أحمد رشاد: حكاية وزة ومفتاح

2025-02-09 - Ahmed Rashad

بمجردِ أن أغلقتِ الهاتفَ تسابقتْ أرجلُها إلى الاستديو، أبلغت فريقَ العملِ برسالةَ الرئيس، حيثُ تلقوْها بأجواءَ احتفاليةٍ مرحة، لم تخلُ من خطبةٍ أخرى ليوسف وهبي هاتفًا «فليحيا الريس.. نحن فداء الريس.. مرحبًا بالريس ومرحبًا بمصر.. سنظل دائمًا أبناء الإذاعة .. يلا يا إخواني .. يلا بنا كلنا نهتف ونقول.. شنبو يا شنبو اسم الله عليك يا شنبو»

حكاية وزة ومفتاح

نص لأحمد رشاد

جزء من نص أدبي طويل يحمل اسم «يوميات متلصص» وهو عبارة عن قراءة في خطابات قديمة.

أفيش فيلم شنبو في المصيدة

(١)

في منتصفِ شهرِ نوفمبرَ من عامِ النكسة، لم يختلفْ الحالُ داخلَ جدرانِ مبنى الإذاعةِ عنهُ في باقِي أرجاءِ مصر، لم يكنْ أحدٌ قد أفاقَ بعدُ من الصدمة، التي جعلتْ الجميعَ في حالةِ ترنحٍ مستمر، كالثملِ الذي لا يمسكُ عن الشراب. استبدتِ الحيرةُ بالمصريين، أسئلةٌ عديدةٌ توثبتْ هنا وهناك، دونَ مجيب.

ماذا حدث؟ على ما يبدو على هذا السؤالِ من بساطةٍ فإنَّ أحدًا لم يكن قادرًا على الإجابةِ عنه، شعبًا وحكومة، رئيسًا ومرؤوسين، مدانًا وبريئًا.

كانَ قد مرَّ على الهزيمةِ ستةُ أشهر، أصبحَ هذا التساؤلُ البديهي -غيرُ المرحبِ به- عبئًا على الجميع، سواءٌ مَن لا يزالُ يسألُه دونَ مَلل، أو من سئمَ ترديدَه، فقررَ أن يُمسكَ عنه، مرتْ الأيامُ وبمرورِها يتلاعبُ النسيانُ بالعقول، فتتبدلُ الأسئلة، يتوارى القديم، ويتقدمُ الجديد، زهدَ مَن زهدَ في معرفةِ الحقيقية، وقنعَ من قَنعَ بما قالتْه وسائلُ الإعلامِ -تطوعًا حينًا وبتعليماتٍ أحيانًا- عادَ الروتينُ اليوميُ إلى حياةِ المصريين، ولكنَّه تلكَ المرةَ لم يكنْ كسابقِ عهدِه، فلقدْ تركتْ الهزيمةُ -عفوًا.. أقصدُ النكسةَ- شيئًا ما في الوجدان، لتجعلَ كلَ شيءٍ يدورُ في فلكِها، فمن يتوقعُ خبرًا سعيدًا يتساءلُ متشككًا، ما قيمةُ الفرح؟ أو كيفَ يفرح؟ هل هذا وقتٌ للفرح؟ فيُخالطَ الفرحَ شعورٌ بالذنبِ يشوبُه ويُفسدُه، وآخرونَ ممنْ يتلقون خبرًا شخصيًا حزينًا، يتضاءلُ في نظرِهم مع ما تنوءُ به قلوبُهم من الحزن، ومن يهُمُّ بإنجازِ عملٍ ما يحاولُ أن يدفعَ الحماسَ عن أن يظهرَ في سلوكِه، فمن العيبِ أن يدُبَّ الحماسُ في مثلِ تلكَ الأوقات، فلأعملْ بفتورٍ تماشيًا مع الجوِ السائد، خوفًا من كلمةِ تقريعٍ أو نبذٍ مجتمعيٍ محتمل.

لم يختلفْ الحالُ داخلَ جدرانِ مبنى الإذاعةِ المصرية، عادَ الموظفون للروتينِ اليومي، محمَّلين بذلكَ العبء، فكانَ التساؤلُ البديهِيُ الذي وثبَ إلى عقلِ رئيسِ البرنامجِ العامِ آنذاك السيدةِ «صفية المهندس» قبلَ أسبوعينِ من حلولِ شهرِ رمضان، ماذا نعرضُ في الشهرِ الكريم؟ لم تكنْ جميعُ الردودِ التي جالتْ بعقلِها مأمونةَ العواقبِ.. «مسلسلًا كوميديًا؟!» لا لن يحدثَ هذا أبدًا، كيفَ سأواجهُ المجتمع، كيفَ سأدفعُ عن نفسِي اتهاماتِ الخيانةِ والاستخفافِ بمشاعرِ الجماهيرِ.. سيقولون حتمًا إنَّ رئيسَ القناةِ -بل الإذاعةَ بأسرِها- أصابَها الخرفُ.. سأُعاقَبُ شعبيًا وإداريًا لتوريطِ الإذاعةِ وجميعِ العاملينَ في فضيحةٍ من هذا النوعِ.. حتى وإن كان هذا روتينًا معتادًا في رمضان، فذاكَ عهدٌ مضى، حينما كان أملُ النصرِ يحومُ حولَ العقولِ ويحيا بداخلِها، قبلِ أنْ يتحولَ إلى حبلٍ تشتدُ وطأتُه حولَ أعناقِ الجميع، أما الآنَ فالضحكةُ ذنبٌ وجنايةٌ لا بُرءَ منها، ماذا أفعل؟ «مسلسلًا دراميًا؟!» ليسَ هذا أيضًا بالحلِ المناسب، يكفي الحزنُ العائشُ في قلوبِ المصريين، هل أزيدُهم حزنًا على حزنٍ، وكآبةً على كآبة، ألا يكفينا ما حدث؟!

مكَثَتْ هكذا فترةً من الوقتِ قبلِ أنْ تنفُضَ الحيرةَ عن كاهلِها، وبجرأةٍ وسرعةٍ هاتفتْ الكاتبَ «أحمد رجب»، الذي ثارَ بمجردِ أنْ اقترحتْ عليه أنْ يكتُبَ مسلسلًا للإذاعةِ في رمضان، وقبلَ أنْ تُكملَ ما بدأت، اتهمَها بالتغييبِ «ألا تدرين ما يَمرُ به الشعب؟ ألا تشعُرين بالمحنةِ التي أمرُّ بها؟! كيفَ لي أنْ أفكرَ في مسلسل كوميدي أثناءَ هذا الظرفِ الدقيقِ الذي نمُرُ به جميعًا؟! أتمزحينَ معي، أم تهزأينَ بي، أم تسُبينَ وطنيَتي وحميَتي على بلادي؟! لا لن يكونَ أبدًا». عذرَتْهُ في نفسِها لأنَّ ما بدرَ إلى ذهنِه قد بدرَ إليها قبلَه فحاولتْ تهدئتَه وشرحتْ رأيَها كما قلَّبتْهُ في عقلِها، «فكّْرْ معي يا أحمد الناس حزانى عاوزين شيء يضع الابتسامة على وجوههم، لا أكتر ولا أقل، لنبتعد عن النوع الكوميدي الصارخ المبتذل، أرجوك يا أحمد ده عمل إنساني بالنسبة لجماهير الشعب التي لا تطيق الحياة لحظة». 

فكّْرَ قليلًا ولم يُصرِّحْ بموافقتِه ولكنَّه طلبَ منها أنْ تُهاتفَهُ مرةً أخرى بعدَ أربعةِ أيام، وفي الموعدِ المحددِ أعلنَ لها عن مولدِ مسلسلِ «شنبو في المصيدة» ووعدَها أنْ يُسلمَها أولَ أربعِ حلقاتٍ بعدَ ثلاثةِ أيام، فهاتفتْ المخرجَ «يوسف حجازي» أطلعَتهُ على تفاصيلِ المشروعِ وبدأتْ البروفاتُ مع فريقِ العملِ «فؤاد المهندس، وشويكار، ويوسف وهبى، وغيرهم»، وفي يومِ الجمعةِ الأولِ من ديسمبرِ عام 67 أي قبلَ رمضانَ بيومٍ واحدٍ فقطْ سألَ أحدُهم «أين المقدمة الموسيقية للمسلسل؟» بدا هذا السؤالُ -على بداهتِه- غريبًا في توقيتِه، إذ كيفَ تُنسى المقدمةُ إلى آخرِ لحظةِ هكذا؟! يبدو أنَّ ضيقَ الوقت، بالإضافةِ إلى العملِ في جوِ مشحونٍ بالتوتر، أنْساهم المقدمةَ الموسيقية، وبقدرِ ما كانَ السؤالُ متأخرًا إلا أنه كانَ بمثابةِ جرسِ إنذار، استوجبَ منهم التصرفَ دونَ إبطاء، فذهبَ المخرجُ لمجموعةٍ من الموسيقيينَ ينشُدُ ضالتَه عندَ أحدِهم، ولكنَّهم رفضوا جميعًا بنفسِ دوافعِ رفضِ المؤلفِ ورئيسةِ الإذاعةِ قبلَ تغييرِ رأيِهما، فلمْ يجدوا بُدًا من البحثِ عن أي موسيقيِّ «والسلام»، حينها أخبرَ أحدُ العاملين السيدةَ صفيةَ عن معرفتِه بموسيقِيٍّ يجلسُ على المقهى المجاورِ لكوبريِ «أبو العلا» يدندنُ بكمنجتِه، وأشارَ عليها بالاستعانِة به، فوافقتْ على الفورِ. أحضَروه، ثم أملوا عليه اللحنَ والكلماتِ التي تقول: «شنبو يا شنبو... اسم الله عليك يا شنبو... شنبو يا شنبو... والله ووقعت يا شنبو».

في يومِ الأحدِ الثالثِ من ديسمبر، الثاني من رمضان، أي في اليومِ التالي لإذاعةِ الحلقةِ الأولى، حضرَ إلى مكتبِ السيدةِ صفيةِ اثنانِ من زملاءِ الإذاعة المشهورينَ بعلاقتِهم الوطيدةِ بالجهاتِ الأمنية، عاتباها «إيه يا مدام صفية الهَمّ اللي انتوا عملتوه إمبارح ده؟»، فسألت مستنكرة، فأخبراها أنهما يعنيانِ مسلسلَ «شنبو» ثم أتبعوا مفسرين، مَن تقصدون بشنبو؟ وما تلكَ المصيدةُ التي وقعَ بها؟ إن هذا الكلامَ له من المعاني ما لا يخفى علينا، ثم ما هذا اللحنُ المستخدمُ في مقدمةِ المسلسل؟ ألا تعلمون أنه لحنُ الأغنيةِ الوطنيةِ «بلدي يا بلدي.. بلد الأحرار يا بلدي.. بلد الثوار يا بلدي»؟ ثم صارحاها بأن التفسيرَ الوحيدَ المنطقيَ أن هذا المسلسلَ سخريةٌ سياسية، وأن المقصودَ بشنبو هو الرئيسُ ذاتُه، والمصيدةُ هي النكسةُ ولفتا انتباهَها لما لهذا المعنى من إيماءاتٍ غيرِ مُرضيةٍ للسلطة، والتي سيكونُ لها من العواقبِ ما لا يُحمد، ثم أخبراها بنبرةِ صاحبِ الفضل، أنهما بعدما سمعا عن غضبِ الجهاتِ المسؤولة، ارتأيا أنه من الواجبِ إبلاغَها قبلَ أن يتصلَ المسؤولونَ أنفسُهم، كي تستعدَ لما هي مقبلةٌ عليه.

خرجا من عندِها، ويدُها على الهاتفِ لتخبرَ أحمد رجب بما حدث، «الحقني يا أحمد شوف المصيبة اللي جتلنا»، قصّت له القصةَ فردَّ عليها مؤنّبًا أنه أخبرّها منذُ البدايةِ أن هذا العملَ لا يليقُ في هذا التوقيتِ، وأنه لن يأتيَ من ورائِه سوى الخراب، «قعدتي تقوليلنا الابتسامة للناس، آدينا عملنا الابتسامة واحنا اللي حنروح في داهية»، أغلقتْ سماعةَ الهاتفِ شاعرةً بالخوفِ والإحباطِ معًا، وتوجهتْ إلى الممثلينَ في الاستوديو لتخبرَهم بما حدث، فثارتْ ثائرةُ الفنانِ يوسف وهبي، «كيف لهم أن يلقوا بتلك الاتهامات، نحن مصريين، وهذا حديث لا يمكن السكوت عنه، نحن لم نفعل ذلك إلا بدافع الحب لمصر ورغبة في إسعاد المصريين، إن كان ولا بدّ أن نُسأل عن هذا فليقضوا بنا إلى المشنقة، نحن على استعداد للسجن»، وأكمل خطبتَه التي بدا كأنه يلقيها بين الجماهيرِ في ثورةٍ شعبية، أو كأنه يؤدي دورَ ثائرٍ أو مناضلِ على خشبة المسرح، لم تجدْ بدًا من تهدئتِه ثم العودةِ إلى مكتبِها في أشدِ حالاتِ النَكد، وبعدَ دقائقَ رنّ الهاتف، نظرتْ له نظرةً مِلؤها الخوف، ترددتْ لحظات، خاطرًا على بالِها كلَّ ما قيلَ على لسانِ زميلاها الإذاعيين المجندين، ولكنها لم تجدْ بدًا من الرد، تنهدتْ بارتياحٍ حينما سمعتْ صوتَ رئيسِ الإذاعة، على الطرفِ الآخر، وهدأتْ سريرتُها مرةً أخرى حينما تلقفت أذنُها نبراتِه المبتهجة، التي تشي بخبرٍ سعيد، ومرةً ثالثةً حينما أخبرَها أن مندوبًا من الرئاسةِ هاتفَه، وأخبرَه أن السيدَ رئيسَ الجمهوريةِ يشكرُ الإذاعةَ ويعبرُ عن سعادتِه بمسلسلِ شنبو، وعلقَ (الرئيسُ) أن الإذاعةَ استطاعتْ أن تعيدَ البسمةَ إلى وجوهِ الجماهير، لم تصدق أذنيها، وتحولَ الخوفُ والإحباطُ إلى سعادةٍ وفخرٍ غامريْنِ، وبمجردِ أن أغلقتِ الهاتفَ تسابقتْ أرجلُها إلى الاستديو، أبلغت فريقَ العملِ برسالةَ الرئيس، حيثُ تلقوْها بأجواءَ احتفاليةٍ مرحة، لم تخلُ من خطبةٍ أخرى ليوسف وهبي هاتفًا «فليحيا الريس.. نحن فداء الريس.. مرحبًا بالريس ومرحبًا بمصر.. سنظل دائمًا أبناء الإذاعة .. يلا يا إخواني .. يلا بنا كلنا نهتف ونقول.. شنبو يا شنبو اسم الله عليك يا شنبو». وانتهت الاحتفالاتُ وبداخلِ كلِّ واحدٍ منهم تساؤلٌ خفي، ربما واراهُ كلٌ منهم خلفَ عقلِه، خوفًا من أن يفسدَ عليهم سعادتَهم، هل تغيرَ رأيُ الرئاسةِ في دقائقَ معدودة، أم أن ما وصلهم لم يكن سوى اجتهاداتٍ لا علاقةَ لها بالحقيقة، أتُراها كانت «بالونة» اختبار يتحددُ عليه ردُ فعلِ السلطةِ الحقيقيُّ أم أن كل هذا كان هراءً، ألَّفه موظّفا الإذاعة، من أجل إثباتِ قربِهما من السُلطة، وإضفاءِ هيبةٍ على وجودِهما في الإذاعة.

هكذا تخطتْ الإذاعةُ محنةَ النكسة، في الوقتِ الذي كان الفنانُ فؤاد حداد يتخطي محنته بأغنية «الأرض بتتكلم عربي»، والأبنودي مع حليم ينفضان غبارَ الهزيمةِ بـ«عدى النهار»، وصالح جودت يؤلف  لكوكب الشرق «ابقَ فأنت الأملُ الباقي»، مخاطبًا عبدَ الناصرِ «أنتَ الصبرُ على المقدور ... أنتَ الناصرُ والمنصور»، محاولاً إثناءه عن موقفِ التنحي، بينما صلاح جاهين يرزحُ تحتَ وطأةِ اكتئابٍ طويل.

في ذلك التوقيت، قررَ «مفتاح عبد ربه مفتاح» أن يتزوجَ «وزة»، ليتخطى بذلك محنَتَه الخاصة، ويحوّلُ الهزيمةَ الجماعيةَ إلى نصرٍ شخصي، فعلها مترددًا، لأنه كان مقبلًا على التجنيدِ بحربٍ لا يعلمُ مداها سوى الله، متى يعود؟ أيعودُ منتصرًا؟ أيعودُ معافى؟ هل يعود قادرًا على الإعالة أم سيحتاج من يعولُه؟ لا أحد يستطيع الجزمَ بشيء، الصورةُ ضبابية، ومع ذلك لم يجدْ بدًا من أن يربط مصيرَ وزة بمصيرِه المجهول، أن يخاطرا سويًا، بدافعِ الحب، ولدفعِ الألم.

أصبحا زوجينِ على الورقِ فقط، فقد عُقدَ القرانُ دونَ الزفاف، لقد كانَ قدرُهما -في تلك الفترة- ألا يربطَهما شيءٌ سوى الورق، وكأنه لم يؤذَنْ لجسديهما أن يتلاقيا بعد، فكانت قسيمةُ الزواج، ومن بعدِها رسائلُ عديدةٌ تبادلاها، يتلمسُ كلٌ منهما أوراقَ الآخرِ بدلًا من أن يلمسا بعضَهما، يتلاقيانِ بالأحبارِ عبرَ مئاتِ الأميال، لم تخلُ رسالةٌ من افتتاحيةٍ يؤكدُ فيها مفتاح على زواجِه من وزة، وكأنه لا يصدقُ بعد أنها صارتْ زوجته، أو ربما كان يحاولُ التثبتَ من الأمرِ، أو إقناعَها بأن الأمرَ باتَ حقيقيًا حتى لا تملَّ أو تفقدَ الصبر، أو كي لا يُجنَّا سويًا، فيكررُها مرارًا في مقدماتِ وأواسطِ ونهاياتِ خطاباتِهِ «زوجتي الحبيبة وزة،  زوجتي المخلصة وزة، زوجتي الأمورة وزة، زوجتي الطاهرة وزة، زوجتي الغالية وزة، زوجتي وصديقتي وكل شيء لي وزة، زوجتي الحلوة الأمورة وزة، زوجتي وطفلتي العزيزة وزة»، ألهذا الحدِّ كانَ يشكُ في زواجِهما الورقي، ألهذا الحدِّ كان يخشى أن ينفلتَ الزواجُ من بينِ يديه، أكان يخشى أن يذوبَ الحبرُ من الورقِ فلا يجدُ دليلًا على علاقتِهما، بدا وكأنه يريد أن يُعلن عن زواجِه على يُفطٍ كبيرة ويعلقُها على جدرانِ حوائطَ مكشوفةٍ للعامةٍ من الغادي والرائح، ليخبرَهم بفرحٍ طفوليٍ «إنها وزة زوجتي» وحينما يتلمسُ ملامحَ نفيٍ أو عدمِ تصديقٍ من أحدِهم، يكونُ جاهزًا بالخطابات، «انظروا كلَ تلكَ الخطاباتِ تؤكدُ أنها زوجتي، اقرؤوا، في كلِ بضعةِ سطورٍ أناجيها بزوجتي، أليسَ هذا دليلًا كافيًا لإقناعِكم؟ إنها على فتراتٍ متباعدة، أيامٍ وشهورٍ وسنين، إنه حقٌ صدقوني، لقد كنتُ أكتُبُه في خندقٍ من الجبهة، كنت أتركُ القتالَ لأناجيها، مراتٍ بالرصاصِ ومراتٍ بالحبرِ، كيفما اتفقَ، لم أكنْ أخشى على الخطاباتِ أن تُمحَى فهي مطبوعةٌ في قلبي، انظروا مثًلا ذلك الخطاب، لقد كتبتُه بعد مناورةٍ مع العدوِ في شهرِ رمضان قبلَ الإفطارِ مباشرة، ثم إن هذه قسيمةُ الزواج، انظرْ، تفحصْها من فضلِك، إنها حقيقية، فلتمررْها على باقِي الزملاء، ولا يخشى أحدٌ منكم ضياعَها، لأنني أحتفظُ بنسخٍ عديدةٍ في كل مكان، تحتَ وسادتي، وتحتَ سُترتي، بين جسدِي وملابسي، حتى بداخلِ مِخلتي، في كلِ جيبٍ ستجدونَ نسخة.. لكنني مؤخرًا أفكر في نزع النسخة التي في سترتي، لأنني أخشى عليها، ففي حالةِ استشهادي ستلطَّخُ بالدماءِ، ويُمحى أثرُها.. انظروا، جميعُها أصليٌّ بختمِ النسر، معتمدٌ من الدولةِ، الدولةُ تعترف أنها زوجتي، أفلا تعترفون أنتم!».

نحو خمسةٍ وثلاثينَ خطابًا، وقعوا في يدي كان أولُها المؤرخُ بالثاني والعشرين من نوفمبر عام 1968، كتبَه في الساعة الثانية والنصف ظهرًا مستمعًا لأغنيةِ عبدالحليم «ما رمانا الهوا» المُذاعَة حينَها على إذاعةِ الشرقِ الأوسط، بدأَ خطابَه بـ«زوجتي المخلصة وزة.. تحية طيبة ومخلصة من أرض المعركة.. أرض المواجهة ضد محترفي السلب والنهب.. تحية جندي يدافع عن زوجته وأسرته ودولته» ثم أتبع بِرقّةٍ تليقُ بزوجٍ جديدٍ ولا تليقُ بجنديٍ على الجبهةِ «تحية من خط النار إلى من جعلت من قلبي نار منفك بحبها، فأنت أعز من لي في الوجود لأنك ملاكي ودنياي».

                                                                                         وللتلصُصِ بقية،،

(٢)

كولاج بالصور القديمة للفنانة سارة محمود الفزايري

أولُ ثلاثِ رسائلَ وصلتْني من مفتاح إلى وزة، كتبَهم من الجبهةِ في أواخرِ عامِ 1968 دونَ أن يُرسلَ أيًّا منها.

في البدايةِ ظننتُ أنه يحتفظُ بالخطاباتِ إلى أنْ تحينَ أقربُ عطلةٍ لأحدِ زملائِهِ ليُرسلَها معه، ولكنَّهُ في منتصفِ الخطابِ المؤرخِ بالثانيِ والعشرينَ من نوفمبرِ 68، بعدَ التحيةِ والأشواقِ كتبَ لها «أكتب لكِ هذا وسأحفظه معي حتى أحضر إليكي، وأكون قد كتبت عليه عدة خطابات»، وبعدَها بستةِ أيام، في الخطابِ المؤرخِ بالثامنِ والعشرينَ من نوفمبر 68، أخبرَها بصيغةٍ لا تحتملُ سوى الطاعةِ ولا تقبلُ الردَ أو المناقشةَ «أنا بخير والحمد لله، وسأراك بعد 35 يومًا، وربنا يهون الأيام التي تمر كأنها سنين، عنواني هو الوحدة رقم 5667 حـ 73، وطبعًا هذا لطلبك ولكن لا ترسلي أي خطاب لي، بل أكتبيه وإحفظيه حتى أحضر». هو لا يُرسلُ خطاباتِهِ فحسب بل يأمرُها ألَّا تُرسلَ خطاباتِها أيضًا. ثم بعدَ أنْ بشّرَها في الخطابِ السابقِ بموعدِ قدومِه، كتبَ خطابًا آخر، بعدَها بثلاثةِ أيامٍ، في الأولِ من ديسمبرَ 68، قائلًا بعدَ الأشواقِ الحارّة «وقد فتحت الخطاب بعد قفله لأكتب لكِ نبأ سار، وهو أني قد أحضر إليكِ بعد 20  أو 25  يومًا، بدلًا من 35، وعلى ذلك أرجو إنتظاري قبل العيد بيومين، أو أثناء العيد أو بعده مباشرة». وفي الخطابِ المؤرخِ بالسابِعِ من ديسمبرَ يقولُ لها «وإن شاء الله أراكِ قريبا، وتكونين محضرة لي جواباتك لإقرأها وأحفظها في طيات قلبي، لأنها منك وأنت قطعة مني».

مهًلا.. «أرجو انتظاري».. حقًا! أتُبشرُها بموعدِ وصولِك، وتطلبُ منها انتظارَك، في خطابٍ لن يصلَ إليها قبلَك! بل وتفتحُ الخطابَ خصّيصا لتعديلِ موعدِ الوصول، وأنت نفسُكَ من سيسلمُها هذا الخطابَ بعدَ وصولك. لماذا تفعلُ ذلكَ يا مفتاح؟ إلى ما ترمي؟ أتُمعنُ في عذابِها؟ أم تختبرُ طاعتَها؟ أتخشى شيئًا؟ أم تتلذُذ بأمر؟ ثم كيفَ تقضيانِ الإجازة؟ لعلَّكما تجلسانِ إلى جوارِ بعضِكُما على الأريكةِ في منزلِ حميك، كلٌ منكما يُمسكُ بخطاباتِ الآخرِ ليقرأَها «لقد أحضرتُ معي الخطاباتِ التي كتبتُها إليكِ من الجبهةِ يا حبيبتِي، أمستعدةٌ للقائها؟ ولكن احذري فلن أُسلّمَكِ إياها قبلَ أن تُسلميني خطاباتِك. لكم اشتقتُ لقراءةِ ذلكَ الخطِ الجميلِ المنمق، لقد كنتُ طوالَ طريقِي من الجبهة، أتساءلُ، تُرى ماذا كتبتْ إليكَ وزة؟.. جئتُ اليومَ لأعلمَ مدى صحةِ توقعاتي، إنني أعرفُكِ أكثرَ من نفسِي وأستطيعُ أن أُخبرَكِ ماذا كتبتِ» 

بداَ ليَ أنَّها نظرتْ إليهِ بغيظٍ قبلَ أن تُباغتَهُ فتمزقَ الخطاباتِ التي كتبتْها له ثم أتبعتْ «لن تقرأَ ما كتبتُ إليك. كيف لك أن تحرمَني من أخبارِك طوالَ فترةِ غيابِك! ألا يكفي ما أعانيه في وحدتي، أنت لا تشعرُ بي، ولا تهتمُ لأمري، ولا تحبُني كما تدَّعي، إنني أكادُ أجنُ لأعرفَ خبرًا يتيمًا عنك، ألا يكفي أنَّ الدنيا ضنَّتْ عليَّ بقربِك، أتضنُّ أنت الآخرُ عليَّ بمعرفةِ أخبارِك، بقراءةِ كلماتِك، إنَّ قلبي يكادُ ينفطرُ من القلق، وعقلِي لا ينفكُ أن يتصورَ ما يحدثُ لك، مع كلِ خبرٍ من أخبارِ الحربِ على صفحاتِ الجرائدِ أتخيلُك بطلَ هذا الخبر، وأتساءل، هل ذهبَ مع الشهداءِ دونَ وداع، أم أنه من الناجين، كيف تعيش؟ وماذا تأكل؟ وفيما تفكر؟ وما تشتهي؟ وممَّ تعاني؟ ومن ترافق؟ وكيف تمرُ عليك الساعاتُ؟ ماذا أفعلُ برسائلِك وأنت أمامَ عيني جسدًا وروحًا، أُملّي عيني منك، أُحادثُك، أبتسمُ إليك، أحتضنُك، أشمُ رائحتَك، وأنعمُ بقربِك. لا حاجةَ لي بخطاباتِك الآن، مزقْها أو أحرقْها، أو احتفظْ بها لنفسِك، أو افعلْ ما يحلو لك إلا أن تسلمَها لي».

هكذا تخيلتُ لقاءَهما. انتابَتْني رغبةٌ في التلصصِ على وزة بعدَ أن غادرَها مفتاح تلكَ الليلة، ذهبتُ هناكَ خافقَ القلبِ، تواريتُ خلفَ ستارِ غرفةِ نومِها، كانت جالسةً أمامَ المرآةِ تمسحُ المكياجَ عن وجهِها وتتحررُ من زينتِها، تمعّنتُ في وجهِها، كان البكاءُ والابتسامُ يتبادلانِ المرورَ على ملامحِها، وكانت في أحيانٍ تُلقي ما بيديها وتتفحصُ وجهَها في المرآة، ربما حينَها كانت تفكرُ بداخلِها عن علاقتِها بمفتاح بين ما يُكِنُّ له قلبُها من حبٍ، وبين ما تكرهُ من جمودِ طباعِه، كنتُ أحاولُ قراءةَ أفكارِها، وسماعَ همسِها، فوجدتُني أتقدمُ نحوَها بخفةٍ وبطءٍ منتويًا مجاورتِها لأتفحصَ ملامحَها عن قرب. وقفتُ غيرَ بعيدٍ منها لأجدَ شبحَ ابتسامةِ يعلو وجهَها تتأرجحُ بين الرضا والسخط، بين الحبِ والكره، بين السعادةِ والحزن، وفجأة.. شعرتُ بأناملِها تلمسُ كفَّ يدي.. ذَهلتُ، وحاولتُ إقناعَ نفسِي أنها هلاوس، ولكنني بعدَها سمعتُ شهقتَها، ثم تمتَمتَها الفزعةَ «بسم الله الرحمن الرحيم»، اكتشفتُ أنني كنتُ في غرفتِها بجسدِي لا عقلي، أتكِئُ على سطحِ التسريحةِ، أجاورُها وأنظرُ نحوَ عينيها، بل قبضتُ على مشاعرِ تلذذٍ برفقتِها، لمستْنِي عرَضًا بينما تلتقطُ قطعةَ قطنٍ مبللةٍ لتزيلَ ما علِقَ على وجهِها من آثارِ الزينة، شعرتُ بالنشوةِ والذنبِ معًا، وقلتُ في نفسيِ «سامحني يا مفتاح»، من حينِها اختلطَ ما هو خيالِيٌ بما هو حقيقِيٌ، وكلما ضبطتُ نفسي عند أحدِهم، حاولتُ التخفيَ عن أعينِ الحاضرين، لم أكن أرغبُ أن يكشفَ وجوديَ أحدٌ، كنتُ أجدُ في التلصصِ عليهم متعة، وفي مراقبتِهم نشوة، وفي غفلتِهم عنى ظفر، وأعودُ من عندِهم، لأدونَ ما رأيتُ وما سمعت.

بدا أن مفتاح يرمي إلى فرضِ سيطرتِه، فمنذُ الرسائلِ الأولى يخاطبُها بشدة، يأمرُها بنبرةٍ لا تحتملُ المناقشةَ أو الإرجاء، وكأنه يقفُ أمامَها صارخًا بصوتٍ عالٍ ليُرهبَها فتخضعَ دونَ تمرد، إلا أنه رغمُ ذلك يُتْبِعُ تلك الشدةَ بكلماتِ غَزَلٍ وحب، تمتدُ لسطورٍ أو فقراتٍ بأكملها، هل كانت الشدةُ والاستبدادُ طبعًا أصيلًا بداخلِه؟ أم أنها حالةٌ مؤقتةٌ فرضتْها ظروفُ البعدِ والحرب؟ هل كانت وزة سيئةَ السلوك، فاضطرَ مفتاح للجوءِ إلى العنفِ لتقويمِها؟ 

خُيّلَ إليَّ أن الأمرَ لا يعدو أنه رجلٌ محافظ، رسمَ لنفسِه صورةً يحبُ أن يراهُ الجميعُ بها، رسمَها بدقةٍ وذكاء، دفعًا للنبذِ والانتقاد، وأن لِوِزةِ تصرفاتٍ تزعزعُ تلك الصورة، فتصارعَت بداخلِه رغبتان، الأولى أن يحافظَ على صورتِه أمامَ الجميع، والثانيةُ أن يحافظَ على حبِه وعلاقتِه بوزة، وتعويضِها بالحنانِ عن طولِ البعاد، فيعنفَها ثم يرقُّ لها قلبُه. كما أنه لا يلجأُ للعنفِ في كلِ الأوقات، ففي مواقفَ أخرى، تراه يسوقُ الحُججَ المنطقيةَ التي من شأنِها إقناعُ وزة بضرورةِ الانصياعِ لتوجيهاتِه، ربما دلَّ ذلك أن الاستبدادَ ليس طبعًا أصيلًا بداخلِه لأن المستبدَ الحقَ يضربُ ولا يبالي، يثورُ ولا يبرر، يأمرُ ولا يُقنعُ ولا يسوقُ الحُجج. 

إن أصدقَ مثالٍ على ذلك التأرجحِ بين الشدةِ واللين، العقلِ والعاطفة، بين منطقِ الإقناعِ وعنفِ الاستبداد، خطابُه الطويلُ ذو الورقاتِ الثلاثِ الشفافاتِ ذواتِ اللونِ الأخضرِ المرصعِ بوردٍ على إحدى زواياه، المكتوبِ بخطٍ أحمرٍ منمق. في البدايةِ لك أن  تتخيلَ ما يمكنُ أن يتعرضَ له عسكريٌ على الجبهة، من سخريةِ زملائِه، حينما يُخرجُ من أمتعتِه تلك الورقاتِ ذاتَ الطابعِ النسائي. وهل من مستبدٍ أصيلٍ يَقبَلُ على نفسِه سخريةٍ كتلك، أم أن المستبدَ يسيرُ مختالًا مروّجًا لشدتِه ليلقى الاستحسانَ من محيطه؟ بدا لي أنه كان يحاولُ إرضاءَها. هل اشتكتْ وزة من رداءةِ الخطاباتِ السابقة؟ فقد كتبَها مفتاح على ورقٍ غليظٍ خشنٍ أقربَ إلى القصاصاتِ الصغيرة، وأجزاءٌ منه قد كتبتْ بقلمٍ رصاصٍ باهت. نعم لعلها اشتكتْ، أو هذا ما أرجّحُه، فقد وشى بذلكَ اعتذارُه في إحداها قائلًا «أرجو المعذرة لأن الورق وحش وما باليد حيلة» أكان يطلبُ العفو؟ وهل يعتذرُ جنديٌ في حربٍ تتعرضُ حياتُه في كلِ لحظةٍ لخطرِ الفناءِ إلى زوجتِه على رَداءةِ ورقِ المراسلاتِ أو سوءِ خَطِه؟ وهل هذا رجلٌ مستبد؟!

هل يعني هذا اللينُ وطلبُ العفوِ على رداءةِ الورقِ وسوءِ الخط، أن مفتاح سيتساهلُ معها فيما يخصُ تصرفاتِها؟ لا، بل على العكسِ تمامًا، فقد أتبعَ اللينَ بشدةٍ في الخطابِ التالي مباشرة، بدأ هذا الخطابُ المؤرخُ بالثامنِ والعشرينَ من ينايرَ عامَ 1969  قائلًا «تحية طيبة من أعماق قلبي إلى قلبي النابض، إلى حبي، إلى الحياة بجمالها وحلاوتها، ممثلة فيكِ يا أعز ما لي» وشت كلماتُ الحبِ تلك، من الوهلةِ الأولى بالتساهل، وأن ما بعدَها رقيقٌ عذبٌ مثلُها، إلا أن العكسَ تمامًا هو الصحيحُ، لأنها إذا ما قورنتْ بكلماتِ الحبِ والغرامِ في الرسائلِ السابقة، سنجدُها لم تتجاوزْ هنا السطرين، وهذا يُعدُّ قليلًا بالنسبةِ إلى كلماتِ الغزلِ والحبِ في الخطابِ السابقِ -على سبيلِ المثال- حيثُ تخطى الأسطرَ العشرةَ من الهُيامِ والغرام. بدا لي أنه كتبَ هذا السطرَ وكأنه واجبٌ مفروضٌ عليه، حتّمَتْه الظروفُ ولا يملكُ رفاهيةَ الخلاصِ منه فحاولَ أن يُنجزَه سريعًا ليقتربَ من الهدفِ الرئيسي الذي يرومُ تحقيقه، كالمصلي الذي ينقرُ الصلاةَ المفروضةَ إسقاطًا لها دونَ أن يشعرَ بخشوعٍ في أيٍ من مراحلِها، لكي ينتهيَ منها سريعًا فيذهبَ لفعلِ ما تتوقُ نفسُه إليه وينبضُ به قلبُه.

ثم أكملَ خطابَه ممهدًا «حبيبتي وروحي.. إسمحي لي أن أناقشك قليلًا في موضوع كنت آثر أن أكتمه في نفسي ولكن نظرًا لحبي الجارف لك وحفاظًا على هذا الحب الذي بنيته طيلة خمس سنوات وأريد الحفاظ عليه إلى الأبد إن شاء الله لذلك سأتحدث معكِ صراحة حتى لا أكن في نفسي شيئًا لا يرضاه حبي لك». لقد مهّدَ لخطابِه بمبرراتٍ تُفسرُ ما دفعَه لفتحِ بابِ المناقشةِ في ذلك الموضوعِ الخطيرِ الذي سيطرحُه في الرسالةِ لاحقًا، يبدو أيضًا أنه ذكرَ كلمةَ مناقشةَ فقط ليوحيَ لها أن الموضوعَ يحتملُ الأخذَ والردَ، والقولَ والسماعَ، وأنها تملكُ الحقَ في الدفاع، وليوهمَها أن لديها فرصةٌ لتغييرِ آرائِه، ولكنَّ الواقعَ أن الخطابَ لم يتخطَ التعنيف، وإصدارَ الأوامرِ والتعليمات، لا سيما التهديدَ والتحذير، ولم يسألْ عن رأيها قط، ولم يمنحْها فرصةً ولم يفتحْ مجالًا للرد، بل كان يأمرُ ليُطاع، ويعنفُ ليشفيَ غليلَه، وأن ما ذكرَه عن المناقشةِ لم يكن سوى كلمةٍ للتمويهِ والإيهام، ربما أيضًا لم يُلقِ تلك المقدمةَ التبريريةَ بدافعِ الخوفِ من عدمِ تقبلِها كلماتِه ولكنها في ما بدا لي إستراتيجيةٌ استخدمَها لإلقاءِ الخوفِ في نفسِ وزة مما يدفعُها بعفويةٍ لاستنتاجِ أسوأِ الفروضِ عما سيخبرُها به مفتاح، فتقولَ في نفسِها «استر يا رب.. تُرى ما هذا الموضوعُ الخطيرُ الذي يحتاجُ إلى كلِ هذا التمهيد؟»، ثم حينما تقرأُ الموضوعَ ذاتَه وتجدَه أقلَ سوءًا مما افترضت، تتنهدُ ارتياحًا وتزيدُ في نفسَها فرصَ تقبلِ نقدِه وقراراتِه.

ثم أتبعَ «حبيبتي.. كنتِ أنتِ في أول الأمر تتصرفين وفق هواكِ، ومتمشية مع عصر لا روح ولا معنى له، عالم خادع، أو على الأقل هذا من وجهة نظري». يبدو أن ما يُقدم مفتاح على مصارحةِ وزة به بالفعلِ أمرٌ خطير، حيثُ أنه لم يكتفِ بكلماتِ الغزلِ والتمهيدِ الذي برّرَ فيه دوافعَه، ولكنه قبلَ أن يَشرَعَ في الموضوع، ألقى اللومَ على الزمنِ والعصر، وكأنه يريدُ تخفيفَ وطأةِ اللومِ عنها فألقى بجزءٍ منه عليهما.

أنهى لومَ الزمنِ سريعًا، تمامًا كما أنهى قبلَه التمهيدَ ووصلةَ الغزلِ المقتضبة، يبدو أن صبرَه كان نافدًا، ولسانَه يتسابقُ للدخولِ في الموضوعِ ذاته، فما لبثَ أن غاصَ فيه، واستفاضَ في ثلاثِ ورقات، ذهابًا وإيابًا بطولِهم وعرضِهم، وفي الحلقةِ القادمةِ سنغوصُ سويًا في ذلكَ الأمرِ الجلل، الذي سيُلقي الضوءَ على شخصيتِه، وطبيعةِ العلاقةِ بينهما على مدارِ خمسِ سنوات، والذي أجملَها قبلَ أن يُفصلَها حينما قال «نعم صنعتُكِ وفق هواي».

وللتلصُصِ بقية،،




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة مُشار إليها *

انضم للقائمة البريدية

تابعنا على السوشيال ميديا

النشرة البريدية