فتاة مسكينة
قصة للودميلا پيتروشفسكايا*
نُشرتَ في النيويوركر، بترجمة آنا فريدريك عن الروسيّة
ترجمة: عمر فارس
خاص بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
* لودميلا پيتروشفسكايا: أديبة روسيّة وُلدت عام 1938 في موسكو، حيث ما تزال تقيم حتى الآن. تكتب القصص القصيرة والنثر، والنصوص المسرحيّة أيضًا. تسلّمت عام 2002 الجائزة الأهمّ على مستوى روسيا، Triumph، عن مجمل أعمالها. وحصلت مجموعتها القصصية "كانت يا ما كانت امرأةٌ حاولتْ قتل ابن الجيران الرضيع: حكايات رعبٍ خيالية" على الجائزة العالمية للفانتازيا World Fantasy Award. (عن بنجوين)
***
كان من الممكن أن تفقد الأم التعيسة عقلها وهي تشاهد زوجها يحبُّ ابنتهما؛ الطريقةُ التي كان يتحسَّس بها الطفلةَ أثناء نومها أو عند استيقاظها، والبهجةُ البادية على وجهه عندما يتلامسان، وحقيقةُ أنه يحَمِّمها بنفسه، ظانًّا أن ذلك من حقِّه ومسؤوليته. ضحكته السعيدة كلّما استذكر لضيوفه كيف أنَّ مانيا، أثناء الاستحمام، دائمًا ما تحاول تورية مفاتنها بيديها (تاركةً بقيَّة جسدها مكشوفًا، كما خمَّن الضيوف). استمر الحال على ذلك حتى وصلت الفتاة الثامنة من عمرها، حين أصرَّت على الاستحمام بمفردها. حينها، أيضًا، ازداد قلق الأم أكثر، متساءلةً عن ماهيَّة الذي يجري بين الاثنين.
حافظت الأم، إيرينا، على المنزل نظيفًا. لقد امتلكت يدين من ذهب. ملمسُ يديها كان بالفعل مثل الذهب، أو أي معدن آخر، وكيف لا، هما باستمرارٍ تُقشِّران، وتَفْرُمان، وتديران مفرمة اللحم، وتَغْليان، وتَقْليان، وتمسحان الأرضيَّات والغبار، وتنفضان السجَّاد، وتغيَّران الملاءات؟ كانت كلَّ عطلةٍ تخبزُ الفطائر للضيوف، وكل شتاء، تنظِّف جميع النوافذ وتسدها بإحكام، لتعود كل ربيع كي تفتحها وتنظِّفها مرة أخرى. إضافة إلى ما سبق، كان لديهم كوخ مزروع بالخضراوات، يحتاجُ، صيفًا، إلى التنظيف، ومَسْحِ الغبار والأتربة، بالإضافة إلى البَذْر، والسَّقْي، والتعشيب، ولاحقًا تحتاج منتوجاته لأن تُحصَد، وتُخَلَّل، وتُخَزَّن. يتضمّن المخزون الناتج عن ذلك أيضًا مشروب التوت البرِّي الذي تشتهر به إيرينا، ونبيذ الكِشمِش خاصَّتها الذي يضاهي مذاق الشامپانيا.
اشتغلت الأم أيضًا، مستغرقةً ساعتين يوميًّا ذهابًا وإيابًا بين المنزل والعمل. وبعد عشر ساعات تقضيها في العمل، كان عليها الاستماع لأحاديث زوجها المتحمِّسة عن تحميم ابنتهما، كل ذلك أمام الضيوف! كانت الفتاة دومًا بقربهِ، أو جالسةً في حضنه تُقبِّلهُ على خدِّه، وأحيانًا على ساعده. صارت الزوجة تصرخ كثيرًا، وفي معظم الأوقات. لقد كانت مُرهَقةً، وامتلأت عيناها الجميلة الشفَّافة بالسؤال: «ما الذي يجري؟» لم تعتنِ الأم بالمنزل وعملها فقط، وإنما اعتنت بحماتها أيضًا، مُدرِّسة الفنون واللغات المتقاعدة، مهووسةِ المسرح والأمسيات الأدبية، والتي تستمتِّع بمغازلات ضبّاط الجيش المسنّين التي عادةً ما ترجع معهم إلى المنزل «تحت الحراسة». ضحكاتٌ، ووجباتُ عشاء متأخرة ليلًا؛ الأب يحمِّم ابنته ويقرأ لها قصَّة ما قبل النوم قبيل انضمامه لطاولة العشاء، وأمّهُ تُسلِّي الجميع بانطباعاتها عن أحدث خاطِبيها. جميعهم يتناولون طعامهم ومن ثم يلتفتون إلى التلفاز، بينما إيرينا تنظِّف الصحون في المطبخ. كل شيء في سرير الزوجية كان ساكنًا؛ كلاهما يقرأ كتابه الخاص، ومن ثم يُطفئ كلٌّ مصباحَهُ السريري، وبعد دقائق، ينطلقُ شخير الزوج.
حقيقة الأمر أن إيرينا لم تتلقَّ الحب، إطلاقًا. تعامَلَ زوجها معها، ومع ما تفعله من أجل العائلة؛ غسيل الملابس، وكرات اللحم الطرية، والمنزل المرتَّب، وعلامات الفتاة الممتازة، باعتباره تحصيلَ حاصلٍ. جنت المهندسة إيرينا مبالغ جيدة من المال بواسطة عملها. باختصار، كانت عائلة مثالية.
كان الزوج يؤدي واجباته الزوجية أحيانًا (أحيانًا قليلة)، عادة بعدما يكونا قد أمضيا السهرة خارج المنزل وشربا بعض الكحوليات. حينها تبدو الزوجة مختلفةً، بهيجة. شيءٌ ما يستيقظ في داخله مما يدفعه لكي ينقلب إلى جهة زوجته من السرير، ويتحسس جسدها. يتبادلان القُبَل، كما لو أنهما يحرِّكان بعض المشاعر المنسية، ومن ثم ينسحب بعيدًا، ويضع واقيه الذكري، ويلبِّي شهوته بوضعية تمارين الضغط push-up. يكتفي بذلك، ومن ثم ينتهي الأمر. بعد ذلك، يذهب إلى الحمَّام حتى يتبوَّل ويتخلَّص من آثارَ (ما تعرفونه جميعًا). وصفٌ فجّ لكنّه دقيق. للأسف، بعض الأشياء لا يمكن مراقبتها دون أن يقشعر لها البدن. (يمكننا أن نصف ما يفعلانه باستخدام الاستعارة: نحلةٌ طنَّانة تحطّ على وردة تنحني تحت ثقل وزنها، وتفرزُ رحيقًا حُلوًا. عندما يستطيل أنبوب امتصاص الرحيق نزولًا نحو الوردة، تتقوَّس الأخيرة تحته وترتعش. بعد ثوانٍ، تعودُ الوردة إلى تفتحها البريء في الريح، تحت سماء زرقاء).
الذهابُ إلى العمل صباحًا، والعودة إلى المنزل في وقت متأخر مساء، وهي تحمل أكياس تمتلئ بحاجيات المنزل، مهما كان الطقس ماطرًا أو صحوًا. نتيجة ذلك كله تشكَّت إيرينا كثيرًا من زوجها؛ كل ما يقوم به كان خاطئًا، لم يكن يقوم بشيء بالطريقة الصحيحة، الطريقةِ التي يجب أن تُنجَز بها الأمور.
أبدت الجدة المثقفة استغرابها، حيث لم يكن للصراخ مكان في بيتها. هي وزوجها الأخير احترما بعضهما. لقد كان كولونيلًا متقاعدًا. عند موعد النوم، كان يشرب كأس كونياك صغير وهي تشرب الشاي مع الحلوى. بعد ذلك ينامان، بسلامٍ وسكينةٍ، دون أن يطلب أحدهما شيئًا من الآخر. بينما توجد هنا تلك الحرارة غير الملبَّاة؛ مواءُ هرَّة حزين أو قُبَاع خنزيرة تصيح دون توقُّف (مفردات جاءت بسبب تجربتها مع الكوخ الصيفي). تمنَّت الجدة لو أنها تستطيع قولَ شيئًا لابنها، لكن من أين لها ذلك؟
تعلَّقت الفتاة بأبيها، وكانت تنتظره حتى يعود من العمل كي يشرح لها مادَّة الرياضيات. لم تكن تترك جانبه أبدًا. في عُطَل نهاية الأسبوع، كانا يركضان معًا في حديقة المدينة، بينما تقضي إيرينا العطلة في شقة أمها الصغيرة. كانت أمها مريضة، طريحةَ الفراش، وتحتاج لمن يطعمها ويغيِّر ملابسها، بالإضافة لمعالجة التقرحات الناتجة عن بقائها وقتًا طويلًا في السرير. كان إيرينا تتفقَّدها قبل العمل وبعده أيضًا.
لاحقًا ماتت أمها، وأوفوا دفنها حقَّه؛ كل شيء كان على ما يرام. ثمّ بعد ذلك بدأت إيرينا قضاء وقت فراغها في بيت أمها الأخير بحجة تنظيفه، لكنّ السبب الحقيقي كان لتجنُّب منزلها. كانت تنتهي من إعداد أطباق اليوم صباحًا، وتترك مهمة تسخينها على حماتها، ومن ثم تعود إيرينا لتنظِّف الصحون مساءً.
بعد فترة، ودون سابق إنذار، حزمت إيرينا جميع أغراضها في حقيبتين وأخبرت حماتها أنها مُغادِرة، نعم مُغادِرة، وسوف تأخذ الطفلة معها.
إلى أين؟ وكيف؟ ولماذا؟
كان أحد أصدقاء المدرسة، والذي يُدير مصنعًا على أطراف ميرمانسك، أقصى شمال روسيا، قد اتصل بها وحدَّثها عن حاجته إلى موظفةٍ مساعِدة سريعة البديهة تحملُ شهادة جامعية. كان الراتب ثلاثة أضعاف ما كانت تجنيه مسبقًا.
إذن، غادرتْ وأخذت الفتاة معها. وجدت الفتاة، بعد ذلك، طريقة للاتصال بوالدها، ودمعها كان يبلِّل الهاتف. لكنها اتصلت به مرَّة واحدة فقط.
أخذ بيتُ الزوجية السابق بالتحول إلى بيت هادئ. توقَّفت الحماة عن الذهاب إلى المسرح مساءً، حيث أن ضوء قلبها قد انطفأ. وهذه الأيام، تقضي نهاية الأسبوع في جرِّ نفسها للذهاب إلى سوق الطعام في وقت متأخر من اليوم، الوقت الذي يتبرَّعون فيه بالمنتجات تقريبًا بالمجان. كان ابنها عديم الجدوى؛ تنقَّل بين الوظائف، وقضى معظم وقته خارج المنزل، وسافر كثيرًا في رحلات تتعلَّق بعمله. بينما استطاعت الفتاة، في ذلك الوقت، إيجاد طريقة اتصال بوالدها من خلال مراسلته، وذيَّلت ظروف رسائلها بعنوان تُعَاد إليه الرسالة إن لم تصل وجهتها. كتبت له عن مدرستها الحكومية الجديدة التي لم ترق لها، حيث أن الأطفال الآخرين سخروا من لهجتها الموسكويَّة، حيث أن الشماليين ينطقون أحرف العلة، بعكسها.
بعد عام، استطاع الزوج تدبُّر أمر أن يُرسَل في رحلة عمل إلى الشمال. وصل إلى هناك، وأنجز عمله، وأخذ رحلة الباص المسائي، مع وسيلة نقل أخرى وصولًا إلى القرية، غداة الصباح.
صباحًا في أقصى الشمال، كان الظلام دامسًا، وكل شيء مُغلَقًا. سأل من معه عن مكان يستطيع استئجار سرير فيه، فأخذه أحد الرُكَّاب إلى شقته، إلا أن الزوج لم يرد إزعاج عائلة الراكب وقرر الانتظار في بهو المنزل، بالقرب من التدفئة، حتى صارت الساعة 8 صباحًا. بعدها، تمشَّى وصولًا إلى مدرسة ابنته وانتظرها في غرفة أمتعة الطلاب. إلا أنه لا يستطيع تمييزها؛ مرَّت سنة كاملة والفتاة تغيَّرت. لذلك، اتجه نحو مكتب المدير وأشهر إثبات هويته، التي تُظهر أنه يشترك مع ابنته في اسم العائلة، ومن ثم أخذَ السكرتيرُ هذا الرجلَ المسكين إلى غرفة الصف. عندما لمَحَتْه، انتفضت الطفلة من مكانها، كما لو أنها تقف احترامًا لأحد المعلمين، وانطلقت باكية. تسمَّرت في مكانها تبكي للحظات، ثم رمت نفسها في أحضان والدها. لكنه أعادها لمقعدها حتى تجمع أغراضها، ممارسًا دور الأب مرة أخرى، ومحاولًا التأكُّد من أنها لم تترك شيئًا وراءها.
تحت برد الصباح المظلم، مشيا معًا باتجاه المصنع الذي تعمل فيه الأم. عندما رأتهما يدمعان، ما كان منها إلا أن تجمع حاجياتها من على المكتب سريعًا، وتعود معهما إلى المدرسة - حيث لا مكان يذهبون إليه في القرية هذه الساعة - لكي ينتظراها هناك. بعد مرور دهرٍ، عاودت الأم الظهور محمَّلةً بحقيبتي سفر، وكيسَيْن، وحقيبة ظهرِ الفتاة. رفع الأب الحقائب والأكياس، وتوجَّهوا سريعًا إلى محطة الباصات، حيث استقلوا رحلةً بينما هي تهم بالانطلاق. كان هنالك مقعدان متاحان فقط، لذلك جلست الفتاة في حضن أبيها ونامت. استمرت الرحلة لسبع ساعات. وصلوا المدينة مساءً، بعدما غابت الشمس. استقلوا الباص متجهين إلى محطّة القطار، حيث وصلوا في الموعد المناسب قبيل انطلاق قطار موسكو.
رفضَ مُحصِّل التذاكر أن يسمح للعائلة بصعود القطار، حيث لم يحملوا معهم سوى تذكرةٍ باسم الوالد ولم تتبق مقاعد متاحة. اختفى الأب داخل القطار، ومن ثمَّ عاد بصحبة مسؤول القطار ليُريه زوجته وابنته. سمح المسؤول لهم بالصعود. مؤَكَدٌ أن بعض النقود قد حلَّت الأمر. أُتيح للأب الجلوس على مقعد، بينما اشتركت الأم والبنت في الجزءَ السفلي لسريرٍ طابقي، من حسن حظهما. استلقيتا بوضعية كان وجه الأم فيها يُقابل أقدام البنت. صباحًا، أخذ الأب العائلةَ إلى مقصورة الطعام، حيث لم يأكلوا شيئًا منذ 24 ساعة. طلبت الأم من الجميع الاستحمام برغم أنهم اضطروا جميعًا استخدام منشفة واحدة، رفيعة ومخصصة لليدين. استُعيدَ انضباط العائلة، كان ذلك مسؤوليّتها. تناولوا طعامهم كما لو أنهم في حفل رسمي، تحيط بهم مفارش الموائد النظيفة والمناديل الورقية، محافظين على سلوكهم القويم. أكملوا بقية اليوم عند السرير، ومن ثم عادوا إلى مقصورة الطعام لتناول وجبة الغداء. تكلَّم الأبوان فقط عندما كانا يوجِّهان كلامهما إلى البنت. لم تترك الفتاة والدها، وقضت معظم الوقت غافيةً. تجنَّب الزوج والزوجة النظر إلى أحدهما الآخر.
حالما صار الشمال وراءهم أخيرًا، صار بالإمكان شراء الطعام من المزارعين في نقاط توقُّف القطار، وبات باستطاعتهم الآن تناوله على الطاولة الصغيرة المحاذية للسرير. اشترى الأب بضعة فطائر ساخنة، وخِيارًا مخلّلًا، وبطاطا مسلوقة، حتى أنه اشترى فطيرة سمك. كان كل ذلك لذيذًا وجميلًا برفقة شاي ساخن مُحلى. ظلّت البنت تثرثر قائلةً: «پاپا، پاپا، پاپا» طيلة الرحلة، بينما تحدَّث الكبار فقط عند الحاجة المُلحة، برغم أنهما كانا ملتصقان أمام الطاولة. لقد افترقا منذ فترة طويلة. انضمَّ إلى الكابينة المسافر الجالس على الجزء العلوي من السرير، كما يحق له أن يكون. وصلوا وِجهتهم نهايةَ اليوم الثالث على رحلتهم.
حملَ الأب الطفلة وإحدى الحقائب، وتكفَّلت الأم بكل ما تبقَّى. استقلُّوا سيارة أجرة وقطعوا الشوارع المظلمة الجميلة لمدينتهم. كان المطرُ يهطل خفيفًا، وأضواء الشوارع تشعُّ بِرِقّة.
دخلوا شقّتهم بهدوء. بدا أن الجدة نائمة، لا بد أنها تناولت حبة منومة، حيث صارت هذه عادتها. كانت غرفة الفتاة نظيفةً كما لو أنها غادرتها البارحة؛ ملاءات نظيفة تغطِّي السرير، ودُميتها ورداء نومها يستلقيان على المخدة. بدا واضحًا أن الجدة كانت تنتظر يوميًّا عودة حفيدتها.
لم يحمِّم الوالدان الطفلة النائمة. مسحت الأم قدمَ الطفلة ومؤخرتها بمنشفة مبلولة ودافئة، وألبستها ملابس مريحة تناولتها من الحقيبة، حيث أن رداءَ نومها القديم قد صَغُر عليها. عادت الفتاة إلى نومها سريعًا ممسكةً دميتها.
توجَّه الأم والأب إلى السرير أيضًا.
لم يعلم أحدٌ ما الذي حصل معهم بعد ذلك، سوى أن الأم، بعد ستة أسابيع من عودتها، أجرت عملية إجهاض احترازية، وبعدها بعام، أنجبت الأم طفلةً أخرى.