتزام»، ناقش فيه العلاقة بين الفن والسياسة. أدورنو بيسأل عن نوع الفن اللي ممكن يحقق تغيير سياسي أو اجتماعي، وأغلب المقالة انتقاد لسارتر وفكرته عن الفن المتلزم.
أدورنو ما كانش قابل فكرة الفن المتلزم، ﻷن في رأيه الفن الملتزم بيتحول لوعظ، ومش المفروض الفن يبقى وعظ، الفن مفروض يكون مستقل بذاته.
بالنسبة ﻷدورنو، مش بس الفن المستقل مافيهوش رسالة سياسية واضحة، لكن كمان مفروض الفنان يقاوم الرغبة في التعليق على اﻷحداث السياسية اللي بتحصل حواليه. فكرة الفن المستقل بذاته بترجع للفيلسوف اﻷلماني إيمانويل كانط اللي قال إن غاية الفن إنه يكون مكتفي بذاته، وبالتالي أدورنو شايف إن العمل الفني المستقل هو المستقل عن أي مؤسسة داخل المجتمع، ومن هنا الفن مش لازم يخدم غاية اقتصادية أو سياسية أو دينية، لكن على العكس استقلال الفن بيشكل نوع من المقاومة ضد المجتمع نفسه. الفن المستقل بيأكد على انتماءه للمجتمع اللي هو فيه لكنه بينتقده في نفس الوقت.
أدورنو اختار أعمال الكاتب المسرحي صمويل بيكيت كنموذج على الفن غير الملتزم بقضية، لكنه شايف إن أعمال بيكيت حققت معايير فنية أكتر من أي فنان ملتزم تاني ﻷن بيكيت وظف أشكال أدبية مختلفة بتخلي المتلقي يحس بالتطهر الجمالي، لكنه بيوصل له المشاعر دي من غير ما يلزم نفسه بقضية سياسية أو اجتماعية معلنة، لكنه بينتقد المجتمع بشكل عام فبيسمح للناس إنهم يفكروا بنفسهم ويتأملوا حياتهم بشكل جمالي.
إحنا لو مدينا خط التفكير ده لمستوى مختلف، ممكن نفكر إن فيلم زي «اللمبي» مثلًا، اللي مش بيزعم إنه ملتزم بقضية، فيه كتير من الأفكار العميقة ضمنيًا، وصعب دلوقتي، بعد عشرين سنة، نعتبره فيلم تافه، في حين إن محمد سعد لما بدأ بعد كده يحزق مع صناع أفلامه عشان يضيف رسالة، عشان يرضي النقاد، بدأت أفلامه مستواها يقل وما تحملش نفس التأثير.
الأفكار ليها أجنحة
فيه كليشيه من بتوع يوسف شاهين مبتذل جدًا، إن الأفكار ليها أجنحة، ورغم إنه كليشيه لكنه صحيح، الأفكار بتقدر تسافر، لكن صعب جدًا تسافر زي ما هي، إنما ممكن تتحسن أو تنمسخ أو تتغير، أو تفتح قضايا تانية أصلًا غير القضية الأصلية.
فكرة الالتزام سافرت، ووصلت العالم العربي، خصوصًا لأن سارتر والوجودية كانوا الترند الفكري اليومين دول، ومع إصدار الأديب اللبناني سهيل إدريس مجلة «الآداب» بدأ يبقى فيه حركة أدبية عربية بتتبنى مفهوم الالتزام السارتري.
عدد كبير مننا شاف اللقاء الشهير اللي أدارته في الستينيات المذيعة ليلى رستم مع طه حسين وعدد كبير من الأدباء والمفكرين المصريين، ولما جه دور نجيب محفوظ في الكلام قال إنه عنده سؤال عن الالتزام، فقاطعه طه حسين بنفاد صبر وقال له: «اتكلمنا في القصة دي»، قبل ما يهدا ويقول له بتروي: «أنت ملتزم يا أستاذ محفوظ».
الحقيقة العصبية ما كانتش موجهة لمحفوظ، يمكن عشان كده طه حسين رجع يتكلم بهدوء، لأن مسألة الالتزام كانت حوار وجدل مفتوح في الجرايد بقاله سنين، بين طه حسين من جهة وجيل من الكتاب الجدد من جهة تانية وأبرزهم كان محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس.
نظرة طه حسين كانت أقرب لمفهوم الفن للفن، في حين إن نظرة الجيل الجديد كانت ملتزمة، لكن التزام بالأدب الاشتراكي الثوري، أكتر منه التزام بالمعنى السارتري الصرف. وهنا الصراع خد شكل صراع بين فكرين وجيلين في الوقت نفسه، جيل بيتسحب البساط من تحت رجليه، وجيل بيحاول يسيطر على المشهد الأدبي. لكن لما تشوف بداية اللقاء يبدو إن طه حسين كان بيحاول يكون أهدا في تعريفه للالتزام:
«الأديب ليس رجلًا يكتب أو يتكلم لا لشيء إلا ليصفق له الناس، إنما الأديب هو الذي يكتب ليفهمه الناس، وبقدر ما يستطيع يحاول الإصلاح، ما وجد إلى الإصلاح سبيلًا... وليس معنى الالتزام إلغاء الحرية، ولكن معنى الالتزام أن يكون الكاتب حرًا» .
يتدخل عبد الرحمن بدوي، الوجودي الشهير، ويقول: «إذن هو الالتزام بالحرية وبالفكر السليم».
طه حسين: «قطعًا» .
وفي رأينا، وبعيد عن صراع الأجيال اللي ممكن يكون طه حسين نفسه اتورط فيه، إن حسين كان فهمه هنا لفكرة الالتزام قريب جدًا من فهم سارتر.
يبدو إن الكلام عن الالتزام في الأدب والفنون انحسر مع موت سارتر، ومع حلول عصر سيطرت فيه الرأسمالية بشكل أكبر، وحولت فيه كل شيء، حتى القضايا الملتزمة نفسها، لسلع استهلاكية. لكن موضوع الالتزام في الأدب والفن صعب يموت، بيتفتح في كل مرة بنسأل فيه هل العمل الفني ده ليه رسالة ولا لأ؟ ويعني إيه رسالة؟ وهل الرسالة حاجة وحشة؟ وإحنا بنكتب أو بنقدم فن أو ثقافة ليه ولمين؟ وإحنا بندافع عن مين وبنهاجم مين؟ لأننا أكيد بندافع ونهاجم حتى وإحنا ساكتين خالص.
مصادر:
سارتر - ما الأدب - ت: محمد غنيمي هلال
Christine Daigle, Jean-Paul Sartre
Gray Cox, The Sartre Dictionary
Yoav Di-Capua, No Exit: Arab Existentialism, Jean-Paul Sartre, and Decolonization
Theodor Adorno, Commitment
فيلم اللمبي
المقال خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتبان بحقهما في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقالهما دون إذن منهما