اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.
الطريق إلى رصيف ويجان لجورج أورويل (1937)
مقال لروبرت مكروم
نُشر بموقع الجارديان، أكتوبر 2016
ترجمة: سلسبيل صلاح
الترجمة خاصة بـ Boring Books
تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها
«كانت طرقعة قباقيب عاملات المعامل على أرضية الشارع المرصوف هي أول صوت أسمعه في الصباحات»، نشهد في هذه الافتتاحية نبرة كاتب عظيم يكتشف صوته الأصيل في الكتابة. يتولى جورج أورويل بثقة راسخة، وبعد عدد من المحاولات الفاشلة، مهمة استثنائية لتمثيل حياة الطبقة العاملة منذ الصفحة الأولى.
الرجل الذي عُرف سابقًا باسم إيريك بلاير، يكتب الآن تحت إلحاح المقابل المالي الذي يحتاج إليه أشد الحاجة، وأيضًا كرجل عاد لتوه من رحلة عبر المخلفات الصناعية في مدينتي يوركشاير ولانكشير خلال فترة الكساد العظيم (الأزمة الاقتصادية في الثلاثينيات).
وقَّع أورويل في ربيع 1936 عقدًا للنشر مع الناشر اليساري فيكتور جولانكز الذي دعم رواية «متشردًا في باريس ولندن» مقابل أجر زهيد: 50 جنيه إسترليني (بالإضافة إلى المصروفات). أراد جولانكز تضمين كتاب يشير إلى «وضع إنجلترا» في نادي الكتاب اليساري، وهو تجربة في بيع الكتب بدأ تطويرها في بداية عام 1936. والواقع أن بمجرد تسليم أورويل لنسخته الأولية في نهاية العام، حظي جولانكز بأكثر مما تمنى؛ مسيرة شخصية هامة ومثيرة للحنق في آن واحد لأغرب الأدباء في تاريخ الأدب الإنجليزي وأعقدهم.
ينقسم كتاب «الطريق إلى رصيف ويجان» إلى جزئين؛ الأول تصوير أدبي لرحلة أورويل في ثلاث مدن شمالية ورحلة مماثلة لكن مثيرة للجدل يخوضها العقل والقلب. كان الكتاب كما أعلن مؤلفه «كتابًا سياسيًا»؛ خليطًا بين التقرير والتعقيب السياسي في ضوء سيرة ذاتية. لاحظ معاصرو أورويل مثل سيريل كونولي أنه قد يصير اشتراكيًا، لكن اشتراكيته تغلفها هالة التقديس العلماني التي تأثرت أعماله بها حتى ولو بشكل هزلي. ويتبين، رغم كل نقاط ضعف الكتاب، أنها منعطف بارز في تطوره الإبداعي.
وصف فريد وربرج، الناشر الذي تعاقد معه أورويل لوقت طويل، الكتاب بأنه «من بين أكثر الكتب استثنائية»، وهذه طريقة أخرى للقول بأن أورويل، بالإضافة لكتابة تصوير صحفي بارز عن «رصيف ويجان»، سعى ليكون صادقًا فيما يقوله عن نفسه كلاجئ من الطبقة المتوسطة يمر بمدن إيتون، وبورما، وأكواخ باريس ولندن. شكل أورويل في نهاية المطاف، بهذه الصفحات، مكانته الخاصة وصار كاتبًا بريطانيًا اشتراكيًا، واستطاع أن يوفق بين نفسه ونفسه.
يفتتح النصف الأول من الرواية بفصل عبقري مستقل عن بيت آل بروكرز، الواقع في رقم 22 شارع دارلينجستون، والذي يجمع بين كونه نزل للإقامة ومحل لبيع الكرش. داخل الظروف السيئة للطبقة العاملة في ويجان، يخوض أورويل مقابلات مع العاطلين، وسكان العشوائيات، وعمال مناجم الفحم، وعمال الميناء.
قضى أورويل شهرين فقط في الشمال، وأخذ قطار العودة للوطن، بسبب تلهفه للعودة إلى زوجته المستقبلية، إيلين أوشونيسي، خاتمًا رحلاته بمشهد لمحه من عربة القطار، وهي صورة لا تنسى لامرأة من الطبقة العاملة تحاول تسليك بالوعة:
«في مؤخرة أحد البيوت، رأيت امرأة ترتكز بركبتيها على حجارة، وتدخل عصا في أنبوب نفايات خرب يصل حوض في الداخل، وأفترض بالطبع أن الحوض كان مسدودًا… نظرت إلى فوق بينما كان القطار يمر، كنت قريبًا كفاية للنظر في عينيها… ورأيت فيهما أكثر تعبير كئيب ويائس لمحته في حياتي… عرفت جيدًا ما يحدث لها، وأدركت تمامًا، مثلي، أن وجودها في هذا البرد القارس على الأحجار اللزجة في فناء خلفي داخل حي بائس، تدق عصا في أنبوب تصريف قذر، هو مصير مروع».
النصف الثاني من رصيف ويجان مخيف ومشهور باستفزازه أكثر حتى من الجزء الأول. إلى الآن تبدو مجابهة أورويل مع الاشتراكية الإنجليزية صادمة. عزمه على «رؤية البطالة الواسعة في أسوأ أحوالها» كان بالأساس مرتبطًا برحلته الخاصة، الرحلة التي كتب أنها «ضرورية لي كجزء من نهجي مع الاشتراكية».
كتب: «قبل تأكيد انتمائك الحقيقي للاشتراكية عليك تقرير إذا ما كانت الأمور في الوقت الحالي مقبولة أو غير مقبولة، وعليك بالطبع اتخاذ موقف محدد من المسألة الصعبة: قضية الطبقة».
أورويل ليس إلا إنسان ممزق الذات، وفي قضية الطبقة، يقول كاشفًا كل ما بداخله: «السبب الحقيقي الذي يجعل الأوروبي الذي نشأ في كنف البرجوازية يعجز في أن يفكر بسهولة في رجل عامل على أنه مساو له، يمكن اختصاره ببساطة في أربع كلمات بغيضة: الطبقات الدنيا رائحتها كريهة».
من هنا، يستمر الإقرار بالصدمة، ويصف أورويل نفسه اليافعة بـ «الصغير البغيض المتكبر»، ويعترف بشعوره العميق بالتقصير: «لم يكن لدي استيعاب كبير لمعنى الاشتراكية، أو أي إيمان بأن الطبقة العاملة من البشر… يمكن أن أتعذب لمعاناتهم، لكني كرهتهم واحتقرتهم كلما اقتربت منهم».
ختامًا، يعبر أورويل عن قلقه على حالة الاشتراكية المحلية، وانتمائه لها، وقد وصل إلى ما يشبه الهدنة في حربه مع نفسه: «خلاصة القول، لا فرصة لتحسين الأوضاع التي وصفتها في الفصول الأولى لهذا الكتاب، أو لإنقاذ إنجلترا من الفاشية، إلا إذا استطعنا جلب حزب اشتراكي مؤثر إلى المشهد».
نادرًا ما سلخ كاتب في الأدب الإنجليزي نفسه بلا رحمة في مطبوعاته، أو نشر هذا القدر من النصوص المثيرة للمتاعب. لكن ثمرة هذا الكتاب الغريب بشكل فريد هي التحرير الإبداعي. وجد إيريك بلاير، الذي أصبح الآن بلا مواربة جورج أورويل، صوته وهويته ككاتب. قدم أورويل نفسه لبقية حياته النشطة -10 سنوات تقريبًا- أديبًا بريطانيًا اشتراكيًا. من هذا التقديم جاءت روائعه: الحنين إلى كتالونيا، ومزرعة الحيوان، وأخيرًا 1984. ويمكن القول بأنه لولا الطريق إلى ويجان لما تمكن من كتابة أي من هذه الأعمال.
فقرة بارزة
«ثم قد ينتهي بؤس التحيز الطبقي، ونحن في الطبقة الوسطى الغارقة - المدرسين الخصوصيين، والصحفيين المستقلين الجائعين، وابنة الكولونيل العانس التي يبلغ دخلها 75 جنيه إسترليني في العام، وخريج كامبريدج العاطل، وضابط سفينة بلا سفينة، والموظفين الحكوميين، والموظفين المدنيين، والتجار المتجولين، وتجار الأقمشة الذين أفلسوا قبلًا ثلاث مرات - قد ننحدر دون أي صراع داخل الطبقة العاملة التي ننتمي إليها، وربما نعرف حين نصل إلى هناك أنها ليست مروعة كما قلقنا، فرغم كل شيء، ليس لدينا ما نخسره إلا جهلنا وفقرنا[1]».
[1] في النسخة الإنجليزية، يقول الكاتب: We have nothing to lose but our aitches في إشارة إلى أن الأغنياء في هذه الفترة كانوا يجيدون نطق حرف الهاء، بينما يعجز الفقراء لتدني تعليمهم عن ذلك. (المترجمة)