تحدث الهجرة لأن الفوائد المستمدة من الوصول إلى وجهتها تفوق التكاليف: يمكننا القول إن المهاجرين يفضلون مواجهة الموت المُحتمَل، للهروب من موت مُحقَّق.

"عن الرحلات والبوصلات والساعات"

مقدمة كتاب "بلا حدود: القصص الرائعة للحيوانات المهاجرة"

فرانشيسكا بوونينكونتي

ترجمة (عن الإيطالية): فوزي عيسى

فرانشيسكا بوونينكونتي: كاتبة وصحفية علمية في العديد من الصحف والمجلات العلمية، وتهتم بالكتابة عن عالم الطيور والحيوانات على نحوٍ خاص. درست العلوم الطبيعية وتخصصت في دراسة تحجيل الطيور وتتبع مسارات رحلاتها الموسمية حول العالم. نشرت العديد من الكتب التي تجمع بين الكتابة العلمية والأسلوب الأدبي، من أهمهما: "بلا حدود: القصص الرائعة للطيور المهاجرة" (2019)، و"ماذا تقول الحيوانات" (2022). تصدر الترجمة العربية لكتاب "بلا حدود" قريبًا عن دار "نقاط" للترجمة والنشر، وننشر مقدمته باتفاق خاص مع الناشر.

د. فوزي عيسى: أستاذ اللغة الإيطالية بكلية الألسن جامعة عين شمس. عمل أستاذًا للإيطالية في جامعات ليبيا لعشر سنوات، وفي الإذاعة المصرية، مذيعًا ومترجمًا ومحرِّرًا ومُعدَّ برامج بالإيطالية، لأكثر من 20 سنة. كما عمل مترجمًا فوريًا برئاسة الجمهورية. من أعماله في الترجمة: المشاركة في ترجمة أنطولوجيا للقصة القصيرة الإيطالية في أربعة مجلدات تحت عنوان "بعد البحر"، دار شرقيات، بين عامي 2003 و2007. المشاركة في ترجمة كتاب "الأدب الأوروبي من منظور الآخر"، المجلس الأعلى للثقافة 2007. كتاب "إيطاليا بلد العلماء"، مكتبة الشروق 2010. "الحماية الدولية لحقوق الإنسان" كلاوديو زانجي، مكتبة لبنان 2006. "قصة عائلية" رواية فاسكو براتوليني، شرقيات 2013. "امرأة بالصدفة تقريبًا" رواية داريو فو، المحروسة 2023.


فرانشيسكا بوونينكونتي

فجر يوم حار في منتصف يونيو. خلف هضبة مورجه الجيرية، في بازيليكاتا، تشرق الشمس. تسخِّن الهواء، وتضيء الحقول المزروعة بالقمح بالألوان الذهبية، وتوقظ الخشخاش المتناثر وتلوِّن أحجار ماتيرا باللون الوردي اللامع، الذي يقترب من اللون الأصفر. لا تزال المدينة نائمة، لكن زقزقة طيور السنونو تدوِّي بالفعل بين المنازل وأسفل الوديان.

تنطلق سفيرات الربيع عبر الأزقة الضيقة المرصوفة بالحجارة المصقولة بفعل الدهس المستمر. إنها تمارس لعبة الغميضة هنا وهناك بين الجدران المسامية حيث تتسلق نباتات القبار. تنزل إلى الوادي وتنزلق بالطيران فوق جدول جرافينا، فاتحةً مناقيرها لالتقاط بعض الماء وإرواء عطشها. ثم تستأنف طيرانها إلى أعلى وتعود إلى صيد الحشرات والذباب والبعوض. وبمناقيرها المليئة بالأطعمة من الحشرات المجنحة ومن ذوي الأرجل الست، تطير إلى أعشاشها حيث ينتظرها الصغار من طيور السنونو المثرثرة. وفي غضون ساعات قليلة، عندما يكون الهواء أكثر سخونة، ستطير طيور العويسق فوق حقول القمح التي تم حصادها أخيرًا، بحثًا عن الجنادب والصراصير واليعسوب. إنها عبارة عن صقور صغيرة أنيقة ظهورها حمراء قرميدية ومخالبها شاحبة وحادة كالسكين.

لقد وصلت هذه وتلك إلى أوروبا في أوائل الربيع، البعض منها وصل مبكرًا قليلًا، والبعض الآخر متأخرًا قليلًا. لقد عثرت على شريك حياتها وعلى عشها الذي هجرته أواخر الصيف الماضي. ولكي تكوِّن أسرة، اختارت طيور العويسق، الأكثر ريفية، الشقوق الموجودة في الجدران من الحجر الجيري، وفتحات الآثار والفجوات الموجودة تحت بلاط الأسقف. أما طيور السنونو وهي أكثر دقة، فقد أعادت ترتيب المنزل القديم، فخلطت حبيبات التراب ورقائق العشب بلعابها، لإصلاح بعض الشقوق وتسوية حافة العش. وبعد ذلك قامت بتجميع الريش الأكثر نعومة لتغليف الداخل وجعله وثيرًا ومريحًا للبيض وطيور السنونو المستقبلية. والآن، مع بداية الصيف، يتركز كل الاهتمام على الصغار حديثي الولادة.

ولكن في نهاية أغسطس، عندما يصبح باستطاعة طيور العويسق الشابة الاعتماد تمامًا على نفسها، وعندما تصبح طيور السنونو الصغيرة قادرة على الطيران، تكون قد حانت لحظة المغادرة من جديد. وعند حلول الظلام، تتجمع طيور العويسق في مهجع كبير، عبارة عن شجرة صنوبر بحرية وسط مدينة ماتيرا. وستفعل طيور السنونو الشيء نفسه، ربما في بعض حقول القصب أو على كابلات خطوط الكهرباء وخطوط الهاتف أمام الإسطبلات أو المرائب التي احتضنت فيها بيضها. بعد ذلك، في أحد الأيام الأخيرة من أغسطس أو الأيام الأولى من سبتمبر، ستغادر إيطاليا للعودة إلى الجنوب العميق، وراء الصحراء، حيث ستقضي الشتاء بأكمله. وفي نهاية الشتاء، تبدأ الدورة من جديد: ستعود إلى أوروبا، وتتكاثر وتغادر مرة أخرى إلى إفريقيا. وهكذا كل عام، مدى الحياة، في رحلة لا تنتهي: الهجرة.

ولكن ليست فقط طيور السنونو وطيور العويسق. فكوكبنا يعبره مليارات من الحيوانات المهاجرة المرتحلة: الطيور والثدييات البحرية والبرية والطائرة والأسماك والبرمائيات والزواحف والحشرات واللافقاريات الأخرى. وتهاجر عمالقة العالم، الحيتان، وكذلك بعض أكثر المخلوقات روعة: الفراشات. كبيرة كانت أم صغيرة، تسافر، فرادى أو جماعات، آلاف الكيلومترات كل عام، تواجه الصعوبات والمخاطر، في مسارات خطيرة تكلفها حياتها. كل هذا من أجل التكاثر والعثور على ما يكفي من الغذاء. لكن كيف تستطيع الوصول إلى وجهتها؟ كيف تتعرف على الاتجاه الصحيح وكيف تتمكن من العودة كل عام بالضبط إلى نفس المكان الذي ولدت فيه؟ وقبل كل شيء لماذا تهاجر؟

لطالما سعت طبيعة الإنسان الفضولية إلى البحث عن إجابة لهذه الأسئلة وغيرها. لكن الفرضيات الأولى التي تمت صياغتها لم تكن لتوصف بأقل من كونها خيالية.

فمنذ القرن الرابع قبل الميلاد، لاحظ أرسطو عدم وجود طيور السنونو في الشتاء وظهورها من جديد في الربيع. لكن المفكر اليوناني، على الرغم من عمله الحكيم والموسوعي، "تاريخ الحيوان"، لم ينجح أبدًا في حل اللغز. ولكي أكون صادقة، لم يقترب من حله حتى من بعيد.

في ذلك الوقت، ساد اعتقاد أن الطيور تطير حتى تصل إلى القمر ثم تعود إلى الأرض في الربيع. أو أنها من خلال الاستقرار بين أغصان الأشجار في الخريف، عندما تسقط الأوراق، فإنها تفقد ريشها، وتتحول إلى أغصان. أو أيضًا، وفقًا لأرسطو، تتحول طيور أبو الحناء، بمجرد انتهاء الشتاء، إلى طيور الحميراء: فاللون الأحمر ينتقل من الصدر إلى الذيل. واليوم نحن نعلم أن كليهما ينتميان إلى نفس الفصيلة. وأنهما نوعان مختلفان، وبالتأكيد لا يمكن انتقال اللون الأحمر من الصدر إلى الذيل، والعكس صحيح. لكن أغرب تفسير، وفي نفس الوقت الأطول عمرًا، يتعلق على وجه التحديد بهجرة السنونو. حيث يرى أرسطو أن طيور السنونو، في نهاية الصيف، تحط على عيدان القصب عند البحيرات، وتفقد ريشها وتتحول إلى ضفادع. وتقضي الشتاء في صورة برمائيات ثم تخرج من الماء في الربيع مرة أخرى بأجنحة زرقاء لامعة.

الآن هذه الفرضية تجعلنا نبتسم، ولكنه حتى القرن الثامن عشر أيضًا علماء مثل لينيوس Linneo وكوفييه Cuvier كانوا على استعداد أن يقسموا على صحة هذه النظرية، بناءً على "أدلة دامغة": قصص حفنة من الصيادين الذين رأوا طيور السنونو "المنكمشة" وهي لا تزال حية تحت سطح إحدى البحيرات المُتجَمِّدة. ولكن الشيء الحقيقي الوحيد في هذه القصة بأكملها هو أنه قبل الهجرة إلى إفريقيا في مجموعات صغيرة من أربعة أو خمسة أفراد، تتجمع طيور السنونو بالآلاف، وتحط على أعواد القصب لتمضي الليل معًا وترحل عند الفجر.

ومع ذلك، لم يكن أرسطو مهتمًا بالطيور المهاجرة فقط. امتلك أيضًا نظرية حول التونة ذات الزعانف الزرقاء: في الشتاء تختبئ هذه الأسماك في المياه الجليدية العميقة جدًا، لتعود وتقترب من الساحل في الربيع. من ناحية أخرى، يصف بلينيو العجوز Plinio il Vecchio، بعد ذلك ببضعة قرون، في كتابه "التاريخ الطبيعي"، هجرة طائر الكركي، وهو نوع كان يتم صيده في ذلك الوقت. فيعبر عن إعجابه بالتشكيل على شكل حرف V للسرب، وهو الشكل المناسب لقطع الهواء، ولكن هنا أيضًا يقترب العلم من الخيال. فبحسب بلينيو، يوجد في السرب "حارس" مهمته تحذير الرفقاء من أي خطر محتمل، عندما يتوقفون للراحة، وإبقائهم مستيقظين في حالة الطيران. لذلك، يكون على الحارس أن يحمل حجرًا في مخلبه: فإذا نام، سوف يسقط منه الحجر وستكتشف الطيور الأخرى أنه لم يقم بواجبه.

سيتعين علينا الانتظار ألف عام أخرى للحصول على مفاهيم أكثر دقة، على الأقل حول هجرة الطيور. عندما وصف فريدريك الثاني في كتابه فن الصيد بالطيور- وهو كتاب حقيقي عن التعامل مع الصقور، به أكثر من 500 رسم توضيحي - حوالي 80 نوعًا من الطيور، وسلوك الأسراب، وتوقيتات الهجرة، وبعض خصائص الريش والطيران.

ولكن فقط ابتداءً من نهاية القرن التاسع عشر فصاعدًا، تأتينا الإجابات الأولى من العلم حول ظاهرة الهجرة. بداية من أكثرها أهمية: لماذا يقوم المهاجرون بهذه الرحلة الطويلة والخطيرة؟ أليس من الأفضل البقاء دائمًا في نفس المكان؟

تعيش معظم الحيوانات المهاجرة في أماكن تتميز بمواسم محددة. وغالبًا ما يكون تعاقب الفصول ودورات التكاثر هو بالضبط ما يجعل المناطق الملائمة والغنية بالطعام في الشتاء غير ملائمة للتكاثر في الصيف. والعكس بالعكس. عمليًا، أفضل مكان للتغذية ببساطة ليس هو أفضل مكان لولادة الجيل الجديد أو للبقاء على قيد الحياة. وبالتالي تضطر الطيور المهاجرة إلى الانتقال لتجنب الحرارة الشديدة أو البرودة الشديدة، وإيجاد ظروف مثالية للتكاثر، والحصول على طعام كافٍ لها ولأولادها.

على سبيل المثال، تتمتع الطيور المهاجرة التي تصل إلى أوروبا في الربيع بميزتين رئيسيتين. الأولى هي أنه في خطوط العرض الخاصة بنا في ذلك الوقت يكون هناك انفجار للزهور والفواكه والحشرات. والثانية هي أن النهار يصبح أكثر طولًا: وبالتالي يكون هناك المزيد من ساعات الضوء المتاحة لجمع الطعام. وهذا يعني استخدام طاقة أقل للحصول على الطعام والقدرة على القيام بأكثر من حضنة واحدة. أما في حالة بقائها في إفريقيا فلن يكون لديها كل هذه الوفرة. وعندما ينتهي الصيف ويحل الشتاء، تفضِّل العودة إلى إفريقيا، حيث ستجد "ربيعًا" جديدًا. وينطبق الشيء نفسه على العديد من الأنواع الأخرى التي تهاجر إلى قارات أخرى.

وبالتالي تحدث الهجرة لأن الفوائد المستمدة من الوصول إلى وجهتها تفوق التكاليف: يمكننا القول إن المهاجرين يفضلون مواجهة الموت المُحتمَل، للهروب من موت مُحقَّق.

في بعض الأحيان، تكون الهجرة إجبارية لأن الظروف المثالية للتكاثر توجد في بيئات مختلفة تمامًا عن تلك التي تعيش فيها. ولنتذكر السلاحف البحرية التي تقضي حياتها في المحيط، ولكنها تعشش على الشواطئ الجافة. أو السلمون الذي عليه أن يصعد من البحر إلى الأنهار لوضع البيض.

باختصار، تكون الكائنات المهاجرة مُجبَرة طوال حياتها (أو على الأقل مرة واحدة فقط في العمر، مثل السلمون وغيره) على الارتحال. إنها تنتقل بشكل دوري ومتكرر، دائمًا على نفس المسارات، جيلًا بعد جيل، بين نقطة بداية محددة جيدًا ونقطة وصول محددة جيدًا. والواقع أن الهجرة ليست ظاهرة يتم تحديدها على أساس المسافة المقطوعة أو الحدود التي يتم عبورها أو الوقت الذي يستغرقه السفر. إنها ببساطة حركة موسمية ودورية من منطقة تكاثر إلى أخرى حيث يتم قضاء بقية الوقت بشكل أساسي.

ما زال من غير المعروف متى خطر ببال المهاجرين الأوائل الانتقال ذهابًا وإيابًا على الكوكب. فأصل الهجرات يضيع في غياهب الزمن. ووفقًا لأكثر النظريات مصداقية، نشأت ظاهرة الهجرة في العصر النيوجيني، وهي الحقبة الجيولوجية التي انتهت قبل أكثر من مليوني ونصف المليون سنة، وربما تطورت في الحقب الجليدية المتعاقبة من العصر الرباعي. ومنذ الحدوث الجليدي الأخير وورم Würm، الذي انتهى قبل حوالي 12000 عام، مع أحدث التعديلات المناخية، ظلت في الغالب المسارات متطابقة. في الغالب -وليس تمامًا- لأنها لا تزال تتطور حتى اليوم. في الواقع، يجد المهاجرون أنفسهم أيضًا مضطرين لمواجهة التغيرات المناخية الأخيرة، التي تغير وجه العالم. وبالتالي، غالبًا ما يجدون أنفسهم مضطرين لتغيير نطاقهم أو مساراتهم، أو –بسبب انخداعهم بدرجة الحرارة– يغادرون مبكرًا أو متأخرًا. وهذا له تداعيات خطيرة على بقائهم.

ومع ذلك، يمكننا القول إن ظاهرة الهجرة ظهرت على الأرجح بشكل تدريجي، على مراحل، وبالتالي فإن أسلاف الطيور المهاجرة الحالية كانت حيوانات مستقرة. ولسبب ما –يتعلق بالمناخ أو بالغذاء– بدأ بعض السكان في الانتقال، بحثًا عن ظروف مواتية أكثر، وساعدهم على ذلك عملية الانتقاء الطبيعي.

كانت الطيور هي أكثر الفصائل الحيوانية التي تم الاستقصاء حولها. في الأساس لأن هناك آلاف الأنواع منها، العديد منها متشابه في السلوك، ويسهل رؤيته ومراقبته وأيضًا تربيته لدراسته. وعلى الرغم من كل هذا، لم يكن من الممكن حتى الآن فهم أي مناطق العالم هي التي أقام فيها "الأسلاف المستقرون" للطيور المهاجرة الحالية. فهناك نوعان من النظريات المتعارضة حول هذا الموضوع. طبقًا لبعض العلماء، كانوا يعيشون في المناطق الاستوائية، ثم ينتقلون تدريجيًا إلى مناطق تكاثرهم في الشمال، ربما بعد نهاية الفترة الجليدية. وعلى عكس ذلك يعتقد علماء آخرون، أن العكس هو الصحيح: كان الأجداد يعيشون في مناخات معتدلة، ويتحركون بالتدريج نحو الجنوب.

يؤكد ذلك باحثون مثل بنجامين وينجر Benjamin Winger وريتشارد ري Richard Ree من جامعة شيكاغو، الذين تتبعا تاريخ تطور الإمبيريزيدات –وهي فصيلة من الطيور الصغيرة تضم مهاجرين وغير مهاجرين– مع التركيز على الأنواع الأمريكية. ووفقًا للنتائج التي توصلوا إليها، هذه الفصيلة هي في الأصل من أمريكا الشمالية. ثم، ربما للهروب من موسم البرد، بدأت في التحرك أكثر فأكثر نحو الجنوب، حتى أمريكا الجنوبية. وبالتالي، نتج عنها، من ناحية، تلك الأنواع المهاجرة الحالية التي تطير آلاف الكيلومترات بين القارتين، ومن ناحية أخرى، تلك التجمعات السكانية المستقرة الحالية.

هذا الأمر يمكن أن ينطبق بالطبع على الطيور: فقد تمكنت العديد من الأنواع المهاجرة من الاستقرار أو العكس بالعكس في غضون بضعة أجيال قليلة، مما يفترض تنظيمًا على أساس وراثي. ولكن الأمر لا ينطبق إطلاقًا على السلاحف البحرية، على سبيل المثال. ووفقًا لعالِم الزواحف الأمريكي الشهير أرشي كار Archie Carr، فإن انجراف القارات أيضًا كان له تأثير على الهجرة التي تقوم بها السلاحف الخضراء (Chelonia mydas) من البرازيل إلى جزيرة أسنسيون لوضع بيضها. ففي دراسته المنشورة في مجلة الطبيعة Nature، يقول كار إنه منذ ملايين السنين، عندما طَوَّرت أسلاف السلاحف البحرية الخضراء أنماط هجرتها، كانت إفريقيا وأمريكا الجنوبية متقاربتين أكثر من الآن. فبعض الأنواع تتغذى في أمريكا الجنوبية وتتكاثر على الشواطئ الإفريقية. وأثناء التباعد التدريجي بين القارتين، في بداية حقب الحياة الحديثة، وجدت هذه الزواحف البحرية نفسها مضطرة إلى الهجرة أبعد وأبعد، ربما باستخدام جزيرة أسنسيون أولًا كمحطة وسيطة ثم كمكان هبوط نهائي. ومع ذلك، لم يتم التحقق من صحة النظرية، وما زالت هجرتها يكتنفها الغموض.

إذًا نحن لا نعرف الكثير عن متى وكيف نشأت الهجرات، فلا يزال يتعين علينا اكتشاف كل شيء وتأكيده. ومع ذلك، هناك العديد من الأسئلة الأخرى التي وجدنا لها إجابات شافية تمامًا.

كيف يعرف المهاجرون أن لحظة المغادرة قد حانت؟ أو كيف يتبعون المسار ويضبطون وجهتهم؟ هذه الكائنات ليس لديها أجهزة ملاحة جوجل مابس، ولا بوصلات ولا ساعات... وربما لديها. لديها شيء مشابه جدًا، وأنظمة غير عادية تم تطويرها على مدار تطورها على مدى أجيال.

كثير منها يسافر بمفرده أو في مجموعات صغيرة، والسفر في جماعة يساعد كثيرًا: فهو يقلل من احتمالية التعرض للهجوم من قبل الحيوانات المفترسة. أما خارطة الطريق فيتم تنظيمها بشكل أساسي من خلال دورات الليل والنهار ودورة الفصول، ولكن أيضًا من خلال درجة الحرارة والعوامل الهرمونية الأخرى، وكلها عوامل مرتبطة ببعضها البعض. على سبيل المثال، نشاط الغدة الصنوبرية، وهي غدة صماء موجودة في دماغ جميع الفقاريات، حساسة للفترة الضوئية. هذا أمر أساسي، لأن الغدة الصنوبرية تنتج الميلاتونين، الذي ينظم إيقاع الساعة البيولوجية بين النوم والاستيقاظ ويؤثر في نشاط المبايض. أما الغدة النخامية فتفرز هرمونات ذات أهمية حاسمة لنمو الجسم والتكاثر وعمل التمثيل الغذائي. مثل الجونادوتروبين والبرولاكتين، وهو هرمون يؤثر، من بين أمور أخرى، على هجرات البرمائيات مثل السمندل الناري وسمندل الماء. أيضًا نشاط الغدة النخامية يتأثر بالمنبهات الضوئية، وبالتالي يتأثر بطول وقصر الفترة الضوئية، فضلًا عن التغيرات في درجات الحرارة.

وبالتالي فإنه بفعل المحفزات الهرمونية، التي يتحكم فيها تناوب الفصول وطول ساعات الضوء، تعرف الطيور المهاجرة متى حان وقت المغادرة. لكنها تعرف أيضًا كيفية الوصول إلى وجهتها. وغالبًا ما يكون مكان الوصول هو الشاطئ أو النهر أو الأدغال أو منطقة بحرية ولدت فيها. لذلك فإن لديها قدرة ممتازة على العودة إلى "البيت"، للتعرف عليه من بين الآلاف: عملية تسمى "العودة إلى البيت". هذا يعني أنها تحفظ في الذاكرة بعض العوامل، مثل الرائحة والموقع داخل المجال المغناطيسي للأرض، وأيضًا بعض العناصر المرئية التي تميِّـز موطنها، في المنطقة المجاورة مباشرة. وهي تفعل ذلك بمجرد ولادتها. أي إن لديها نوعًا من البصمة لمسقط رأسها. إنها تشبهنا إلى حد ما نحن البشر: عندما نرى باب المنزل ندرك أننا وصلنا، لأننا حفظناه بصريًا. تمامًا كما نعرف رائحة المنزل جيدًا. ولكن إذا وصلنا يومًا ما إلى الدور الذي نقطنه، ووجدنا بابًا جديدًا، فسوف تسيطر علينا بالتأكيد لحظات من الحيرة. يحدث الشيء نفسه للعديد من هذه الكائنات المهاجرة: فإذا قمت بنقل بعض المرجعيات المرئية في الجوار، فإنها تجد نفسها مشتتة وتظل تبحث عن ماهية الخطأ. هذا الأمر يحدث حتى للدبابير الحفّارة، وهي ليست مهاجرة، ولكنها تتمتع بقدرة مذهلة على العودة إلى بيوتها.

إذًا يعرف المهاجرون إحداثيات منزلهم ومظهره ورائحته. ولكن آلية الوصول إلى هناك باتباع أفضل المسارات، التي تبلورت عبر سنوات من التطور، هي مسألة أخرى.

أول تمييز أساسي يمكن أن نرصده هو بين مَن يسافر بمفرده ومَن يسافر في مجموعات. المهاجرون الانفراديون، مثل العديد من الطيور، لا يتعلمون المسار الذي يجب اتباعه. فهذه المسارات يتم تحديدها وراثيًا: إن الاتجاه ومسافة السفر في كل مرحلة "مُدَوَّن" في جيناتها. باختصار، تعرف متى "ترحل" بالفطرة. أنواع أخرى، على العكس من ذلك، يتعين عليها تعلُّم المسار الصحيح وهي تفعل ذلك بعد وقت قصير من ولادتها، في رحلتها الأولى مع والديها.

بشكل عام، لضبط وجهتها خلال الرحلة الطويلة، يستخدم المهاجرون إشارات مرجعية مختلفة. بشكل أساسي الشمس والنجوم والمجال المغناطيسي للأرض. واحد منها فقط أو جميعها معًا. فقط عندما تقترب من "المنزل"، تعتمد على حاستي البصر والشم. مثلنا نحن البشر إلى حد ما: عندما نصل إلى شارع جديد ونبحث عن رقم البيت الذي أشاروا لنا به، فإننا نفعل ذلك عن طريق البصر، ولكن حتى ذلك الحين كنا نتحرك بآلية أخرى. أو في حالة أخرى، ندرك أننا وصلنا إلى مخبز من رائحة الخبز الطازج اللذيذة.

في أحيان أخرى أثناء الرحلة، فإن الطيور على وجه الخصوص تستخدم الذاكرة البصرية أيضًا كنوع من الفحص المزدوج. يتم فحص المسار باستمرار بسلسلة من المرجعيات المرئية: ليس فقط سلاسل الجبال والعناصر الطبيعية الأخرى، ولكن أيضًا الإنشاءات التي من صنع البشر. إن الطيور المهاجرة التي تعشش في أوروبا، على سبيل المثال لا الحصر، تستخدم الطريق السريع ميلانو - نابولي A1 بهذه الطريقة.

إن الطيور التي تهاجر خلال النهار، في البيئات التي تكون فيها الشمس مرئية، تضبط اتجاهها في معظم الحالات بفضل البوصلة الشمسية. هذا يعني، إذًا، أن عليها مراعاة الحركة الظاهرية للشمس لتحديد وجهتها. فإذا غادر حيوان الشمال عند الفجر، فإنه عندما تكون الشمس في الأفق، يتم تحديد اتجاهه بزاوية 90 درجة عموديًا بالنسبة إلى الجرم السماوي. لكن خلال النهار، تغير الشمس موقعها بسبب دوران الأرض: فهي تتحرك بمقدار 15 درجة كل ساعة. لذلك إذا استمر الحيوان في الحفاظ على زاوية 90 درجة مع الشمس، سينتهي به الأمر في مكان آخر. لكن الطيور المهاجرة التي تعتمد على البوصلة الشمسية، مثل الفراشات الملكية، قادرة تمامًا على تصحيح مسارها من خلال مراعاة هذا المتغير ومعايرة البوصلة وفقًا لدورة الليل والنهار. فقط من خلال معرفتها الوقت أثناء النهار يمكنها، في الواقع، توجيه أنفسها بشكل صحيح.

أما أولئك الذين يسافرون ليلًا، فيستخدمون القبة السماوية، مثل معظم الطيور المهاجرة، وهي متمرسة في هذا الفن. بداية من عام 1970، قام عدد من العلماء مثل جوينر Gwinner وسوير Sauer وإيلمن Emlen وويتشكو Wilitschk باختبار قدرات هذه الطيور عن طريق أقفاص مجهزة بقباب فلكية اصطناعية. واكتشفوا أنها توجه أنفسها مع الأبراج، تمامًا مثل البحارة المهرة. فإذا تم تدوير القبة السماوية 180 درجة، تتجه الطيور في الاتجاه المعاكس بالضبط. تمامًا كما لو أن السماء صُنعت لتدور حول منكب الجوزاء، في كوكبة الجبار، بدلًا من أن تدور حول النجم القطبي، فيصبح شمالها منكب الجوزاء. ولكن إذا تم إيقاف تشغيل الأبراج القطبية القريبة من النجم الشمالي، مثل الدب الأكبر Ursa Major والدب الأصغر Little Dipper والتنين Dragon والملتهب Cepheus وذات الكرسي Cassiopeia، فلن تعود قادرة على التوجه الصحيح. هذا يعني أن الطيور لا تحفظ ترتيب النجوم –ما نسميه الأبراج– ولكنها توجه نفسها على أساس حركة النجوم حول المركز. لذا فهي لا تعرف أنه يسمى النجم القطبي، لكنها تعرف جيدًا أن النجم الذي يشير إلى الشمال هو النجم الذي تدور حوله جميع الأبراج. وتتعلم ذلك في الأسابيع الأولى من حياتها، في ليالي الصيف، وهي لا تزال قابعة في العش، ببساطة من خلال ملاحظة الحركة الظاهرة للقبة السماوية ومنقارها متجه إلى أعلى.

علاوة على ذلك، تعتمد الطيور والحيوانات المهاجرة الأخرى، مثل السلاحف البحرية، على المجال المغناطيسي للأرض، الذي يستخدم بشكل عام في ظروف الإضاءة المنخفضة: تحت الماء أو في الليل. في الواقع، يمكننا القول إن الأرض تتصرف مثل مغناطيس كبير، ثنائي القطب، بقطبين مغناطيسيين متباعدين قليلًا عن القطبين الجغرافيين. وخطوط القوة المغناطيسية الناتجة عن القطبين تشكل بالفعل المجال المغناطيسي للأرض، المسؤول عن الشفق القطبي وعن التوجه الشمالي لإبرة بوصلاتنا. لكن السلاحف البحرية يمكنها أن تفعل ما هو أفضل من بوصلاتنا. ليس فقط أنها قادرة على تحديد اتجاه الشمال، ولكنها أيضًا قادرة على تحديد خط العرض.

إن المجال المغناطيسي للأرض ليس موحدًا في الفضاء. إنه أقوى عند القطبين وأضعف عند خط الاستواء، وهذه الزواحف تعرف كيف تدرك التفاوت في شدته. كما أنها قادرة على تحديد زاوية ميل المجال المغناطيسي وبالتالي تحديد خط العرض الذي تتواجد فيه. وهكذا تتمكن من الحصول على خريطة حقيقية: كل نقطة على الكرة الأرضية يتم تحديدها بشكل فريد من خلال ثنائية من قيم الشدة والميل.

أينما توجهت الطيور المهاجرة ببوصلة مغناطيسية أو شمسية أو تهتدي بالنجوم، فإنها تعرف بالضبط كيف تصل إلى وجهتها. وسواء من خلال الطيران أو السباحة أو السير، كل هذا لا يهم: لقد حان وقت الهجرة.