موسوعة الملل | الدخل: هنجيب تاني منين؟

مقال لشهاب الخشاب

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

 ***

عن Egypt Today

هنجيب تاني منين؟ البنزين زاد، والكهرباء زادت، والخضار بقى غالي، والفاكهة بقت رفاهية، واللحمة بقت في أرض الأحلام، والعلاج بقى مستحيل، وكمان عايزين الولاد يخشوا مدارس؟ والمرتبات ثابتة، والمصلحة السريعة ما بقتش تجيب همَّها، والجنيه ما بقاش يجيب حاجة بعد ما راح يعوم في البحر، واللي ربنا ما كرموش بأرض أو بمصنع أو بمنصب مالوش إلا إنه يسأل: هنجيب تاني منين؟

النظام الحالي متصور إن الإجابة ببساطة إننا نتصرَّف ونجيب فلوس أكتر وأكتر. أكوام وأكوام. اشتغل 16 ساعة في اليوم بدل 12. لِم الفكة اللي معاك وصبَّح على مصر بجنيه. استثمر في حتة أرض أو في مصنع صغير واستنى عقبال ما يكبر. اطبع أوراق فلوس جديدة كل يوم عشان تدفع ديونك ومرتبات موظفينك. المهم إن الفلوس هي الحل. كل ما كان عندك فلوس، كل ما الدنيا هتبقى حلوة، وكل ما هتحقق أحلامك وأحلام أسرتك وأولادك.

التصور ده يبدو منطقي. كل ما الواحد معاه فلوس في النظام الحالي، كل ما يقدر ياكل ويشرب ويشتري حاجات لنفسه ولأهله ولأصحابه. ولو ما معاكش فلوس، ده معناه إنك بتعمل حاجة غلط، إنك ما بتشتغلش كفاية، إنك ما بتستثمرش كويس، إنك ما بتراعيش ربنا في شغلك، إنك مصمم تبقى موظف بمرتب ضعيف بدل ما تسوَّق نفسك وتاخد مرتب أحسن. المشكلة دايمًا فيك، والمشكلة دايمًا في الفلوس.

الرؤية دي متعالية لأن مش كل الناس عندها نفس القدرة المادية على إنها تجمَّع الفلوس. مصادر الدخل بتختلف حسب الوضع الطبقي والاجتماعي. السبَّاك اللي شغَّال باليومية والموظفة اللي شغّالة بمرتب شهري والفلاح اللي شغَّال في أرضه والمستثمرة اللي شغَّالة برأسمالها عندهم مصادر دخل مختلفة. المصادر دي بتحدد قدرة البني آدم بشكل موضوعي. طالما اليوم ما فيهوش إلا 24 ساعة، السبَّاك ما يقدرش يخترع ساعات عمل زيادة عشان ياخد فلوس أكتر. قدرته على الشغل محدودة بقدراته الجسمانية، وما يقدرش يقضي حياته في النصب من غير ما يخاطر بسمعته وشغلانته.

كذلك الموظفة الصغيرة ما تقدرش تخترع مكافآت إضافية كل شوية، وما تقدرش تخلِّي الدولة أو الشركة تدفع لها مرتبات أحسن بنفسها. لازم تستنى تقبض المرتب الحتمي الشهري حسب قوانين وضوابط المالية، وما تقدرش تجيب أكتر إلا بالفساد البسيط أو بالشغل بره ساعات العمل، وللأسف اليوم ما فيهوش إلا 24 ساعة برضه. كذلك الفلاح اللي بيزرع وما يقدرش يجيب أكتر من خير أرضه، إلا إذا عرف يزرع أول شجرة فلوس في العالم، وصاحبة الأعمال ما تقدرش تجيب أكتر من فائض القيمة اللي بتاخده بعد ما بتصرف على المعدات والعمال اللي عندها.

لازم نلاحظ إن الرقم اللي بياخده العامل أو الموظفة أو الفلاح أو صاحبة الأعمال ما يفرقش في حد ذاته. وارد إن فيه سبَّاكين بياخدوا أكتر من بعض الموظفات، أو إن فيه موظفات بتاخد مرتبات أعلى من أرباح رجال الأعمال الصغيرين. طبعًا الفروق الموضوعية دي ما تمنعش إن الناس تبني تصورات متناقضة عن الطبقات. بغض النظر عن مصادر الدخل، الناس بتحس إن الموظفة هتفضل طول عمرها في وضع طبقي أحسن من السبَّاك، وإن الفلاح هيفضل طول عمره في وضع طبقي أدنى من رجال الأعمال. التصور ده مش مبني على تحليل موضوعي للطبقات الاجتماعية، وإنما على تراكم ثقافي بيربط بين شكل الناس وجوهر وضعهم التراتبي في المجتمع. في المفهوم النمطي ده، الواحد هيتصوَّر إن السبَّاك لا يمكن يبقى معاه فلوس زي الموظف، وإن الفلاح عمره ما هيبقى معاه فلوس زي رجل الأعمال.

طبعًا التصور ده مش دقيق بدليل إن بعض السباكين بيكسبوا أكثر وعايشين بشروط حياتية أحسن من بعض الموظفين، وكذلك في حالة الفلاحين اللي بيمتلكوا أراضي بالنسبة لرجال الأعمال الصغيرين. التناقض ده مش بس بيورِّي إن فيه فرق بين الوضع الطبقي الموضوعي حسب مصدر الرزق والوضع الطبقي الثقافي حسب التفاعلات الاجتماعية بين البشر. التناقض ده بيورِّي إن فيه فروق جوه الطبقات دي نفسها. الحراك التاريخي بيخلِّي بعض الطبقات تصعد موضوعيًا وثقافيًا – زي مثلًا الموظفين الكبار اللي بقوا ماسكين شركات ضخمة – وبعض الطبقات تنزل موضوعيًا وثقافيًا – زي مثلًا الموظفين الصغيرين اللي عايشين بمرتبات ضعيفة.

التناقضات دي بتعقّد التحليل، لأننا ما نقدرش نستخدم الفلوس كمعيار لقياس الثروة والقوة والوضع الاجتماعي. ما نقدرش نقول إن اللي ماسك فلوس بالضرورة ثري، واللي مش ماسك فلوس بالضرورة فقير، لأن الفلوس بتروح وبتيجي، حسب مصدر الدخل، حسب الوضع الطبقي والثقافي. أي واحد شغَّال باليومية تحت رحمة الشغل اللي بيروح وبيجي، وقدرته الشخصية على استحمال الشغل. لو الشغل خَف أو العامل اتصاب أو الجنيه اتعوِّم، اليومية مش هتقضِّي احتياجات العامل لأي نوع من العناية المادية أوالطبية أو الاجتماعية. وأي واحد بيقبض مرتب تحت رحمة مواعيد الدفع، وبيبقى فاهم كويس الفرق بين فرحة بداية الشهر وكساد نهاية الشهر.

في التصور الماركسي التقليدي، الفروق الموضوعية والشخصية دي عبارة عن نتائج نمط إنتاج رأسمالي بعلاقات إنتاج رأسمالية بحتة، والعمال كلهم مشتبكين في صراع تاريخي دائم مع أصحاب العمل عشان يتحرروا من سلطة رأس المال. التحليل ده دقيق في بعض أركان المجتمع المصري، ولكن التشكيل الاجتماعي المصري عمره ما كان تحت سيطرة الرأسمالية بشكل كامل. بالتالي مصادر الدخل المتاحة بتبقى ناتجة عن أنماط إنتاج متنوعة في نفس الوقت. والنظام الرأسمالي شغَّال بالتوازي مع نظام إنتاج زراعي ورثناه عن القرون الماضية بالتوازي مع نظام الدولة اللي بتوزَّع فائض الأراضي والمصانع للناس اللي ماسكة مناصب، وبالمرة بتجمَّع ضرائب عشان تدفع للملايين اللي شغّالين في الحكومة.

يعني الأرقام ما بتعبَّرش في حد ذاتها عن الدخل، لأن الدخل بيفرق حسب مصدره والتصورات الاجتماعية عن المصدر ده والتشكيل الاجتماعي بشكل عام. مفيش وسيلة سحرية للحصول على الدخل، والوسائل المتاحة موجودة في إطار غير متساوي بوضوح. الحيتان الكبار فيه عندهم موارد تحقق لهم دخل خرافي، بينما العامل والموظف والفلاح ورجل الأعمال الصغير مالهمش إلا مصادر دخل محددة ومحدودة.

لما نيجي نسأل هنجيب تاني منين، السؤال مش مجرَّد تنفيسة ولا شكوى في المطلق. محدش يقدر يحل أزمة مالية بمجرد إنه يطلّع فلوس جديدة من الهوا، لأن أزمة الفلوس عمرها ما بتبقى أزمة فلوس فقط. الأزمة في الواقع أزمة عدل ومساواة؛ أزمة ناس عندها قدرة على تحويش كميات مهولة في ثواني، وناس ما عندهاش القدرة دي، لأنها في الآخر مالهاش سكة مع الحيتان اللي ماسكين الأراضي والمصانع والمناصب. وفكرة إن الواحد مضطر يتعامل معاهم عشان يوصل ويتحقق في حد ذاتها بتكشف قد إيه الأرقام مالهاش معنى إلا في سياق سياسي واقتصادي واجتماعي محدد.

عشان الناس تعرف تجيب تاني، ممكن تلجأ للسرقة والعنف، أو للاحتجاج والتمرد، أو للشغل في أكثر من شغلانة وفي أكتر من وردية. الحلول دي موجودة بالتوازي، ورغم خوف الدولة من انفجار العنف والتمرد، معظم الناس مختارة الحلول الفردية السلمية عشان تاكل عيشها وتقلِّب رزقها. بالتالي مش هنقعد نستنى إن الناس تثور أو تتمرد أو تتحرك ضد النظام، لأن الوضع المهيمن المستقر إنها لازم تقعد في بيوتها وتخاف على عيالها. ولكن إذا الناس ما بقتش قادرة تجيب من حتة تانية، هتروح بعد كده فين؟ وهتحمِّل المسؤولية لمين؟ وهتقعد مصدقة إن الحال هيتحسِّن ازاي ولإمتى؟