يمتلك إنجيل الملك جيمس نفس تأثير وعالمية مسرحيات شكسبير وكتاب الصلوات العامة، وهي أبرز الكتب التي ساعدت على رواج اللغة في الإنجليزية في العالم.
إنجيل الملك جيمس - النسخة المُعتمدة (1611)
مقال روبرت مكروم
ترجمة: محمود راضي
عن كتاب "أفضل مئة كتاب في اللغة الإنجليزية" الصادر عن كتب مملة بالتعاون مع دار هن للنشر والتوزيع

"فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ".
يمتلك إنجيل الملك جيمس نفس تأثير وعالمية مسرحيات شكسبير وكتاب الصلوات العامة، وهي أبرز الكتب التي ساعدت على رواج اللغة في الإنجليزية في العالم. وبالفعل، من المستحيل تقريبًا تخيل العالم الناطق باللغة اﻹنجليزية الذي نحتفي به في هذه السلسلة من دون الوقع الجليل البهي ﻷكثر المقاطع الرنانة في الكتاب المقدس، وجمال نثره المتقشف، وما اقتُبِسَ بلا نهاية من عباراته التي تضافرت في نسيج المراجع المعاصرة:
"لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ: لِلْوِلاَدَةِ وَقْتٌ وَلِلْمَوْتِ وَقْتٌ. لِلْغَرْسِ وَقْتٌ وَلِقَلْعِ الْمَغْرُوسِ وَقْتٌ".[1]
وثانيًا:
"بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: (مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ)".
وثالثًا:
"لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ".
وتحلق بعض المقاطع في النسخة المعتمدة وصولًا إلى مرتبة الشعر:
"تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا".
وتشرب اللاوعي الجمعي المحيط باللغة بعض اﻷسطر بسلاسة:
"أَخِيرًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ كُلُّ مَا هُوَ حَقٌ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ، إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ، فَفِي هذِهِ افْتَكِرُوا".
وهكذا بدأت سلسلتنا، وهنا تنتهي، في العام 1611، العام الذي يُرجح أن شكسبير أكمل خلاله كتابة مسرحية "حكاية الشتاء"، وعُرضت فيه مسرحية (العاصفة). بزغت اللغة نتيجة لما حبلت به على مدار قرون طوال منذ خضوع اﻷنجلوساكسونيين بعد غزو النورمان، وباتت اﻵن لغة معاصرة بشكل ملحوظ على خلاف إنجليزية الكاتب جيفري شوسر.
واللافت للنظر، وفي شهادة مدهشة على عنفوان اللغة المتداولة في مطلع القرن السابع عشر، فقد عملت لجنة على صياغة النسخة المعتمدة، وفي العام 1604، قرر مؤتمر هامبتون كورت برئاسة الملك جيمس اﻷول، خليفة الملكة إليزابيث، السعي لتهدئة الخلاف المذهبي المرير بين الأنجليكانيين والبيوريتانيين من خلال تقديم "ترجمة موحدة".
ومن خلال عمل ينم عن الشراكة الرائدة بمقاييس هذا العصر، صدرت التعليمات إلى ستة فرق من المترجمين بأن يعدوا نسخهم "المعتمدة" على أساس اﻹصدارات اﻹنجليزية السابقة، بحيث تُقدم ترجمة جديدة، ولكن مع مقارنة أعمالهم باﻷناجيل الدارجة السابقة، من تايندايل وصولًا إلى باركر.
في المراحل اﻷخيرة من عملها، مرت هذه اللجنة على مسودات ترجماتها، معيدةً العمل عليها، ليس فقط لتُقرأ على نحو أفضل، وإنما لتصبح أوقع على السمع، وهي الجودة التي حققت شهرتها العالمية، واستحسن المترجمون هذا التوجيه، إذْ ألمحوا في مقدمتهم للقارئ قائلين: "لماذا ينبغي أن نصير أسرى لها [الكلمات والمقاطع] ما دام بوسعنا التحرر، وأن نلجأ للفظة دقيقة بينما بمقدورنا اللجوء إلى لفظة أخرى ثرية أكثر منها دقيقة".
هكذا تبينت تعددية المجتمع اﻹنجليزي ولغته وقتئذ، مما جعل قوة النسخة المعتمدة نابعة من ريشات كتابة فريق كامل، وليس ريشة كاتب منفرد، مثل مارلو أو جونسون أو شكسبير، ففي بعض المقاطع الشهيرة، مست العبقرية أولئك المترجمين المجهولين:
"فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ".
وحسبما كتب آدم نيكلسن، صار إنجيل الملك جيمس "معادلًا إنجليزيًا لكاتدرائية باروكية عظيمة لم تُبنَ أبدًا، براعة كتابية هائلة وفخمة، هياكلها المشيدة العملاقة تحتضن اﻷربعة مليون إنجليزي أجمعين، ومنظومتها وثراؤها عبارة عن صرح قومي مقدس مُشيد من الكلمات فحسب"، وبعض هذه الكلمات أكدت على ديمومتها أكثر من الصرعات اﻷدبية والثقافية. على سبيل المثال، إليكم هذه الفقرة الشهيرة من اﻹصحاح الثاني عشر من سفر الجامعة:
"قَبْلَ مَا يَنْفَصِمُ حَبْلُ الْفِضَّةِ، أَوْ يَنْسَحِقُ كُوزُ الذَّهَبِ، أَوْ تَنْكَسِرُ الْجَرَّةُ عَلَى الْعَيْنِ، أَوْ تَنْقَصِفُ الْبَكَرَةُ عِنْدَ الْبِئْرِ. فَيَرْجعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجعُ الرُّوحُ إِلَى اللهِ الَّذِي أَعْطَاهَا. بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، قَالَ الْجَامِعَةُ: الْكُلُّ بَاطِلٌ".
لا يختلف اﻷثر اللاحق شديد التأثير لهذا العمل الرئيس المنشور في أمريكا (اﻷرض الجديدة المُكتشفة)، حيث دافعت المستعمرات اﻷولى في إقليم نيو إنجلاند عن لجوئها إلى إنجيل جنيف الذي احتكمت إليه الطوائف المسيحية المنشقة. لكن وفي مفارقة مثيرة قرب نهاية القرن السابع عشر، تعلق الكثير من اﻷمريكيين بمرور الوقت بإنجيل الملك جيمس كمثل حال البريطانيين.
خلال 150 عام من فنون النثر اﻹنجليزي بين نشر النسخة المعتمدة واندلاع حرب الاستقلال اﻷمريكية في سبعينيات القرن الثامن عشر، تغلغلت اللغة والثقافة المصاحبة لها في بيئة جديدة، ومعادية في بعض الأحيان، ورغم كل الظروف، تطورت وترعرعت لتتوافق مع الظروف الجديدة كليًا للعالم الجديد.
ثمة أعمال كلاسيكية من النثر اﻷمريكي لم أجد لها مساحة في هذه السلسلة، والتي تشمل: "تاريخ عام لفرجينيا" لجون سميث (1624)، "كنعان اﻹنجليزية الجديدة" لتوماس مورتون (1637)، عن مستعمرة بليموث لوليام برادفورد (1620-1647).
بعد ثورة 1776، تزايد امتداد وتأثير هذا الموروث المهم على مستوى العالم بصورة دراماتيكية، متجاوزًا فيما حققه توقعات عديدة وضعها بعض اﻷبطال اﻷمريكيين بخصوص نجاحه، وحسبما أثبتت هذه السلسلة من المقالات، فقد تواصل تنامي اللغة اﻹنجليزية اﻷمريكية عبر القرنين التاسع عشر والعشرين من حيث النفوذ والنتائج، وفي القرن الحادي والعشرين، صارت اللغة اﻹنجليزية بالطبع لغة عالمية على نحو فريد. وفي الوقت الحاضر، على الأقل، وجدت اﻷعمال الكلاسيكية المكتوبة باللغة اﻹنجليزية طريقها إلى العالم بأسره، والخبر السار أنها غدت مشروعًا علمانيًا بالكامل.
اقتباس
"وَقَالَ لآدَمَ: (لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلًا: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ").
ثلاثة أعمال للمقارنة
جيرمي تايلر: حياة مقدسة وميتة مقدسة (1651)
توماس كرانمر: كتاب الصلوات العامة (1662)
الإنجيل الإنجليزي الجديد (1970)
[1] جميع الترجمات الكتابية في المقال مأخوذة عن ترجمة فان دايك إلى العربية، وهي الترجمة الأشيع، ومن المعروف أنها اعتمدت بشكل كبير على ترجمة الملك جيمس.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه