كل شوارع المدينة

قصة قصيرة لبهجت تشيليك*

نُشرت في Words without borders

عن ترجمة آبي كومستوك جاي للإنجليزية

ترجمة محمد نجيب

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

*بهجت تشيليك أحد أشهر الأدباء التركيين المعاصرين. ولد في أضنة عام 1969. تخرج من كلية الحقوق في جامعة إسطنبول عام 1990. نشرت أول قصة قصيرة له في مجلة «الوجود» أقدم مجلة أدبية تركية، وما زالت تصدر حتى اليوم. فاز بجائزة سيد فايق للقصة القصيرة عام 2008 عن مجموعته القصصية «الرغبة في منتصف اليوم» وجائزة «هالدون تانر» للقصة القصيرة عام 2011. كتب عدة مجموعات قصصية منها «درويشان مجنونان» و«زفاف بيرهان» و«شوكة النهاية» كما صدرت له عدة روايات منها رواية «صدى العالم» و«التنفس في لحظة».

تحكي قصة «كل شوارع المدينة» عن رجل يحاول لقاء صديقه وسط حظر تجول مفروض على مدينتهما.


بهجت تشيليك، عن ilerihabe

تعليق من الكاتب: دائمًا ما أمتنع عن مشاركة أي معلومات عن خلفية قصصي مع القراء. فمثل هذه المعلومات تقيد من حرية القارئ في تخيل عالم القصة. نشرت هذه القصة في مجلة أدبية تركية في عام 2016 ووصلتني رسالة من قارئ أنه قرأها وتخيل أنها تحدث في سبعينيات القرن العشرين في تركيا. صحيح أنني كنت أفكر فيما حدث في محاولة الانقلاب العسكري في 2015 وما تبعها من أحداث أثناء كتابة القصة لكنني أحببت تفسير هذا القارئ الشاب للأحداث. (ربما يخطر حصار إسرائيل لقطاع غزة في فلسطين في بال قارئ آخر أثناء قراءته للقصة).

أهم جزء في القصة بالنسبة إليّ هو مسألة حصار قوات الشرطة في أي بلد لحدود مدينة، ومنعها الدخول إليها أو الخروج منها وفرضها حظر التجول على سكانها. لا يهم إذا كان مسرح الأحداث هو ديار بكر في 2015 أو أي مدينة في أي بلد في العالم. لهذا لم أمنح للمدينة اسمًا في هذه القصة. عندما لا تعطي معلومات عن المكان، فإن عالمية مشكلة الحصار تبرز بوضوح أكبر.

***

هاتفتنا أم فِرات لتطلب مني المرور على بيتهم. في البداية ترددت أمي في إخباري خوفًا من أن أتهور وأذهب حقًا. أخبرتني ذلك وهي تقبض على ذراعي. أضافت بقلق: «انظر يا بني، لا أخبرك كي تذهب إلى هناك، لكن حاول أن تعرف ماذا يحدث مع المرأة، واكتشف ما المشكلة».

هاتفتها فوراً. ألقيت التحية وقلت:

«ماذا حدث يا عمتي فاطمة؟ هل هاتفتني؟»

قالت: «لا، لم يحدث أي شيء. ليس شيئًا هامًا على أية حال لكن لو أمكنك أن تمر علينا في أي وقت يا بني..».

قلتُ: «حسنًا، يا عمتي. تقولين إنّ عليَّ المرور عليكم لكنهم لا يسمحون لأحد بالمشي في شارعكم. يطلقون النار على المارة من دون تردد، تعرفين ذلك؟»

«أعرف بالتأكيد. لكن ألا يمكنك إيجاد طريق آمن يا بني؟»

«هل فِرات بخير؟»

«ليس بخير. ليس بخير على الإطلاق. لهذا أطلب منك أن تمر علينا».

«لست متأكدًا من ذلك يا عمتي، دعيني أفكر في الأمر».

فكرتُ لماذا لم تتصل بأخيه قادر؟! هذا الأحمق لن يُحرك إصبعًا من أجل أخيه أو حتى أمه وأبيه. تعرف أمه جيدًا أنه عديم النفع ولهذا اتصلت بي. لو لم يكن الأمر مهمًا، ما اتصلت بي، لذا من الأفضل أن أذهب إليها لكن كيف؟! لم أستطع أن أفكر بطريقة ممكنة. هاتفتها من جديد.

«حسنًا، أخبريني يا عمتي فاطمة، لماذا تريدينني أن آتي إليكم؟»

«بدأ فرات يفقد أعصابه بسبب عجزه عن الخروج. بالكاد ننجح في إبقائه داخل البيت حتى الآن. لا يتوقف عن الصياح أنه سيخرج. الصبي يضرب على الجدران. لقد أغلقنا الأبواب وأبعدناه عن النوافذ».

قلتُ «حسنًا.. لو أخرج رأسه من النافذة فقط، فسوف يردونه قتيلًا».

«وفي الليل حالما تبدأ الطلقات في الدوي بالقرب من هنا، يزداد الأمر سوءًا».

«ناديه كي يكلمني يا عمتي». قلت خائفًا مما قد أواجهه على الطرف الآخر من الهاتف.

أتاني صوت فرات واهنًا: «مرحبًا يا كمال، أهذا أنت؟»

قلت: «أجل، إنه أنا». استطردت: «كيف حالك؟ مرت فترة منذ آخر مرة تمكنت من القدوم إلى ضاحيتكم. لذا فكرت أن أتصل بك وأتفقد أحوالك».

قال لي: «تعال وأخرجني من هنا يا كمال.. لا يمكنني المكوث في البيت بعد الآن. لا أستطيع التنفس. يداي وساقاي. أشعر أن لكل منها عقل خاص بها».

«اصبر يا رجل. سيُرفع حظر التجول خلال يومين أو ثلاثة وسآتي إليك وسنخرج معًا ونذهب إلى المقهى...».

«لا يمكنني الصبر يا كمال. لم أعد متأكدًا إذا كنت جالسًا أو واقفًا. كما لو أنه لا شيء فيَّ مِلكي حقًا. فجأة أتحدث دون توقف ثم فجأة أغرق في صمت مميت. رأسي تدور».

مسكين يا صديقي العزيز! كان دائمًا هكذا، مشتتًا وغريب الأطوار لكن ساء وضعه كثيرًا مؤخرًا. ذلك الصبي!

قلتُ: «تمام، لكن عدني ألا تخرج حتى آتي إليك. سآتي إليك ونخرج معًا».

قال بنبرة متوسلة أشبه بصوت طفل: «وعد؟ عدني أن تأتي إليّ الليلة».

قلتُ: «تمام».

«لا تقل تمام. قل أعدك».

قلتُ «حسنًا. أعدك».

الوصول إلى بيته سيكون شاقًا وبمجرد وصولي هناك، سيتسبب الخروج مع فتى مجنون مثله في مشاكل جمة.

نهضت كي أغادر البيت. قابلت أمي أمام الباب.

«لن تذهب إلى هناك، أليس كذلك يا كمال؟»

«أين؟»

«هناك! يطلقون النار على أي أحد في الطريق يا بني».

«لا، يا أمي، لن أذهب!»

«لا تكن مجنونًا، يا بني، لا تذهب!»

«تمام، يا أمي. لن أذهب. لا تقلقي. اتصلت بهم وانتهى الأمر».

«ما مشكلة الفتى المجنون؟»

«لا شيء يا أمي. يشتاق إليّ فقط. سأذهب لرؤيته بعد رفع الحظر. اتفقنا على ذلك».

على الأقل لم تطلب أمي أن أعدها بذلك.

ارتديت حذائي بسرعة واندفعت خارج البيت. على أن أقتفي أثر الأطفال – لو كان هنالك طريق آمن، فالأطفال يعرفونه. لو لم يكن هنالك مثل هذا الطريق، فسأضطر للحنث بوعدي. لماذا يا فِرات؟!

وجدتهما كما تركتهما. فيدات وجاهين جالسان يعبثان بشاربيهما. عندما رأياني، همّا بالوقوف. وضعت يديّ على كتفيهما ودفعتهما للجلوس. تساءلت كم ساعة مضت على وجودهما هنا؟

قالا عندما أفضيت إليهما بمشكلتي: «هذا أمر عويص.. لقد أغلقوا كل الطرق. ينتظرون من يخالف حظر التجول بأسلحتهم الآلية الثقيلة».

«إذن لا توجد طريقة ما؟»

قال جاهين: «ربما تنجح ليلًا».

«لكن الأمر خطير جدًا يا مُعلمي. ليس لديك أي فكرة. لقد تجرد هؤلاء الرجال من إنسانيتهم. تعرف ما حدث بالأمس...».

«أعرف». قلت ثم غرقت في الصمت. جلسنا جميعًا نبرم شواربنا لفترة. أخرجت علبة السجائر التي أخفاها فيدات تحت جريدة عندما رآني. قربتها من فمي وشممتها.

قلت: «دخان؟ اطمئنا، لن أشي بكما».

قال جاهين الساخر دائمًا: «ما هذا يا معلمي؟ تحاول رشوتنا بأن تسمح لنا بالتدخين؟»

«أنت تدخن منذ كنت صغيرًا وتكاد رأسك تصل إلى ركبتيّ. على أية حال، فلماذا لا تدخن أمامي لمرة».

عرض عليّ فيدات سيجارة لفها بنفسه لكنني رميتها.

«لكن يا معلمي، إذا دخنت، فسوف تصبح ملكًا».

«أنت أيها الأحمق. ألسنا ضد الملكية والسلطنة وكل هذا الهراء؟»

عندما أنهى فيدات احتساء الشاي، نهضا.

«قال جاهين يا معلمي، إذا كنت لا تمانع، فسنذهب لنلقي نظرة ونستطلع الأجواء.. انتظر أنت هنا. هاك جريدة اليوم، تصفحها. سنعود إليك قبل أن تصل إلى صفحة الرياضة».

قلت: «كلما ظل هؤلاء الرجال يكتبون، ستستمر الأمور كما هي.. لن أنتهي من قراءة كل هذا حتى يحل الظلام».

قال: «لا، لا، سنعود قبل ذلك».

لا أعرف كم فنجانًا من الشاي احتسيتُ عندما عادا يرافقهما رجلٌ في مثل عمري. كان وجهه مألوفًا إليّ لكن لم نكن قد تقابلنا من قبل أبدًا. لم يُعرفني على نفسه.

قال وهو يشرع بالجلوس إلى جواري: «ما هو الشيء المهم جدًا الذي يقتضي ذهابك هناك، يا معلمي؟»

قلتُ: «لديَّ صديق. فِرات. إنه يفقد أعصابه بسرعة ولقد ساءت حالته النفسية كثيرًا بعد أن بات عالقًا داخل بيته بسبب حظر التجول. بعد مرور أسبوع من دون الخروج إلى الشارع، يكاد يُجن حقًا».

صحح لي: «لقد مضى أكثر من أسبوع على بدء الحظر».

قلت: «أنت مُحق، لم أقصد تحديد الفترة بالضبط».

لم يعلق على كلامي فأخبرته عن شقيق فِرات الأرعن. قطب حاجبيه وهز رأسه.

«حسنًا، على أخيه أن يأتي ويُخرِجه هو. من المؤكد أنه يعرف كيف يفعل ذلك. بما أنه مدير هذا ورئيس ذلك».

قلتُ: «أنت محق.. لكن هل تعتقد أن هذا الأرعن يبالي بأخيه؟ سمعت أن أباه وأمه غاضبان منه ولا يريدان منه أي معروف».

لخص فيدات الأمر. لقد تخلى الرجل عن أهله من أجل السلطة. «لذا هل تعتقد أنه سيفكر فيهم؟»

سألني الرجل الذي لم يخبرني باسمه عن مكان بيت فِرات فأخبرته.

قال: «جيد».

قلتُ: «لست متأكدًا إذا كان جيدًا أم سيئًا، لقد وعدته أن أصحبه إلى الخارج».

قال: «أفهم ذلك، هذا هو الجزء الأسهل. دعنا نُدخلك هناك أولًا ولنترك الباقي بين يدي الله».

«يحتاج فقط أن يحصل على بعض الهواء النقي خارج البيت. لن يستغرق الأمر طويلًا».

«عد إلى هنا عندما يحل الظلام، يا معلمي. لو كان هنالك طريقة للذهاب إلى هناك، فسنذهب معًا».

هل سأجازف بحياة هذا الرجل أيضًا من أجل تلك المهمة الجنونية؟!

سألته: «هل ستأتي معي؟ لا أريد أن يحدث أي خطأ أو...».

«لا يمكنك الذهاب وحدك يا مُعلمي...» صمت فجأة وهو يسكب ما تبقى من شايه على الأرض قبل أن يتابع: «على أية حال، سأجلب بعض الرجال الذين يمكنهم إيصالك هناك».

«لا أريد أن أتسبب في أي مشكلة...».

قال: «إذا كنت متأكدًا، إذا كنت قد عزمت أمرك، فمهمتنا أن نقدم إليك يد العون. أنت صديقنا. لا يهمنا شقيقه الجبان. هو صديقك، لذا فهو صديقنا أيضًا، أخونا».

قلت وقد سرت بداخلي رعشة خوف: «شكرًا لك».

لا مزاح مع هؤلاء الرجال. ثمة فرصة حقيقية أن نموت خلال مسعانا للوصول إلى فِرات.

فرات يا صديقي المجنون، لو لم نتمكن من الوصول إليك هذه الليلة فلن تنظر إلى وجهي مرة أخرى أبدًا. أدرك تلك الحقيقة تمامًا كما أعرف اسمي. لست متأكدًا كم يمكنك أن تحتمل قبل أن تنفجر.

كان صوته عبر الهاتف هذا الصباح مُحطماً للقلب.

قال لي: «تعال يا كمال، أتوسل إليك، تعال، خذني إلى الخارج. أكاد أجن. لا يمكنني أن أتعرف على نفسي. تعال وأنقذني يا كمال».

***

عندما عدتُ من جديد، وجدت جاهين وذلك الرجل الذي لم أعرف اسمه ينتظراني.

قال جاهين: «إذا فقد حسمت أمرك يا مُعلمي».

«تلبية نداء صديقً أمر مقدس، ألم أعلمك ذلك؟»

«أنا متأكد أنك علمتنا ذلك. لكن في الأغلب لم نكن نستمع».

«من الأفضل أن تحترس...».

لم يتفاعل الرجل مع مزاحنا. ولماذا عليه أن يفعل؟ كلانا يعرف جيدًا ماذا يمكن أن يحدث لي. ربما كان يتساءل إذا كنت أنا أم فِرات الأكثر جنونًا. قال الرجل بتهكم: «لقد ارتديت ثيابًا داكنة! هذا جيد».

قاومت الرغبة كي أقول له: «نعم، فهمت ذلك على الأقل».

أومأت برأسي وباعدت قليلًا بين يديّ المضمومتين.

تركنا جاهين وراءنا ودخلنا الشارع. توقفت سيارة أمامنا بعد قليل فركبناها. الرجل في المقعد بجوار السائق وأنا في المقعد الخلفي. تبادلت تحية صامتة مع السائق من خلال مرآة الرؤية الخلفية. قادتنا السيارة عبر شوارع جانبية – ظننت أنني أعرف هذه المدينة مثل كف يدي لكن في قلب الظلام طفنا بشوارع وأزقة كثيرة لدرجة شعرت أنني تائه في مدينتي. لم أستطع أن أميز إذا كنا متجهين إلى مكان معين أم أننا نتجول في الشوارع نفسها بشكل متكرر. لمعت أضواء متناثرة في نوافذ البيوت لكن لا أحد بالخارج. بدا أن حظر التجول سارٍ في تلك المنطقة أيضًا. توقفت السيارة في مكان لم أتعرف عليه وهبطنا منها.

«سننتظر هنا قليلًا». قال الرجل بينما ينظر في ساعته. لف سيجارة وناولها إليّ. لم أقبلها فدخنها هو. تساءلت عما يدور في رأسه. لم يشي وجهه بأي شيء. لمحت صبيين يبرزان على مبعدة. لكن لم أكن متأكدًا في الظلام إذا كانا هناك فعلًا أم أنهما محض خيالات حتى باتا على مسافة خطوات قليلة منا. تحدث الرجل والفتيان عن شيء ما على الجانب الآخر من السيارة بعيدًا عني - تبادلوا ثلاث أو أربع عبارات. رفع الرجل يده اليمني ليحييهما وهو يركب السيارة من جديد ففعلت مثله. بعد برهة اقترب أحد الفتيين من السيارة وقال: «هيا يا معلمي». ترجلنا من السيارة ومشينا. ماذا كنا ننتظر؟ لم أفهم. بدأ البرد يتسلل إليّ - «من الخوف» قلت لنفسي، فلم تنخفض حرارة الجو هكذا فجأة.

باستثناء صوت خطواتنا الخافت وصوت تنفسي، عم الصمت. في اللحظة التي بدأت أعتقد أن باستطاعتي أن أسمع صوت العرق ينساب على ظهري- قطرات أولًا ثم بغزارة، انهمر علينا سيل من الرصاص. ظننت أنني لا بد قد أصبت من الصوت المدوي للرصاص. كنت مرعوبًا حد الموت. نظرت إلى الفتى الأطول بوجه مذعور فابتسم لي قائلًا: «في الوقت بالضبط». أدركت أن رجالًا تابعين لنا هم من يصنعون تلك الأصوات لتشتيت رجال الشرطة وإلهائهم. ابتسمت. أسرعنا الخطى. بينما نعبر شارعاً ضيقًا بين بيتين، انفتح باب أحداهما فدخلناه. قادنا رجل يرتدي طاقية –مالك الدار كما أعتقد– نحو سلم خشبي. صعدنا السلم واحداً تلو الأخر حتى بلغنا السطح. همس الفتى في أذني: «من الآن فصاعدًا سنقفز من سطح إلى أخر يا معلمي».

اعتقدت بينما ننتقل من سطح إلى آخر أنني سأتمكن من تخمين ما يحدث على الأرض أسفلنا من الروائح لكن لم أستطع أن أشتم سوى رائحة الخوف المنتشر بداخلي. بعد فترة قفزنا إلى أسفل وهبطنا فوق أرض حديقة منزل خرب. انتظرنا لبرهة.

همستُ: «أليست الأسطح خطرة؟ ألا يوجد قناصة؟»

«ليست كل الأسطح. لكن أنت محق من الآن فصاعدًا».

قفزنا فوق جدار حديقة أخرى ثم ثالثة. خطر ببالي قصة الرجل الذي عاد إلى بيته عن طريق السباحة في كل برك المياه في حيّه. بينما أحاول تذكر اسم مؤلف القصة، اندفعنا داخل ظلام باب لم ألحظه في البداية لأن لونه مشابه للون صف المنازل المتلاصقة. اجتزنا بخطوات سريعة مجموعة من الأطفال المنكمشين في إحدى زوايا الحجرة. دخلنا عدة بيوت مشابهة لهذا البيت – بعضها ممتلئ بالبشر وبعضها مهجور تمامًا. وثبنا عبر الفجوات الموجودة في جدران بعض البيوت ومن النوافذ الخلفية للبعض الآخر. تشعر بالتعب لأنك لم تفعل ذلك منذ سنوات. قلت لنفسي. غداً سيئنّ كل جزء من جسمي من الألم.

فكرت. حسنًا، فلتدع أن تبقى على قيد الحياة أولًا. قلت لنفسي. تفاجأت من تفكيري هذا. زال خوفي. ليس بسبب سيطرتي على أعصابي بل شيء أخر – تغلبت على خوفي لأني أدركت استحالة العودة بعد أن قطعت كل تلك المسافة. صار دوي الرصاص أقرب الآن. بينما نجتاز حديقة أحد البيوت، ارتطمت بجرة فتدحرجت بجلبة عالية. هدأ الفتى أمامي من روعي: «لا تقلق يا معلمي. واصل السير لكن كن أكثر حذرًا». لم ألتفت لأرى إذا كانت مؤنة العائلة اليومية قد تبعثرت على الأرض أم أن الجرة كانت فارغة. اكتسى وجهي باللون الأحمر من شدة الخوف، من العار، من الإثارة أو ربما بسبب هذا كله. بينما نتسلق جدار تلك الحديقة، لاحظت أن ساقي اليسرى ترتجف من خصري حتى باطن قدمي. تسارع تنفسي أيضًا. شعرت برغبة في السعال لكنني كبتها. بطريقة ما نجحت في التنحنح بصمت مبتلعًا ريقي. عندما توقف الفتى أمامي، توقفت بدوري. التقطتُ عدة أنفاس عميقة. من يعرف كم كان نبضي في تلك اللحظة.

سألت: «هل تجاوزنا منطقة الخطر؟»

قال الفتى الأقصر: «منذ فترة».

غرد طائر في سكون الليل. قرأت مؤخرًا في الصحيفة أن حتى القطط والكلاب قد هجرت هذا الحي. كما يبدو لم تتحرر الطيور من أقفاصها بعد. بينما أنتظر الطائر أن يغرد مرة أخرى كي أتمكن من معرفة نوعه، غرد الفتى بجواري. فهمت أن التغريد ما هو إلا شفرة سرية. إذن الطيور قد رحلت أيضًا.

همس الفتى الطويل: «البيت الرابع في الشارع الذي يوجد فيه المسجد، أليس كذلك؟»

تذكرت الشارع الذي دخلناه منذ لحظات فأدركت أننا وصلنا إلى هدفنا. مشينا وظهورنا ملتصقة بالجدران. عندما بلغنا بيت فِرات، انفتح الباب فاندفعنا إلى الداخل.

«عرفت أنك ستأتي!» قال فِرات قبل أن يطوق عنقي بذراعيه في سرور. لمحت عينا والدته فاطمة تلمعان من خلال حجابها الأبيض.

«هل كان وصولك إلى هنا مريحًا؟» سألتني وأنا أنحني لتقبيل يدها.

«أجل، كما تعلمين بمساعدة الأصدقاء». كان هنالك فتى آخر في بيتهم ينتظر وصولنا. كما يبدو أننا انتزعنا دزينة من الأشخاص من حياتهم اليومية كي نحظى بتلك اللحظة. شعرت بمزيج من الخجل و –لا أستطيع الكذب– الفخر أيضًا. ثم بالتأكيد شعرت بشيء من الخزي لشعوري بالفخر هذا. البشر كائنات غريبة، غريبة جدًا – لا يمكنهم التحكم في مشاعرهم وبالكاد يمكنهم إخفاء تلك المشاعر عن أنفسهم. تختلط كل تلك المشاعر المضطربة مع الشعور بالخزي في مكان ما بداخل الإنسان وهذا أفضل ما يمكننا فعله كبشر.

سألت العمة فاطمة إذا كنا جائعين كما لو كانت تنتظر أن نجيب بنعم.

قال الفتي القصير: «لسنا كذلك، يا عمتي. شكرًا لك، سنصطحبهما معنا ونغادر فورًا».

قالت: «هل أنت متأكد؟ هل ستخرج؟» التفتت إلى ابنها: «انظر يا بني، وصل كمال للتو. اجلسا وسأعد لكما وجبة لذيذة. ابقيا هنا وتسامرا وبُح له بكل ما في صدرك؟ ما رأيك؟»

قال فِرات: «سنخرج يا أمي». دب فيه النشاط لدرجة أنه لم يستطع البقاء ساكنًا في مكانه. آخر مرة زرته فيها كان مريضًا وكسولًا لا يمكنه حتى التقاط كأس الماء الموضوع بجواره مباشرة.

قلتُ: «ليس باليد حيلة يا عمتي».

تلاشت رائحة الخوف من جسدي بمجرد وصولي بأمان إلى بيت فِرات. نظرت إلى الفتيين بنظرة امتنان. لقد وضعا حياتهما في خطر من أجل مجنونين، أحداهما شقيق فأر حقير والآخر –بكل فخر أنا– لا يماثله أحد في جبنه.

تسللنا إلى الشارع من جديد.

قال فِرات بحماس كمال: «نحن في الخارج!»

وضعت سبابتي أمام شفتي لأسكته. أطبق شفتيه فورًا كطفل مطيع.

قال الفتي الطويل: «سطح البيت في الأعلى هناك آمن يا معلمي. تحدث مع صديقك هناك لكن لا تثر ضجة كبيرة. ولو سمعت دوي رصاص، اختبئ بالداخل فورًا، حسنًا؟ لا تبتعد وسنأتي لإعادتك بعد نصف ساعة».

الخارج هو الخارج – ماذا يمكننا أن نطلب أكثر من هذا؟ لم يكن فِرات في وضعية تسمح له بالتذمر. كان ينظر إلى بابتسامة لا يمكنه كبحها. أومأ عدة مرات موافقًا. حتى لو التفتنا ودخلنا إلى بيته في تلك اللحظة، يمكنني الجزم أنه سيكون راضيًا.

لكني شعرت بجرأة كافية كي أبقى معه.

«حسنًا». قلت من دون أن أشعر بأي إهانة من تلقي الأوامر من طفل في نصف عمري.

جلسنا على السطح، ظهرانا مستندان إلى الجدار المنخفض، جالسين كطائرين مكسوري الجناح. فكرت في فيلم قديم – صديقان، أحدهما مجنون قليلًا، يجلسان على السطح مرتديين زي بطريق. بينما أحاول تذكر بقية الفيلم، ربت فِرات على ركبتي مبتسمًا بينما يتحدث عن مدى سعادته بقدومي. كم من الجميل بل الرائع أن يقضي بعض الوقت معي خارج البيت. ربت على ركبته بدوري. كانت أعمق محادثة بيني وبين صديقي طيلة ثلاثين سنة من الصداقة. أدركت أنني لم أتطلع نحو السماء في طريقي إلى هنا ولو مرة. لا يمكن توقع ماذا يمكن أن يهبط على رؤوسنا من أعلى. لكن الآن كانت السماء مزدانة بالنجوم. أحداها تجاوزنا وواصل ارتحاله عبر السماء. لقد حفظنا عن ظهر قلب شوارع تلك المدينة التي لا تزال تفاجئنا. تمنيت أمنية مثلما يفعل الأطفال. ولكي أتيقن من تحققها، قطعت نذرًا على نفسي.

فقط دع هذه الأمنية تتحقق يا رب ولن أعود إلى البيت لأيام. لن نفعل، سوف نطوف أنا وفِرات كل شوارع المدينة شارعًا شارعًا.