القراءة بين الأهرام والفيسبوك
مقال لشهاب الخشاب
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
***
إيه الفرق بين الأهرام والفيسبوك؟ الأهرام مؤسسة صحفية عريقة، لها تاريخ طويل وعريض من إنتاج الأخبار والأفكار اللي تهم المواطن الصالح. اللي بيقرا الأهرام هو اللي عايز يفهم الدنيا ماشية إزاي بالظبط زي ما الناس الكبيرة بتقول، لأن الأهرام هي المؤسسة الصحفية الوحيدة اللي بتقدم الأخبار الصحيحة للجمهورية. في المقابل، الفيسبوك مؤسسة غربية فاسدة خائنة، بتشجع الناس على النميمة وتداول الأخبار الكاذبة، وللأسف الناس الكبيرة مش قادرة تصحح كلام كل الأشكال الضالة اللي بتقول وبتكتب وبتشرشح بدون وثائق ولا أدلة ولا أي ذرة محبة للوطن العزيز.
يعني الفرق بين الأهرام والفيسبوك فرق في المصداقية المؤسسية: الأهرام لها مصداقية عالية بسبب ارتباطها بالمصادر الرسمية المعتمدة، والفيس مالوش مصداقية لأنه مالوش مصادر رسمية ولا معتمدة. بالتالي اللي بيقرا الأهرام عايز يقرا معلومات صحيحة ومصححة، واللي بيقرا الفيس عايز يقرا إشاعات كاذبة ومحرضة. أكيد لازم الإنسان العاقل يدوَّر على الحق مش الباطل، وأكيد لازم يجري وراء المعلومة مش الإشاعة، فإيه اللي يخلِّي الواحد (والعياذ بالله) يصدق الكلام اللي بيتقال على الفيسبوك إذا كان هو نفسه إنسان عاقل؟
الموضوع مرتبط أساسًا بالقيمة اللي الواحد بيديها للقراءة كفعل يومي، في ظروف تاريخية واجتماعية محددة. لما القارئ بيقرر يصدق كلام الأهرام أو كلام الفيس، بيقرر إنه يدِّي وزن معيَّن لفعل القراءة، وزن مرتبط بإن الكلام اللي بيتقري ده هيزوّد حاجة في حياته. في فصل عنوانه «القراءة: اصطياد» من كتاب «ابتكار الحياة اليومية»، الفيلسوف الفرنساوي ميشيل دي سيرتو (Michel de Certeau) بيناقش الفرق بين الوزن اللي الناس المتنورة المتعلمة بتديه للقراءة، والوزن اللي الناس العادية اللي عايشة حياتها بعيد عن الثقافة والفن بتديه لنفس الممارسة. دي سيرتو بيقول إن الدراسات الاجتماعية والتاريخية في زمنه ما كانتش بتهتم بالقراءة كفعل يومي، لأنها كانت مهتمة أكثر بنوع القراءة اللي الأدباء والمثقفين والفنانين مهتمين بها.
في الدراسات الأدبية والفنية الشائعة في زمنه، المثقف كان بيعتبر إن النص أو العمل الأدبي أو العمل الفني عبارة عن مُنتَج منفصل عن العالم، له كينونته الذاتية، والقارئ لازم يفك شفرة النص عشان يعرف يفهم المعنى اللي جواه. الرؤية دي بتحافظ على التراتبية بين الكاتب والقارئ، بين الشخص اللي بيشكِّل النص وبيحتفظ بكنوز المعرفة جواه، والشخص اللي بيخرَّج الكنوز دي وبيستفيد بها. في رأي دي سيرتو، التراتبية بين الكاتب والقارئ بتعكس التراتبية بين المنتج والمستهلك، أو حتى بين القسيس والمؤمن في الكنيسة الكاثوليكية. في كل الحالات دي، الناس العالية – الكاتب، المنتج، القسيس – هي اللي بتحتكر سر المعنى المستخبي جوه النص، سواء كان نص أدبي أو إعلامي أو مقدس. دي سيرتو لاحظ بنباهة إن مفهوم المعنى «الحرفي» مرتبط بالعلاقات التراتبية دي، لأن مفيش نص في العالم عنده معنى وحيد وصريح إلا في ظل علاقات قوة بتحدد المعنى ده حسب نظام الخطاب السائد.
في المقابل، القارئ أو المتفرج أو المؤمن مالوش إلا إنه يستقبل سر النص في صمت، إنه يخلِّي دماغه الضالة المضلمة تتنور، وكأن فعل القراءة نفسه ما بيزوِّدش أي جديد في تفسير المعنى أو في حياة القارئ. الكُتَّاب والمثقفين بيبقوا شايفين إن هدف النص هو التأثير على الجماهير العريضة وتنويرهم بالمنطق ده، وكأن الكاتب ماسك مصباح العلم وبينوَّر بيه العقول المضلمة، وكأن العقول دي مالهاش إلا إنها تستنى النور عشان تبتدي تشتغل.
دي سيرتو اعترض على الرؤية النخبوية دي، لأن حتى في ظل وجود مؤسسات وعلاقات قوة بتفرَّق بين الكاتب والقارئ، عمر ما المؤسسات ولا العلاقات دي بتسيطر بشكل شامل على عقول الناس، مهما كانت تتمنى كده. بالتالي القارئ عنده مساحة حرية شخصية في فعل القراءة، بتخليه يشوف النص بأشكال مختلفة حسب ظروفه التاريخية والاجتماعية. المساحة دي غالبًا بره تصورات الكاتب عن المعاني الموجودة جوه النص، لأن الأدوات النظرية اللي الكاتب بيستخدمها عشان يفكر في النص مش نفس الأدوات اللي القراء العاديين بيستخدموها. زي ما دي سيرتو بيشرح في كذا مقطع من «ابتكار الحياة اليومية»، الخطط الكبرى اللي المثقفين بيتصوروها مالهاش علاقة بالحيَل اليومية اللي الناس بتستخدمها عشان تتجاوز حدود الفكر المؤسسي.
إذا رجعنا للفرق بين قراءة الأهرام والفيسبوك، نقدر نقول إن قارئ الأهرام النمطي بيحقق التصورات النخبوية عن القراءة باعتبارها نوع من حشو الدماغ بالنور المؤسسي المنضبط. في التصور ده، المعلومة مالهاش إلا معنى حرفي واحد لازم يتوزع على الجماهير عشان تفكر وتتنور على الصراط المستقيم. طبعًا قراء الأهرام الفعليين (إذا اعتبرنا إن الناس لسه بتقرأ الجرائد) ما بيقروش الأهرام بنفس المنطق بالشرط، ولكن التصور النمطي عنهم ما زال بيأثر في طريقة التفكير عن قراء الصحف عند المثقفين.
كذلك قارئ الفيسبوك النمطي بيحقق تصور دي سيرتو عن القراءة المعادية لسلطة المثقفين، بره التقسيمات والترتيبات المؤسسية، بره إطار المعلومات المتاحة في المصادر الرسمية، بطريقة تقدر تفتح محور جديد للتفكير عن القراءة باعتبارها فعل يومي. طبعًا التصور النمطي ده مش دقيق، من ناحية لأن المؤسسات الضبطية بقت تستخدم الفيس وكأنه امتداد للإعلام الرسمي، ومن ناحية تانية لأن شركة الفيسبوك نفسها بتفرض بعض الضوابط على التفاعل مع مستخدميها، بتأسس لنوع جديد من السيطرة على اللغة. ولكن بالمقارنة بنوع السيطرة اللي الأهرام بتفرضه، الكتابة والقراءة على الفيس ممكن تمثل نوع من التهرب وفتح المساحات الجديدة للتفاعل بعيد عن إرادة الدولة.
إذن الفرق بين الأهرام والفيسبوك مش فرق في المصادر والمصداقية، وإنما فرق في العلاقة بين القارئ والقراءة والمؤسسة. إذا الأهرام بتدفع إلى نمط واحد وموحَّد للقراءة، الفيسبوك بيسيب مساحة للتفاعلات المتعددة مع المادة المكتوبة. بالتالي ما نقدرش نقول إن القراءة عبارة عن فعل واحد وموحَّد، يهدف إلى استخراج معاني مدفونة جوه النص، لأن كل واحد يقدر يستخرج معاني مختلفة بأشكال مختلفة حسب قراءته وخلفيته واهتماماته. مساحة الحرية المفتوحة للقارئ بره التصورات المؤسسية بتخليه كائن فعّال مش مفعول به، كائن قادر على تجاوز التوقعات والترتيبات الثابتة.