سيادة العين
مقال لشهاب الخشاب
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه
شفتوا الإنجازات؟ الطرق والكباري والمساكن والجوامع والأكشاك والبنزينات؟ والمليارات والعمارات والإمارات؟ شفتوا الإنجازات اللي تسد عين الشمس، اللي تسد كل الشاشات؟ كل ده وانتم مش شايفينها؟ مع التقدمات العظيمة اللي بنتقدمها، والاستثمارات العظيمة اللي بنستثمرها، ومش عايزين تفتحوا عيونكم على اللي بيحصل؟ ما عندكمش أي خيال عن البلد واللي بيحصل فيها؟ خسارة.. المنظر يِفرِح.
بعيدًا عن اللي الناس شايفاه أو مش شايفاه، إشمعنى بنتصوَّر إن الإنجازات لازم تتشاف؟ إيه العلاقة بين حاسة البصر والحُكم؟ العلاقة واضحة في مفهوم «سيادة العين» (ocularcentrism). الفكرة البسيطة إن كل مجتمع بيصنع تراتبية ضمنية بين الحواس. في حالة المجتمعات الأوروبية أو المستعمرات السابقة، البصر بيحتل أعلى مركز في التراتبية دي. لذلك في التراث الفلسفي الأوروبي العقلاني، من أول أفلاطون لغاية ديكارت وكانط، البصر له أهمية خاصة للتفكير والإبداع دونًا عن السمع والشم واللمس والتذوق. بينما الحواس دي لها دورها الخاص، البصر هي الحاسة المالكة اللي بتوجه كل الحواس التانية، بما في ذلك في تصور مؤسسات الدولة.
في المقابل، العلماء اللي بيدرسوا علم اجتماع الحواس (anthropology of the senses) قدموا نماذج مخالفة لمجتمعات ما بتعززش البصر والعين والصورة زي الحواس التانية. في كتابه الكلاسيكي «الصوت والشعور» مثلًا (Sound and Sentiment)، عالم الإنسان ستيڤن فيلد (Steven Feld) شرح إزاي شعب الكالولي في غابات بابوا غينيا الجديدة بيتعامل مع البيئة اللي بيعيش فيها عن طريق أصوات الغابة والموسيقى اللي بينتجها. الأدغال اللي الكالولي عايشين فيها ما بتخلِّيش الواحد يشوف عن بعد، وبالتالي الشعب ده اخترع وسائل مختلفة للتفكير في البيئة والتعامل معها بشكل صوتي. الكتاب بيقدم نقد ضمني لسيادة العين على الحواس الثانية، لأن السيادة دي مش موجودة عند كل شعوب العالم، ولا تقدر تفهِّمنا إزاي الشعوب دي بتتفاعل مع العالم.
علاقة الحواس بالبيئة بتمثل جزء كبير من شغل عالم الإنسان تيم إنجولد (Tim Ingold)، اللي اهتم هو كمان بنقد فكرة إن البصر هي الحاسة المالكة. فمثلًا في كتابه «إدراك البيئة» (The Perception of the Environment)، إنجولد بيرجع لأصول مفهوم سيادة العين في التراث الفكري الأوروبي، وبيورِّي إن المفهوم مالوش علاقة بالوسائل العملية اللي البشر بيستخدموها عشان يتفاعلوا مع محيطهم البيئي. كذلك علماء الإنسان كونستانس كلاسين (Constance Classen) وديڤيد هاوز (David Howes) اقترحوا إن كل شعب عنده تصور مختلف عن ترتيب الحواس وأهميتها، بعيدًا عن استخدامها الفعلي في الحياة اليومية. إذا البشر بيتمتعوا عمومًا بنفس الحواس البيولوجية، طريقتهم في استخدامها والتفكير فيها بتختلف حسب ظروفهم.
الخلاصة إن سيادة العين مش متحققة عند كل شعوب العالم، لأن تربية وتهذيب حواس البشر وتصوراتهم الضمنية عن الحواس وتعاملاتهم العملية مع البيئة المحيطة بتختلف حسب الزمن والمكان. في السياق ده، نقدر نفهم أفكار العالم السياسي تيموثي ميتشل (Timothy Mitchell) عن العلاقة بين الثقافة السمعية والثقافة البصرية والحكم في مصر. في كتابه «استعمار مصر»، ميتشل لاحظ إن الأوروبيين اللي زاروا مصر في القرن الـ19 كان عندهم تصورات مسبقة عن البلد، وكانوا كمان عايزين يغيَّروا شكل البلد عشان يخلَّوها تتطابق مع تصوراتهم. التصورات دي كانت بصرية بشكل أساسي، والغرض منها كان إن الخواجة المستعمر يحسس نفسه وولاد البلد بالفرق بين النظام «الغربي» المتهندم والفوضى «الشرقية» الأصيلة (بعيدًا عن شكل مصر في الواقع).
ميتشل بيورِّي إن التصور البصري ده اترسخ في بعض المؤسسات الحديثة في مصر زي الجيش والمدارس، ولكنه كان بيواجه صعوبات للانتشار بسبب الثقافة السمعية السائدة في مصر. المثل الرئيسي اللي استخدمه هو التعليم الأزهري التقليدي، اللي كان قائم بشكل أساسي على الحفظ والترديد، وبالتالي بينمِّي حاسة السمع أكثر من حاسة البصر. أطروحة ميتشل تخص تحديدًا الفرق بين التعليم الأزهري التقليدي (السمعي) والتعليم الأوروبي الحديث (البصري)، ولكن نقدر نقول إنه بالغ في التفرقة بين النوعين من التعامل مع الحواس في مصر، وبالغ في ربط التفرقة دي بتطور تاريخي بين التقاليد السمعية والحداثة البصرية. بالتالي ميتشل عرَّض نفسه للنقد اللي واجه الأفكار الحداثية عن زوال الثقافات الشفاهية، زي في كتابات جاك جودي (Jack Goody) ووالتر أونج (Walter Ong)، لأن الشفاهية عمرها ما بتختفي مع ظهور الكتابة أو الثقافة البصرية، والاتنين موجودين بالتوازي حتى في المجتمعات اللي بترفع العين فوق الودن.
مع ذلك، ملاحظات ميتشل عن ارتباط البصر بالحكم الاستعماري بتفتح مجال تاني للتفكير عن سيادة العين. المجال ده كان مفتوح في كتابات الفيلسوف ميشيل فوكو نفسه، اللي أثر بشكل واضح في ميتشل. حتى لو البصر ما كانش الحاسة الطاغية عند كل الشعوب، نقدر نقول إن البصر هو الحاسة الطاغية في الدولة القومية الحديثة. في تعبير العالم السياسي جيمس سكوت (James C. Scott) الدولة بتحاول دايمًا «تشوف» أراضيها ومواطنيها، لأن الأراضي والمواطنين في حد ذاتهم غير قابلين للقراءة والفهم والحكم. في كتاب عنوانه «أن ترى كدولة» (Seeing like a State)، سكوت بيشرح إزاي مؤسسات الدولة عندها أدوات مختلفة عشان «تشوف» الناس، بما في ذلك شهادات الميلاد والبطاقات الشخصية والإحصاءات والخرائط، والأدوات دي بتساعد الدولة على السيطرة بالنظر قبل الحواس التانية.
إذن عشان ندرس الدولة، لازم نفهم إزاي الدولة نفسها بتشوف العالم، أو بشكل أدق، إزاي الدولة بتحوِّل العالم إلى مجموعة أوراق وأرقام وخرائط بتتشاف باعتبار إن العين هي السائدة، وسيادة العين فكرة أساسية عشان نفهم إزاي الدولة بتقدم نفسها لمواطنيها. العلاقة بين الدراسة الاجتماعية للحواس ودراسة الدولة لها وجاهة في الإطار ده، باعتبار إنها محورية عشان نفهم إشمعنى الدولة بتبذل مجهود شديد في إبراز إنجازاتها بشكل بصري وباستخدام وسائط بصرية زي التلفزيون والإعلانات. نقدر نقول إن الناس اللي جوه الدولة بيعتبروا إن العين هي السائدة، وبالتالي الإنجازات لازم تتشاف عشان الصغير يعرف يبان في عين الكبير، وعشان يتم الاعتراف بإنجازات الدولة في الشارع من أساسه.
أما الناس اللي مش شايفة الإنجازات، اللي بطلوا يبصوا للإعلانات ويتفرجوا على التلفزيونات – الناس دي عمرها ما هتفهم عظمة الحُكم.