رغم وصف أديب نوبل جونتِر جراس ليونسون بأنه أكثر أدباء ألمانيا الغربية أهمية وتجديدًا في النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أن أدب يونسون بـقي خامل الذكر على المستوييْن الأوروبي والعربي لأسباب متفرّقة.

أوڤِه يونسون (بورتريه)

مقال أحمد الزناتي


أوڤه يونسون عن موقع Deutsche Welle

في العشرين من يوليو من كل عام يحتفل الأدب الناطق بالألمانية بذكرى ميلاد الروائي والمترجم والمحرر الأدبي الألماني أوڤِه يونسون Uwe Johnson (يوليو 1934 – فبراير 1984). ولد أوڤِه يونسون في منطقة بوميرانيا وهي منطقة تاريخية تقع شمالي بولندا وألمانيا على الساحل الجنوبي لبحر البلطيق، لأب من أصول سويدية، وأمّ تنتمي لمنطقة بوميرانيا حيث مسقط رأسه. في أعقاب الحرب العالمية الثانية هربت الأسرة إلى منطقة أنكالم غرب بوميرانيا. توفي والده في أحد معسكرات الاعتقال السوفيتي فاستقرت العائلة في بلدة جوسترو. درس يونسون فقه اللغة الألمانية في جامعة روستوك، ثم انتقل إلى جامعة لايبزج في ألمانيا الشرقية، ونال درجة الماجيستير عن الروائي والنحّات التعبيري الألماني إرنست بارلاخ. 

بدأت مسيرة يونسون الإبداعية سنة 1953 حين بدأ بكتابة روايته الأولى «إنجريد بابندردير»، التي رفضتها العديد من دور النشر ولم ترَ النور في أثناء حياته. وفي سنة 1956 فرّت والدة يونسون إلى برلين الغربية، وبقي أوڤِه في جوسترو (التابعة لألمانيا الشرقية)، وهو ما دفع السلطات الألمانية الشرقية إلى حظر توظيفه في عمل ثابت. فانصرف إلى الاشتغال بالترجمة لكسب الرزق، ونقل إلى اللغة الألمانية رواية هيرمان ميلفل «إسرائيل بوتر: سنوات المنفى الخمسون».

وفي سنة 1959 تمكن يونسون من السفر إلى برلين الغربية، وارتبط بمجموعة 47 الأدبية، وهي المجموعة الشهيرة التي ضمت كِبار أدباء ألمانيا الغربية آنذاك مثل جونتر جراس وهاينريش بل ومارتن فالزر وغيرهم. استمر يونسون في ممارسة الكتابة الإبداعية والترجمة حتى سنة 1961. وفي سنة 1966 غادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ومكث فيها سنتيْن ليغادر بعدها إلى إنجلترا، منقطعًا لكتابة العمل الروائي الأهم الذي كرّس له أغلب حياته: رواية Jahrestage (ذكريات سنوية؛ من حياة جيزينه كريسبال)، والعنوان دال على أحداث الرواية التي تغطّى، يومًا بيوم،  سنة كاملة من حياة البطلة. عاش يونسون سنواته الأخيرة وحيدًا منعزلًا بعد انفصاله عن زوجته ووافته المنية فى شقة صغيرة فى بلدة كِنت جنوب شرق لندن، ولم تُكتشف جثته إلا بعد ثلاثة أسابيع من وفاته.


رغم وصف أديب نوبل جونتِر جراس ليونسون بأنه أكثر أدباء ألمانيا الغربية أهمية وتجديدًا في النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أن أدب يونسون بقي خامل الذكر على المستوييْن الأوروبي والعربي لأسباب متفرّقة. إذ ظل يونسون وجهًا غير معروف لقرّاء العربية، فلم تترجم أي من أعماله حتى اليوم. الحقيقة أن استقبال أعمال يونسون في مسقط رأسه لم تكن أحسن حالاً من باقي دول العالم، إذ ظلت أعماله في الظل حتى سقوط جدار برلين سنة 1989، لتتحول رواياته بعد توحيد شطري ألمانيا، وعلى الأخص روايته الأهم والأضخم Jahrestage، إلى موضع اهتمام المتخصصين في الدراسات الجرمانية في العقود الثلاثة الأخيرة.

شرع جونسون في تأليف هذه الرواية الضخمة في 29 يناير 1968. وقد نُشِرَت في أربعة مجلدات بين عامي 1970 و1983، وصدرت عن دار زوركامب الألمانية سنة 1983. الرواية عمل واحد متكامل، وهي تغطي يومًا وراء يوم سنة كاملة في حياة جيسينه كريسبال، بدءًا من 21 أغسطس 1967 وحتى 20 أغسطس 1968. في هذه الرواية يرسّخ يونسون لتقنية السرد الهادئ المستفيض. بطلة الرواية جيسينه كريسبال أم عزباء في الرابعة والثلاثين، وهي مهاجرة ألمانية وموظفة بأحد البنوك تعيش مع ابنتها الوحيدة ماري ذات العشر سنوات في شرق مانهاتن. في الصباح تذهب الأم إلى البنك وصغيرتها إلى المدرسة، وفي المساء تحكي الأم لابنتها عن مسار يومها وعن ذكريات طفولتها في مدينة صغيرة في شمالي ألمانيا، وعن والدها العصامي وعن ألمانيا النازية (ولِدت جيسين سنة 1933 وهو العام الذي تولى فيه الحزب النازي مقاليد السلطة)، وكذلك عن ذكرياتها سنوات الحرب، وعن انتقام السوفييت العنيف بعد الحرب وعن تقسيم ألمانيا إلى شطرين. 

يتخذ السرد شكل حوارات مطولة بين الأم جيسينه وابنتها ماري حول تاريخ العائلة الذي يعود إلى سنة 1888 (تاريخ ميلاد والد جيسينه)، لكن يونسون لا يركز في أثناء سرده على تاريخ العائلة من حيث هو وقائع وأحداث عادية (ميلاد وزواج وطلاق وموت)، وإنما يتخذ من تاريخ العائلة مادة لتأمل تاريخ ألمانيا في القرنين التاسع عشر والعشرين، والمتغيرات التي ضربت بلاده، من خلال عرض تأثير الأحداث السياسية/ الاجتماعية على حياة آل كريسبال، محلقًا فوق خمسة أنظمة سياسية تناوبت على حكم ألمانيا (ألمانيا القيصرية، جمهورية فايمار، الرايخ الثالث، جمهورية ألمانيا الديمقراطية وحُكم الرأسمالية الغربية ممثلّة في الولايات المتحدة الأمريكية). 

من ناحية الأسلوب يلاحظ القارئ اقتراب أسلوب أوڤِه يونسون من أسلوب توماس مان في روايته الشهيرة (آل بودينبروك؛ قصة انهيار عائلة)، إلا أن يونسون استخدم لغة أكثر حداثة ونبرة أشد اقترابًا من لغة الحياة اليومية واعتمد اعتمادًا أساسيًا على المفارقات والتوريات الساخرة، بينما حافظ توماس مان على رصانة اللغة والأسلوب الكلاسيكي في القص.

على نحو مواز لسرد تاريخ آل كريسبال تحكي جيسينه تفاصيل حياتها في مانهاتن يومًا بيوم وساعةً بساعة. ولا تكاد تخلو فقرة من اقتباسات مباشرة من صحيفة النيويورك تايمز، فتمتزج أيام الماضي بأيام الحاضر، بل إن يونسون يُقحم أحيانًا حوارات مع الموتى (والد جيسينه ووالدتها) داخل النسيج السردي، هكذا دون سابق إنذار ولا تمهيد. فلا فرق بين الأحياء والأموات ولا بين الماضي والحاضر وسط دوامة السرد المتلاحق.

لجأ يونسون أيضًا في روايته إلى القفزات الزمنية/ المكانية المتلاحقة، مُترواحًا بين ألمانيا النازية/ ألمانيا ما بعد الحرب في مقابل أمريكا الرأسمالية/ أمريكا الحرب الباردة. صحيح أن الرواية تتسم بالطول الشديد وتعقيد البناء، لكن يونسون وظف بصبر وببراعة فنية مجموعة من التقنيات السردية المختلفة ليحافظ على انتباه القارئ وتركيزه طوال الرواية، من بينها تداخل أصوات الرواة (الأم والابنة والأصدقاء)، تعدد وجهات النظر، سرد القصص المتوازية (ماضي بطلة الرواية جيسينه وحاضرها، قصة طفولة جيسينه وقصص عن طفولة ابنتها ماري، الأحداث السياسية/ الاجتماعية المتفجرة في أمريكا مثل الحرب في فيتنام، والاضطرابات العِرقية في أمريكا، إلخ).  

لا يمكن وصف الرواية بأنها رواية تاريخية، إلا أنها تتكئ على التاريخ (تاريخ ألمانيا النازية، ثم ألمانيا الغربية والشرقية من سنة 1933 حتى سنة 1953)، وتاريخ أمريكا في أواخر الستينيات، أقول تتكئ على الوقائع التاريخية لتأملّ أزمة الفرد (أوڤِه يونسون؟) في ظل أنظمة سياسية متباينة؛ وهي بالترتيب التاريخي ألمانيا النازية، ألمانيا الشيوعية (جمهورية ألمانيا الديمقراطية) وأخيرًا الرأسمالية الأمريكية، وهي الأنظمة التي عاش يونسون في كنفها واختبرها جيدًا. الجميل أن الرواية لا تصدر أحكامًا على أي من هذه الأنظمة، مكتفيةً برسم مشاهد من الحياة اليومية للأبطال وتصوير أيامهم في ظل هذه الأنظمة، تاركة للقارئ مهمة التحليل والمقارنة. في معرض حواراتها تطرح جيسينه سؤالًا ماكرًا: أي الأنظمة السياسية أفضل وأشد مراعاةً لحقوق الإنسان وكرامته: النظام القيصري الملكي أم النازي أم الشيوعي أم الرأسمالي الأميركي؟ إلي أين يمكن للمرء أن يسافر بعد ذلك؟ إلى القمر مثلًا؟   

رواية أوڤِه يونسون هي محاولة لإعادة بناء تاريخ دهسه الزمن تحت عجلته، إلا أنه تاريخ لا يمكن قبوله ولا نسيانه أيضًا. فلا يتبقى أمام الأم الشابة جيسينه كريسبال سوى الحكي سبيلًا للحفاظ على ما علق بذاكرتها مهما كانت تلك الذكريات قاسية ومهما كانت مؤلمة. تسجل جيسينه ذكرياتها وحواراتها مع ابنتها على شرائط كاسيت، وتقول لنفسها: «الحكي هو فعل تذكر، بالحكي أحارب النسيان، وبالحكي أبقى بعد موتي». وهي ثيمة مكررة في معظم روايات يونسون بحسب النقاد المتخصصين في أدب يونسون (تخمينات حول ياكوب وغيرها) حيث ينظر أبطال يونسون دائمًا إلى الكتابة وإلى السرد وإلى الحكايات بوصفها معبرًا مؤقتًا إلى أرض خالدة.


المقال خاص بـBoring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.