أطعمة محفوظة مدى الحياة
قصة: أولجا توكارتشوك*
ترجمة: محمود راضي
عن الترجمة الإنجليزية لأنتونيا لويد- جونز
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الاخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
* أولجا توكارتشوك: روائية وقاصَّة بولندية، نشرت نحو 8 روايات ومجموعتين قصصيَّتين. حصلت على جائزة مان بوكر الدولية عن روايتها "رحَّالة" عام 2018، كما حصلت على جائزة نوبل للآداب لعام 2018.
حين ماتت، منحها جنازةً محترمة. حضرت جميع صديقاتها، سيدات عجائز قبيحات يرتدين قلنسوات ومعاطف شتوية ذات ياقات من فراء الكيب تفوح برائحة النفتالين، ورؤوسهن ناتئة مثل دمامل كبيرة شاحبة. بدأن في التباكي برهافة مع نزول التابوت متدليًا من حبالٍ تشرَّبتْ بالمطر، ثم تجمهرن في جماعات صغيرة تحت قباب مظلاتهن المنقوشة الشنيعة، وتوجهن نحو موقف الباصات.
في نفس الليلة، فتح الخزانة التي أبقت فيها وثائقها وفتش داخلها، دون أن يعلم عما يبحث: أموال، أسهم سرية، صكوك تأمين لحياةٍ مُسِنَّة هادئة، يُعْلَن عنها دومًا على التلفزيون مع مشاهدٍ خريفية مليئة بأوراق شجرٍ متساقطة.
كل ما عثر عليه بضعة كتيِّبات قديمة للتأمين من الخمسينيات والستينيات، وبطاقة عضوية حزبية تخص والده الذي فارق الحياة في عام 1980، مع إيمانه النقي بأن الشيوعية نظام ميتافيزيقي أبدي، وكذلك رسومه الشخصية من مدرسة التمريض، والمحفوظة بعناية في حافظة أوراق مربوطة بشريط مطاطي. كم كان مؤثرًا أنها حافظت على رسومه؛ لم يكن يتخيل ذلك. كانت هناك أيضًا مفكراتها المليئة بوصفات المخللات والصلصات والمربات. كل وصفة تبدأ في صفحة منفصلة، وزُيِّنَ اسم كل منها بزخارفٍ خجولة كتعبير مطبخي عن الاحتياج إلى الجمال: مخلل بالمسطردة، قرع عسلي بصوص ديانا، سلطة أﭬـنيون، فطر البوليطس على الطريقة الكريولية. كما وردتْ أحيانًا بعضُ الغرائب القليلة، منها على سبيل المثال: ﭼـيلي قشر التفاح، أو قصب الطيب بالسكر.
حَثَّه ذلك على التفكير في النزول إلى القبو الذي لم يدخله لسنوات. لكنها كانت تَمتَن لقضاء الوقت هناك، لم يتوقف عن التساؤل بخصوص ذلك، وقتما تظن أنه يشاهد المباراة بصوت عالٍ جدًا، وحينما يضيع تذمرها الخافت سُدَى، يسمع قعقعة المفاتيح ثم انغلاق عنيف للباب، وكانت تختفي لوقت طويل في سعادة. في هذه اﻷثناء، كان يترك نفسه على سجيَّتها لشغلته المفضلة: تفريغ علبة تلو علبة من البيرة، في أثناء متابعة فريقين من الرجال يرتديان تيشرتات ملونة وهم يتنقلون من نصف الملعب إلى نصفه الآخر.
بدا القبو فائق التنظيم. هنا تقبع خرقةٌ بالية صغيرة، أوه نعم، لقد تذكرها من الطفولة، وهنا انتصبت أريكة من القطيفة، مطويَّة عليها بعنايةٍ بطانية محبوكة. كان هناك أيضًا مصباحٌ ليلي، مع بضعة كتب قُرِأتْ حتى تمزقت. لكن ما رَسَم على مُحيَّاه تعبيرًا جهنميًا وجودُ رفوف مملوءة ببرطماناتٍ مصقولة للأطعمة المحفوظة. كل منها عليه رقعة ملصوقة، حاملة أسماء تبزغ مجددًا من المفكرة: «خيار جيركين في منقوع ستاسيا، 1999»، «مُقَبِّل الفلفل اﻷحمر، 2003»، «مُسْتَقطَر السيدة زد».
بدا بعض اﻷسماء غامضًا: «مُشَهِّي الفاصوليا الخضراء»، لم يدرِ على مدار حياته ما يعنيه «مُشَهِّي»، لكن ما أعاد إليه رغبته في الحياة، مرأى الفِطْر الشاحب والفلفل اﻷحمر بلون الدم، مَحشورَيْن في برطمان كبير. فَحَصَ مجموعةَ اﻷطعمة المحفوظة، لكنه لم يعثر على أيَّة ملفات مملوءة باﻷوراق وراءها، أو أيَّة أموال ملفوفة. من الواضح أنها لم تترك له شيئًا.
وسَّعَ رقعة معيشته حتى غرفة نومها، حيث ألقى فيها ملابسَه القذرة وكراتينَ علب البيرة المتكدسة. كان يُحضِر من آن ﻵخر صندوقًا من اﻷطعمة المحفوظة للأعلى، ويفتح برطمانًا بلفَّةٍ واحدة من يده، ويُخْرِج محتوياته بشوكة. بدا شهيًا اجتماعُ البيرة والمكسراتُ مع فلفلٍ مُشَهِّي أو خيار جيركين صغير وناعم مثل اﻷطفال الرضع. جلسَ قبالة التلفزيون متأملًا وضعه الجديد في الحياة؛ حريته الجديدة، وشعر كما لو أنه نجح في اختباراته المدرسية اﻷخيرة، وأن العالم بأكمله انفتحَ أمامه. كما لو أن حياة جديدة مُثلى قد بدأت. كان هَرِمًا بلا ريب -تخطى اﻷربعين في العام الماضي- لكنه شعر بصِغَرِ السن مثل خريج مدرسة ثانوية. ورغم النفاد التدريجي ﻷموال معاش والدته الراحلة، فما زال لديه الوقت لاتخاذ القرارات الصحيحة. في غضون ذلك، عليه أن يلتهم ما تركته له باعتباره ميراثًا. في اﻷغلب كان سيشتري بعض الخبز والزبدة والبيرة. وربما بعدها سيبحث في اﻷرجاء عن وظيفة، أمر كانت تلح عليه بخصوصه خلال العشرين عامًا الماضية. قد يذهب إلى وكالة التوظيف، سيتأكدون من إيجاد شيء ما لخريج مدرسة ثانوية في اﻷربعين من عمره مثله. قد يرتدي حتى البذلة الخفيفة التي كَوَتْها له كما ينبغي، وعلَّقتْها في الدولاب مع قميصٍ أزرق ليذهب به إلى البلدة. ما دامت لا تذاع مباراة على التلفزيون.
وفوق ذلك، افتقد جرجرة نعليها، كان معتادًا على تلك الخشخشة السخيفة، المصحوبة في العادة بصوتها الهادئ قائلًا: «ألا تمنحَ نفسك استراحةً من هذا التلفزيون، ألا يمكنك أن تقابل بعض اﻷشخاص، ألا يمكنك أن تقابل فتاة؟ هل تنوي قضاءَ بقية حياتك على هذا النحو؟ عليك أن تجد شقة خاصة بك، لا توجد مساحة كافية لكلينا هنا. البشر يتزوجون، وينجبون أطفالًا، ويذهبون في عطلاتٍ للتخييم ويتقابلون ﻷجل حفلات الشواء. أما بخصوصك، ألا تشعر بالعار أن تعيلك سيدة مُسنَّة سقيمة؟ في البدء كان والدك، واﻵن أنتَ؛ عليَّ أن أغسل وأكوي جميع ملابسك، وأحمل جميع حاجيات التسوق للمنزل. هذا التلفزيون يزعجني دائمًا، لا أستطيع النوم، لكنك تجلس قبالته حتى الفجر. ماذا تشاهد طيلة الليل بحق الله؟ كيف لا تمل منه؟» كانت تُناكده على هذا النحو لساعات متواصلة، لذا اشترى لنفسه سماعات للأذن. كان هذا بمثابة حل؛ لم تَعُد تستطيع سماع التلفزيون، ولم يَعُد هو يستطيع سماعها.
لكن كل شيء بدا اﻵن شديد الهدوء. انطمرت غرفتها، التي كانت أنيقة ومرتبة ومليئة بالمفارش والخزائن الزجاجية، تحت ركام من صناديق الكرتون، ثم بدأت تعبق برائحة غريبة، من الشراشف اﻵخذة في التحلل، والجص الذي لعقه العفن، والمكان المكتوم، الذي لا ينفذ إليه تيار عابر من الهواء، بدأ في الموات والاختمار. في يومٍ من اﻷيام، بينما كان يتطلَّع إلى المناشف النظيفة، عثر على مجموعةٍ كاملة أخرى من البرطمانات أسفل الدولاب، كانت مخفيَّة عميقًا تحت أكوام من كسوات الفراش، أو تحتضنها بكراتُ الصوف، مثل اﻷنصار، الطابور الخامس في عالم البرطمانات. ألقى نظرةً متأنِّيةً عليها، كانت مختلفة عن البرطمانات في القبو من حيث العمر. كان المكتوب على الملصقات باهتًا بعض الشيء، كما تكررت أعوام 1991 و1992، لكن تواجدت أيضًا بعض النماذج المعزولة الأقدم؛ 1983، وواحدة من عام 1978. كان هذا سبب الرائحة العطنة. لقد صدأ المسمارُ المعدني، وترك الهواء يدخل. أيًّا ما كان الموجود في البرطمان، فقد تحوَّلَ اﻵن إلى كتلةٍ بُنِّية، ألقاه بعيدًا في تقزز. ظهرت تسميات مماثلة على الملصقات: «قرع عسلي بهريس الكشمش» أو «كشمش بهريس القرع العسلي». كان هناك أيضًا بعض من خيار الجيركين الذي ابيضَ بالكامل. لكن هناك الكثير من اﻷشياء اﻷخرى التي ما كان ليفلح في تمييزها لولا الملصقات اللطيفة الخَدومة. تحوَّل عيشُ الغراب المخلل إلى هلامٍ غامضٍ مبهم، المرباتُ صارت تخثُّراتٍ سوداء. تصلَّبتْ الباتيهات لتصير قبضاتٍ صغيرة ذابلة. وجد المزيدَ من البرطمانات في دولاب اﻷحذية، وفي حجيرة وراء الحمام. كانت مجموعة هائلة. أكانت تخبئ عنه الطعامَ؟ هل أعدَّتْ هذه المؤنَ لنفسها، معتقدةً أن ابنها سينتقل يومًا ما خارج المنزل؟ أم ربما حقًا تركتها له، معتقدةً أنها سترحل أولًا، فاﻷمهاتُ يمتن قبل أبنائهن على أيَّة حال، لذا ربما أرادت أن تُزوِّده بكل هذه البرطمانات للمستقبل. فَحَصَ اﻷطعمةَ المحفوظة بمزيجٍ من التأثر والتقزز، حتى عثر على واحدٍ تحت دولاب المطبخ مكتوب عليه: «أربطة أحذية محفوظة في الخل، 2004»، ووجب أن ينذره ذلك، تطلع إلى الخيطان البُنِّية الملفوفة في كُرةٍ، والطافية في محلولٍ ملحي، مع كُرياتٍ سوداء من البهارات بينها. شعر بعدم الارتياح؛ هذا كل شيء.
كانت تستلقي في انتظاره كلما سحب سماعات أذنه وتوجه إلى الحمام؛ كانت تجر قدميها آتية من المطبخ، وتعيق مسارَه. كانت تنوح: «كلُ اﻷفراخ تغادر أعشاشها، هذا هو النظام الطبيعي، اﻵباءُ يستحقون استراحة. ينطبق هذا القانون على كل ما في الطبيعة. لذا لم ما زلت تضايقني؟ كان عليك الانتقال من المنزل منذ زمن بعيد، وتحظى بحياةٍ لنفسك». ثم تشده من كُمِّه حين يحاول برقةٍ أن يتخطاها، وتعلو نبرة صوتها، أكثر حدة: «إنني أستحقُ حياةً مُسنَّة هادئة، اتركني لحالي؛ أريد الراحة». لكنه يصير فعليًا في الحمام، كان يدير المفتاح، ويترك نفسه ﻷفكاره الشخصية. كانت تحاول أن توقفه مجددًا في طريق عودته، لكن مع إدانةٍ أقل اﻵن. ثم تُحلِّق وتختفي في غرفة نومها، ويختفي كل أثر لها حتى الصباح التالي، حيث تحدثُ جلبةً عن قصدٍ باﻷواني والقلايات، كي لا يستطيع النوم.
لكن كما يعرف الجميع، فاﻷمهاتُ يحببن أبنائهن، وهو ما خُلقَتْ اﻷمهاتُ ﻷجله؛ للمحبة والغفران. لذا لم يكُن قلقًا بالمرة حيال أربطة الحذاء، أو الإسفنج في صلصة الطماطم التي وجدها في القبو. فعلى كل اﻷحوال، كُتِبَ عليها بمنتهى اﻷمانة: «إسفنج في صلصة الطماطم، 2001». فتحها، وتأكد أن هذا الملصق ليس خطأ، ثم ألقاه في سلة القمامة. لكنه كان يعثر أيضًا على المُشهِّيات الحقيقية. احتوى واحدٌ من البرطمانات اﻷخيرة على الرف العلوي في القبو على بعض مفاصل الخنازير الشهية، أو البنجر الصغير الحار المُتَبَل الذي وجده خلف الستارة في غرفتها. خلال يومين أكَلَ محتويات بضعة برطمانات. وعلى سبيل التحلية، اغترف بعض مربى السفرجل بإصبعه.
من أجل مباراة بولندا وإنجلترا، جَرَّ صندوقًا كاملًا من اﻷطعمة المحفوظة من القبو للأعلى، وأحاطه بمجموعةٍ من علب البيرة. مَدَّ يدَه إلى الصندوق عشوائيًا، مزدردًا اﻷطعمة المحفوظة، دون أن ينظر إلى ما يأكله. لَفَتَ نظره برطمانٌ صغير ﻷنها ارتكبت خطأ مضحكًا: «طيش غراب مخلل، 2005». استخدمَ شوكةً ليستخرج القلنسواتَ البيضاء الناعمة التي انزلقت لأسفل حلقه كما لو كانت حيَّة. أُحرزت بعض اﻷهداف، لذا لم يلاحظ حتى أنه أكل الكثير. وحين توجه إلى الحمام ليلًا، اعتقد أنها كانت تقف هناك، نائحةً بصوتها الحاد غير المحتمل، ثم تذكر أنها قد ماتت بالفعل. واصل التقيؤ حتى الصباح، لكن لم يساعده ذلك كثيرًا. أرادوا في المستشفى أن يجروا له عملية زرع كبد، لكن لم يُعْثَر على متبرعٍ. لذا، ودون أن يعود إلى الوعي، وبعد بضعة أيام، مات.
توالت بضعة مشكلات، إذ لم يكن يوجد مَن يستلم الجثمانَ من المشرحة، أو يقيم الجنازةَ. في النهاية أتت صديقاتُ والدته لاستلامه؛ أولئك السيدات العجائز القبيحات مرتديات القلنسوات، مع مظلَّاتهن المنقوشة السخيفة المفتوحة فوق القبر، مُرددات شعائر الجنازة البائسة لأجله.
اقرأ المزيد: أولجا توكارتشوك: كيف ينقذ المترجمون العالم