خلينا نرجع لسؤال البداية: ليه التراث مهم؟ يمكن عشان لو ما سألناش السؤال ده دلوقتي في وسط تدهور مدننا التاريخية، ممكن ييجي اليوم اللي ما نلاقيش فيه هويتنا تاني.
تراث ليه؟
مقال: محمد فريد
أجندة التراث هي سلسلة مقالات بالعامية المصرية هدفها التعريف بمفاهيم التراث الثقافي وفلسفات التعامل معاه
مبانى قديمة كتير بتتهد الأيام دي. حد ممكن يقول لك الحي أبقى من الميت وإن المباني القديمة دي ما عادتش تأكِّل عيش في أيامنا. وطريقة التفكير دي مش بس بين الناس العاديين ولكن حتى مع المؤسسات والإدارات المعنية. طب إيه اللي يخلينا نتضايق لما مباني زي دي تتهد؟ ليه التراث مهم؟ السؤال ده غالبًا ما بيهمش المجتمع الحالي المشغول بأكل العيش والأوضاع الاقتصادية، ولكن ده سؤال رئيسي عشان نقدر نفهم ونحلل الوضع الحالي وإزاي نِحَسِّن الموقف القائم.
الكاتب الأمريكى تومسون مايز [1] بيحدد أسباب بتخلِّي المناطق التراثية ضرورية لكل المجتمعات الحية. أولهم هو الإحساس بالاستمرارية عن طريق ربط الماضى والحاضر، الاتصال بين الرابطين دول بيسمح لكل أفراد المجتمع بمساحة تفكير متزن وبالتالي مستقبل أفضل. غير كده كمان، المناطق التراثية بتعتبر "مستودعات للذاكرة" وبتساعدنا على فهم جذورنا والقصص اللي كونتنا. ومش بس كده، المناطق والمباني دي ليها جمال مميز بيتجاوز الزمن. روعتها المعمارية والفنية بتعزز من قيمتها كقطع فنية حية وبتشجع على تقدير التاريخ والحرفية والجمال. القيمة الإلهامية للأماكن دى ما بتقفش هنا، فبتعتبر كمصادر غنية للإلهام للفنانين والكتَّاب والمفكرين الإبداعيين، و بتعمل كموارد تعليمية لا تقدر بثمن بتدينا دروس فريدة في التاريخ والمعمار والثقافة وعلم الاجتماع وفروع عملية وعلمية تانية مش هنلاقي زيها فى التعليم الرسمى والكتب المدرسية التقليدية. كمان التراث بفرعيه المادي (مباني ومدن) والمعنوي (العادات والأساطير والفنون التقليدية) هو مصدر رئيسى للذاكرة الجمعية لأي مجتمع، وده بيزيد أهميته في المجتمعات المتنوعة (زي مجتمعات فيها أطياف إثنية ودينية مختلفة)، ومثال مهم لده هي البلاد اللي عدى عليها حروب أهلية زي لبنان وسوريا ورواندا. هنا التراث بيلعب دور الرابط اللي ممكن يجمع كل الدولة تاني ويمكن أحسن من الأول لو هما فعلًا مقدرينه زي ما حصل مع جنوب أفريقيا بعد عقود من الاحتلال وسياسات التفرقة العنصرية.
الاستدامة هي كمان جانب مهم للمناطق التراثية لما تكون ممارسات الحفظ على التراث بتحافظ على الموارد وبتحسن التنمية الحضرية، وبدل ما تعطلها بتخليها تلعب أدوار حيوية في بناء وتعزيز المجتمعات، زي انها تبقى أماكن تجمع للفعاليات المحلية والاحتفالات، اللي بتعزز الشعور بالانتماء بين السكان والارتباط بهوية المكان الفردية والجماعية لما الأماكن دي بتكون مرتبطة بشخصية أو حدث مهم. رغم إن الأهمية دي ممكن تكون محلية أو إقليمية أو حتى دولية، لكن بتوضح قيم وتقاليد مشتركة للإنسانية بشكل أو بآخر. وأخيرًا، بيوصف مايز الأماكن التراثية بأنها "قاطرة التنمية الحقيقية" معتمدًا على تقارير مختلفة لمنظمات دولية زى اليونسكو والأمم المتحدة. ولكن ده مش هيحصل من غير تفكير عميق ومشترك بين كل أطياف المجتمع عشان نوصل في الآخر لخريطة استفادة من الأماكن دي من غير تدميرها.
فكرة تانية مهمة هي القيمة الاستثائية العالمية (outstanding universal value) للتراث اللي هي حسب اليونسكو بتخلي بعض المواقع مهمة لكل البشرية مش بس للمدينة أو البلد اللي فيها. مباني زي الأهرامات، وسور الصين العظيم، وأوبرا سيدني يعتبروا رمز للإبداع البشري، ومثال لتطور الحضارات وتنوعها وتكاملها. وهنا لازم نقول إن المباني القديمة اللي بنشوفها حوالينا ممكن تكون ليها أهمية محلية (زي إن شخصية مصرية مهمة مثلًا عاشت أو اتولدت فيها)، أو أهمية إقليمية (زى المحمل المصرى اللي كان بيتنقل من القاهرة لمكة كل سنة) أو أهمية عالمية (زي الأهرامات و ابو سمبل). التلات مستويات دول كلهم مهمين وما نقدرش نفصل بينهم بأي طريقة. ضروري نفكر في التراث كوحدة واحدة مش بتتفصل ولا تتقطع حسب الأهمية التاريخية بس.
خلينا نرجع لسؤال البداية: ليه التراث مهم؟ يمكن عشان لو ما سألناش السؤال ده دلوقتي في وسط تدهور مدننا التاريخية، ممكن ييجي اليوم اللي ما نلاقيش فيه هويتنا تاني. ومثال مهم على ده هو خور دبي، منطقة الميناء لمدينة دبي كانت مهمة في التلاتينات من القرن العشرين وكانت مركز مهم لتصدير اللؤلؤ .لما ظهرت الثروة النفطية في الستينات والسبعينات كل المنطقة دى اتحولت لمركز تجارى ضخم وكل المبانى القديمة اتهدت وقتها الاهتمام كان اكبر بالتطور والتوسع العمرانى و التحديث عمومًا في كل الإمارات. فى التسعينات ابتدت إعادة النظر في المناطق اللي اتهدت دى وحاولوا يعيدوا بناءها على شكلها القديم ولكن اليونسكو رفض يعتبرها موقع تراث عالمى لأنها ما بقتش أصيلة كفاية. من الآخر الحاجة اللي بتتكسر ما بتتصلحش تانى.
ليه نصدَّع نفسنا بالكلام ده؟ لأننا يمكن عايشين في مجتمع فيه إشكاليات كتيرة، ممكن نحددها ونميزها ونحللها ونفكر في حلولها، بس إحنا ما بنفهمهاش أوي، أو بنحس بيها من غير ما نفهمها أو مابنحسش أصلًا أو حتى بنتجاهلها عن قصد. مايز بيورينا إن التراث ممكن يساعدنا نحدد إيه الإشكاليات ديه أساسًا، وبعدين نوصل لحلول وإجابات مركزة في صورة "نقط مبدئية" بتجمع ما بين الإشكالية وحلولها. مايز برضو بيفكرنا إن المناطق التراثية مش مجرد مباني قديمة حلوة وأماكن نزورها ونتصور فيها، لكنها محتاجة إعادة فهم من حيث الاستخدام والفهم واعادة التفسير.
[1] Mayes, T. M. (2018). Why old places matter: how historic places affect our identity and well-being. Rowman & Littlefield.
* المقال خاص بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه