يمكن ملاحظة أن الغائب الحاضر في هذه المعادلة بين العلم والثقافة هو الخطاب المترجم. ماذا يحدث عندما يكون الأغلب الأعم من الخطاب العلمي مترجمًا كما هو الحال في العالم العربي؟
هل تؤثر الثقافة على تعميم الخطاب العلمي وترجمته؟
مقال: محمد أبو عمر
يتناول هذا المقال ما يمكن أن يطلق عليه تعميم العلوم، وهي عملية إيصال المحتوى العلمي المتخصص إلى غير المتخصصين. ويطرح المقال رؤية لهذه العملية مفادها أن تعميم العلوم لا يقتصر على تبسيطها، بل يتضمن تفاعلًا ثقافيًا يبدأ من إنتاج العلوم ذاتها حتى يصل إلى مرحلة تقديمها إلى غير المتخصصين، كما يربط بين هذه الرؤية وترجمة الخطاب العلمي.
تعميم العلوم
يُنظر عادة إلى العلوم، خاصة التطبيقية منها، على أنها مصادر معتمدة وموثوقة للمعرفة، فهي طبقًا للمنظور التقليدي منابع تنهل منها الثقافة السائدة في المجتمع ما يثريها ويدفعها نحو الرقي والتقدم. وتقوم هذه النظرة على افتراض مفاده أن العلاقة بين العلم والثقافة تسري في اتجاه واحد، فالعلم يؤثر والثقافة تتأثر. ولحدوث ذلك التأثير، ينبغي القيام بعملية تعميم للعلوم حتى يفهمها العامة وتصبح جزءًا من ثقافتهم.
وتعتمد هذه الرؤية السائدة على اعتبار العلم مصدرًا نقيًّا للمعرفة لا تشوبه شائبة ولا يمكن معارضته إلا من قِبَل المتخصصين فيه، كما تعتمد على اعتبار الخطاب العلمي المتخصص في أي مجال علمي عصي على فهم غير المتخصص فيه إلا بعد تبسيطه. ويعرض عالم الاجتماع الأمريكي ستيفن هيلجارتنر هذه الرؤية عن طريق نموذج يحتوي على مرحلتين، المرحلة الأولى هي قيام العلماء بإنتاج معرفة علمية أصيلة، أما المرحلة الثانية فهي تولي القائمين على تعميم العلوم تبسيط هذه المعرفة العلمية لكي يستطيع العامة الاطلاع عليها.
هذه الرؤية تلقي بعبء أي أخطاء أو تناقضات علمية على كاهل تعميم العلوم والقائمين عليه، فالتعميم إن نجح يؤدي إلى تبسيط جيد للعلوم يفيد العامة ويعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون، وبالتالي يثري الثقافة العامة ويقود المجتمع نحو التقدم والازدهار، أما في حال فشله فهو يؤدي إلى تحريف المعرفة العلمية وتشويهها وحرمان المجتمع من فوائدها. وحسب هذه الرؤية يرجع الحكم بنجاح التعميم أو فشله حصريًّا إلى العلماء المتخصصين، وذلك يمنحهم سلطة ومهابة في الأوساط العامة يمكنهم استغلالها لتوجيه الرأي العام أو الحصول على المزيد من التمويل لمؤسساتهم وأبحاثهم. ومن هذا المنطلق لا يمكن إلقاء اللوم على العلم نفسه أو القائمين عليه، ما يجعلهم خارج نطاق المساءلة.
ويعرض هيلجارتنر محورين لتحليل أوجه القصور التي تثير الشكوك حول واقعية هذه الرؤية ومصداقيتها. يتناول المحور الأول صعوبة التفرقة بين الخطاب العلمي الأصيل والمعمم، وذلك بسبب تعدد درجات التعميم وتعدد المعايير التي يمكن تبنيها عند محاولة التفرقة بين الخطاب العلمي وتعميمه. أما المحور الثاني فيتناول صعوبة التفرقة بين التبسيط الجيد والمحرف، فهذه التفرقة تعتمد بشكل كبير على السياق الذي يتم فيه التبسيط والتغيرات التي تطرأ على الخطاب العلمي بعد تبسيطه.
ولذلك عند التأمل في العلاقة بين العلم والثقافة فإن من الصعب اعتبارها بسيطة ومباشرة. فالعلم ليس معزولًا عن المجتمع الذي يتم فيه مباشرة البحث العلمي، والعلماء ليسوا آلات مهمتها تحويل البيانات إلى معرفة. إن البحث العلمي في أبسط تصوراته يتطلب الحصول على بيانات ومن ثم تحويلها إلى نتاج معرفي عن طريق وضع فرضيات ونظريات قادرة على تفسير ما تم التوصل إليه. ومن ناحية جمع البيانات، فإن تحديد ما ينبغي جمعه ووسائل القيام بذلك يتطلب تصورات مسبقة عما يمكن التوصل إليه، وهذه التصورات لا يمكنها أن تنشأ إلا في إطار الآراء والمعتقدات السائدة في المجتمع. أما من ناحية النظريات والفرضيات، فإنها تحمل أبعادًا أيديولوجية وفلسفية تنبع من آراء العلماء وتوجهاتهم العامة. وهذه الفرضيات والنظريات قد يتم تأكيدها أو دحضها لاحقًا عبر جمع المزيد من البيانات، ولكن قيام العلماء بتبنيها في لحظة تاريخية معينة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقيم الأخلاقية والثقافية التي يؤمنون بها والتي تعد امتدادًا للثقافة السائدة في المجتمع.
إذن يمكن وصف العلاقة بين العلم والثقافة بأنها علاقة ديناميكية التأثير فيها متبادل، فالعلم من جانبه يسهم في تطور الثقافة السائدة في المجتمع، كما تسهم الثقافة من جانبها في تحديد مسار التقدم العلمي وأوجه الاستفادة من نتائجه. وهذا الوصف ينبع من كون الخطاب العلمي سواء كان أصيلًا أو معممًا أحد أنواع الخطابات العامة التي تتفاعل مع أنواع أخرى من الخطابات مثل الخطاب السياسي والخطاب الديني، وهذه الخطابات تؤثر في بعضها البعض وتشكل في مجموعها المجال العام في مجتمع ما.
الخطاب العلمي المترجم
يمكن ملاحظة أن الغائب الحاضر في هذه المعادلة بين العلم والثقافة هو الخطاب المترجم. ماذا يحدث عندما يكون الأغلب الأعم من الخطاب العلمي مترجمًا كما هو الحال في العالم العربي؟ إذا كان الوضع كذلك فإن الثقافة المتلقية لا تسهم في إنتاج العلوم بشكل فعال يمكنه إحداث تأثير على مسار الإنتاج العلمي، بل يقتصر دور الثقافة على تلقي المعرفة العلمية في صورتها النهائية بعد تشكلها. عندها يمكن اعتبار عملية الترجمة في حد ذاتها تعميمًا للعلوم، حيث ينبغي اختيار محتوى علمي لترجمته سواء كان متخصصًا أو معممًا، كما يتعين على المترجم والناشر تقريب هذا المحتوى العلمي إلى الثقافة التي يتم الترجمة إليها. وبما أنه من المستحيل ترجمة كل شيء، فإن عملية الاختيار في حد ذاتها تعكس الثقافة السائدة في المجتمع المتلقي للترجمة، كما تعكس توجهات القائمين على الترجمة والنشر وما يعتبرونه محتوى علميًا لائقًا ثقافيًا للقارئ المستهدف بالترجمة.
وقد يحدث هنا بعض التوتر بين المحتوى العلمي المترجم والقيم السائدة في المجتمع المتلقي، وذلك بسبب أن المحتوى العلمي يكون متأثرًا بالثقافة التي نشأ فيها إذا كان متخصصًا، أما إذا كان معممًا فإنه يكون معدًا لمجتمع معين، ومن ثم يلبي احتياجات ثقافية معينة قد لا تتقاطع مع تلك السائدة في مجتمعات أخرى. ويعد ترجمة المحتوى العلمي الذي يتناول نظرية التطور إلى اللغة العربية مثالًا على ذلك، فهي نظرية راسخة علميًا وثقافيًا في معظم أنحاء العالم، لكنها لا تزال مثار جدل في الثقافة العربية، وذلك يؤثر على اختيار ما يتم ترجمته عنها إلى اللغة العربية، كما يؤثر على عملية الترجمة ذاتها. ويمكن في هذا السياق اتخاذ ترجمة مؤلفات كل من تشارلز داروين وريتشارد دوكنز إلى اللغة العربية كمثالين لتوضيح هذه الفكرة.
داروين ودوكينز والربيع العربي
نشر تشارلز داروين كتابه الشهير "أصل الأنواع" عام 1859، وقد أحدث الكتاب عند نشره ضجة كبرى أثرت على العلوم الطبيعية في جميع أنحاء العالم تأثيرًا لا يمكن الاستهانة به. وعلى الرغم من ذلك، وجدت مؤرخة العلوم مروة الشاكري أن القارئ العربي لم يبدأ في التعرف على نظرية التطور التي طرحها الكتاب إلا بحلول عام 1876 عبر بعض المقالات في مجلة المقتطف، وهي المجلة التي عممت مصطلح "التطور" في اللغة العربية كترجمة لمصطلح evolution وما يقابله في اللغات الأوروبية. ولكن على الرغم من شهرة الكتاب واستمرار الحديث عنه في المجلات العربية منذ ذلك الحين، فإن الكتاب نفسه لم يترجم إلى اللغة العربية كاملًا حتى عام 1964، أي بعد مرور 69 عامًا على نشره باللغة الإنجليزية. وقد تولى ترجمته إسماعيل مظهر في مبادرة فردية، حيث نشر عام 1918 أول خمسة فصول من الكتاب، ثم أتبعها بإضافة أربعة فصول أخرى عام 1928، ولم يُنشر الكتاب كاملًا إلا بعد وفاته. ومنذ ذلك الحين لم تترجم أيا من أعمال داروين الأخرى إلى اللغة العربية، حتى أصدَر المركز القومي للترجمة في مصر ترجمة جديدة لكتاب "أصل الأنواع" عام 2004 لمجدي محمود المليجي، تبعها في العام التالي نشر أول ترجمة عربية لكتابي "نشأة الإنسان والانتقاء الجنسي" و"التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان" بعد مرور أكثر من قرن على نشرهما باللغة الإنجليزية. ومنذ ذلك الحين نشرت ترجمات عربية أخرى لمؤلفات داروين، مثل رحلة البيجل وبعض خطاباته، كما أعيد لاحقًا ترجمة بعض الكتب ونشرها من قبل ناشرين آخرين.
وفي نفس الفترة تقريبًا التي شهدت تدفق أعمال داروين باللغة العربية، بدأت كذلك ترجمة أعمال ريتشارد دوكينز عالم الأحياء البريطاني الشهير وأحد أكثر مناصري نظرية التطور شهرة في القرن العشرين. نشرت أول ترجمة لأعمال دوكينز بالعربية عام 2002 عندما قام كلا من دار العين للنشر ومشروع مكتبة الأسرة التابع للهيئة المصرية العامة للكتاب بإصدار ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي لكتاب The Blind Watchmaker تحت عنوانين مختلفين، حيث أصدرتها دار العين بعنوان "الداروينية الجديدة: صانع الساعات الأعمى" بينما أصدرتها مكتبة الأسرة بعنوان "الجديد في الانتخاب الطبيعي". وقد صدرت هذه الترجمة بعد نشر النص الأصلي بما يقرب من 16 عامًا. وبعد ذلك قام مصطفى إبراهيم فهمي بترجمة كتاب A Devil’s Chaplain والذي صدر في مصر عام 2005 تحت عنوان "العلم والحقيقة" ضمن المشروع القومي للترجمة الذي أطلقه المجلس الأعلى للثقافة. أما الكتاب الأشهر لدوكينز وهو The Selfish Gene فلم يترجم إلى العربية حتى عام 2009، أي بعد 33 عامًا من نشره، عندما قامت تانيا ناجيا بترجمته وتولت دار الساقي اللبنانية نشره بالتعاون مع مركز البابطين للترجمة بالكويت تحت عنوان "الجينة الأنانية". وبعد ذلك توالت الترجمات العربية لمؤلفات أخرى لدوكينز في الظهور والتي بلغ عددها حتى الآن سبعة على الأقل.
ولم يقتصر الانفتاح على ترجمة المحتوى المتعلق بنظرية التطور في تلك الفترة على مؤلفات داروين ودوكينز، بل امتد إلى قائمة طويلة من الكتب العلمية عن التطور وغيره. ويمكن أن نعزي انتشار هذه الكتب في هذه الفترة بالذات إلى الحراك الاجتماعي والثقافي في العالم العربي الذي بدأ في تلك الفترة وكان ما يسمى الربيع العربي أحد تبعاته السياسية. يبدو أن هذا الحراك الذي يستحق دراسات أكثر تعمقًا خفف من وطأة المقاومة الثقافية الحادة لنظرية التطور واعتبارها منافية للدين كما كان الوضع في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين. ولكن بما أن هذا التحليل لا يعدو تناول اختيار النصوص ونشرها، فلا يزال المجال مفتوحًا لتحليل الخطاب المترجم ذاته وبيان تأثره بالثقافة العربية أثناء عملية الترجمة.
ختامًا، يمكن القول إن الخطاب العلمي لا يمكن عزله عن محيطه الثقافي، فهو يؤثر فيه ويتأثر به. ولا يمكن استثناء الخطاب العلمي المترجم من ذلك، وإن كانت عوامل التأثير والتأثر مختلفة. ولكن ينبغي ملاحظة أن إحداث تأثير على مسار العلوم وتقدمها لا يتم إلا عبر المشاركة الفاعلة في إنتاج هذه العلوم. أما الاقتصار على ترجمة العلوم فلا يعني إلا تأثر الثقافة المجتمعية بهذه العلوم دون أن تكون لها القدرة على توجيهها.
المصادر:
Elshakry, M. (2013) Reading Darwin in Arabic, 1860-1950. Chicago, IL: The University of Chicago Press.
Hilgartner, S. (1990) ‘The dominant view of popularization: conceptual problems, political uses’, Social Studies of Science, 20(3), pp. 519–539.
Myers, G. (2003) ‘Discourse studies of scientific popularization: questioning the boundaries’, Discourse Studies, 5(2), pp. 265–279.
Shavit, U. (2015) ‘The evolution of Darwin to a “unique Christian species” in modernist-apologetic Arab-Islamic thought’, Islam and Christian–Muslim Relations, 26(1), pp. 17–32.
* المقال خاص بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه