إيه الفايدة إذا ما كناش قادرين ننبسط؟
مقال لديفيد جريبر
نُشر في The Baffler
ترجمة إلى العامية: حسين الحاج وشهاب الخشاب
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجمان بحقهما في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها
مرة أنا وصديقتي جون ثاندرستورم (June Thunderstorm) قضينا نُص ساعة وإحنا قاعدين في روضة جنب بحيرة في الجبل، وبنتفرج على دودة فراشة وهي بتتمرجح من فوق عود من الحشيش الطويل، وعمّالة تلَفلِف في كل الاتجاهات الممكنة تقريبًا، وبعدين تنُط للعود التاني وتعمل نفس الحاجة. وكانت بتتصرف كده في دايرة واسعة، وبتبذل مجهود كان لا بد كبير، وبدون أي سبب فيما يبدو.
مرّة جون قالت لي: «كل الحيوانات بتلعب، حتى النمل». قضِّت كذا سنة وهي بتشتغل جناينية محترفة، وصادفتها أحداث كتيرة زي دي، قعدت تلاحظها وتفكّر فيها. قالت لي: «بُص»، وكان باين عليها ملامح الانتصار الصغير: «شُفت أنا قصدي إيه؟»
معظم الناس اللي زينا لما بتسمع القصة دي بتطالب بالدليل. إحنا إزاي عارفين إن الدودة كانت بتلعب؟ يمكن الدواير الخفية اللي كانت بترسمها في الهوا كانت في الواقع مجرَّد بحث عن نوع مجهول من الفريسة، أو طقس للتزاوج. هل ممكن نثبت إن الموضوع غير كده؟ حتى لو الدودة كانت بتلعب، إحنا إزاي عارفين إن النوع ده من اللعب ما كانش بيأدِّي غرض عملي ما في نهاية الأمر: الرياضة أو التمرين الذاتي لمواجهة الطوارئ الدودية المستقبلية المُحتملة؟
ده غالبًا برضه هيكون رد فعل معظم علماء السلوك الحيواني المحترفين (ethologists). تحليل السلوك الحيواني عمومًا ما بيتشافش على إنه علمي إلا إذا الواحد افترض –ولو بشكل ضمني– إن الحيوان بيتعامل بنفس حسابات الوسيلة والغاية اللي الواحد بيطبَّقها على المعاملات الاقتصادية. حسب الافتراض ده، المجهود المبذول لازم يتوجِّه ناحية هدف ما، سواء كان الحصول على الطعام أو تأمين منطقة المعيشة أو تأكيد السيطرة أو تحقيق أقصى قدر من النجاح في الإنجاب –إلا إذا الواحد يقدر يثبت في المطلق إن الموضوع مش كده، وزي ما الواحد ممكن يتخيِّل، صعب إنه يلاقي الإثبات المطلق في الأمور دي.
لازم أأكد هنا إن نوع النظرية اللي يمكن تكون في دماغ عالِمة ما عن الدوافع الحيوانية مش فارق قوي –تصورها عن اللي الحيوان بيفكَّر فيه، وإذا كانت فاكرة إنه ممكن يتقال على الحيوان إنه يقدر «يفكَّر» في حاجة أصلًا. أنا ما بقولش إن علماء السلوك الحيواني فاكرين فعلًا إن الحيوانات عبارة عن مجرَّد مَكَن عقلاني بيحسب كل حاجة، أنا بقول بس إن علماء السلوك الحيواني حبسوا نفسهم في عالم بيعتبر إن العلم معناه إن الواحد يشرح السلوك باستخدام مفردات عقلانية –وده يعني بالتالي إن الواحد يوصف الحيوان وكأنه فاعل اقتصادي بيحسب كل حاجة وبيحاول يحقق أقصى قدر من المصالح الشخصية بشكل من الأشكال– أيًا كانت نظريتهم عن السيكولوجيا أو الدوافع الحيوانية.
وعشان كده وجود اللعب الحيواني بيُعتبر حاجة أشبه بالفضيحة الفكرية. هي حاجة ما بتتدِرِسش كتير، والناس اللي بتدرسها بيتشافوا على إنهم لاسعين حبتين. زي في حالة مفاهيم تهكمية تانية كتير بتشكِّل تهديد مبهم، فيه معايير صعب إن الواحد يلتزم بها عشان يثبت وجود اللعب الحيواني. وحتى لما بيتم الاعتراف باللعب الحيواني، البحث بيقعد ياكل في نفسه وأفكاره في معظم الأحيان، ويحاول يثبت إن اللعب لازم يكون له وظيفة ما للبقاء أو الإنجاب على المدى الطويل.
ورغم كل ده، كل الناس اللي بتهتم بالموضوع بلا استثناء مضطرين يستنتجوا إن اللعب موجود بالفعل عبر العالم الحيواني، وإنه مش بس موجود عند الكائنات اللي معروف إنها بتحب الفرفشة، زي القرود والدولفين والكلاب الصغيرة، وإنما كمان عند أجناس حيوانية غير متوقعة، زي الضفادع وسمكة البلمة (minnow) وسحالي السمندر والسرطان الكماني (fiddler crab)، وأيوه حتى عند النمل –اللي هم مش بس بيفرفشوا كأفراد، وإنما كمان اتلاحظ من القرن الـ19 إنهم بينظّموا حروب صورية من غير أي سبب واضح إلا عشان ينبسطوا.
ليه الحيوانات بتلعب؟ طيب، وليه لأ؟ السؤال الحقيقي هو: إشمعنى وجود الفعل اللي بيتم فقط عشان متعة الفعل البحتة، أو ممارسة بعض القدرات فقط عشان متعة الممارسة البحتة، بيبقى شكله غامض بالنسبة لنا؟ السؤال ده بيقول إيه عننا بما إننا بنفترض بالغريزة إن وجود الفعل ده غامض؟
بقاء اللا متوائمين (misfits)
الانحياز في التفكير الشعبي إلى رؤية العالم البيولوجي بمفردات الاقتصاد موجود من بدايات العلم الدارويني في القرن الـ19. ده تشارلز داروين نفسه (Charles Darwin) اقتبس مصطلح «البقاء للأصلح» من عالم الاجتماع هربرت سپنسر (Herbert Spencer)، اللي كانوا الحرامية حيتان الصناعة بيموتوا فيه. سپنسر كان برضه مُندهش قد إيه القوى اللي بتدفع الانتقاء الطبيعي في «أصل الأنواع» كانت ماشية مع نظرياته الشخصية عن الاقتصاد الحر. التنافس على الموارد والحساب العقلاني للامتيازات واختفاء الضعفا التدريجي كانوا متاخدين على إنهم توجيهات الكون الأساسية.
الرؤية الجديدة دي للطبيعة بوصفها مسرح لصراع عنيف للبقاء كان لها أبعاد كبيرة، والاعتراضات اتسجلت من بدري قوي. فيه مدرسة داروينية بديلة ظهرت في روسيا، وأكدت إن التعاون، مش التنافس، هو دافع تطور الأنواع. في 1902، المنهج ده بقى له صوت عبر كتاب جماهيري عنوانه «المساعدة المتبادلة: عاملٌ في التطور» من تأليف عالم الطبيعة وكاتب المقالات الأناركي الثوري پيتر كروپوتكين (Peter Kropotkin). كرد فعل واضح تجاه الداروينيين الاجتماعيين، كروپوتكين اقترح إن الأساس النظري للداروينية الاجتماعية على بعضها كان غلط: الأنواع اللي بتتعاون بكفاءة أكبر هي غالبًا أكتر أنواع بتقدر تتنافس على المدى الطويل. كروپوتكين (اللي اتولد أمير وتخلّى عن منصبه وهو شاب) قضّى سنين طويلة في سيبيريا كعالِم طبيعة ومستكشف، قبل ما يتحبس بتهمة الترويج للثورة ويفلت ويهرب للندن. «المساعدة المتبادلة» اتطور من مجموعة مقالات كتبها ردًا على توماس هنري هاكسلي (Thomas Henry Huxley)، وهو دارويني اجتماعي معروف، ولخَّص المفهوم الروسي في وقتها، وهو إن التنافس عامل من العوامل اللي بتدفع التطور الطبيعي والاجتماعي بلا شك، وإنما دور التعاون هو الحاسم في نهاية الأمر.
حتى لو ما كانش بيتذكر باسمه إلا نادرًا، التحدي الروسي اتاخد بجدية فعلًا في بيولوجيا القرن العشرين –خاصةً في المجال النامي المعروف باسم السيكولوجيا التطورية (evolutionary psychology). بقى كمان متضمن في «إشكالية الإيثار» العامة– والتعبير ده برضه متاخد من الاقتصاديين، وبيتداخل برضه مع الجدل بين منظرين الاختيار العقلاني (rational-choice theorists) في العلوم الاجتماعية. وده السؤال اللي شغل داروين هو كمان: ليه لازم الحيوانات تضحِّي بامتيازاتها الشخصية في صالح الآخرين؟ عشان محدِّش يقدر ينكر إنهم بيعملوا كده ساعات. ليه حيوان القطيع بيشد انتباه ربما يتسبب في قتله عشان يحذّر زملائه إن فيه حيوان مفترس جاي؟ إشمعنى النحلات العاملات بتقتل نفسها عشان تحمي الخلية؟ إذا كان التفسير العلمي لأي سلوك معناه إن الواحد ينسب دوافع عقلانية ومرتبطة بتحقيق المكاسب القصوى للحيوان، فإيه بالضبط اللي النحلة الانتحارية بتحاول تحققه؟
كلنا عارفين الإجابة اللي سمح بها اكتشاف الجينات في الآخر. الحيوانات بتحاول بس إنها تحقق أقصى قدر من الانتشار لأكوادها الجينية الخاصة. لأسباب غريبة، الرؤية دي (اللي بقى يتقال عليها الداروينية الجديدة لاحقًا) اتطوَّرت على إيد شخصيات كانت بتعتبر نفسها راديكالية بشكل أو بآخر. جاك هالدين (Jack Haldane)، وهو عالم بيولوجيا ماركسي، كان بيحاول يضايق أصحاب الأخلاق العالية في التلاتينات بهزار ويقول إنه مستعد يضحي بحياته في مقابل «أخين أو 8 أولاد خال» زي أي كائن بيولوجي. المثال الأعلى للطريقة دي في التفكير ظهر مع كتاب «الجين الأناني» للناشط الملحد ريتشارد دوكينز (Richard Dawkins) –والعمل ده أكّد على إنه يُفضَّل إننا نعتبر كل الكائنات البيولوجية وكأنها «روبوتات متثاقلة» ومتبرمجة بأكواد جينية بتتعامل زي «المجرمين الناجحين في شيكاغو» (لسبب محدِّش قادر يشرحه بالضبط)، وبيوسّعوا منطقتهم بلا رحمة وبرغبة لا متناهية في الانتشار. الأوصاف دي كانت عادةً متزودة بملاحظات من نوعية: «وطبعًا ده مجرّد مجاز، والجينات مش عايزة حاجة ولا بتعمل حاجة فعليًا». ولكن في الواقع، اللي دفع الداروينيين الجدد لاستنتاجاتهم عمليًا هو افتراضهم الأولي: إن العلم بيتطلَّب تفسير عقلاني، وإن ده معناه إن الواحد ينسب دوافع عقلانية لأي سلوك، وإن السلوك العقلاني بجد هو فقط السلوك اللي عادةً هيتوصف على إنه أنانية أو طمع لما يتلاحظ عند البشر. بالتالي الداروينيين الجدد راحوا أبعد حتى من أسلافهم في عصر ڤيكتوريا. إذا كان الداروينيين الاجتماعيين القدام شايفين إن الطبيعة عاملة زي السوق، ولو إنه سوق ما بيرحمش بشكل غير معتاد، النسخة الجديدة كانت رأسمالية من بابها. الداروينيين الجدد ما افترضوش بس وجود صراع للبقاء، وإنما كون كامل من الحساب العقلاني المدفوع بأمر النمو بلا نهاية وبشكل يبدو غير عقلاني.
ودي كانت على كل حال الطريقة اللي اتفهم بها التحدي الروسي. بس طرح كروپوتكين الفعلي كان مثير أكتر بكتير. جزء كبير منه كان مرتبط مثلًا بإزاي التعاون الحيواني مالوش أي علاقة بالبقاء أو الإنجاب في أحوال كتيرة، وإنما إنه في حد ذاته شكل من أشكال المتعة. فهو كتب إن «عند أنواع كتيرة من الطيور، الطيران في أفواج بهدف المتعة وبس تُعتبر حاجة شائعة». كروپوتكين بيكتَّر من أمثلة اللعب الاجتماعي: إجواز من طيور العقاب بيلفوا سوا بس عشان ينبسطوا، أرانب حابة تتلاكم مع أنواع تانية لدرجة إنها ساعات (ومن غير حكمة) بتقرَّب من التعالب، أفواج من الطيور بتأدي حركات شبه عسكرية في الهوا، مجموعات من السناجب بتتقابل عشان تتصارع أو تلعب ألعاب شبيهة:
«إحنا عارفين دلوقتي إن كل الحيوانات مُغرمة بالألعاب، وإنهم بيجروا ورا بعض ويقفشوا بعض ويغيظوا بعض إلخ، بدايةً من النمل والطيور ووصولًا إلى الثدييات الأعلى. وبينما فيه ألعاب كتير تُعتبر مدرسة السلوك المناسب للصغيرين في الحياة الناضجة (إذا جاز التعبير)، فيه ألعاب تانية زي الرقص والغناء اللي بتُعتبر مجرَّد تجليات للطاقات الفايضة دونًا عن أهدافها النفعية –(بهجة الحياة) والرغبة في الاتصال بشكل أو بآخر مع أفراد تانيين من نفس النوع أو نوع تاني– هي باختصار تجلي للسلوك الاجتماعي بجد، ودي خاصية مميزة في العالم الحيواني بحاله».
ممارسة القدرات إلى أقصى مدى هي الاستمتاع بوجود الواحد، وعند الكائنات الاجتماعية، المتعة دي بتكتر كل ما بتتأدى بشكل مشترك. من وجهة النظر الروسية، ده مش محتاج شرح. هي دي الحياة ببساطة. مش لازم نشرح ليه الكائنات عايزة تعيش. الحياة هي غاية في حد ذاتها. وإذا كون الواحد عايش عبارة فعليًا عن بعض القدرات –الجري والنطْ والخناقة والطير في الهوا– يبقى أكيد ممارسة القدرات دي كغاية في حد ذاتها مش محتاج شرح برضه. ده مجرَّد امتداد لنفس المبدأ.
فريدريش شيلر (Friedrich Schiller) كان طارح من سنة 1795 إننا بنلاقي أصول الوعي بالذات وبالتالي الحرية وبالتالي الأخلاق تحديدًا في اللعب. في كتابه «عن تربية الإنسان الجمالية»، شيلر كتب: «الإنسان بيلعب بس لما بيبقى إنسان بالمعنى الكامل للكلمة، وما بيبقاش إنسان بشكل كامل إلا لما بيلعب». وإذا كان ده حقيقي، وإذا كان كروپوتكين عنده حق، بقى فيه شذرات من الحرية أو حتى من الحياة الأخلاقية بتبدأ تظهر حوالينا في كل حتة.
إذن مش غريب خالص إن الداروينيين الجدد تجاهلوا الجانب ده من طرح كروپوتكين. عكس «إشكالية الإيثار»، ما كانش ممكن يستعيدوا التعاون في سبيل المتعة كغاية في حد ذاتها لأهدافهم الأيديولوجية. في الواقع، نسخة الصراع للبقاء اللي ظهرت طول القرن العشرين كان فيها مساحة أقل للعب بالنسبة للنسخة الفيكتورية الأقدم حتى. هربرت سپنسر نفسه ما كانش عنده مشكلة مع فكرة إن اللعب الحيواني مالوش هدف، وإنه مجرَّد انبساط بالطاقة الفايضة. زي ما رجل الصناعة الناجح أو مندوب المبيعات ممكن يروّح البيت ويلعب دور كريبج أو پولو حلو، إشمعنى الحيوانات اللي نجحت في الصراع للبقاء ما تقدرش تستمتع شوية هي كمان؟ وإنما في النسخة الرأسمالية الجديدة المكتملة للتطور، اللي ما عادش فيها حد لدافع التراكم، الحياة ما بقتش غاية في حد ذاتها، وإنما مجرَّد وسيلة لانتشار سلاسل الدي إن إيه –وعشان كده بقى وجود اللعب في حد ذاته فضيحة نوعًا ما.
إشمعنى أنا؟
العلماء مش بس مترددين في إنهم ياخدوا طريق ربما يخلّيهم يشوفوا اللعب بين الحيوانات –وبالتالي الوعي بالذات والحرية والحياة الأخلاقية. كتير منهم كمان بيلاقوا صعوبة أكتر وأكتر في ابتكار تبريرات تخص أي حاجة من الحاجات دي عند البني آدمين حتى. أول ما تيجي تختزل كل الكائنات الحية بوصفهم معادلين لفاعلين السوق –مَكَن عقلاني وبيحسب كل حاجة وبيحاول ينشر كوده الجيني– بتتقبّل إن الخلايا اللي بتكوِّن جسمنا وأيًا كان الكائن اللي كان جدنا المباشر بينقصهم أي حاجة تشبه الوعي بالذات والحرية والحياة الأخلاقية من قريب أو من بعيد –وده بيصعَّب محاولة فهم إزاي وليه الوعي (العقل، الروح) كان ممكن يتطوّر من أساسه.
الفيلسوف الأمريكي دانييل دينيت (Daniel Dennett) بيطرح الإشكالية بشكل واضح نسبيًا. شوف الإستاكوزا مثلًا –هي مجرد روبوت حسب طرحه. الإستاكوزا ممكن تعيش حياتها بدون أي إحساس بالذات على الإطلاق. أنت ما تقدرش تسأل إيه اللي يشبه إن الواحد يكون إستاكوزا. الموضوع مالوش علاقة بأي حاجة. ما عندهمش أي حاجة تشبه حتى الوعي؛ هم عبارة عن مَكَن. ولكن إذا ده كان الحال فعلًا حسب دينيت، يبقى لازم نفترض نفس الحاجة على كل درجة أكثر تعقيدًا على سلم التطور، من أول الخلايا الحيّة اللي بتكوّن أجسامنا لغاية الكائنات المعقدة زي القرود والأفيال، اللي ما نقدرش نثبت إنهم بيفكروا في اللي بيعملوه رغم كل خاصياتهم اللي شكلها بشرية. وده لغاية ما فجأة، دينيت بيوصل للبني آدمين، اللي هم رغم كل شيء –حتى لو بالتأكيد هم شغّالين بشكل أتوماتيكي على الأقل 95% من الوقت– بيبدو وكأن عندهم الـ«أنا» دي، الذات الواعية المتركبة فوقيهم، اللي بتظهر ساعات عشان تاخد بالها وتشرف، وتتدخّل عشان تقول للسيستم إنه يدوّر على شغلانة جديدة أو يبطّل تدخين أو يكتب مقالة أكاديمية عن أصول الوعي. في تعبير دينيت:
«أيوه، عندنا روح. ولكنها معمولة من روبوتات صغيرة كتيرة. وبشكل أو بآخر، تريليونات الخلايا الروبوتية (واللاواعية) اللي بتشكل أجسامنا بتنظم نفسها كأنظمة متفاعلة بتسمح باستمرار النشاطات المخصصة تقليديًا للروح أو الإيجو أو الذات. ولكن بما إننا سلمنا من قبل كده بأن الروبوتات البسيطة مش واعية (إذا كانت ماكينات تسخين العيش وضبط درجة الحرارة والتليفونات مش واعية)، فإشمعنى ما تقدرش فِرَق الروبوتات دي إنها تحقق مشاريعها المعقدة أكتر بدون ما تضطر تشكلني أنا؟ إذا كان نظام المناعة عنده عقل مستقل، ودورة التنسيق بين الإيد والعين اللي بتقطف التوت عندها عقل مستقل، ليه الانشغال بخلق عقل فائق يشرف على كل ده؟»
إجابة دينيت نفسه مش مقنعة قوي: بيقترح إن وعينا بيتطوَّر عشان نقدر نكذب، وده بيدينا امتياز تطوري. (إن كان كده، مش التعالب كمان هتبقى واعية؟) وإنما السؤال بيبقى أصعب بدرجة مضاعفة لما تيجي تسأل إزاي الموضوع ده بيحصل –دي «إشكالية الوعي الصعبة» حسب تعبير ديڤيد تشالمرز (David Chalmers). إزاي خلايا وأنظمة تبدو روبوتية بتنضم لبعضها عشان يبقى لها تجارب كيفية: إن الواحد يحس بالرطوبة ويدوق النبيت ويُعجب برقصة الكومبيا رغم إن الصالصا مش فارقة معاه؟ بعض العلماء صُراح بما يكفي عشان يعترفوا بإن ما عندهمش أدنى فكرة عن إزاي يفسَّروا تجارب زي دي، وشاكين إن عمرهم ما هيفسّروها.
هل الإلكترونات بترقص؟
فيه مَخرَج من المعضلة دي، والخطوة اﻷولى إننا نفترض إن نقطة بدايتنا يمكن تكون غلط، ونعيد النظر في الإستاكوزا. الإستاكوزات ليها سمعة وحشة جدًا عند الفلاسفة، ودايمًا يضربوا بيها المثل باعتبارها كائنات لا بتفكر ولا بتحس أبدًا، يمكن عشان الإستاكوزا هو الحيوان الوحيد اللي معظم الفلاسفة قتلوه بإيديهم الاتنين قبل ما ياكلوه. شيء يعكّر المزاج إنك ترمي كائن بينازع في الروح جوه حلة مياه بتغلي، فضروري الواحد يقول لروحه إن الإستاكوزا دي مش بتحس بحاجة في الحقيقة. (يبدو إن الاستثناء الوحيد للنمط ده موجود في فرنسا لسبب ما، مطرح ما جيرار دو نيرفال (Gérard de Nerval) كان بيتمشى بإستاكوزا على إنها حيوان أليف ويركِّب لها سلسلة، وجان بول سارتر اتهوس جنسيًا بالإستاكوزات في مرحلة ما بعد ما اتعاطى جرعة زيادة من المسكالين[1]). بس في الواقع، الملاحظة العلمية كشفت إن حتى الإستاكوزا بتشارك في بعض أنواع اللعب، زي مَسك الأشياء مثلًا، والتلاعب بها مجرَّد عشان الكيف وبس. لو كان ده الحال، فاعتبار الكائنات دي كأنها «روبوتات» يبقى تجريد لكلمة «الروبوت» من معانيها. اﻵﻻت ما بتلعبش. لكن لو ما كانتش الكائنات الحية آلات في نهاية الأمر، فكتير من اﻷسئلة اللي تبدو شائكة دي بتختفي على طول.
إيه اللي ممكن يحصل لو بصينا من الناحية التانية واتفقنا إننا ما نعاملش اللعب كأنه حالة شاذة، وإنما كنقطة بدايتنا، كمبدأ موجود مش بس في الإستاكوزا وفي كل الكائنات الحية طبعًا، وإنما على كل المستويات اللي بنلاقي فيها «أنظمة بتنظَّم نفسها» حسب تسمية علماء الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا.
وده مش جنان خالص زي ما يبان عليه.
فلاسفة العلوم قدموا نوعين من التفسيرات قدام لغز خروج الحي من المادة الميتة أو لغز تطور الكائنات الواعية من الميكروبات.
اﻷولاني عبارة عن اللي بيتقال عليه النشوء (emergentism). اﻷطروحة بتقول إن إذا التطور وصل لمستوى معين من التعقيد، فيه نوع من الطفرة النوعية ممكن «تنشأ» جواها أنواع جديدة من القوانين الفيزيائية، أنواع ممكن تبقى قايمة على اللي جه قبلها بس مش ممكن تُختزل فيها. وبالطريقة دي، ممكن الواحد يقول إن قوانين الكيمياء نشأت من الفيزياء وبتفترض قوانين الفيزياء، بس مش ممكن تُختزل فيها. وبنفس الطريقة، قوانين البيولوجيا بتنشأ من الكيمياء: لازم طبعًا نفهم التكوين الكيميائي للسمكة عشان نفهم إزاي بتعوم، ولكن العناصر الكيميائية عمرها ما هتقدم شرح كامل. وبنفس الطريقة، ممكن نقول إن العقل البشري نشأ من الخلايا اللي بتكوِّنه.
أما اللي بيدافعوا عن الموقف التاني، اللي بيتسمّى عادةً وحدة النفس (panpsychism) أو وحدة التجربة (panexperimentalism)، هم متفقين إن كل اللي فات ممكن يبقى صح، بس بيطرحوا إن النشوء مش شرح كافي. زي ما وضّح الفيلسوف البريطاني جالين ستروسون (Galen Strawson)، تصور إن الواحد يقدر يتنقل من مادة بلا شعور إلى كائن قادر يناقش وجود المادة بلا شعور في نطتين بس بيخلّي فكرة النشوء تشرح حاجات زيادة عن قدرتها على الشرح. لازم يكون فيه شيء فعلًا على كل مستوى من مستويات الوجود المادي، حتى على مستوى الجسيمات دون الذرية –شيء مهما كان صغير وبدائي قادر يعمل جزء من الحاجات اللي اتعودنا نفكّر فيها بصفتها جزء من عوامل الحياة (حتى العقل)، عشان الشيء ده يقدر يكون مُنظم على مستويات أعقد وأعقد، وعشان ينتج كائنات واعية بنفسها في الآخر. «الشيء» ده ممكن يكون صغير قوي بالفعل: شيء من الحس البدائي بالاستجابة للبيئة، شيء زي الحدس، شيء زي الذاكرة. مهما كان أولي، لازم الشيء ده يبقى موجود عشان الأنظمة اللي بتنظّم نفسها زي الذرات أو الجزيئات تنظّم نفسها من أساسه.
فيه أسئلة كتير محطوطة على المحك في المناقشة دي، حتى مسألة اﻹرادة الحرة العتيقة. على رأي مراهقين بلا عدد اتأملوا في ألغاز الكون وهم مصطبحين: إن كانت حركة الجسيمات اللي بتكوّن عقولنا محددة بالقوانين الطبيعية مسبقًا، فإزاي ممكن نقول إن عندنا إرادة حرة؟ اﻹجابة المعتادة إننا عارفين من وقت هايزنبرج إن حركة الجسيمات الذرية مش متحددة مسبقًا، وميكانيكا الكم تقدر مثلًا تتنبأ بالمواقع اللي اﻹلكترونات هتميل للنط ناحيتها إجماليًا في حالة معينة، لكن من المستحيل تتنبأ بالطريق اللي ممكن ينط ليه إلكترون محدد في أي لحظة محددة. كده المشكلة اتحلّت.
بس مش قوي –لسة فيه حاجة ناقصة. إذا كان ده معناه بس إن الجسيمات اللي بتشكل عقولنا بتنط بشكل عشوائي، فالواحد لسه لازم يتخيل وجود كيان غير مادي ميتافيزيقي ما («العقل») اللي بيتدخّل عشان يمشّي خلايا المخ في اتجاهات مش عشوائية. بس ده لف ودوران على الفاضي: إنت محتاج إن يكون عندك عقل من الأول عشان يخلّي مخك يشتغل زي العقل.
في المقابل، إذا الحركات دي ما كانتش عشوائية، تقدر على الأقل تبدأ تفكَّر في شرح مادي. ووجود أشكال لانهائية من التنظيم الذاتي في الطبيعة –بنيات بتحافظ على توازنها بنفسها في بيئتها، من أول الحقول الكهرومغناطيسية لغاية عمليات التبلور– بتدي المؤمنين بوحدة النفس مواد كتيرة يتشغلوا عليها. في رأيهم، صحيح إنك تقدر تصرّ على إن كل الكيانات دي إما إنها «بتخضع» لقوانين الطبيعة (اللي هي قوانين وجودها مش محتاج شرح في حد ذاته) أو إنها بتتحرك بعشوائية تامة... ولكن لو عملت كده، فده في الواقع بس عشان أنت اللي قررت إن دي الطريقة الوحيدة اللي مستعد تشوف بيها الموضوع. وبتستغرب تمامًا حقيقة إنك لك عقل قادر على إنه ياخد قرارات زي دي.
طبعًا المنهج ده كان دايمًا في وضع الأقلية. أثناء معظم القرن العشرين، كان مركون على جنب تمامًا. وسهل إن الواحد يتتريَق عليه. («استنى، هو أنت بجد فاكر إن الترابيزات ممكن تفكّر؟» لا، يعني محدّش بيقول كده؛ الفكرة إن العناصر اللي بتكوّن الترابيزات واللي بتنظّم نفسها بنفسها زي الذرة بتكشف عن أشكال بسيطة جدًا للخاصيات اللي ممكن نعتبرها فكر على المستويات الأعقد بأضعاف مضاعفة). ولكن في السنين الأخيرة، خاصةً مع الشعبية الجديدة اللي حصلت عليها أفكار فلاسفة زي تشارلز ساندرز پيرس (1839-1914) وألفريد نورث وايتهيد (1861-1947) في بعض الدوائر العلمية، بدأنا نشوف نوع من الإحياء للفكرة.
الغريب إن علماء الفيزياء هم اللي طلعوا متقبلين للأفكار دي غالبًا. (والرياضيين كمان، ويمكن ده مش غريب لأن پيرس ووايتهيد نفسهم بدأوا حياتهم المهنية كرياضيين). علماء الفيزياء عبارة عن كائنات بتحب اللعب ومش مُتحجِّرة زي علماء البيولوجيا مثلًا –وجزء من ده بلا شك عشان نادرًا ما بيضطروا يواجهوا الأصوليين الدينيين اللي بيشككوا في قوانين الفيزياء. هم شعراء المجال العلمي. إذا الواحد مُهيأ أساسًا لإنه يتقبل أجسام لها تلاتاشر بعد أو عدد لا نهائي من الأكوان البديلة، أو إنه يقترح ببساطة إن 95% من الكون متكوّن من المادة والطاقة المظلمة اللي ما نعرفش حاجة عن خاصياتها، يمكن مش بعيد إنه يتأمل في إمكانية إن الأجسام دون الذرية عندها «إرادة حرة» أو حتى تجارب. وبالفعل، وجود الحرية على المستوى دون الذري هي موضع جدل ساخن حاليًا.
هل له معنى إننا نقول إن الإلكترون «بيختار» ينُط بالطريقة اللي بينط بيها؟ طبعًا مفيش وسيلة إننا نثبت ده. الدليل الوحيد اللي يمكن يكون عندنا هو عندنا بالفعل (وهو إننا ما نقدرش نتنبأ باللي الإلكترون هيعمله). بس ده مش دليل حاسم. برضه إذا الواحد عايز شرح مادي للعالم بشكل متسق –يعني إذا الواحد مش عايز يعامل العقل وكأنه شيء معدِّي الطبيعي ومفروض على العالم المادي، وإنما ببساطة كأنه تنظيم أكثر تعقيدًا لعمليات بتحصل كده كده على كل مستوى من مستويات الحقيقة المادية– فمنطقي إن حاجة تشبه النيّة شوية وحاجة تشبه التجربة شوية وحاجة تشبة الحرية شوية لازم تبقى موجودة على كل مستويات الحقيقة المادية كمان.
طيب ليه معظمنا بيكِش فورًا قدام الاستنتاجات دي؟ إشمعنى بتبان وكأنها مجنونة وغير علمية؟ أو بدقة أكتر، إشمعنى إحنا مستعدين تمامًا لإننا ننسب قدرة فعّالة لسلسلة دي إن إي (ولو بشكل «مجازي»)، ولكننا بنعتبر الموضوع عبثي لما بنعمل نفس الحاجة مع الإلكترون أو ندفة الثلج أو حقل كهرومغناطيسي متماهي؟ الإجابة تبدو إنه من المستحيل تقريبًا إننا ننسب مصالح شخصية للثلج. إذا أقنعنا نفسنا إن الشرح العقلاني للفعل ما يقدرش يحتوي على أي شيء إلا التعامل مع الفعل وكأن فيه وراه نوع ما من حسابات بتخدم الواحد، إذن بحكم التعريف، وعلى كل المستويات دي، مش ممكن نلاقي الشرح العقلاني. عكس جزيئة الدي إن إيه، اللي نقدر على الأقل نتظاهر بإنها بتجري ورا مشروع شبه إجرامي ما للتوسع الذاتي الشرس، الإلكترون ببساطة ما عندوش مصلحة مادية يجري وراها، ولا حتى البقاء على قيد الحياة. الإلكترون ما بينافسش الإلكترونات التانية بأي معنى من المعاني. إذا الإلكترون بيتعامل بحرية –إذا هو زي ما المفروض إن ريتشارد فاينمان (Richard Feynman) قال كان «بيعمل أي حاجة هو حاببها»– ما يقدرش إلا إنه يتعامل بحرية كغاية في حد ذاتها. وده معناه إن في أساس الحقيقة المادية نفسها، بنلاقي الحرية في سبيل الحرية –ومعناه برضه إننا بنلاقي أبسط أشكال اللعب.
العوم مع السمك
خلّينا نتخيل مبدأ. خلّينا نسمّيه مبدأ الحرية –أو بما إن التعبيرات المبنية على اللغة اللاتينية بتبقى لها وزن أكبر في الأمور دي، خلينا نسميه مبدأ الحرية اللعبية (ludic freedom). خلّينا نتخيل إنه بيعتبر إن الممارسة الحرة للطاقات أو القدرات الأكثر تعقيدًا عند كيانٍ ما هتميل إلى إنها تبقى غاية في حد ذاتها، تحت ظروف محددة على الأقل. ده طبعًا مش هيبقى المبدأ الوحيد الفعّال في الطبيعة. فيه مبادئ تانية بتزُق في اتجاهات تانية. بس المبدأ ده ممكن يساهم في شرح اللي بنلاحظه بالفعل دونًا عن أي حاجة تانية، زي مثلًا إشمعنى الكون بيبان وكأنه معقّد أكتر وأكتر ومش أقل وأقل، رغم القانون التاني للثرموديناميك.[2] علماء النفس التطويريين بيقولوا إنهم يقدروا يشرحوا –زي ما بيقول عنوان كتاب من قريب– «إشمعنى الجنس ممتع». اللي ما يقدروش يشرحوه هو إشمعنى الانبساط نفسه ممتع. ومبدأنا يقدر يشرح الموضوع.
أنا ما بانكرش إن اللي قدمته لغاية دلوقتي عبارة عن تبسيط شرس لأمور معقدة جدًا. أنا ما بقولش حتى إن الموقف اللي بطرحه هنا –إنه فيه مبدأ لعبي في أساس كل الحياة المادية– صحيح بالتأكيد. أنا عايز بس أأكد إن وجهة النظر دي واردة على الأقل زي التكهنات المتضاربة بشكل غريب اللي بتعدّي باعتبارها الصراط المستقيم حاليًا، واللي بحسبها فيه كون روبوتي بلا عقل فجأة بينتج شعراء وفلاسفة من اللاشيء. وأظن إن الواحد يشوف اللعب كمبدأ في الطبيعة مش شرط معناه إن الواحد يتبنى أي رؤية من الرؤى المثالية الوردية. مبدأ اللعب ممكن يشرح إشمعنى الجنس ممتع، ولكن ممكن كمان يشرح إشمعنى القسوة ممتعة. (زي ما ممكن يأكد عليه أي حد شاف قطة بتلعب بفار، جزء كبير من اللعب الحيواني مش لطيف قوي). بس ده بيدّينا مساحة لإننا نعيد التفكير في العالم اللي حوالينا.
من سنين فاتت، لما كنت بدرّس في جامعة ييل، كنت بقرر أحيانًا على الطلاب إنهم يقروا نص فيه قصة طاوية مشهورة، وكنت بدّي تقدير امتياز فورًا للطالب اللي يقدر يقول لي ليه السطر اﻷخير منطقي (وعمر ما حد نجح في ده).
مرة جوانگ زي وهوي شي كانوا بيتمشوا على كوبري فوق نهر هاو لما جوانگ زي لاحظ: «بص إزاي السمك بيتحرك بسرعة بين الحجارة! آدي سعادة السمك».
فرد عليه هوي شي: «وانت اللي مش سمكة، إزاي تقدر تعرف أصلًا إيه اللي بيسعد السمك؟»
فرد عليه جوانگ زي: «وأنت اللي مش أنا، إزاي تعرف إني مش عارف اللي يخلي السمك سعيد؟»
فرد هوي شي: «لو أنا، اللي هو مش أنت، ما أقدرش أعرف اللي أنت تعرفه، مش الحقيقة دي تتبّع إنك أنت، وأنت مش سمكة، ما تقدرش تعرف إيه اللي بيسعد السمك؟»
رد جوانگ زي: «خلينا نرجع لسؤالنا اﻷصلي تاني، انت سألتني إزاي أعرف إيه اللي بيسعد السمك. كونك سألت السؤال ده معناه إنك عارف إني عارف –زي ما أنا عرفت من مشاعري فوق الكوبري ده».
الحكاية دي بتتاخد على إنها مواجهة بين طريقتين لا يمكن التوفيق بينهم في النظر للعالم: الرؤية المنطقية ضد الرؤية الباطنية. إنما لو كان ده صحيح، ليه جوانگ زي، اللي هو كاتب الحكاية، بيّن إن هوي شي صاحبه المنطقي هزمه؟
بعد سنين من التفكير في القصة دي، اتضح لي إن هي دي الغاية منها. حسب كل الروايات، هوي شي وجوانگ زي كانوا من أقرب الأصدقاء، وكانوا بيحبوا يقضوا وقتهم بيتجادلوا كده. أكيد إن ده اللي كان جوانگ زي بيحاول يوصل له في الحقيقة. كل واحد فينا ممكن يفهم اللي التاني حاسس بيه، لأننا بجدالنا عن السمك بنعمل بالضبط اللي السمك بيعمله: بننبسط، وبنعمل حاجة إحنا كويسين فيها لمجرّد متعة عملها. بنتشارك في شكل من أشكال اللعب. كونك حسيت بضرورة إنك تحاول تهزمني في الجدل ده –وكنت مبسوط قوي بإنك قدرت تعمل كده– بتبين إن الافتراض اللي كنت بتجادل على أساسه لازم يكون غلط. فلو كانوا الفلاسفة هم نفسهم مدفوعين في اﻷساس بالمتع دي، يعني بممارسة أقصى قدراتهم فقط في سبيل الممارسة نفسها، فالمبدأ ممكن يتطبّق بالتأكيد على كل مستويات الطبيعة –وعشان كده قدرت ألاحظه بتلقائية في السمك كمان.
جوانگ زي عنده حق، وجون ثاندرستورم كمان. عقولنا مجرَّد جزء من الطبيعة. ممكن نستوعب سعادة اﻷسماك أو النمل أو الديدان ﻹننا مدفوعين بالتفكير والجدال في اﻷمور دي بنفس الدافع في النهاية.
ما إنبسطتوش ولا إيه؟
[1] المسكالين عقار مهلوس بيستخرج بشكل طبيعي من نباتات الصبار اللي بتنمو في جنوب أفريقيا، وممكن برضه تحضيره في المعمل
[2] القانون التاني للثرموديناميك بيفسر مبدأ الإنتروبيا، وهو إن الحالة الطبيعية في الكون إن أي كيان يحتل المكان المتاح ليه بشكل مُشتت ومتساوي في غياب أي قوة مضادة للانتشار جوه المكان ده.