لو أوتيتْ الديدان ملكة الكتابة الأدبية لكتبتْ شيئًا مشابهًا ليولسيس، بسبب افتقارها إلى الدماغ، فالدودة الشريطية كائن كامل حيّ متكامل بذاته، والدودة إذا قُطعتْ إلى نصفين فسينمو لها ذيل من جديد
باتريشيا هاتشينس: كارل يونج وعالم جيمس جويس
شهادة الكاتبة البريطانية باتريشيا هاتشينس
ترجمة: أحمد الزناتي
كرّستْ الكاتبة البريطانية باتريشيا هاتشينس [1] شطرًا كبيرًا من حياتها لتقصّي صـورة حياة جيمس جويس في مسقط رأسه أيرلندا والمدن التي عاش فيها طَوال حياته. في أواخر سنة 1954 التقتْ هاتشنيس بروفيسور يونج في زيوريخ، وتحديدًا في منزله الواقع في بلدة كوزناخت. وقـد شرحت الآنسة هاتشينس تفاصيل لقائها في كتابها عالم جيمس جويس James Joyce`s World (لندن 1957)، الصفحات 181-184. ننقل في السطور التالية شهادة هاتشينس حول قراءة يونج لجويس.
المترجم
لم نستطع تحديد مـوعد اللقاء إلا مساءً. انطلقتُ إلى بلدة كوزناخت وشققتُ طريقي عـبر شارع طويل تراصّت فيه الفيلات على الجانبيْن. بعد اجتياز مجموعة من البوابات البيضاء، وفي نهاية طـريق قصير محفوف بالأشجار، لمحتُ مدخلًا مضاءً للمنزل المُشيّد على هيئة بـرج[2]. لدى وصولي سرعان ما اصطحبتني امرأة شابة إلى غرفة جلوس ملحقة بالطابق الأول. على الأرفف وبين الكتب تناثرتْ مجموعة من الدمى والألعاب الهندية داخـل آنية زجاجية، بينما استقر العدد الأخيرة من مجلة Punch فوق الطاولة المقابلة. في الطابق الأسفل كان يصدح صوت صفير أحد الأشخاص، بينما دقات السادسة مساءً كانت تدقّ بقوة وسط جـو ينمَّ عن هدوء ونظام شديدين.
اقتادتني المرأة الشابة إلى غرفة تضمّ مكتبة هائلة، أرضيتها مصنوعة من الباركيه ومفروشة بالبُسُط الهندية، لم يكن بالغرفة سوى مصباح وحيد مستقر في أحد الأركان بالقرب مـن النافذة، فأسبغَ غموضًا مضاعفًا على الأثاث واللوحات. بعدها ظـهر د. يونج، باسطًا كفّه بالمصافحة. كان يتمتع بـجسد هائل وصوت جذاب.
جلستُ فوق مقعد مريح قبالته مباشرةً. وربما بتأثير الإضاءة المنبعثة من خلف كرسيه أو بسبب زاوية نظارته الطبية التي ضاعفتْ حجم بؤبؤ العينيْن شعرتُ بتشوّه عجيب لهيئته فبدا مثل حيوان أو طفل يركّـز تركيزًا هائلًا، الأمر الذي شتّتَ انتباهي فعدّلتُ من وضع جلستي حتى عادت هيئته طبيعية من جديد.
بدأتُ حديثي بالكلام عن دراستي لخلفية حياة جيمس جويس، وأعطيتُ د. يونج لمحة سريعة عن مسار حياة جويس وعن توقفه في مدينة «كوبـْه» الأيرلندية في طريق عودته من رحلته إلى أمريكا. كما أشرتُ إلى السنوات التي قضاها في زيوريخ إبان الحرب العالمية الأولى وكيف قدمّت إليه السيدة «روكفيللر ماك كورميك»[3] Rockefeller McCormik«الدعم المادي لفترة من الزمن ثم توقفتْ عن دعمـه بغتة».
قلتُ: «قـيل إنك ضالع في الأمر بشكل أو بآخر وإن ج. جويس أساء إلى السيدة ماك كورميك لرفضه الخضوع للتحليل النفسي على يديها؟».
أوضح لي د. يونج أنه لم يكن يعرف اسم جويس قبل ذلك ولم يُكتب له لقاء الكاتب الأيرلندي إلا بعد تلك الواقعة بفترة طويلة، وتحديدًا عندما طلب منه جويس علاج ابنته التي كانت نزيلة إحدى المصحات النفسية. كان د. يونج قادرًا على تـذكّر تفاصيل الواقعة برغم حدوثها في سنة 1920.
قال إن السيدة ماك كورميك ذكرت أنها تعهّدت برعايتها كاتبًا وفنانًا، إلا أن الأخير كان خاملًا بليدًا. في البداية تـردّد د. يونج في الإشارة عليها بقطع الدعم المالي، ولكن عندنا صار هذا الفنان واحدًا من المترددين إلى عيادة يونج النفسية، وأخبره بحُلم متكرر يرى فيه نفسه ينزف حتى الموت، أشار د. يونج على السيدة ماك كورميك بـوضـع حـد لهذا الموقف غير المحتمل، وهـو مـا أثمر عن نتائج إيجابية.
وبرغم عدم اطلاع يونج على ما أقدمتْ عليه، يبدو أن السيدة ماك كورميك قررتْ قطع المساعدة المادية لا عن الفنان فقط، بل عن جيمس جويس وروايته يوليسيس.
أضاف يونج: «في الثلاثينيات طُلب مني كتابة مقدمة للترجمة الألمانية لرواية يوليسيس، التي لم تلقَ رواجًا ملحوظًا في اللغة الألمانية، لكني عُدت ونشرتُ المراجعة لاحقًا في أحد أعمالي، لم يكن اهتمامي بالأعمال الأدبية، بل بالدراسات المتخصصة، كان العمل وثيقة على درجة عالية من الأهمية في اعتقادي، وقد أوضحتُ ذلك كما تعرفين».
سألته: «لقد قلتَ في مراجعتكَ إن الخبرات الواردة بالرواية متصلة بجانب الظل المعتم من الوجود الإنساني، ولا أظن أن جويس كان مُهتمًا بذلك».
قال يونج: «إن الخليط الهجين للرواية والمادة المعروضة في ثناياها إن هما إلا تجسيد لحالات الفصام التي نراها في الطب النفسي، لكنها مرسومة بريشة فنان روائي، هي الأشياء نفسها التي تراها في (مستشفى المجاذيب) ولكنها مرسومة وفق خُطة. لقد كتبتُ إلى الناشر واعتذرتُ منه لعجزي عن تقديم ما كان ينشده مني».
***
وعندما حدث تقارب بين جويس وبين يونج المحلل النفسي في سنة 1934 [4]، نـسى الأخير مسألة المراجعة والاعتذار الذي كتبه، بينما لم ينسَ جويس شيئًا. وحينما ذكرتُ ذلك قال د. يونج: «لا شك أن جويس كان شديد التحفظ في كلامه. نعم، أتذكر ذلك الآن، ففي أثناء الساعة التي تحدثنا فيها عن ابنته كان من السهولة الشعور بمدى تحفظّه حيالي، ومن ثمّ كان لقائنا عقيمًا بلا جدوى. على العكس كانت ابنته فتاة مفعمة بالحيوية. فتاة جـذابة وساحرة متوقدة الذكاء لأقصى الحدود، كما حملتْ الأوراق التي كتبتها الفتاة وعرضتها عليَّ، أقول حملَتْ نفس خصال أبيها، كانت تتمتع بالروح نفسها، كان كلاهما شديد الاهتمام بالآخر. إن مرض العصاب مثله مثل الطفل، حيث يتشرب من البيئة المحيطة ومن الأفراد المحيطين به، ولا سيما إن كان المرء غارقًا في تلك البيئة. ومن ثمّ فإن الملاحظة التي طرحتها الصبية لوسيا: (كيف يمكن للرجل [تقصد يونج] أن يعرف ما يدور برأسي)، تشير إلى استحالة قيام علاقة تواصلية جيدة بينهما».
وردًا عن سؤالي حول رواية «يقظة فينيجين» قال د. يونج: «يقظة فينيجين؟ لقد قرأتُ أجزاء منها على فترات متقطعة، لكن الأمـر كان أشبه بمن ضلّ سبيله وسط غابة. في الحقيقة لم أستطع مواصلة القراءة، أما يوليسيس فقد طالعتها برغم عجزي عن فهم سبب إقبال الناس المتزايد على قراءتها وسبب صدور طبعات كثيرة للرواية.
حسنًا، المؤكد أن الناس أرادوا أن تُقال أشياء محددة على الملأ، إذ رغب الناس فترة العشرينيات في قراءة ما يعجزون عن التعبير عنه بأنفسهم، أقصد قراءة أشياء عن الحياة وعن الجنس، كما رغب هذا الجيل في تـحرير نفسه من القيود إلى أبعد الحدود، ومن الصعوبة أن نفهم موقفهم ذلك في وقتنا الراهن. يبدو لي أن عددًا كبيرًا من القضايا التي لمسها جويس في أعمالـه هي ذاتها القضايا التي تواجهنا اليوم، ولا سيما تكيّف الإنسان في علاقته مع العلم ومشكلة الانفجار السكاني».
«نعم، بالفعل تلك هي المشكلة الكبرى التي تواجه العالم، لـقد زرتُ الهند ورأيتُ السكان الذين يعانون من سوء التغذية، يُولد آلاف الآلاف من الأطفال هناك. وهنا ينشأ السؤال الجوهري المتعلق بالغذاء: كيف يتأتّى إطعام كل هؤلاء؟»
أسهب د. يونج في شـرح هذه المسألة عـبر جُمل متدفقة متلاحقة، وبطريقة الشرح اللاهثة المميزة لكلامـه، وحينما نهضَ للمغادرة استطعتُ أن أتبيّن ملامح وجهه الصبوح بشكل كامل، فتبدّت لي جاذبية شخصيته النابعة من سـعة صدره ورجاحـة عقله.
أنهى كلامه قائلًا: «أنا سعيد لأنني لن أواجـه تلك المشكلات في المستقبل، تعلمين أنني سأتمَّ الثمانين في يوليو المقبل».
قلتُ له: «لـقد أسهمتَ بنصيبكَ في تقديم العون إلى الآخرين، وبحسبكَ ما فعلتَه حتى الرمق الأخير من حياتك».
قال: «نعم، نعم».
حينما ذهبتُ لآخـذ معطفي من حجرة المعيشة، كنت أعرف أنـه، بحكم العادة الطويلة، يرصد خطواتي ويقيّمني، حاولتُ تركَ انطباع إيجابي لديه، فأغلقتُ مصباح الغرفة وأوصدتُ الباب ورائي، ولتجاوز فترة الصمت التي تسبق كلمة الوداع سألته: «هـل هذا المنزل قديم؟»
ابتسم قائلًا:
«لا ليس قديمًا، لكنه مؤثث على الطراز القديم، وأنت تعلمين أنني رجل محافظ».[5]
يـونج قارئًا لرواية يوليسيس
لقد ورطّني عملك إجمالًا في متاعب لا حصر لها، وقد قلّبتُ الرواية على وجوهها طَوال ثلاث سنوات حتى استطعتُ الولوج إلى عالمها.
في سبتمبر من سنة 1932 نـشر يونج على صفحات جريدة Europäische Revue الناطقة باللغة الألمانية مراجعة لرواية جيمس جويس الأشهر يوليسيس[6]. بدأت الحكاية حينما طلبَ ناشر الترجمة الألمانية للرواية د. دانيل برودي، مدير دار نشر Rhein Verlag السويسرية كتابة مراجعة للترجمة الألمانية للرواية الصادرة للمرة الأولى سنة 1927، فأخبره د. يونج أنه قرأ نذرًا يسيرًا من الرواية ولم يطق إكمالها، وبعد القراءة الكاملة أبدى استعداده لكتابة مراجعة الرواية، وقد نشرت في كتاب مستقل تحت عنوان: The Spirit in Man, Art and Literature
في مراجعة يونج المطولة للرواية نلمح استياءً قويًا ونقدًا عنيفًا، لا إلى الرواية فحسب، بل إلى ذاته كذلك. وصفَ د. يونج الرواية بأنها تنتمي إلى الحيوانات ذات الدم البارد، وتحديدًا إلى فصيلة الديدان الشريطية، فيقول: «لو أوتيتْ الديدان ملكة الكتابة الأدبية لكتبتْ شيئًا مشابهًا ليولسيس، بسبب افتقارها إلى الدماغ، فالدودة الشريطية كائن كامل حيّ متكامل بذاته، والدودة إذا قُطعتْ إلى نصفين فسينمو لها ذيل من جديد». في الأرجح كان د. يونج يقصد في تقديري أن يوليسيس رواية بلا محور، أو عمل بلا مركز.
في السطور التالية أنقل مقتطفات من مراجعة بروفيسور يونج لرواية يوليسيس:
«تمتد رواية يوليسيس على مدار سبعمائة وخمس وثلاثين صفحة، كتيار من الزمن قوامه سبعمائة وخمسة وثلاثين يومًا مُجمعة في يوم واحد عديم المعنى في حياة رجل عادي، هو اليوم المبتذل الموافق السادس عشر من شهر يونيو 1904، في مدينة دبلن، يوم لا يحدث فيه شيء قولًا واحدًا. يبدأ تيار الوجود في الفراغ وينتهي في الفراغ. هل يمثّل كل هذا بيانًا واحدًا مسهب الطول، مفرط التعقيد عن جوهر الحياة البشرية على طريقة ستريندبيرج[7] ، هل تمثل الرواية بيانًا بلا نهاية، ربما تمس الرواية جوهرَ الحياة ولكن من المؤكد أنها تلامس عشرة آلاف سطح في الحياة ومئات الآلاف من الدرجات اللونية المتباينة للحياة. وبقدر ما وسعني التأمل والنظر لم أعثر داخل صفحات الرواية السبعمائة وخمس وثلاثين على تكرارات واضحة، كما لم أعثر على جزيرة واحدة يستريحُ القارئ الذي طالت معاناته فوقها. كما لا تجود الرواية ببقعة يخلو فيها المرء بنفسه، ثملًا بذكرياته، متأملًا بسعادة الطريق التي قطعها، سواء أقطع مئة صفحة أم أقل. لكن.. لا، فالتيار الجارف القاسي ينهمر بلا رحمة ولا توقف، بل تطّرد سرعته ويزداد تدفقه في الأربعين صفحة الأخيرة حتى تزول علامات الترقيم تمامًا».
«كان لديّ عم يتمتّع بذهـن ينفذ دائمًا إلى صُلب الموضوع. ذات يوم أوقفني بينما كنتُ أسير في الشارع وسألني: هل تعرف كيف يُــعـذّب الشيطان الأرواحَ في الجحيم؟ فلما أجبته بلا، قال: (بأن يدعهم ينتظرون). ثم مضى في طريقه بعدها. عـنّت لي هذه الملاحظة عندما كنتُ أشقّ طريقي في عوالم يوليسيس للمرة الأولى. كانت كل جُملة في الرواية توقظ أملًا بعيد التحقق والاكتمال لتصل في نهاية المطاف إلى فقدان الأمل في توقع أي شيء. الحقيقة أن لا شيء يحدث في الرواية ولا حدث ينمو. يصارع أمل مصدره سري ضد فقدان الأمل، فيجرُّ القارئ من صفحة إلى أخرى، فتقرأ وتقرأ وتقرأ وتتظاهر بأنك قد فهمتَ ما تقرأ، ومن حين لآخر تصطدم بمطب هوائي يقذف بكَ إلى جُملة جديدة، لكنك حالما تبلغ درجة اليأس وإلقاء الكتاب جانبًا تكون قد اعتدتَ على كل شيء. لقد قرأت رواية يوليسيس بقلب طافح باليأس حتى بلغتُ الصفحة رقم مائة وخمس وثلاثين، وقد غفوتُ مرتين في أثناء القراءة بسبب أسلوب جويس المتنوع حد الإدهاش، للنصّ إيقاع رتيب مُــنوَّم. لا شيء يأتي لاستقبال القارئ في الطريق، فكل شيء يبتعد عنه، ويتركه، محدقًا فيه بعد مغادرته، الكتاب دائمًا بعيد عن القارئ، ناقم على نفسه، ساخر، متهكم، خبيث، طافح بالازدراء والكآبة واليأس والمرارة. في مكان ما داخل فصول الرواية ثمة نظام خفي أو تماثل، إلا أنه مدفون ببراعة لدرجة أنني لم ألاحظ منه أي شيء في البداية. وحتى لو كنتُ قد لاحظتُ لم أكن لأعيرَ إليه انتباهًا بسبب حالتي النفسية التي كانت منفعلة لدرجة لا يُرجى منها شفاء. قرأتُ رواية يوليسيس أول مرة في سنة 1922، إلا أنني وضعتها جانبًا مملوءًا بمشاعر الخيبة والارتباك».
وفي فقرة أخرى يتكلّم عن سبب اختيار يولسيس للكتابة عنها:
«إن الجانب الهزلي/التراجيدي في حياة الإنسان العادي، والجانب المقفر للحياة، والظل الهزيل للعدمية الروحية، كل ذلك هو خبزي اليومي، ولا شيء فيه يثير اهتمامي أو يهزّني من الأعماق، ويرتكز عملي في الأغلب على تقديم العون إلى الناس في هذه الحالات المثيرة للأسف. أنا لا أبدي تعاطفًا مع من يرفضون التعاون معي لمساعدتهم، وقد أدارتْ رواية يوليسيس ظهرها إليَّ، ولم تُبد بادرة تعاون، ساعية إلى ترديد لحنها الأبدي إلى ما لا نهاية...[.....]. يتراءى إليَّ أن كل الجوانب السلبية في رواية جويس، بدءًا من برودة أجوائها وصولًا إلى غرابة الأطوار والابتذال والشرّ، هي فضائل إيجابية. فجويس ثري إلى حد عجيب ولغته حمّالة أوجـه، وهي لغة مملة ورتيبة الإيقاع، إلا أن رتابة الإيقاع تكتسب جلالًا يشبه جلال الملاحم، ويجعل من ملحمة (المهاربهاراتا) رجـس وعبث».
وفي نهاية المقال يقول: «وها أنا الآن ما زلتُ أمضي قُدمًا في رواية يوليسيس على نحو لا بأس فيه».
وفور نشر المراجعة بعث د. يونج برسالة إلى جيمس جويس، مؤرخة في 27 سبتمبر 1932، أثارت استياء جويس لكنها أيدّت موقفه، وقد قيل في الصحف إن جويس كان سعيدًا بهذه الرسالة، وهذا نصّها:
عزيزي السيد جيمس جويس:
لقد وضعتْ رواية يوليسس العالمَ أمام معضلة نفسية بلغتْ حدًا من التعقيد أنهم طلبوا مني مقاربة الرواية مرارًا وتكرارًا، لأنهم رأوني حُـجّـة في علم النفس.
لقد تبيّن أن رواية عوليس عنيدة كصخرة صماء، وقد أجبرتُ ذهني لا على بذل جهود مضنية لفهمها فحسب، بل إلى الخروج في رحلة شاقة (منطلقًا من وجهة نظر عالمٍ نفسي). لقد ورطّني عملك إجمالًا في متاعب لا حصر لها، وقد قلّبتُ الرواية على وجوهها طَوال ثلاث سنوات حتى استطعتُ الولوج إلى عالمها. رغم ذلك يطيب لي أن أعرب لك عن عميق امتناني لشخصك ولعملك العظيم، لأنني تعلمت منه الكثير. قد لا أكون على يقين من مسألة استمتاعي بالعمل كونه قد تطلب مني مجهودًا ذهنيًا وعصبيًا شاقًا. في الحقيقة لا أعلم إن كان سيروق لك ما كتبته عن يوليسيس، لأنني لم أستطع منع نفسي من أذيع على العالم حجم مشاعر الملل والتذمر والإعجاب التي انتابتني. إن الأربعين صفحة اللاهثة الأخيرة من الرواية هي بمثابة درس حقيقي في علم النفس التحليلي. على أي حال ليست مقالتي إلا توصية بسيطة موجهة إليك، لتعدها محاولة تسلية خرجت من قلم رجل غريب ضلَّ سعيه في متاهة يوليسيس، ولم يُكتب له الخروج منها إلا بضربة حظ. ربما تنبئكَ مقالتي على ما فـعلته رواية يوليسيس بطبيب نفسي يُـفـتـرض أنه متزن نفسيًا.
عميق التقدير والاحترام
المخلص:
ك.ج. يونج
- الترجمة خاصة بـ Boring Books
- يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه
[1] باتريشيا هاتشينس: كاتبة ومؤرخة أدبية بريطانية أصدرتْ أعمالًا عن جويس وإيزرا باوند وغيرهما (المترجم).
[2] - برج بولينجين: شيّده د. يونج لينعزل فيه. لم يكن برج بولينجين بالنسبة إليه منزلًا للعطلات، لأنه أمضى نصف سنوات عمره تقريبًا هناك ما بين عمل وراحة. يقول يونج: «لولا البرج لم تكن أعمالي لتخرج إلى الوجود». وحتى سـنّ متقدمة كان يونج يـصرف أوقات راحته في تقطيع الخشب وحرث الأرض والزرع والحصاد (المترجم نقلاً عن مذكرات يونج المنشورة بعد وفاته Erinnerungen, Träume, Gedanken).
[3] إديث روكفيللر ماك كورميك (1872-1932)، هي ابنة روكفيللر ماك كورميك، إحدى المترددات على العلاج عند يونج، ثم محللة نفسانية طوال فترة إقامتها في زيوريخ، وكانت راعية اللموسيقيين والكُتاب. لمعرفة المزيد عن علاقتها بجويس يُرجى مراجعة كتاب ريتشارد إلمان James Joyce (1959)، الصفحات 435،480-483 (المترجم).
[4] Ibid., par.172:” the cold shadow-side of life”.
[5] أرسلتْ باتريشيا هاتشينس مسوّدة الشهادة إلى د. يونج، الذي صحّهها وأعادها إليها مشفوعة برسالة مؤرخة في 29 يونيو سنة 1955 (راجع رسائل يونج، المجلد الثاني)، ذكر فيها أنه في أثناء الحوار لم يستطع تـذكّر ما كتبه إلى جويس في سنة 1932، مضيفًا فقرة مثيرة للاهتمام حول علاقة جويس بابنته لوسيا بوصفها نموذجًا مثاليًا لنظرية الأنيما (المترجم نقلاً عن كتاب المؤلفة نفسه).
- نظرية الأنيما والأنيموس عن يونج: الأنيما تجسيد للعنصر الأنثوي في اللا وعي الذكوري والأنيموس تجسيد للعنصر الذكوري في اللا وعي الأنثوي، وهما يتجسدان في الأحلام وفي التخيلات، وهما يتحكمان في السلوك ويعدان من أشد الأنماط الفطرية نفوذًا (المترجم).
[6] - المصدر: Princeton University Press , C. G. Jung: The Spirit in Man, Art and Literature، الصفحات 109 وما يليها (المترجم).
[7] المقصود أوجست ستريندبيرج (1849-1912) الكاتب والسرحي السويدي غريب الأطوار، الذي اتسمت مُجمل أعماله بتقديم صور للنفس الإنسانية المعقدة وصراعاتها المستمرة بين إرادتي الخير والشر والعقل والجنون والروح والجسد وكان من أوائل الكُتاب الذين وظفوا طاقات العقل الباطن في أعمالهم الفنية، ومن أشهر أعماله مسرحيات «الأب» و«الحُلم» و«الآنسة جوليا» و«الجحيم». (المترجم).