«رحَّالة» لأولجا توكارتشوك: أخبار السائرين على الطُرُق
مراجعة باسم عبد الحليم
نُشرت في العدد 14 من كتاب "مرايا" غير الدوري.
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمراجعته دون إذن منه.
كانت النكتة الدائرة على مواقع التواصل الاجتماعي، بين المهتمين بالثقافة وقُرَّاء الأدب، في الأيام السابقة على إعلان نوبل الأدب هذا العام، أن لجنة الجائزة، وبعد حجبها جائزة العام الماضي وإعلانها أنها ستمنحها إلى اسميْن هذه المرة بدلًا من اسم واحد، لا بُد ستختار رجلًا وامرأة لكي تمنحهما الجائزتيْن، المؤجلة والجديدة. نكتة اتخذت شكل النبوءة الهازلة، لكنها تمد بجذرها الخفيّ في ما يجتاح العالم الآن، في السياسة وسوق العمل كما في الفن والأدب، من تمييزٍ إيجابيٍّ للمرأة، بعد أزمنةٍ من الاستبعاد الاجتماعي. وفي يوم إعلان الجائزة، تحققت النكتة النبوءة، بتسمية النمساوي «بيتر هاندكه» عن 2019، والبولندية «أولجا توكارتشوك» عن 2018. نعم، «أولجا»، لا تدعهم يخدعونك بـحرف الغين في تلك الـ«أولغـا» على غلاف النسخة المصرية من الكتاب.
أشعل اسم هاندكه كفائز بالجائزة نقاشات حادة بين المثقفين عمومًا، والعرب منهم خصوصًا، بسبب تاريخه في دعم مجرم الإبادة العرقية الصربي «سلوبودان ميلوسوﭬيتش». وربما طغت الضجة على الاسم الآخر الذي فاجأتنا به نوبل، والذي كان، حتى لحظة إعلان الجائزة، مجهولًا للقارئ العربي. جهلًا سرعان ما محاه بعد أسابيع، أو حاول أن يمحوه، صدور كتاب «رحَّالة»، الترجمة العربية الأولى لعمل من أعمال توكارتشوك، بترجمة متميزة لإيهاب عبد الحميد.
على غلاف «رحَّالة» يطالعنا بوضوح تصنيف «رواية»، لكن الطبيعة المتشظية للكتاب تجعلنا نتردد أمام مدى صحة هذا التصنيف. يتكوَّن «رحَّالة» من 116 نصًّا؛ مختلفًا في الطول والشكل والأسلوب، لا يكاد يجمعها سوى هذا التفكير الدائب في الحركة والارتحال وقطع المسافات. قد يتخذ هذا التفكير شكل الحكاية، أو الأمثولة القصيرة، أو اليوميات، أو التأمل الأنثروبولوجي للبشر وارتحالاتهم، أو التعريفات ويكيبيدية الطابع للأماكن والكلمات، أو التأريخ الثقافي لمفهوم السفر والحركة.
توليفة من الأشكال والأساليب، وخليط من السرد والتحليل، بنصوص مُعنونة متتابعة تتأرجح بين الواقعية والتخييل، تستخدمها توكارتشوك لتصنع موزاييك هائلًا، لا يمكن اعتباره «رواية« إلا وفق تعريف واسع ورحب للغاية لمعنى التصنيف.
ربما كان للرواج التجاري المعتاد للرواية دخلًا في تصنيفها كـ«رواية»، فالذائقة العامة لدى القُرَّاء في العالم ما زالت تفضل ما ترتاح وتأنس إليه، وتخشى المجازفة بقراءة مغامرات كتابية غير معتادة مثل «رحَّالة». لكن التجربة قد علَّمتْنا أن رحابة صدر النقد الآن تسمح بقبول تصنيف «رواية» لكتابة من هذا النوع، فالتصنيفات اتسعت عما كانت عليه في الماضي، أو هكذا يقول الناقد ما بعد الحداثي.
تشبه قراءة «رحَّالة» متابعة اقتفاء مستمرٍ للأثر على متاهة من الطرق غير المُعبدة. تقتفي الساردة آثار أقدامها وأقدام من سبقوها على الطريق. ساردة غامضة، بلا اسم، تقدم نفسها كرحَّالة فطرية وابنة لمُرتَحليْن سابقيْن أرهقهما السفر. وفي تقديمها لنفسها، تستبعد كل ما يتعدى هويتها كمسافرة، وتقتصر في وصفها لنفسها على بيان حالة فسيولوجي للسمات والوظائف الجسدية وحالة الأعضاء ونسب الكوليسترول والهيموجلوبين والصفائح البيضاء في الدم. ما قد تحتاج مسافرة إلى توثيقه وإثباته قبل انطلاقها في رحلتها. أما السن فلا يهم كثيرًا؛ «السن مسألة في رأسك»، والجندر مجرد «مسألة نحوية».
من جانب آخر، تبدو الساردة وكأنها ترسم خريطة للذات أولًا، لأعضاء الجسم وحالتها ونوع فصيلة الدم، قبل أن تمضي في طريقها لاكتشاف خرائط الجغرافيا.
تمضي الساردة في تتبع واستقراء علامات ذلك الطريق، متأملة في معنى السفر والارتحال والحركة في الجغرافيا وكل ما يتعلق بها تقريبًا: المطارات، والطُرُق، والإقامات السريعة في الفنادق، ولقاءات الصدفة مع رفاق السفر العابرين. مَن مرَّ هنا، ومتى، ومن أين إلى أين؟ بالنسبة إليها، فإن كل خروج من البيت بمثابة حَجّ وارتحال، يقود إلى حَجٍّ وارتحالٍ آخر. تقول ساردة «رحَّالة» إن أول رحلة لها في طفولتها كانت الخروج من البيت في غفلةٍ من الأهل. مجرد الخروج من الفضاء الأمن للبيت، والسير عبر الحقول حتى الوصول إلى نهر «أودر» الصغير. وتصف توكارتشوك تلك الرحلة باعتبارها المعرفة الأولى بمعنى الترحال ولذة الاكتشاف؛ تلك الحَجّة القصيرة إلى نهر «أودر».
بقدر ما يبتعد «رحَّالة» عن شكل الرواية المعتادة، يقترب من أنواع وأنساق أدبية عدة أخرى، ولكن بتنويعٍ جديد يميز خصوصية كتابة توكارتشوك. قد نعتبر «رحَّالة» في أحد مستوياته أدب رحلات، لكن أدب الرحلات التقليدي، من وظائفه أن يساهم في معرفتنا بالأماكن والبلدان التي يسرد عنها، بينما يزيد «رحَّالة» من التباس تلك الأماكن، لأنه يحاول الاقتراب أكثر من روحها وحقيقتها الداخلية، دون أوصافها وتفاصيلها الجغرافية. وبشكلٍ شخصي أيضًا، ذكرني «رحَّالة» بكتب الأخبار العربية القديمة، كـ«أخبار الحمقى والمغفلين» لابن الجوزي، فبما جمعته توكارتشوك من حكاياتٍ ونوادر عمن التقتهم على طريقها أو قرأت عنهم في كتب التاريخ، يمكننا أن نعتبر عملها هنا كتابًا لـ«أخبار المسافرين والسائرين على الطُرُق». إن من أكثر الطموحات وضوحًا في كتاب «رحَّالة»، هو ذلك الطموح الموسوعي في تدوين السجل الجامع للرُّحل السابقين وحكاياتهم وما آلوا إليه.
يعطي كتاب «رحَّالة» الانطباع بأنه قد كُتِب لكي يُقْرَأ، ليس فقط لأكثر من مرة، بل أيضًا بعدة طرق مختلفة. هناك القراءة الأولى التي اعتدناها في قراءة الكتب، القراءة ذات الطريق المستقيم، بذلك التتابع الذي اختارته الكاتبة لنصوصه. ثم هناك تلك القراءات التالية، اللا نهائية، لكل نص من نصوصه. في تلك القراءات، يصلح «رحَّالة» لأن يُفْتَح على أي صفحة من صفحاته لقراءة ما تيسر. وبينما تمنحنا القراءة الأولى إدراكًا يخص دقة ورهافة التصميم الذي وضعته توكارتشوك لترتيب كتابها، الذي قد يبدو اعتباطيًا في البداية، لكننا سنعرف بالمضي قدمًا في صفحاته أنه ليس كذلك، ستعطينا القراءات التالية متعة استقبال كل نص من نصوص الكتاب الـ116 على حدة، ومدى قابليته للقراءة والتذوق بمعزل عن بقية جسم الكتاب. كأن القراءة الأولى تفكك طريقتنا المعتادة في قراءة الروايات، وتعلِّمنا أن متعة أكبر تنتظرنا، بتجربة الدخول إلى الكتاب من أي باب من أبوابه المختلفة.
تربط توكارتشوك بين الحركة والتحضر، تكتب «سيولةٌ، حركيّةٌ، إيهامٌ – تلك بالضبط الصفات التي تجعلنا متحضرين. البرابرةُ لا يسافرون، هُم ببساطة يذهبون إلى وجهات مُعيَّنة أو يشنُّون غارات». تحمل هذه العبارة أيضًا فكرة أخرى مهمة؛ أن السفر لا يكون سفرًا إذا اتجه إلى وجهة مُعينة. عليه ألا يهدف سوى إلى الحركة ومغادرة المكان الذي أنت فيه هنا والآن، واكتشاف المجهول وراء ما تعرفه وتألفه. ومن هذه الرؤية تحديدًا؛ أن كل حركة هي بالضرورة سفر، دوَّنتْ توكارتشوك كتابها.
يرافق الارتحال في المكان، ارتحالًا آخر في الزمن وفي معناه ونسبيته. بالنسبة إلى توكارتشوك، فهناك زمن المدينة السريع المحموم الذي يبتلع الأشخاص في دوامته. وزمن البراري الهادئ الكسول حين تتطلع إليه من الطائرة. كما أن المكان يحمل أيضًا سرَّ زمنه، والقبض على نقطة التقائهما المثالية وإدارج الذات فيها، هو الوسيلة لكشف ذلك السر. وتقول توكارتشوك إن جزءًا من هدف ذلك السعي إلى الارتحال هو كسر ذلك التسلسل الغامض للمكان والزمن. الهبوط من الطائرة في المكان المناسب والزمان المناسب سيكشف حقيقته. وحين يضع المسافر نفسه في نقطة الالتقاء المثالية تلك، فـ«لا مزيد من التجاهل، لا مزيد من الإبحار عبر الصدف، والحوادث، ومنعطفات القدر».
تمارس توكارتشوك في «رحَّالة» نوعًا فريدًا من الشغف الشخصي، وتسمح لها صيغة الكتاب المفتوحة بتلك الممارسة. الشغف بالتشريح مثلًا، وبجمع النماذج البشرية الغريبة والشاذة والناتجة عن انحراف الطبيعة في خزانة أعاجيب. تقول توكارتشوك إنها إلى تلك الأشياء تشد الرحال في أسفارها، متتبعةً أخطاء الخلق وزلّاته. تُنْبَذ تلك الأخطاء والزلَّات خارج الفضاء الرسمي المُعتمد للبشر، لكنها بذلك النبذ والإقصاء تكشف الكثير عنهم.
من أذكى أفكار الكتاب وأكثرها إثارة، تلك الدعوة إلى علم نفس للسفر. نشأ علم النفس كما نعرفه، من دراسة الإنسان المستقر في مكانه وفي ضوء من بيئته وعلاقاته، بينما يسعى علم نفس السفر إلى دراسة الناس في المعابر والمطارات، وتحليل الأفراد في حالة حركة. يزيد من أهمية تلك الدراسة وصلابتها، أن تلك المعابر والمطارات قد اكتسبت شخصيتها المكتملة والمستقلة عن المدن، لها ديكوراتها وخريطتها وشريط صوتها الخاص. ماذا ينقص المطار الآن عن المدينة؟ تجيب توكارتشوك بأن المطارات صارت تحتوي على «مراكز للمؤتمرات، ومعارض فنية مثيرة، ومهرجانات، وحفلات إطلاق لمختلف المنتجات»، وعلى «فنادق جيدة وتشكيلة واسعة من المطاعم والبارات». والمطار «جنس خاص من المدينة-الدولة، حيث المكان ثابت، والمواطنون في حالة تدفُّق». وعلم نفس السفر يدرس هؤلاء المواطنين في حالة حركة، واضعًا نفسه نقيضًا لعلم النفس التقليدي.
يمثل كتاب «رحَّالة» نصًا نشيطًا، متقافزًا ولاهثًا، كما أنه في حالة جوع دائم؛ لا تكف ساردته عن رصد وفهرسة وتحليل كل ما يقابلها من تفاصيل وحكايات وأشخاص، كأنها ترغب في ابتلاع العالم بين دفتي كتابها. كان يمكن لنصٍ كهذا أن يستمر للأبد، لو أرادت صاحبته. ربما يعضد من هذا الظن ما قالته توكارتشوك، في حوار من حواراتها مؤخرًا، إنها تعتبر «رحَّالة» كتابًا ناقصًا، لأنه، وقد كُتِب قبل سنوات من تفشي تلك المشكلة، يخلو من حكايات اللاجئين الذين ارتحلوا إلى أوروبا والغرب في السنوات الأخيرة، لكن هذا كتابٌ آخر.
في الكتاب الذي بين أيدينا، ستقرر توكارتشوك التوقف عند تلك اللحظة التي تقابل فيها شبيهها؛ مسافرًا غريبًا مثلها على الطائرة، يُخْرج من حقيبته كراسًا ممتلئًا حتى ثلثه، وقد كُتِب عليه «دفتر المسافر»، ثم يشرع في الكتابة، بقلمٍ أسود له رأس دوَّارة، وتتخيَّل أنه ربما يكتب عنها فيه. عند تلك اللحظة السحرية ستُنهي توكارتشوك كتابها، لكنها لن تنسى أن تدعونا إلى فعل نفس الشيء، فتقول «لا تكونوا خجولين. اخرجوا كراساتكم أيضًا، واكتبوا».