اﻷمم القاهرة واﻷمم المقهورة: مخطط لتصنيف الإمبريالية

مقال لجبريال كون*

من كتيب "مسح شامل للإمبريالية اليوم"

ترجمة: سمية عبد العليم وسارة علاء وأمل عبد الرحمن

* جبريال كون: مؤرخ ومترجم أناركي، من أهم أعماله "كرة القدم ضد الدولة: بحث حول السياسات الراديكالية وكرة القدم" و"كل السلطة للمجالس: تاريخ موثق للثورة اﻷلمانية 1918 - 1919".

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمات بحقهن في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهن دون إذن منهن

لوحة التقدم اﻷمريكي لجون جاست 1872

في السنوات الأخيرة، أعاد اليسار تجديد اهتمامه بدراسات مناهضة الإمبريالية. وحيث لا تزال قضية الظلم الاقتصادي العالمي أحد أكثر تناقضات النظام الرأسمالي فجاجة. يعتبر هذا الاهتمام تطورًا مبشرًا، خاصة وقد اختفى مصطلح مناهضة الإمبريالية من قاموس اليسار بعد أن كان في القلب من نضاله ضد الرأسمالية في السبعينيات. حدث هذا لعدة أسباب من بينها زوال حركات التحرر الوطني الاشتراكية التي غالبا ما رافقها سجل مخيب للآمال عند تسلم السلطة، وهزيمة الجماعات المسلحة المناهضة للإمبريالية في المراكز الحضرية، وسقوط الاتحاد السوفيتي وتبعاته، وتبني ممثلي التيار الرجعي الأسلوب الخطابي المناهض للإمبريالية، والربط غير المفهوم بين مناهضة الإمبريالية ومعاداة السامية، واستبدال الجماهير مقاومة أنواع شتى من القهر بمعركة أكثر وضوحا بين قوى الخير والشر.

من بين الأسباب التي دعت لهذا الانبعاث الجديد هو قصور التحليل ما بعد الحداثي المناهض للقهر، الذي كشف عن مظالم كثيرة بحيث لم يعد قادرًا على تحليل أو مهاجمة أيًا منها بشكل جيد، وبروز أهمية تنظيم مقاومة يسارية فعالة في وجه الهيمنة النيوليبرالية والخطر المتزايد للفاشية، وعودة ظهور الاتجاهات الأممية في السياسة الدولية متمثلة في تأييد نضالات دول الطرف، خاصة في إقليم كردستان، والتباين الملحوظ -والمتفاقم- في توزيع الثروات عالميًا الذي أكد عليه كُتاب أبعد ما يكونوا عن الراديكالية مثل توماس بيكتي (رأس المال في القرن الواحد والعشرين، 2013) أو برانكو ميلانفوي (اللاعدالة العالمية: مقاربة جديدة لعصر العولمة، 2016).

أما الإصدارات المنشورة باللغة الإنجليزية التي أعادت الحياة للتيار المناهض للامبريالية في اليسار فهي: كتاب زاك كوب عالم منقسم وطبقات منقسمة: الاقتصاد السياسي العالمي وتقسيم طبقة العمال في ظل الرأسمالية (2012)، وكتاب تصدع الرأسمالية المعاصرة لسمير أمين (2013)، وكتاب تحويل الثروات إلي ثورات: القصة العجيبة لسارقي البنوك الدنماركيين الثوريين لجابريل كون (2014)، والإصدار الخاص بسنة 2015 لمجلة الدورية الشهرية تحت عنوان الإمبريالية الجديدة، وكتاب الإمبريالية في القرن الواحد والعشرين: العولمة والنهب الفج والأزمات الأخيرة للرأسمالية لجون سميث. 

في الوقت نفسه نجد أن تصوراتنا عن الإمبريالية وماهيتها، وما تتخذه من أشكال على أرض الواقع –ولعله الشق الأكثر أهمية- ما تزال غير واضحة المعالم. فأحيانًا يستخدم مصطلح مناهضة الإمبريالية كمرادف لمناهضة الاستعمار، وأحيانا يستخدم كلما شنت أمة هجومًا على أخرى. أما في صورته الأولية فهو يعني ببساطة مناهضة الأمركة. كل هذا التشتت لا يشكل تربة صالحة لمقاومة سياسية فعالة. إذا أردنا أن نكافح الإمبريالية -وهي خطوة أساسية لمناهضة الرأسمالية- فعلينا أن نفهم أشكالها، وآلياتها التي تعمل بها، وأين تكمن مواطن ضعفها؟

يتطلب هذا أيضًا ترجمة بعض المفاهيم شديدة التجريد إلي لغة يألفها النشطاء. إن للمفاهيم المجردة والجدالات المرافقة لها أهمية نظرية (شريطة ألا تتحول إلي جدالات بلا طائل بين كبار المنظرين، وهذا -للأسف- ما يحدث عادة)، لكن لا يُنتظر منها أن توّلد تحركات ذات قيمة إذا بقيت في أبراجها العاجية. فكيف لنا أن نقاوم "الرأسمالية الاحتكارية المعممة" و"الاستغلال الفائق" و"التبادل التجاري غير المتكافئ"؟ للإجابة عن هذا السؤال يوجد عدد من الأسئلة مثل: من المستفيد من الإمبريالية؟ هل هناك مراكز للقوى الإمبريالية؟ كيف نتمكن من مهاجمتها؟

في السبعينات عندما كانت حركة مناهضة الإمبريالية في أوج ازدهارها كان العالم منقسمًا إلي فئات أكثر بساطة: كانت أمم العالم الأول الأشرار، وأمم العالم الثالث الضحايا، وكانت أمم العالم الثاني -تبعًا لمذاهبها الأيدلوجية- إما حليف بطولي لدول العالم الثالث أو على الحياد، أو إمبريالية بالقدر ذاته كما كانت دول الكتلة الشرقية (السوفيتية). أما اليوم فالأوضاع أكثر فوضوية، أو فلنقل أن الفوضى أضحت أكثر وضوحًا.

تعد نظرية إيمانويل فالرشتاين للنظام العالمي التي تطبق تقسيم المركز والطرف وشبه الهامش أكثر تعقيدًا لكنها لا تخلو من الانتقادات، فهي مبنية بشكل كبير على بيانات اقتصادية لا تولي اهتماما كبيرًا للاختلافات بين الفئات الثلاث الرئيسية، وتواجه صعوبات جمّة عند تفسير التناقضات الهائلة التي تحدث بين الحين والآخر في دول الفئة الواحدة.

إن أي تشريح لائق للإمبريالية يجب أن يأخذ في الاعتبار العلاقة بين الأنظمة الاقتصادية والبنى السياسية والهيمنة الثقافية، وفوق كل ذلك العلاقة بين الدولة والطبقات الاجتماعية.

لا أدعي أنني أقدم إجابات في هذا المقال، إنما أحاول المساعدة في تيسير نقاش يهدف إلى رسم خريطة للعالم الإمبريالي مفصلة بشكل كاف لتعمل كقاعدة مقاومة فعالة للامبريالية.

من بين الأسئلة التي شجعتني على كتابة هذا المقال ما يلي:

  • كيف يمكن أن تكون هناك أمة قاهرة ولم يكن لها مستعمرات من قبل، بل حتى أنها كانت قبل ذلك هي ذاتها مستعمَرة؟
  • ما هو وضع الأمم الخادمة للنظام الإمبريالي التي تعمل بصفتها مراكز مالية أو ملاجئ ضريبية؟
  • أين تتموضع دول العالم الثاني سابقًا في النظام العالمي الحالي؟
  • ما الدور الذي تلعبه الدول التي دخلت حقبة التصنيع حديثًا أو ما يدعي بالبريكس (البرازيل وروسيا والهند و الصين وجنوب أفريقيا)؟
  • هل هناك فعلًا ما يمكن أن نسميه بالاستعمار الداخلي؟
  •  هل يمكن أن تتعايش أمم قاهرة وأخرى مقهورة في دولة قومية واحدة؟
  • كيف يؤثر كل من التشكيلات الطبقية والهجرة على الأوضاع؟

بنيتُ هذه المسودة من حصيلة اشتباك مع مشاريع أممية ومناهضة للإمبريالية، وعلى دراسة لأدبيات وثيقة الصلة، والأهم من ذلك على خبرة سنوات من الترحال بين كل القارات ولقاءات مع عمال وفلاحين بالإضافة إلي سياسيين وأكاديميين. وبينما آمل في أن يفيد هذا البحث كل من له هوىً مناهض للامبريالية، فإن الجمهور المستهدف لآثاره العملية هم النشطاء المناهضين للامبريالية في دول العالم الأول مثلي. فالجمهور العريض بمختلف مشاربه سيناقش الأشكال التي ستكون عليها مقاومتهم، وتبقى الحنكة في الجمع بين الاتجاهات المقبولة في حركة جماعية فاعلة.

تعريف إجرائي

إن السؤال عما إذا كان بلد معين أو سياسة متبعة أو فعل ما إمبرياليًا هو أولًا وأخيرًا مسألة تعريفية. فعلى سبيل المثال لا تعتمد إجابة سؤال هل تعد الصين بلدًا امبريالياً أم لا على ما إذا ارتكز قيام الأمة الصينية على عامل إمبريالي، بل على إذا ما كان الدور الذي تلعبه في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي ينطبق عليه وصف الإمبريالي. أي أننا لا يمكننا الحديث عن الإمبريالية -أو مناهضتها- أو نأمل أن نوضح أية حقائق بدون تقديم تعريف لما نتحدث عنه.

إن الجدال المتقد حول أفضل التعريفات لأي موضوع يمكنه أن يصل بالنقاش إلى طريق مسدود. هناك بالطبع معايير مجمع عليها تمثل صفات للتعريف الجيد (كأن يكون التعريف واضحًا متسقًا، لا بالواسع ولا بالضيق)، لكن ليس هناك أي معيار موضوعي لتغليب أحد التعريفات على الآخر. لذا سأطلب من القارئ أن يقبل بالتعريف المطروح هنا، غير مسلّم -بالطبع- بحصانته من النقد.

لن أتبع منحى ماركسيًا تمامًا، كما في كتاب لينين الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية (1917) الذي عرّف الإمبريالية على أنها "إحدى مراحل تطور الرأسمالية التي يتم فيها بسط هيمنة الاحتكارات والرأسمال المالي، ويحوز فيها تصدير رأس المال أهمية كبرى، ويبدأ توزيع العالم بين المحتكرين العالميين، ويكتمل تقسيم مناطق العالم بين أكبر القوى الرأسمالية". ولهذه المقاربة الاقتصادية أهمية بالغة، لكنها لا تنفي أهمية مقاربات أخرى للتيار اليساري كذلك، ففي كتابه الثقافة والإمبريالية (1993) يعرّف إدوارد سعيد الإمبريالية بأنها، "الممارسة والنظرية والمواقف لمركز حضري (متروبوليتان) مسيطر يحكم بقعة من اﻷرض قصية"، ويعد هذا التعريف موجزًا للغاية بالطبع. أما التعريف الذي اقترحه هو:

الإمبريالية هي نظام يتكتل فيه عدد من الرأسماليين والسياسيين والقوى الأمنية ويفرضون فيه سلطتهم على منطقة معينة بساكنيها لزيادة ثرواتهم، ولترسيخ سلطتهم، فهي تستخدم وسائل أيديولوجية (العنصرية)، ووسائل ثقافية (التبشير)، ووسائل سياسية (الاستعمار المباشر وغير المباشر)، ووسائل عسكرية (نشر قواتهم الخاصة، أو توظيف مرتزقة، أو تكوين وحدة أمنية محلية مستقلة أو جيش). أحد الصفات المميزة (وإن لم تكن ضرورية) للامبريالية هي أن تلك التكتلات تشارك جزء من الثروة المستخرجة مع سكان تلك البلاد لضمان دعمهم للمشروع الاستعماري، لهذا فاﻷرستقراطية العمالية صفة جوهرية للنظام الامبريالي.

وفقًا لهذا التعريف، من المهم أن نلاحظ أن الإمبريالية لا تعني باختصار أن هناك شعباً بعينه يريد توسيع مناطق نفوذه. فالنزاع على مناطق النفوذ جزء أصيل من الإنسانية منذ الأزل كنتيجة للمنافسة على الموارد الطبيعية وعوامل أخرى. بالتالى هذا لا يعد إمبريالية، الإمبريالية تعني توسيع نطاق النفوذ لمأسسة استغلال الموارد البشرية والطبيعية للمناطق الواقعة تحت نفوذهم. ولهذا فإن أي تحليل يصف الاتحاد السوفيتي السابق بكونه سلطة إمبريالية يجب أن يتضمن فهمًا للاتحاد السوفيتي ليس باعتباره دولة اشتراكية، لكن باعتباره بلدًا رأسماليته دولانية. وحسب فهمي، هذا تحليل صحيح ويمكن تطبيقه كذلك على الصين في الوقت الحالي (انظر إلى "شبه الإمبريالية" بالأسفل).

الأمم والإمبراطوريات

غالباً ما يستخدم الاصطلاح الدال على الإمبريالية بطريقة ثنائية صارمة (تعد نظرية ماو حول العوالم الثلاث استثناء ولا تحظى أبدًا بأيِّ صدى في الدوائر المعادية للإمبريالية، ولا حتى في الدوائر الماوية للسبب ذاته). فالعالم ينقسم لمعسكرين كبيرين، وتمييز لينين بين "الأمم القاهرة" و "الأمم المقهورة" أعيد إنتاجه في صور مختلفة، وسواء كان التصنيف يضع "العالم الأول" في مقابل "العالم الثالث" أو "الدول المركزية" مقابل "الدول المهمشة"، أو "دول الشمال" مقابل "دول الجنوب". مثل هذه الثنائيات قد تكون مفيدةً للاقتداء بها، لكن كما هو متوقع تصبح الأشياء أكثر تعقيدًا عندما ندقق في التفاصيل.

ادعى كل من مايكل هارت وطوني نيجري في كتابهما العمدة الحديث (الإمبراطورية)، الصادر في عام 2000، أن "الإمبريالية قد انتهت"، مشيرين إلى "تدهور سيادة الدول القومية"،"والتراجع المتزايد في قدرتها على التحكم في التغيرات الاقتصادية والثقافية"، وأكّدا أننا "دائمًا ما نجد العالم الأول في العالم الثالث ونجد العالم الثالث في العالم الأول والعالم الثاني تقريبًا غير موجود إطلاقًا".

حسنًا، أولًا، الإمبريالية ليست معتمدة على نموذج العوالم الثلاث. ثانيًا، اقتراح أن القوى الاقتصادية لم يعد لها موقعٌ محددٌ، وأنّ القاهر والمقهور اختلطا عشوائيًّا في كل أرجاء العالم فكرة خاطئة. لا يمكن لأحدٍ زار باريس ونيامي كلاهما أن يقول قولًا كهذا، وإن لم يكن ذلك يعني أنّك لن ترى مظاهر الفقر الشديد في باريس والثراء الفاحش في نيامي. ثالثًا، لم تفقد الدول القومية معناها ولا سلطتها في عالم معولم.

قد تكون النيوليبرالية أعلنت حقيقة أن الدول القومية ليست معزولة، وأن الشركات متعددة الجنسيات قد يكون لها تأثير مرعب على العلاقات الدولية، لكن رغم نفوذ الشركات واتفاقيات التجارة الحرة والكيانات السياسية الدولية. ظلت الدول القومية الوحدات المفتاحية للنظام السياسي العالمي والفاعل الأساسي في إدارة رأس المال. ربما الأكثر أهمية أنهم أساس لانقسام لثروات العالم. فالمواطَنة هي العامل الوحيد والأكثر أهمية في تقرير الحصة التي يمكن للفرد توقع الحصول عليها في توزيع الثروات والامتيازات.

بينما يمكن لسلطة الشركات متعددة الجنسيات أن تمتد لكل أرجاء العالم، هذه الشركات لديها علاقات أقوى ومصالح مشتركة مع الطبقات الحاكمة في دول محددة أكثر منها في دولٍ أخرى. لهذا ليس فقط ضرورياً، بل حتمياً، التركيز على الدول القومية عند رسم خريطة النظام الإمبريالي، وهي أيضا ضرورية لوضع القوميات في الاعتبار بدون النظر إلى الدول، بداية من السكان الأصليين بالقارة الأمريكية وحتى الأكراد والباسكيين. تُعرف الأمم بأنها مجموعة من البشر لهم هوية جمعية قائمة على سماتٍ مثل اللغة والثقافة وعلاقة وثيقة مع منطقة معينة.

بالطبع، لا يتحدد موقع الأفراد داخل النظام الإمبريالي فقط من خلال المواطَنة والانتماء القومي أو مكان الاقامة. هناك برجوازيات قومية تستفيد من الإمبريالية حتى في أفقر الدول ومن الجاليات من تتصرف كعملاء للإمبريالية في الأمم المقهورة، والمهاجرون غير المسجّلون في الأمم الإمبريالية لا ينتفعون من النظام الإمبريالي، كما أن هناك انقسام بين الحضر والريف يجب أن يوضع بالاعتبار، ويوجد ملايين النساء اللاتي شكلن ما سمته ماريا ميس وآخرون بـ"الإمبراطورية الأخيرة" في النظام الإمبريالي غير المنفصل عن النظام الأبوي. ويجب أن تضع أى دراسة مفصلة لآليات للامبريالية هذا بالاعتبار. لسوء الحظ، تتجاوز المهمة نطاق هذه الورقة، لكن سأعود لبعض هذه النقاط في جزءِ الملاحظات الختامية حول الممارسَات المناهِضة للإمبريالية.

التصنيف

في المخطط التالي لتصنيفات الإمبريالية، سأستخدم ثلاث تصنيفات رئيسية: الأمم الإمبريالية، الأمم شبه الإمبريالية والأمم المقهورة. كل تصنيف ينقسم لعدد من التصنيفات الفرعية، وأمم بعينها توسع حدود التصنيفات المختلفة، لذا يبدو حتميًّا تقديم التعميمات المطلوبة في مخطط تقريبي كهذا المخطط. 

أنا لا أدعي أن تصنيفي لهذه الأمم أدقُّ من غيره، ناهيك عن أن يكون الوحيد. ليس ضروريًا هنا أن نضع كل التصنيفات بالطريقة المثلى. الهدف من هذا هو المساعدة في وضع إطار يعطينا تصنيف جمعي وصورة واضحة لمقاومة الإمبريالية.

الأمم الإمبريالية

1) المركز الإمبريالي

يتكون المركز الإمبريالي من تلك الأمم التي يستفيد مواطنوها من النظام الإمبريالي، فكل أمة لديها طبقة مستفيدة من النظام الإمبريالي، لكن أمم المركز الإمبريالي وحدها قادرةٌ على مدِّ هذه الامتيازات لباقي سكانها. تتراجع خطورة دفع دول المركز الإمبريالي لأطراف النظام الامبريالي، فإن كان من الممكن لتوازن القوى بين المركز واﻷطراف أن يتغير، لكن كل منهما متجذر في الحكم الإمبريالي، بسبب مزيج من الأسباب الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وبعض العوامل الرئيسة مثل رأسمالٍ ماليٍّ وإنتاجيٍّ قوي، تفوق عسكري، امتياز عرقي، موقع جغرافي متميز، أن تكون لغتها المحلية إحدى اللغات العالمية، وحبذا لو كانت الإنجليزية (ولا يلزم توافر كل هذه الأسباب في كل أمة من أمم المركز الإمبريالي).

ليس من الضروري لدول المركز الإمبريالي أن تكون قوى استعمارية، فالاستعمار وإن كان جزءًا من المشروع الامبريالي، لكنه ليس ضروريًا للانتفاع منه، ﻷنّ الإمبريالية أوسع من الاستعمار، وفي الحقيقة، عدد من المستعمرين السابقين (مثل نموذج الولايات المتحدة اﻷمريكية الأوضح) تنتمي للمركز الإمبريالي الحالي، في حين أنّ بعض القوى الاستعمارية السابقة (على سبيل المثال: إسبانيا والبرتغال – تنتمي إلى الطرف الإمبريالي.

كذلك سيكون من الخطأ تعريف دول المركز الإمبريالي بتلك الدول المدعوة للقمم القوية مثل مجموعة العشرين. فبعض تلك الدول تُدعى لأنها مهمةٌ للنظام الإمبريالي (على سبيل المثال، الهند وإندونيسيا) وليس لأنها جزء من المركز الإمبريالي.

وحاليًّا، يتكون المركز الإمبريالي من كتلة واحدة موحدة. وفي حالة التنافس القويّ والتوازن النسبيّ للقوى، يمكن أن ينقسم المركز الإمبريالي إلى كتلٍ مختلفة، فهكذا كان الوضع أثناء الحرب الباردة، فإمبريالية الاتحاد السوفيتي تحدّت إمبريالية الثالوث بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية (أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان).

ويمكن تقسيم دول المركز الإمبريالي إلى أربع فئات:

‌أ) القوى الاستعمارية، وهي تلك الأمم التي سيطرت على أقاليم واسعة واستغلتها لفترة طويلة، ومن ثم راكمت الثروة والنفوذ العالمي، هذه الدول هي بلجيكا والدنمارك وفرنسا وألمانيا وبريطانيا العظمى واليابان وهولندا. وأما ما يُعرف اليوم بالنمسا فهي تمثل حالة خاصة، حيث أنها ما زالت تستفيد من مستعمراتِها الداخلية السابقة، ألا وهي تلك الأجزاء من الإمبراطورية النمساوية التي لا تتحدث الألمانية.

‌ب) الدول التي لم يكن لها مستعمرات خاصة بها (ما عدا أقاليم صغيرة فيما وراء البحار كنوع من حفظ الاعتبار)، لكنها كانت في العمق من عملية الاستغلال الكولونيالي من خلال المركزية الأوروبية والأيديولوجيا العنصرية والتحالف السياسي والتجارة، وهذه الدول هي النرويج وسويسرا والسويد والدويلات الأوروبية الصغيرة مثل أندورا وموناكو وليختنشتاين.

ج) الدول من المستعمرات السابقة ذات السكان من المستوطنين البيض، والتي حصلت لنفسها على مستعمرات داخلية وخارجية وأصبحت جزءًا أساسيًّا من أجزاء النظام الإمبريالي للثالوث، وهي أستراليا وكندا ونيوزيلندا والولايات المتحدة الأمريكية.

‌د) إسرائيل، وهي تمثل حالة خاصة. إنها مستعمرة سابقة أنتجت أمة من المستوطنين مثل الأمثلة السابقة وإن لم يكن مستوطنوها من البيض. وعند النظر إلى دورها في الشرق الأوسط نلاحظ أنها قوة شبه إمبريالية –كما سيتضح فيما يلي– فهي معتمدةٍ بدرجة ضخمةٍ على الثالوث من أجل بقائها، وهذه سمة دول الدول الإمبريالية التابعة، لا دول المركز. إلا أن الدور الجيوسياسي الذي تلعبه إسرائيل من الأهمية بمكان للثالوث، ما يدعم مكانتها ويجعل من الممكن اعتبارها جزءًا من المركز الإمبريالي.

2) الطرف الإمبريالي:

يتكون الطرف الإمبريالي من الدول التي يستفيد مواطنوها من النظام الإمبريالي بسبب الفوقيّة البيضاء، والقرب من دول المركز والروابط السياسية والعلاقات التجارية. ومع ذلك فإن دول المركز تستغل هذه الدول، كما أن حظوتها عند أمم المركز تتسم بالهشاشة.

ويمكن تقسيم دول الطرف الإمبريالي إلى فئتين:

أ‌) الطرف الأوروبي، ويضم الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفيتي المتّجهة نحو الغرب، مثل: دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، والأعضاء السابقين في حلف وارسو مثل: جمهورية التشيك والمجر وبولندا، وجمهوريات يوغسلافيا السابقة مثل: كرواتيا وسلوفينيا، وكذلك اليونان وآيسلندا وأيرلندا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا.

ب‌) الأقاليم التي تشغلها جماعات عرقية مستقلة (أو تضم أغلبية عرقية مستقلة) داخل دول الثالوث مثل إقليم الباسك وكتالونيا وكورسيكا وأيرلندا الشمالية وأوكيناوا/ريوكيو وكيبيك. وفي هذه الحالات يكون الاستغلال مسألة نسبيّة (ففي كتالونيا مثلا نجد أن الوضع الاقتصادي للناس فيها أفضل بكثير من باقي مناطق إسبانيا) وتتفاوت فيها قوّة حركات الاستقلال/الانفصال بدرجة كبيرة. إلا أنه وبسبب افتقار هذه الأقاليم إلى الحق في تقرير المصير لا يمكن اعتبارها من المركز الإمبريالي.

3) الدول الإمبريالية التابعة:

يقع ضمن فئة الدول الإمبريالية التابعة تلك الدول التي تخدم غاية محددة داخل النظام الإمبريالي بوصفها مواقع إنتاج فعالة من حيث التكلفة، أو مُورِدة لمواد خام نادرة أو ملاذات ضريبية أو أماكن عطلات خاصة أو مواقع لقواعد عسكرية. ومع أنها تستفيد بالطبع من هذا الوضع، فإن وضعها داخل النظام الإمبريالي هو دائمًا وضع مشروط.

ويمكن تقسيم الدول الإمبريالية التابعة إلى أربع فئات:

‌أ) دول الخليج؛ البحرين والكويت وعمان وقطر والإمارات العربية المتحدة.

‌ب) النمور الآسيوية؛ سنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان. (أما هونج كونج فإن وضعها يصعب تصنيفه وذلك منذ عودة الإقليم تحت حكم الصين منذ عام 1997) هذه الدول يمكن تصنيفها باعتبارها دول هامش إمبريالي إلا أن موقعها الجغرافي المنعزل يُعيق هذا.

ج) بعض الدويلات (الجزر) في الكاريبي مثل برمودا أو الباهامس، وفي المحيط الهادئ مثل ناورو، وفي المحيط الهندي مثل موريشيوس وسيشل.

‌د) الدول الإمبريالية التابعة، مثل الأقاليم التابعة لفرنسا فيما وراء البحار ومنها بولينيزيا الفرنسية وجوادلوب ومارتينيك وكاليدونيا الجديدة وجزيرة ريونيون. وأخرى تابعة للولايات المتحدة الأمريكية ومنها ساموا الأمريكية وغوام وبورتو ريكو). ومن الأهمية بمكان أن نذكر أن السكان الأصليين لهذه الأقاليم يندرجون تحت فئة الأمم المقهورة (كما سنذكر لاحقاً).

ثانياً: الدول شبه الإمبريالية:

الدول شبه الإمبريالية تقع خارج المركز الإمبريالي، لكن لديها طموحات إمبريالية. فتتصرف كقوى إمبريالية إقليمية أو تحاول دخول المركز الإمبريالي إما كحليف للكتلة الحالية أو كمنافس. وتنطبق سمات الدول شبه الإمبريالية على دول المركز الإمبريالي التي تقوم بدور مراكز قوى إقليمية، مثل: أستراليا في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

ويمكن تقسيم الدول شبه الإمبريالية إلى خمس فئات -مُتمايزة إلى حد ما-:

‌أ) الصين، وهي أكثر الأمثلة إثارة للخلاف، فالبعض يصنفها كأمّة إمبريالية –انظر مثلًا: هل الصين بلد إمبريالي؟ لإن بي ترنر– وآخرون يرفضون بشدة وصفها بالإمبريالية بأيِّ شكل من الأشكال. ومن وجهة نظري فإن الصين لديها أطماع إمبريالية، وبغض النظر عن مدى الجهد الذي تبذله لبسط نفوذها –خاصة في آسيا وإفريقيا- فإن الأغلبية العظمى من شعبها لا يزال يتعرض لاستغلال الثالوث، وبعبارة أخرى. إن الصين ليست (بعد) منافسًا لدول المركز الإمبريالي.

‌ب) روسيا وحلفاؤها من الحرب العالمية الثانية: إنّ الاتحاد الروسي الحالي خليفة قوى ذات أطماع إمبريالية وهي الإمبراطورية القيصرية والاتحاد السوفيتي. ولا تزال روسيا تحمل هذا الإرث، لكنها وحلفاءها الحاليين –جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق مثل بيلاروسيا وكازاخستان- لا يمكنهم منافسة الثالوث. وهناك جمهوريات أخرى من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق مثل أوكرانيا تتنازعها قوتان؛ أحدهما ترغب في البقاء وفية للمشروع الروسي، والأخرى ترغب في الدخول إلى هامش الثالوث.

ج) في منطقة الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية نجد ثلاث دول لديها إرث إمبريالي وما زالت مستمرة في التصرف كقوى شبه إمبريالية وهي؛ إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية. إلا أنه وبسبب النزاعات الداخلية، والجهود الكبيرة التي يبذلها المركز الإمبريالي من أجل التحكم في المنطقة فإن نفوذ هذه الدول يظل محدوداً – مع أنه يمكن ملاحظة هذا النفوذ خاصة فيما تقدمه هذه الدول من دعم مالي وعسكري للحلفاء الأيديولوجيين. توجد كذلك اختلافات ضخمة في نمط العلاقة التي تربط هذه الدول بالثالوث؛ فإيران تُعتبر شبه إمبريالية بشكل خالص، أما المملكة العربية السعودية يمكن تصنيفها كجزء من الدول الإمبريالية التابعة، وأخيرًا فإن تركيا تُعتبر جزءًا من الطرف الإمبريالي.

‌د) البرازيل والأرجنتين والأوروجواي؛ تتسم هذه الدول بوجود تفاوت ضخم في توزيع الدخل واضطهاد السكان الأصليين، ومع ذلك لديها مستويات تصنيع مرتفعة، وطبقة وسطى وعليا مستقرة، وتتمتع بسيطرة اقتصادية على أمريكا الجنوبية، ما يجعلها شبه إمبريالية –يُزعم أن المكسيك تلعب دور مشابه في أمريكا الوسطى لكنها تمتلك قوة اقتصادية أقل ومغلوبٌ أمرها مقابل جارتها الشمالية: الولايات المتحدة الأمريكية.

‌ه) تمثل جنوب إفريقيا حالة خاصة، فبالنظر إلى الدور الذي تلعبه في إفريقيا –خاصة في الجنوب- تُعتبر شبه إمبريالية. إلا أنها كذلك موطن لمجتمع من المستوطنين البيض الذين يُعتبرون جزء من المركز الإمبريالي، وفي نفس الوقت فإن أغلبية سكان البلاد يعيشون في ظروف العالم الثالث. فلا توجد أية دولة أخرى –باستثناء إسرائيل- تتأرجح بين حدود التصنيفات المُستخدمة هنا أكثر من جنوب إفريقيا.

ثالثًا: اﻷمم المقهورة

اﻷمم المقهورة هي اﻷمم التي يصبح أغلب مواطنوها ضحايا النظام الإمبريالي، باستثناء البرجوازية الوطنية والجاليات القاطنة في الخارج صاحبة الامتيازات. 

يندرج تحت هذا التصنيف جميع اﻷمم في قارّات آسيا وأفريقيا والكاريبي وأمريكا اللاتينية والمنطقة الأوقيانوسية عدا اﻷمم المذكورة في التصنيفات السالفة. هناك فروق بين تلك اﻷمم (فَمصر ليست تشاد، وماليزيا ليست جزر سليمان)، لكنها جميعًا مُستغلَّة وخاضعة لقهر اﻷمم اﻹمبريالية، ونفوذها ضعيف أو منعدم على البنى العالمية للقوة. يجب تحليل الفروق بين تلك اﻷمم على أساس تاريخها الخاص، واﻷنظمة الاستعمارية (والاستعمارية الجديدة) التي كانت وما زالت خاضعةً لها، وحصتها من المواد الخام والقوة البشرية ومساحة الأرض والموقع والهويّات العرقية للسكان. 

تضم هذه الفئة أيضًا أممًا غير متحدة في دولة قومية، عدا تلك التي تنتمي إلى الطرف الإمبريالي (انظر أعلى)، أي شعوب المناطق المحتلة، مثل فلسطين والصحراء الغربية، واﻷمم المنقسمة بين دول قومية مختلفة مثل اﻷكراد واﻷمم اﻷولى للأمريكتين وفي المنطقة الأوقيانوسية، والشعوب المترحلة، مثل الروما والسنتي، والسكان اﻷصليين للمستعمرات ما وراء البحار الفرنسية واﻷمريكية. يصبح لدى أبناء تلك اﻷمم في بعض اﻷحيان قدرة على الوصول المتميز نسبيًّا إلى الثروة والفرص بسبب اندماجهم الجزئي في المركز الإمبريالي أو اقترابهم منه، لكن اﻷمم نفسها محرومة من حق تقرير المصير وتظل مقهورة. 

استنتاج: ملاحظات حول الممارسة المناهضة للإمبريالية

إذا كان لهذا المخطط المرسوم هنا أي قيمة، ففيما يلي –من وجهة نظري– هو أهم النصائح اللازمة لممارسة مناهضة الإمبريالية:

  1. يجب أن يقودَ النضال ضد اﻹمبريالية حركاتُ السكان الأصليين وحركاتُ الفلاحينَ والعمالِ التقدميةِ في الجنوب العالمي.
  2. خصوصًا في اﻷمم ذات النظام التعليمي الضعيف والقمع الحكومي العالي المستوى، فالتحالف مع القطاعات التقدمية من البرجوازية شيء لا مناص منه، مهما انطوى ذلك على مخاطر. 
  3. من المهم أن ندعم التجارب الباحثة عن بدائل اقتصادية للرأسمالية، وهذا يتضمن المزارع التعاونية والمصانع المُدارة عُمّاليًّا، واقتصاديات التبادل. لا يمكن فصل اﻹمبريالية عن الرأسمالية، ومحاربتها تعني تأسيس نظامٍ اقتصادي مختلف.
  4. لا تهدد البلدان شبه-الإمبريالية النظام الإمبريالي، فقد تمثل تهديدًا على المركز الإمبريالي الحالي وربما يمكنها فرض توزيع أكثر توازنًا للقوة والثروة اﻹمبريالية، لكنها لا تستطيع (ولا تريد) تغيير النظام الإمبريالي ذاته. 
  5. تقع أهم النضالات في اﻷمم المقهورة وأمم المركز الإمبريالي، حيث النظام أضعفُ في أطرافه وفي مركزه. والنضالات في الطرف الإمبريالي والدول اﻹمبريالية التابعة مهمّة بصفتها محفّزًا محتملًا للنضالات في أمم المركز الإمبريالي واﻷمم المقهورة، لكنّ فرصتها ضئيلة في تهديد النظام الإمبريالي. وأما النضالات في اﻷمم شبه اﻹمبريالية فهي تستلزم تحليلًا خاصًّا بها. وهي في الكثير من الأحيان تماثل النضالات في الطرف اﻹمبريالي والدول اﻹمبريالية التابعة، لكن في بعض الحالات، عندما تتعلق بروابط رئيسة بالنظام الإمبريالي، تصبح فرصتها أكبر بصورة ملحوظة. ونجد مثالًا معاصرًا في نضالات العمال في الصين.
  6. في المركز الإمبريالي، نجد مبادرات متنوعة مهمة، مثل: حملات العدالة العالمية حول قضايا يمكن لقطاعات واسعة من السكان أن ترتبط بها مثل: ديون العالم الثالث، إعادة توزيع التمويلات نحو الفعالين التقدميين في اﻷمم المقهورة، التحالفات السياسية مع المهاجرين، ربط النضالات المناهضة للعنصرية والأبوية بالنضالات المناهضة للإمبريالية، تطوير أنماط من الإنتاج الاقتصادي والتوزيع والاستهلاك تقوّض المقتضيات الرأسمالية القائمة على النمو والتدوير الدائمين.