اتضح بالتجربة أن إعادة توطين الحيوانات البرية من الحدائق إلى الطبيعة حلم بالغ الصعوبة دائمًا وفاشل في كثير من الأحيان، فبات الشك يطعن في الجذور.
اقتباسات من كتاب "زيارة متأخرة لجنينة الحيوانات: سردية ذاتية متشعبة من جنينة حيوانات الجيزة" للكاتب إسلام صلاح الدين
إصدار دار ديوان 2023.
الفكرة يا دولفينة أن ديكارت كان عنده برتزل برضو. كان عنده كلب اسمه monsieur grats. عارفة يعني إيه؟ ماخدتيش فرنساوي في المدرسة؟ monsieur يعني أستاذ آه، وgrats يعني خربشة، أستاذ خربشة اسم تافه وجميل بيقولوا كان بيحبه جدًّا وبياخده يمشيه بنفسه ودي قصة اللي بيدافعوا عنه بيستخدموها عشان يقولوا إن نظرته للحيوانات ما كانتش بهذه القسوة، بالذات اللي بينكروا عنه قوله إن الحيوانات ما بتحسش بالألم.
لكنه في نفس الوقت كان بيشتري حيوانات كتير، ويربطها ويشرَّحها حية، علشان يدرس دورتها الدموية، وله كتابات بتوصف تشريح الحيوان بأسلوب دموي زي ما معارضيه بيشوفوا. قالت لي: دي معضلة أخلاقية تانية. قلت لها: عندك حق.
***
في حديقة جنيف مثلًا، في مطلع القرن العشرين، رأى مديرها سيدات يضعن مناديلهن على أنوفهن تأففًا، فغضب ولم يستطِع كتمان غضبه، فصاح: «أنتِ في زيارة لحديقة الحيوان، وليس معملًا لتصنيع العطور»
***
أسرت لي الدولفينة أن أكمل قلت: عارفة إيه أزمة حدائق القرن التاسع عشر زي الجنينة دي يا دولفينة؟ انحباسها في المدينة هذا الانحباس حدث بسبب التوازي المترابط بين تنامي أعداد حدائق الحيوان من قبل بداية القرن التاسع عشر مع انتقال الناس من الريف إلى المدينة بسبب الثورة الصناعية. أدى هذا الانتقال إلى اكتظاظ المدن وتضخمها وتمددها وتورمها، وإلى أن تكون معظم حدائق حيوانات العالم اليوم محبوسة وسط فلوات المنشآت الخرسانية.
***
في اللغة الإنجليزية أيضًا، كلمة animal مأخوذة عن اللاتينية animale بمعنى الكائن الحي الذي يتنفس، وهي مشتقة من anima بمدلول النفَس والروح والحياة؛ لذلك سُمي الاعتقاد الديني القديم الذي حكيت لكِ عنه قبل الحضارات القديمة «الأنيميزم»؛ لأنه يترأى الروح في الكائنات. لم تُستخدم الكلمة نقيضًا للإنسان إلا مع القرن السابع عشر، في عصر ديكارت وفرساي والثنائية. استخدام كلمة «حيوان» زي ما بنستخدمها دلوقتي هو استخدام حداثي بامتياز إذن.
***
عدت إلى تيتي طالبًا الغوث. ليس لي الآن إلا أنتِ، فلا تبخلي، وأسعفيني بالنهاية وبوابة الخروج. ألفيت جسدها البرتقالي يتوهج ذهبًا، وكلمتني بلسان غير لساني: حاجتك إلى النهاية هي المشكلة. لم يهدأ فزعي وقلت: كلامكِ مبهم. فقالت: وحكاياتك هباء.
وقفت تيتي مدَّدَتْ لأول مرة جسدها الضخم ليبتلع كل الهواء ممتلكًا خيوط الأشجار والتربة والبذور وخيوط ما منحته الشمس من حمرة فردَتْ إليَّ ذراعها اليمنى عبر السور فتلاشى وبسبابتها المقطوعة، أخذت بيدي أن اتبعني ولا تسألني عن شيء حتى أحدِث لك منه ذكرًا. حملَنا السردُ، فكبرنا معًا فوق حاجز الجيزة المزدحم، سريانًا فوق النيل المتلاقي تدفقًا حتى أقاصي حدود القاهرة المتورمة، وأبعد بكثير. الآن بدا كل شيء مهوّمًا، الآن بدا كل شيء أوصل اتساقًا.
***
الآن، رجعنا نعرف أن كوكو كانت له لغته، كما لكل نوع حيوان في الحدائق، وكما لكل كائن وشيء في الكون رجعنا نعرف ما كانت مجتمعات ما قبل الحضارة تعرفه الباحثون العاملون في المجال الناشئ حديثًا يشتركون في ميولهم الفنية الواضحة، المشيرة إلى تأثرهم بجانب الوجدان، آلية الاتصال الوحيدة، الذي باتت البشرية تنحو إليه كما كانت في أصلها، ولكن ليس كما كان أثر الحضارة لا يُمحى، ولكن يسقى بماءٍ جديد كان الوجدان الأوّلي وجدانًا مترئيًا لأنه ظني، أما الوجدان الآتي فوجدان غير مترئٍّ لأنه متشربٌ بما يعرفه العلم وبما يجهله على السواء فالعلم لم يعد بدوره كما كان لأنه بات يعرف حدوده، ويفسح للوجدان طريقه لن يعود الوجدان والعلم ضدين متنافرين، ولا ثنائيتين متفرقتين، بل كلًّا واحدًا للمعرفة الإنسانية المعترفة بالقصور.
***
في زيارة من زيارات المصريين لأوروبا، في القرن التاسع عشر، تلقى الوفد دعوة إلى أداء دور الفقهاء أمام مؤتمر للمستشرقين، وما إن تحدث المصريون بلسان عربي حتى وجدوا أنفسهم يعاملون معاملة المعروضات كالوفود المصرية الأخرى؛ لأن الأوروبيين جهلوا العربية عدم الفهم الناتج عن الجهل بلغة الآخر لطالما كان سمةً مميزة للأسر الإكزوتيكي في أوروبا، وهو أصل من أصول الإمبريالية وكل سرديات الاستشراق، كما هو أصل من أصول عرض الحيوانات في الحدائق.
***
ادعت الحدائق أنها على قدر المسؤولية وما زالت تدعي، لكن ما إن اقتربت نهاية القرن العشرين حتى بدأ ادعاؤها ينكشف زيفه بالتدريج انكشف الغطاء أولًا عن عيني الإيثولوجيا، علم سلوك الحيوان الذي لاحظ أن طباع الحيوانات المحتجزة تختلف عن نظيرتها في البرية، فبدأت المرآة بالتلاشي من أمام عيني الاحتياج إلى الدرس. ثم اتضح بالتجربة أن إعادة توطين الحيوانات البرية من الحدائق إلى الطبيعة حلم بالغ الصعوبة دائمًا وفاشل في كثير من الأحيان، فبات الشك يطعن في الجذور.
***
كانت حدائق الأعراق البشرية يا دولفينة ترضي الاحتياجين البصريين نفسيهما اللذين ترضيهما حديقة الحيوان في العصر نفسه: الترفيه والدرس، بل وأُضيف على حديقة الأعراق البشرية الاحتياج البصري القديم: الوجاهة السياسية، هذه المرة ليست لوجه ملك بعينه، ولكن لوجه الحضارة الأوروبية. أما الترفيه فكان مرضيًا بشدة للزوار الأوروبيين الذين توافدوا على الحدائق الجديدة لمشاهدة البشر البدائيين يؤدون الأفعال «كما يفعلونها في بيئتهم» كمشاهدة قرد يأكل الموز وأسد يفترس اللحوم، شاهد المتفرج الأوروبي نوبيًّا يصطاد فريسته، وحكيمًا هنديًّا يؤدي طقوسه الدينية. كان كثير من هذه العروض معدًّا مسبقًا بسينوجرافيا محبوكة أما احتياج الدرس فكان نفعه مثل نفع حدائق الحيوانات التابعة للجمعيات العلمية، فأتاحت فحص البشر من أراضٍ قصية في حديقة قريبة بدلًا من تكبد عناء السفر إليهم بلغ إدخال المعروضين البشر في الحدائق من النجاح أن كانوا بديلًا مربحًا في أوقات صعوبة استجلاب الحيوانات، مثل فترة ثورة المهدي في السودان عام ١٨٨١ التي حرمت حديقة السويد من استجلاب الحيوانات من بعض المناطق في إفريقيا.
***
سأختصر لكِ الحكاية يا دولفينة ديكارت رأى في فلسفته أنه رغم التشابه في الأساس التشريحي بين الإنسان والحيوان، فإن الفرق الحاد يأتي من افتقاد الحيوان الروح التي ليست فقط هي العنصر الأبدي لدى الإنسان، بل هي أيضًا منبع اللغة والعقل والكلام والوعي وبافتقادها الروح، فإن الحيوانات ليس لها عقل ولا تستطيع التفكير وفي هذا نفيٌ حاد لفكرة أن للحيوانات لغات وإن لم نفهمها، وتعزيز لمركزية البشر لم يكُن ديكارت هو النافي الأول للغات غير الإنسانية؛ كان من قبله أرسطو ومن بعده كثيرون مثل كانط وهايدجر ولاكان وليفيناس الذي بحث في الحيوان عن وجه إنسان ولم يجده، لكن ديكارت كان مبلورًا لما قبله ومؤسسًا لما بعده.
***
استمرت الدولفينة في التقاط الصور على موبايلها، وطالبتني من جديد بالوقوف لتلتقط لي صورة أمام قفص الزرافة سوسن هذه المرة أردت التهرب فبحثت في خيط الحكايات الخفيفة في رأسي عمَّا أشغلها به، قلت: فاكرة لما قلتلك إن فيلم إسماعيل يس بيبدأ بمونولوج افتتاحي؟ المونولوج دا ظريف جدًّا، بيقول فيه: «البني حيوان والبني آدم. الاتنين حكايتهم فالقاني. مين منهم بالذمة يا عالم. حقه يتفرج ع التاني؟» أحببت المونولوج حين شاهدت الفيلم، لا أدري لمَ، لكني الآن حين أسمعه في أذني أجدني أقول: وفالقاني أنا كمان يا أستاذ إسماعيل صحيح أن كلمات المونولوج تتلو الكورَس بمقاطع تصر على أن الإنسان يقلد الحيوان، في الفستان النسائي المنفوش كذيل الطاووس أو البدلة المخططة كالحمار الوحشي، أو بدانة سيدة بيضاء يشبِّهها المونولوج بالدب القطبي، أو بدانة أب يحمل أولاده على ظهره كالفيل، لكن ما علينا من دا كله، فهو لا علاقة له بنا، ولا علاقة له بما يتبعه في الفيلم.
***
الفرق بين الإنسان والحيوان في الجنينة، أن الحيوان هو المحتجَز المستجلَب من بيئته الأصلية التي ولدت كيانه وفصيلته ونوعه، وهو المُقحَم داخل قضبان في بيئة مصطنعة تحاول محاكاة البيئة الأصلية بدرجات متفاوتة من الجودة والاهتمام هذا التغريب الذي يفصل بين الكائن وأصله، بين المبتدأ وخبره، بين الدال ومدلوله، يخلق الفجوة بين طرفي المعنى وينفيه، ويؤسس الشعور المبتسر الحاصل من رؤية الحيوانات البرية داخل الاحتجاز في قلب مدينة بشرية، ويؤسس لبُعد غرائبي في كل جنينة حيوانات.
***
التسمية البشرية إذن ليست في عالم الحيوان، وليست في عالم أي كائن إلا الإنسان وبالتالي، فإطلاق اسم على حيوان هو فرض مفهوم بشري على ما هو خارج نظام هذا المفهوم، ما يعني أنه فرض سيطرة بشرية على الكائن الآخر، ومن ثَم فهو فرض علاقة قوة من الإنسان على الحيوان، ضمن علاقة القوة التي فرضتها اللغة البشرية، لتحديده بالنظر ثم إشماله بالإدراك، ممهدةً الطريق للترئي فيه في النهاية.