كان هناك رجل يخافُ من ظله وحتى من آثار أقدامه، لذا كان يحاول أن يركض بعيدًا هربًا منهما، ولكن في كل مرة كان يخلف وراءه آثارًا أكثر فأكثر، ومهما ركض بسرعة لم يتركه ظله أبدًا. ولاعتقاده بأنه كان بطيئًا في الركض، صار يسرع أكثر بلا توقف، حتى انهار ومات من التعب. لم يكن عارفًا بأنه لو جلس في الظل لاختفى ظله.

صياد السمك المسن

چوانج زي

ترجمة: أڤيڤان بدل

جوانج زي فيلسوف صيني عاش حول القرن الرابع قبل الميلاد أثناء فترة الممالك المتحاربة وتعتبر تلك الفترة هي العصر الذهبي للفكر الصيني. اتبعَ الفيلسوف المنهج الطاوي الذي يعني بالعيش بوفاق مع الطبيعة بلا محاولات جاهدة لتغيير نواميس الطبيعة والحياة.

اشتهر الفيلسوف بأرجاء الصين بسرعة وذلك لذكائه الفذ وحس دعابته، علمَ جوانج زين أتباعه الترحال الحر، فحيث كان يذهب إنما تأخذه الحياة بحرية وسعادة حتى وإن تعكرت الرحلة، وكان يدينُ بهذه السعادة للطاو أو كما يسميها السعادة الحقيقية.

تدورُ هذه القصة حول لقاء كونفوشيوس الفيلسوف الصيني الذي آمن بأهمية القيم الاجتماعية والتمسك بالعادات والتقاليد بحكيم طاوي، حيث يعرفه الحكيم بالطاو وكيفية اتباعه. 


چوانج زي لفنان غير معروف

كان كونفوشيوس يتجول في غابة تسي-وي حينما جلس بجانب مذبح عند شجرة المشمش. بدأ أتباعه بقراءة كتابه بينما كان هو يعزف الفلوت ويغني.

لم يصل لنصف الاغنية حتى نزل صياد سمك مسن من قاربه وتقرب من كونفوشيوس. كان كل من لحيته وحاجبيه أبيضين، وكان شعره أشعث وأكمامه متدلية، عبر المنحدرات حتى وصل إلى اليابسة ثم توقف واضعًا يده اليسرى على ركبته ويده اليمنى على ذقنه، واستمع حتى انتهت الأغنية، ثم نادى على تسو كونج وتسو لو فذهبا نحوه.

أشار الصياد إلى كونفوشيوس متسائلًا: «من هذا؟»

أجاب تسو لو: «إنه نبيل من لو».

استفسر الصياد عن عائلة كونفوشيوس، فأجابه تسو لو: «عائلتهُ هي كونج».

تساءل الصياد: «ماذا يعمل رجل من كونج هنا؟»

احتار تسو لو بما يجيبه، وحينها نطق تسو كونج: «فأما هذا الرجل من عائلة كونج هو بفطرته وفي ومخلص، وأفعاله تنم عن الرأفة والنزاهة. فهو يمارس الطقوس ويعزف الموسيقى الجميلة ويوازن العلاقات الإنسانية، ويحترم من هو أعلى منه مكانة، ويجعل الذين أقل منه أفضل من قبل، يريد مباركة العالم أجمعه، هذا ما يفعله رجل عائلة كونج».

استفسرَ الصياد أكثر: «أله أي أرض يحكمها؟»

أجابَ تسو كونج: «لا».

سأل الصياد: «أهو مستشار الملك؟»

فنفى تسو كونج ذلك.

ضحك الغريب وهو يتراجع للوراء، قائلًا: «الإحسان هو الإحسان، ومع ذلك سيجلبُ الأذى لنفسه، فهو سيشقي قلبه ويُتعب جسده، معرضًا نفسه للخطر بابتعادهِ عن طبيعته الفطرية. يا للأسف، أعتقد أنه بعيد عن الطاو».

ذهب تسو كونج ليقص على كونفوشيوس ما حصل. 

وضع كونفوشيوس الفلوت جانبًا وقام قائلًا: «ربما يكونُ حكيمًا!»

نزل كونفوشيوس من المنحدرات باحثًا عن الغريب.

حينما وصل لحافة الماء كان الغريب يبتعد، وحينما رأى كونفوشيوس عاد لمقابلتهِ، فتراجع كونفوشيوس بعجلة منحنيًا مرتين ثم تقدم.

سأل الغريب: «أيها السيد، ما الذي تريده؟»

أجاب كونفوشيوس: «أيها المعلم، لقد قلت بعض الكلمات ولكنك لم تنته، ولأنني عديم القيمة فلم أفهم منها شيئًا، دعني أرافقك وأسمع كلامك على أمل أن تنورني».

قال الغريب: «يا لك من محب للعلم».

انحنى كونفوشيوس مرتين ثم وقف قائلًا: «منذ أن كنت صغيرًا استهوتني الدراسة، وها أنا الآن ابن تسعة وستين عامًا، ويبدو أنني لم أتعلم التعاليم المثالية، لذا ما الذي يمكنني فعله غير أن أبقي قلبي متفتحًا؟»

قال الغريب: ««الشبيه يبحث عن شبيهه، وكل نغمة قرار لها رنين جواب، فهذه هي الحدود التي وضعتها السماء. لن أتناقش فيما يزعجني ولكن سأركز على ما تحتاج معرفته. أنت أيها السيد، غارق فيما يخص غيرك. ابن السماء، والأمير النبيل، وأعظم الوزراء وعامة القوم: حينما يقوم كل من هؤلاء الأربعة بما هو صحيح، سيوجد جمال الوحدة. وإن قام أحد منهم بعكس ذلك فأن ذلك سيتسبب بفوضى عارمة. فإن عمل الوزراء واجبهم، وانشغل عامة الناس بأعمالهم، فإن هذا سيسبب الاضطراب.

«ما يقلق العامة هو تدمير الحقول، وتسريب الأسطح للمياه، وقلة المأكل والملبس، وفرض ضرائب غير عادلة، وجدال المحظيات والزوجات، والاضطراب بين الكبار والصغار.

«أما ما يقلق الوزراء فهو عدم إتمامهم عملهم، ومللهم من العمل، والسلوك السيئ، وإهمال وكسل الذين يعملون لديهم، والفشل في مساعيهم، وعدم ضمان وظيفتهم.

«أما ما يقلق الأمراء النبلاء فهو غياب الوزراء المخلصين، ونشوء حرب أهلية في المملكة، والعمال المفتقرون للمهارات، والجزية الخالية من القيمة، والحصاد السيئ في الربيع والخريف، وقلق الحاكم.

«أما ما يقلق ابن السماء وشعبه فهو عدم تناغم الين واليانج، وتقلبات المناخ، وممارسة الأمراء للاضطهاد والتمرد، فكل ذلك يؤدي إلى الانتفاضات، ونهب الشعب والإساءة إليه، وممارسة الطقوس بطريقة خاطئة، ونفاد الخزينة، واضطراب العلاقات الاجتماعية والفسق. 

«الآن يا سيدي، فأنت لست حاكمًا ولا نبيلًا ولا حتى وزيرًا في المحكمة، أنت لست حتى موظفًا حكوميًا في إحدى الوزارات العظيمة ولك أعمالك، ومع ذلك، فقد قررت أن تجلب الجمال للطقوس والموسيقى وتوازن علاقات الناس، وتصلح الناس العاديين، أفلست تبالغ في أعمالك؟

«بالإضافة لذلك، فللناس ثمانية عيوب وأربعة شرور تمس شؤونهم وعليك ألا تتجاهلها:

«التدخل في ما لا يعنيك، فهذا يجعلك متغطرسًا.

«جلب الانتباه لنفسك حينما لا يريدك أحد يجعلك متطفلًا.

«إغراق أحد ما بالمدائح يجعلك متملقًا.

«ألا تفرق بين القول الخير والشرير يجعلك مجاملًا.

«الثرثرة بشأن فشل الآخرين يجعلك قادحًا.

«أن تفرق الأصدقاء والعائلات يجعلك حاقدًا.

«أن تمدح أحدهم كذبًا قاصدًا أذى غيرك يجعلك خبيثًا.

«ألا تهتم بالصح أو الخطأ فيكونُ لك وجهان لتعرف ما يعتقدُه الآخرون، يجعلك خائنًا.

«فهذه هي العيوب الثمانية التي تسبب الاضطراب للآخرين وتؤذي صاحب العيب. لن يصاحب الرجل النبيل أحد هؤلاء، ولن يُعين الحاكم المتنور أحدًا منهم ليصبح وزيرًا.

«أما بالنسبة للشرور الأربعة التي ذكرتها، فها هي:

«الطموح: حينما تلاحق مشاريع ضخمة، محاولًا تغيير التقاليد القديمة، ومتمنيًا بذلك أن تزيد شهرتك.

«الطمع: أن تحاول معرفة كل شيء، وتحصل على كل ما في طريقك، سارقًا أتعاب الآخرين مدعيًا أنها لك.

«المكابرة: أن ترى أخطاءك فلا تحاول تغييرها، بل تستمر بفعل ما هو خاطئ.

«التعصب: أن تبتسم لمن يتفق معك، ولكنك تكره وتتبرأ من الذي يخالفك.

«هذه هي الشرور الأربعة، فعليكَ أن تتخلى عن العيوب الثمانية وتبتعد عن الشرور الأربعة، حينها ستكون في مكانة تسمح لك بالتعلم».

تنهدَ كونفوشيوس حزينًا وانحنى مرتين ثم وقفَ وقال: «نفتني لو مرتين، هربتُ من وي، وقطعوا علي شجرة في سونج، وحاصروني بين تشين وتساي. لا فكرة لدي عما فعلته بحيث لا يفهمني أحد، لم كنت ضحية لهذه المشاكل الأربعة؟»

بدى الغريبُ بائسًا ثم تغيرت تعابيره وقال: «يا أيها السيد، من الصعب أن أجعلك تفهم! في يوم ما، كان هناك رجل يخافُ من ظله وحتى من آثار أقدامه، لذا كان يحاول أن يركض بعيدًا هربًا منهما، ولكن في كل مرة كان يخلف وراءه آثارًا أكثر فأكثر، ومهما ركض بسرعة لم يتركه ظله أبدًا. ولاعتقاده بأنه كان بطيئًا في الركض، صار يسرع أكثر بلا توقف، حتى انهار ومات من التعب. لم يكن عارفًا بأنه لو جلس في الظل لاختفى ظله ولم يعرف أنه بسكونه وجلوسه ستختفي آثار أقدامه، لقد كان أحمق.

«وأنت أيها السيد، تحاول أن تُفرق بين التقوى والإحسان، وأن تعرف حدود الاتفاق والخلاف، وأن تدرس الفرق بين الحركة والسكون، لتعطي رأيك في الأخذ والعطاء، ولتعرف ما توافق علي وما لا توافق عليه، ولتوحد حدود السعادة والغضب، ومع كل ذلك فبالكاد نجوت من الخراب. إن كنت جادًا في رغبتك بتهذيب نفسك، وحذرًا في حراسة الحقيقة، وإن كنت تترك الآخرين لحالهم، لكنت تجنبت كل هذه المشكلات. ولكن، ها أنت ذا غير قادر على تهذيب نفسك، غير أنك مازلت تحاول ان تجعل الآخرين أفضل، ألست مهووسًا بما هو خارجي وسطحي؟»

ابتأس كونفوشيوس وقال: «هل لي أن أسألك عن الصدق؟»

فأجابه الغريب: «الصدق الحقيقي هو النقاء في أعلى درجاته مثالية، فأن تكون غير نقي وبلا حسن نية، سيعني أنك لن تستطيع التأثير بالآخرين، لذا إن زيفت البكاء والعويل، فمهما استمررت في ذلك فلن تصبح حزينًا حقًا. إذا مثلت أنك غضبان حتى وان كان صوتك غاضبًا فلن تكون مرهوبًا، وإن أجبرت نفسك على التعاطف، فلا يهم كم تطول ابتسامتك لأنك لن تستطيع خلق التناغم. إن الحزن مؤلم وإن لم يكن له صوت، والغضب الحقيقي يخلقُ الرهبة وإن لم يكن ظاهرًا، والعطف الحقيقي ليس بحاجة لابتسامة ليخلق التناغم. وحينما يكون الشخص صادقًا فإن هذا يؤثر بالروح الخارجية، ولهذا فالصدق مهم جدًا. وبالنسبة للعلاقات البشرية فهو يعمل كالآتي:

«العطف والبر هما الصدق في خدمة الوالدين.

«الإخلاص والنزاهة هما الصدق في خدمة الحكام.

«المتعة هي الصدق في الاحتفالات.

«الحزن والأسى هما الصدق في ممارسة طقوس الحداد.

«فإن الإخلاص والنزاهة هما الأهم في الخدمة، والمتعة هي أهم ما في الاحتفال، والحزن أهم ما في الحداد، ورضا الوالدين هو الأهم في خدمة الوالدين.

«إن عظمة هذه الخدمة لا تعني تكرار أفعالك في كل مرة، فحينما ترضي والديك لن تقلق بشأن ما تفعله، وفي بهجة الاحتفال لن تهتم بشأن الأواني الفخارية، وفي الحداد عند وفاة أحدهم لن تزعجك دقة الطقوس، فإن هذه الطقوس قد نشأت بسبب حاجة الناس لها. إن الصدق يأتينا من السماء: فهذا ما هو عليه الحال ولن يتغير أبدًا. يجسد الحكيم نفسه كأنه مثل أعلى من السماء، يقدرالصدق ولكنه لا يخضع للتقاليد، ويفعل الأحمق عكس ذلك. فلا يتخذ مثالًا من السماء، ولهذا تغيرهُ الأشياء الدنيوية دومًا. ولا يعرف قيمة الصدق، وهو تحت إمرة الناس، وإذ يؤثر فيه الناس من حوله فلن يكون بسلام أبدًا. وللأسف، يا سيدي فأنت بدأت منذ وقت طويل بهذا الهراء، ولكنك لم تسمع عن الطاو إلا الآن».

انحنى كونفوشيوس مرتين ثم وقفَ وقال: «والآن وقد فزت بفرصة مقابلتك، أشعرُ وكأن السماوات قد باركتني. أيها المعلم، إن لم يحرجك هذا، ألا تدعني أنضم لخدامك وطلابك، ولعلك تخبرني أين منزلك، فأنا أرغب بأن أذهب هناك لأستمع إلى تعاليمك وأكمل دراستي للطاو».

أجاب الغريب: «سمعتُ مرة بأنك إن وجدت من تستطيع أن تمشي معه، فاكتشف معه أعمق أسرار الطاو، ولكن إن كنت غير قادر على المسير معه، وإن كان لا يعرف الطاو، فلا تربط نفسك به ثم لا لوم عليك. افعل ما عليك فعله أيها السيد! والآن سأفارقك، سأفارقك!» وابتعد الغريب بعصاه بين الحشائش.

عاد ين يوان مع العربة وأمسك تسو لو بحزام كونفوشيوس ليساعده على دخول العربة، ولكن كونفوشيوس لم ينظر نحوهما وانتظر حتى ابتعد صوت العصا فلم يعد يسمعه، ثم عاد وجلس في مقعده.

قال تسو لو بينما يجري بجانب العربة: «يا معلمي، أنا أخدمك منذ وقت طويل، ولكنني لم أرك تحترم أحدًا بهذا الإجلال من قبل. فحتى قادة العشرة آلاف عربة وقادة الألف عربة يعاملونك كمساوٍ لهم، ويشاركوك غرفهم، بينما أنت تتصرف دائمًا بنوع من الأدب الصارم. لكن الآن وقف هذا الصياد المسن أمامك بعصاه فانحنيت له مرتين كقضيب الرنين الموسيقي، ألم تبالغ قليلًا في هذا؟ نحن جميعنا نتساءل عن هذا، ما الذي فعله الصياد ليستحق كل هذا الاحترام؟»

تنهد كونفوشيوس وانحنى على عارضة العربة قائلًا: «أوف منك يا يو، من الصعب تغييرك! فقد درست الطقوس والنظام لمدة طويلة، إلا أنك مازلت لئيمًا وقلبك لم يتغير بعد. تعال إلى هنا لأشرح لك! إن قابلت من هو أكبر منك ولم تحترمه فهذا ليس من الأدب والأصول. وإن التقيت بشخص ذي قيمة وفشلت في احترامه فهذا بسبب قلة خيرك. إن لم يكن الصياد رجلًا مثاليًا لم يكن ليستطيع أن يجعل الآخرين يتواضعون أمامه. فإن لم يذل الآخرون أنفسهم أمامه، فهم يفتقرون للإحسان وبذلك يكونون غير صادقين، لذا فإنهم يؤذون انفسهم. للأسف، ليس هناك أسوأ من أن نفتقر للإحسان، ولكنك وحدك يا يو في خطر من هذه المصيبة!

«بالإضافة لذلك، فإن الطاو يشتمل على كل ما تحويه الحياة، فمن خسره يموت، ومن اتبعه عاش، وكل من يحاربه في ممارسته يعاني، وأما الجريان معه فهو النجاح بعينه. لذا فهذا ما يعنيه الطاو. الحكيم سيقدسه. ويبدو أن الصياد قد عرف الطاو، فكيف لي ألا أحترمه؟»


​​الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا ما تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.