كانت حركة فن البريد Mail Art تثمن هي الأخرى أفكار الاستقلال والعمل الذاتي وحرية التعبير التي لاءمت نقدهم لعالم الفن (بلا منسقين فنيين ولا نقاد والكل بإمكانه أن يصبح فنانًا من خلال تجميع أعمال الآخرين عبر البريد).
تصور لتاريخ النشر البديل
أليساندرو لودوفيكو
ترجمة أحمد منجي
الفصل الثاني من كتاب ما بعد النشر الرقمي: تحولات النشر منذ 1894 (2012)
أليساندرو لودوفيكو محرر وباحث وأستاذ جامعي إيطالي ولد في 1969.
الترجمة منشورة بإذن من المؤلف.
- الطباعة والحرية
"ينشر المرء ليجد رفاقه"، هكذا أعلنها "أندريه بريتون" أحد مؤسسي حركة السيريالية الفنية في بدايات القرن العشرين، وهذا البيان القصير لبريتون يجسد ببراعة روح الناشرين الطليعيين الأوائل، وكذلك حركة النشر المستقل في القرن العشرين بشكل عام، وهذا النوع من النشر لا يركز على النجاح التجاري ولا النقاء الجمالي لتجربة الطباعة أو حتى على أرشفة الأعمال (أتى ذلك فيما بعد)، لكن سعى هؤلاء الناشرون لتبني ونشر أفكارهم بين أشخاص يشبهونهم في الميول وطريقة التفكير، من خلال نموذج التواصل "الفيروسي Viral" الذي غالبًا ما اتبعته حركات النشر البديل.
لكن متى ظهرت مفاهيم النشر البديل Alternative Publishing للوجود؟ في الحقيقة ظهور أشكال من النشر البديل يسبق حتى "جوتنبرج Gutenberg"، حيث يرجع إلى وقت ما يعرف بـ"بيبليلا بابيورم Biblia pauperum"، وهي رسومات توضيحية على ورقة واحدة تعرض آيات من الكتاب المقدس، مرسومة بأسلوب يشبه ما يُمكن أن نطلق عليه اليوم "القصص المصورة Comics"، في محاولة لتبسيط النص الأصلي إلى شيء أكثر شعبية ليصل لجمهور أوسع ولم تول النخبة المتعلمة آنذاك تلك الظاهرة اهتمامًا كبيرًا.
لاحقًا، أصبحت آلة الطباعة بالحروف المتحركة Movable-type printing press التي طورها "جوتنبرج" هي "تكنولوجيا الوسائط الإعلامية" في عصرها، فقد سهلت عملية نشر أفكار حركة الإصلاح البروتستانتي، وذلك عبر إتاحة النص الأصلي للكتاب المقدس ليقتنيه أي فرد في نسخة مطبوعة، فأصبح ممكنًا للأفراد أن يحددوا معاني النصوص المقدسة من خلال قراءتهم الشخصية. هذه الممارسة أُطلق عليها "الخلاص الفردي" (ويمكن أن نقول بأن انتشار آلية الطباعة التي ابتكرها "جوتنبرج" كانت البداية لمفهوم النشر الذاتي)
وفي مثال آخر كانت "الرانترز The Ranters" وهي حركة راديكالية ذاع صيتها في النصف الثاني من القرن السابع عشر في بريطانيا ولهم أفكار ابتداعية منها في الدين (إذا كان يسوع داخلنا كلنا، فلماذا نحتاج الكنيسة؟) والسياسة (الملكية الجماعية للمنشآت ومصادرة أموال الأغنياء) والممارسة الجنسية (الدعوة لمفاهيم الحب الحر). مجموعة متطرفة كتلك وصل عددها لبضعة الآلاف في مدينة لندن وحدها واستطاعت بسهولة توزيع ونشر مطبوعاتها بشكل ذاتي. وعلى الرغم من منع السلطات تلك المطبوعات أو حرقها لكن نظرًا للعدد الكبير من النسخ ووسع النطاق الجغرافي للتوزيع فقد وصلت لجمهورها المرجو، حتى إن بعض تلك المطبوعات موجودة حتى يومنا هذا.
سبق كلا الثورتين السياسيتين الأهم في القرن الثامن عشر الثورة الفرنسية والأمريكية نشاط ثقافي كبير من النشر الذاتي والمستقل بما فيه القليل من الكتب المستقلة التي حققت أكثر المبيعات في وقتها. في حالة الثورة الفرنسية، فالعديد من المنشورات والكتيبات السياسية التي نشرت وقتها، دعمتها المطابع ماديًا بناءً على احتمالية نجاحها التجاري، وفي بداية الثورة الأمريكية في 1776 قام "توماس بين" Thomas Paine بنشر كتيبات سياسية ذات شهرة واسعة وقتها (حيث وُزع منها مئات الآلاف من النسخ) وكان عنوانها "الحس العام common sense" التي كان من شأنها تزويد الثورة بشرارتها الثقافية.
كان توماس بين كاتب غزير الإنتاج له العديد من المنشورات والكتيبات ويُمكن اعتباره أحد أوائل الناشرين المستقلين. وفي الفترة ذاتها، نشر الشاعر البريطاني "ويليام بليك William Blake" كل أعماله بشكل ذاتي ومستقل، ومن ضمن تلك الأعمال بعض مما نعتبره اليوم أشهر أعماله. وكان النشر المستقل في أواخر القرن الثامن عشر وصاعدًا الوسيط المستخدم لنشر كل الأفكار السياسية المعارضة التي ستلعب فيما بعد دورًا في إلهام الثورات في المكسيك وروسيا في أوائل القرن العشرين، وهي نفس الفترة الزمنية التي شهدت بزوغ العديد من الحركات الفنية والثقافية الجديدة والاستثنائية.
- استخدام الطباعة من قبل الحركات الفنية الطليعية في القرن العشرين
في بداية القرن العشرين، شكل ظهور شبكات الكهرباء عنصرًا في التحول الحضري للحياة اليومية وكذلك التحول ذاته في الوسائط الإعلامية. وكان للحركات الفنية الطليعية Avant Garde الناشئة وقتها تصورًا لعالم جديد يدفع هذا العالم ليست فقط الكهرباء لكن أيضًا الصناعة والوسائط الإعلامية الجديدة. واعتبرت تلك الأدوات وسيلة لتغيير الوضع الحالي وقتها بشكل كامل وجذري.
كانت حركة "المستقبلية Futurism" في إيطاليا أولى الحركات التي سعت لإحداث ذلك التغيير، وشكلت تحركاتهم رفضًا لما رأوه من العاطفية الصبيانية للرومانسيين، كما سعوا لفرض قطيعة جذرية مع الماضي. كانت أكثر بيانات المستقبليين قوة وتمردًا التي يعزى إليها صيتهم وتأثيرهم الثقافي توزع من خلال قنوات مختلفة، منها بالطبع الوسائط المطبوعة. فقد كان "فيليبو توماسو مارينتي Filippo Tommaso Marinetti" مؤسس الحركة مولع بالطباعة بشدة، وبخاصة طباعة المجلات. وفي العام 1905 كان هو رئيس تحرير "بويزيا Poesia" الجريدة الدولية لأعضاء حركة المستقبليين.
تلك التي طبعت بدعم من مالك مطبعة تعاطفًا مع أفكار المستقبليين، وبعد سنوات قليلة قام مارينيتي بإلغاء المشروع ليتعاون بعدها مع المحرر الفلورنسي "جيوفاني بابيني Giovanni Papini" (الذي سبق له العمل مع أعضاء آخرين في الحركة) أنتج تعاونهما سويًا مجلة جديدة باسم "لاتشيربا Lacerba" التي طبعت لأول مرة في 1914 وبرز فيها تصور جديد لتكوينات الخطوط الطباعية، ظهرت تكوينات شبيهة قبل ذلك في عمل مارينتي الشهير "كلمات حرة Parole in Liberta" الذي سعى من خلاله دفع الطباعة بالحروف باللونين الأبيض والأسود لأقصى ما يُمكن تحقيقه في حدود ذلك الوسيط. ساعد استخدام أحجام خطوط متضادة بشكل صارخ ووضع عناصر النص بشكل جرافيكي مبتكر في إنتاج نوع جديد من الخط الطباعي يطمح ليس فقط للتعبير عن تنوع الأشكال البصرية لكن يُمكنه من التعبير عن مشاعر قوية.
وبعدها بسنوات قليلة، سيضحي مارينيتي المساهم الرئيسي لأهم جريدة تقوم بالدعاية للمستقبلية كحركة ثقافية ( بما في ذلك تعاونهم السياسي المؤسف مع الفاشيين) جريدة "إيطاليا المستقبلية L’ltalia futurist" التي نُشرت بين عامي 1916 و1918 وتأتي أهميتها من المنظور الإعلامي لنشرها لعدد من الصور الفوتوغرافية الخاصة بعروض "المسرح الاصطناعي المستقبلي Il Teatro sintetico futurista". وكان مارينيتي أيضًا يطبع المنشورات السياسية، وقام بطبع المانيفستو الخاص به على منشور من وجهين، وكذلك الحال مع المنشور الذي كتبه كرد على هجوم لمجهول بالسكين على لوحة بوتشيوني Boccioni "الضحكة La Risata" خلال أحد المعارض. بالإضافة لذلك ففي العام 1910 قام مارينيتي بتسلق برج الساعة في مدينة فينيسيا ليسقط منشورات تنتقد بعنف التراث الروماني للمدينة وسياساتها الثقافية على المارة.
وفي تطورٍ موازٍ، فمنذ بدايتها أنتجت "حركة الدادائية Dadaism" العديد من الجرائد في مدن مختلفة (زيوريخ، برلين، كولون، أمستردام، باريس، نيويورك، بليسي) وجمعت مبادئ الدادائية وجماليتها ما بين تلك الجرائد لكن احتفظت كل منها مع ذلك بالخصوصيات المحلية لكل مدينة. ومن الممكن أن نعتبر الجرائد تلك كجد ما يعرف الآن بالـ"مطويات zines"، فكلاهما مطبوعات قصيرة الأجل (بحيث تنتهي المطبوعة من التداول بعد عدد وحيد) وكلاهما يتحدى الأعراف الجرافيكية والصحفية المعاصرة لهما ويسعيان بدلًا من ذلك للاستمتاع بالطباعة والتعبير عن أفكارهم من خلالها سواء عن طريق المحتوى النصي أو العنصر البصري؛ على سبيل المثال فمجلة الدادائية "دادا Dada" التي بدأت في 1917 أصبحت ذات قيمة كبيرة لندرة أعدادها، حيث يسعى هواة تجميع النوادر الحصول على أي عدد منها، نشرت وصممت على يد "تريستان تزارا Tristan Tzara" وطبعت باستخدام تقنية طباعة الحروف letterpress في سعي لتجاوز كل الحدود التكنولوجية وقتها، ليعكس ذلك سعي الدادئيون الراديكالي لتغيير المجتمع المعاصر.
سعى الدادائيون لتجريب كل الاحتمالات الممكن إنتاجها لماكينة الطباعة وذلك من خلال التلاعب بأحجام الخطوط ودمج الخطوط بشكل مبتكر لتحل محل فواصل المحتوى أو كعنصر جرافيكي فقط. وفيما بعد كان يتم تشكيل الكولاج collage والصور المركبة photomontage يدويًا ثم إعادة إنتاجها بشكل ميكانيكي، محطمين القواعد الصارمة لنظام الشبكة grid الموجود في الصفحة المنشورة ليفتحوا الباب لمزيد من التجريب الفني من خلال إعادة تخصيص re-appropriation وتغيير سياق المحتوى في الصفحات. طبعت أغلب جرائد ومجلات الدادائية بالتعاون مع مطابع متعاطفة مع الحركة، وذلك مكنهم من الالتفاف حول الرقابة. وروج للنشر الذاتي بالشكل الذي جعل تلك المطبوعات ذات سعر معقول للفنانين المهتمين باقتنائها.
استخدمت الحركة السريالية Surrealism الطباعة أيضًا، عبر نشرهم لعدد صغير من المجلات التي جسدت النقد الهزلي للمجتمع بقطاعاته المختلفة، هذا النوع من السخرية تميز به السرياليون. كانت أولى تلك المطبوعات "الثورة السريالية La Revolution Surrealiste" التي نشرت بين عامي 1924 و1929، وحرر عددها الأول "أندريه بريتون André "Breton" وصممت لتحاكي المجلة العلمية ذات الطابع الجاد "الطبيعة La Nature" وذلك لتخدع القارئ الذي يفاجأ بالمحتوى الصادم والفاضح للسرياليين. وفيما بعد حرر "جورج باطاي Georges Bataille" مجلة أخرى اسمها "ملفات Documents" بين عامي 1929 و1930 وتميزت بعمل فني أنتج خصيصًًا للغلاف وتجاورات صارخة للصور والنصوص، وكانت ذات صوت أكثر تطرفًا بالمقارنة بمجلة الثورة السريالية وبمطبوعة "مينوتور Minotaure" الفخمة التي كانت تُنشر بدعم من أحد تجار الفنون في الفترة من 1933 وحتى 1939. بشكل ما يمكن أن نرى أن كل تلك المطبوعات وإن ساهم محرروها في التساؤل حول الطباعة كوسيط، فهم أيضًا بينوا الكثير من إمكانات هذا الوسيط من خلال التأكيد على مساحته الجرافيكية والتحديات التي يطرحها نظرًا لحدوده التقنية. كما طرح المحررون العديد من الأسئلة حول تلك الفترة التاريخية وكذلك عكسوا جانبًا من تحول تاريخي كانوا هم جزء منه.
وفي نفس السياق كان "إل ليسيتزكي El Lissitzky" أحد الفنانين المعاصرين لتلك الفترة، الذي تميزت أعماله بتقنيات خلاقة ومبتكرة طبقها في مجال الجرافيك. خلق ليسيتزكي في سلسلة رسوماته "برونين Prounen" في بدايات العشرينيات من القرن العشرين أشكالًا تجريدية ثلاثية الأبعاد باستخدام الحبر والورق، وتبدو تلك الأشكال الآن كأنها الجد للرسم بواسطة الكمبيوتر والاحتمالات اللانهائية المتاحة عبر البرمجة. كسر ليسيتزكي من خلال تصوراته التجريدية حدود الصفحة المطبوعة وأعاد تشكيل مفهوم المساحة في الصفحة الورقية الواحدة. كما أعاد تعريف الكتاب مساحة مختلفة حيث قال: "على عكس الصروح الفنية والمعمارية القديمة فالكتاب يصل إلى الناس ولا يقف في مكانه كالكاتدرائية منتظرًا أن يزوره أحدهم.. الكتاب هو صرح المستقبل." كما أعتبر ليسيتزكي الكتاب غرضًا ديناميكيًا ووصفه بأنه "وحدة من البصريات والصوتيات" تحتاج إلى المشاركة النشطة من المشاهد.
وكانت له نبوءة مذهلة في ختام مقاله "طبوغرافيا الخط الطباعي Topography of Typography" المنشور في 1923 في مجلة "كورت شويترز Kurt Schwitters" "ميرز Merz".حيث تكهن ليسيتزكي في البيان بالخصائص الجديدة لما وصفه بـ"حيز الكتاب" التي ستكسر بلا شك التقاليد السابقة وأنهى المقال بتعريف مهم يمثل ذروة مقاله وكتبه بالحروف الكبيرة "المكتبة الكهربائية THE ELECTRO-LIBRARY" ليبشر برؤية مستقبلية للكتاب كغرض بصري وحسي أكثر منه مادي ويمزج هذه الرؤية بالتكنولوجيا الحديثة وقتها: الكهرباء.
- الميميوجراف يُمكن الناشرين المستقلين
حتى تلك الروح التقدمية لأوائل الطليعيين لم تكن قادرة على الابتعاد عن الطباعة التقليدية. عمل الطليعيون مع تكنولوجيا الطباعة التي كانت ذات أهمية كبيرة في ذلك الوقت، وأنتجوا مطبوعاتهم عبر أساليب مبتكرة. لكن العقود التالية كانت لتفتح المجال لظهور تكنولوجيات جديدة وآلات سيقدر لها تغيير كل المفاهيم المرتبطة بالطباعة.
كانت آلة "الميميوجراف mimeograph" بلا شك إحدى أهم الابتكارات في مجال الطباعة في وقتها. قام "توماس إديسون" بتسجيل براءة اختراع في 1876 لأداة "الطباعة التلقائية autographic printing" ومهد ذلك الطريق فيما بعد في 1887 لإنتاج وتسويق الميميوجراف. ولم تظهر الميميوجراف كأداة مهمة حتى الثلاثينات من القرن العشرين حيث استخدمتها المجموعات اليسارية الراديكالية (وصحب ذلك جدلًا حول استبدال عمال المطابع من أعضاء النقابات بماكينة رخيصة وخفيفة الوزن).
وبالتحديد فقد تبنى النقابيون الراديكاليون من أعضاء منظمة عمال العالم الصناعيين Industrial Workers of the World استخدام الميميوجراف بشكل ملحوظ واعتمدوها كأداة الطباعة الرسمية لهم. يُمكن القول بأن الناشطين السياسيين والمعارضين وجدوا ضالتهم بشكل أكبر من الفنانين في ماكينة الميميوجراف كأداة ووسيط لدعم حرية التعبير ونشر الأفكار، خاصة خلال السنوات السابقة للحرب العالمية الثانية وما تلاها (وكان تروتسكي Trotsky السياسي المنفي أشهر الأمثلة على ذلك حيث طبع جريدته السياسية نشرة المعارضة Byulleten Oppositzii باستخدام الميميوجراف). تبين مع الوقت أن الميميوجراف هو الطريقة المثلى للطباعة بسرية؛ فوزنه خفيف وحجمه صغير بشكل يسمح بنقله بسهولة من مكان لآخر، وبذلك تتجنب المصادرة والحجب وكان تقنيًا ملائمًا لطباعة عدد معقول من النسخ. أدى ظهور الميميوجراف في السنين التالية لصعود أولى موجات النشر البديل في سياقين مختلفين يُظهرا الانقسام الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في تلك الفترة. كان الميميوجراف يتم تسويقها في تلك الفترة للمكاتب، والمدارس والكنائس. كانت نقطة البيع الرئيسية وقتها هي كون تلك الأداة تتيح مجال لطباعة منشورات ذات أعداد محدودة بشكل رخيص وسريع وبجودة معقولة.
أثارت هذه الأداة أيضًا اهتمام كل من أراد البدء في مطبوعات تعتبر خارج منظومة الطباعة السائدة. ولهذا ففي الولايات المتحدة تم استخدام الميميوجراف من قبل جيل من المتحمسين لكتابات الخيال العلمي لإنتاج العديد من "مجلات الهواة fanzines" وشهدت فترة الخمسينيات ذروة في الإنتاج. وبالرغم من اعتماد الميميوجراف على لوحات الاستنسل الهشة سهلة الكسر والنتائج المتسمة بالفوضى والأيادي المتسخة بالحبر، فيمكن اعتبار الميميوجراف أول طابعة شخصية.
كانت مجلات الخيال العلمية بجماليتها البسيطة وتوزيعها المحدود إحدى سمات مشهد ثقافي مبعثر لكنه غزير الإنتاج، اهتم أفراده أكثر بالنقاش حول المطبوعات الحديثة وليس بالآثار الثقافية والاجتماعية المحتمل حدوثها كتطور للوسيط الذي استخدموه.
على الرغم من ذلك فقد بدأ مشهد ثقافي واسع بخصائص مميزة، على سبيل المثال كان لدى الجميع جاهزية لتبديل المجلات مع الآخرين دون القلق حول من يحصل على المجلة الأفضل (تجدر الإشارة أيضًا إلى أن المطبوعة الأولى لما يعرف بـ"جيل البيت Beat Generation " طُبعت باستخدام الميميوجراف).
وفي الفترة ذاتها وفي الطرف الآخر من العالم في الاتحاد السوفيتي بعد ستالين (وفي دول أخرى تتشابه في النظام الاقتصادي والاجتماعي) استخدم الوسيط لأغراض مختلفة تمامًا. نسخ المستندات والأوراق سرًا ومشاركة وتوزيع أدبيات معارضة وأي نصوص أخرى تقمعها الحكومة، أطلق على هذا النوع من الطباعة السرية "ساميزدات Samizdat" (وهي لفظة مختصرة تعني "نشر ذاتي" بالروسية). وقتها كان عادة ما يجري إنتاج نسخ قليلة في كل مرة، يتعين على من يمتلك نسخة أن ينتج نسخًا جديدة. وإذا لم تتوفر لصاحب النسخة ميموجراف كانت النسخ تنتج من خلال الكتابة باليد أو باستخدام الآلة الكاتبة. في دول الكتلة السوفيتية كانت بولندا وتشيكوسلوفاكيا الأكثر نشاطًا في إنتاج هذا النوع من المطبوعات، وبالأخص في بولندا فبجانب المئات من صغار الناشرين من الأفراد فقد ازدهر بالتوازي العديد من دور النشر السرية الكبيرة واعتمدت تلك الدور إما على تهريب المعدات من الخارج أو سرقتها من دور النشر الرسمية. كان لهذه المنشورات أثر كبير على الحكومات الشيوعية آنذاك، ما دفع الديكتاتور الروماني نيكولاي تشاوشيسكو بمنع الحيازة الشخصية للآلة الكاتبة غير المراقبة.
- فلكسز ومطبوعاتهم في الشبكة الأبدية
استندت حركة فنية أخرى في أغلب استراتيجيتها متعددة الاتجاهات على وسيط الطباعة ويقال بتأثيرها على الوسائط الإعلامية الحالية. أسس "جورج ماشيونس "George Maciunas" حركة فلكسز Fluxus في بداية الستينيات، بنشاطاتهم الفنية ذات الأهمية التاريخية كنوت الموسيقى، العروض الأدائية و"علب فلكسز Fluxus boxes" الممتلئة بمجموعات منظمة من اللعب، والأعمال الفنية المفاهيمية، والأغراض البلاستيكية ومطبوعات متفرقة أخرى. صممت هذه الأغراض بعناية وأنتجت بكميات محدودة وكانت عملية إنتاجها غير مكلفة. كانت المكونات المطبوعة (أوراق اللعب، الخرائط، المنشورات.. إلخ) جزءًا أساسيًا من الأعمال الفنية المفاهيمية التي عملوا عليها.
وسرعان ما جرى إصدار النشرة الإخبارية الخاصة بالحركة التي سهلت من التواصل وتبادل الأفكار بين شبكة فناني فلكسز الموزعة بين ثلاث قارات. جمع ماشيونيس أيضًا قصاصات عديدة لمقالات ذات صلة بالحركة وجمعها في ورقة واحدة ليجري عرضها كنوع من الإعلان عن الحركة في المساحات العامة.
لكن أبرز الأعمال الطباعية وأكثرها تماسكًا لماشيونس ورفاقة كانت بلا شك جريدة "الفلكسز Fluxus newspaper". كانت الإصدارات الأولى مختارات من فناني الحركة من دول متعددة، لكن الإصدار الرابع حمل معه بوستر لأوركسترا فلكسز السيمفوني Fluxus Symphony Orchestra، وتعين على المستخدمين تمزيق البوستر كطريقة للترويج للحدث. الإصدار الخامس كان يحمل قائمة بكتب الفلكسز الفنية وصمم العدد ليتم تمزيقه كذلك، وفي الإصدار السابع طلب ماشيونس من الفنانين أن يقترحوا فعاليات وهمية وطُبعت في صورة جريدة وبشكل منفصل على ورق مقوى.
كان يتم شحن المجلات في طرود لأعضاء فلكسز في بلدان متعددة، الذين كونوا بنية تحتية موازية إلى جانب متجر فلكس شوب Fluxshop الذي كان قد أسس في أمستردام قبلها وكان يقوم يوفر منتجات فلكسز.
إحدى الطرق الراديكالية لاستخدام الطباعة كانت بيع كتب أنتجت بتكاليف بسيطة بأسعار باهظة توازي أسعار الإصدارات المرموقة التي يتكالب عليها جامعو الفنون، كما أُنشئت العديد من دور النشر المرتبطة بالحركة وأشهرها كان "مطبعة سومثنج أيلس Something Else Press" لـ"ديك هيجنز Dick Higgins" الذي بدأت من خلاله حركة كتاب الفنان بإصدارات تراوحت طباعتها بين 1500 و5000 نسخة بيعت بأسعار الكتب التجارية وقتها.
تناول العديد من الفنانين موضوعات لها علاقة بالمال في أعمالهم الفنية، وبالتحديد الأوراق المالية التي تعتبر أقيم المطبوعات، وفي سياق النشر فمن الممكن أن نعتبر الأوراق المالية كمطبوعات أصلية محدودة الإصدار، وهو مفهوم تافه على أي حال، فالهدف من الطباعة هو احتمالية توليد نسخ متعددة ولانهائية. تظهر تيمة التقليد الفني للأوراق البنكية كتيمة متكررة في الفن، لكن فنان الفلكسز الياباني "جينبي أكاسيجوا Genpei Akasegawa" طبق الفكرة بشكل حرفي، وتلاعب بفكرة "المطبوعة الأصلية original print" التي سبق وذكرناها؛ فقد طبع ما يقرب من 1000 ورقة ين ياباني مُقلدة، واستخدم الورق المقلد في عروضه الفنية، وللأسف قُبض عليه في العام الذي تلا طباعة الورق المقلد بتهمة تزوير العملة، لكنه اتجه فيما بعض لإنتاج سلسلة من عملات ين بقيمة صفر كتعليق على عبثية المحاكمة التي تعرض لها.
وختامًا فإن فلكسز كانوا أول من قام بتطبيق عملي مؤثر لمفهوم الشبكة. كانت "الشبكة الأبدية The Eternal Network" فكرة راديكالية تمكن ممارسات بشأنها تحويل أساليب عمل العديد من الفنانين فهي "شبكة فنية عالمية مستمرة يدرك كل فنان فيها أنه جزء من حركة أوسع وهي نموذج من النشاط الإبداعي بلا أي حدود بين الفنان والجمهور، وكلاهما يعملان سويًا على خلق كيان مشترك".
بدأ كل من "روبرت فيلو Robert Filliou وجورج برخت George Brecht" فناني الفلكسز "الشبكة الأبدية Eternal Network" في أبريل 1968 من خلال تقديم الفكرة في بوستر أُرسل إلى العديد من المتعاونين. كانت تلك أول النماذج لشبكة دولية من الفنانين الذين يعملون سويًا عن طريق التواصل بريديًا، ومهدت الطريق لظهور ما يُعرف بـ"شبكة فن البريد Mail Art" بعد سنوات قليلة من نشأتها.
كان تأثير الفلكسز على حركة الطباعة البديلة سريعًا، فعلى سبيل المثال مجلة "آسبين Aspen" التجريبية التي صُدرت على يد "فيليس جونسون "Phyllis Johnson بين 1965 و1971 كانت قد صممت على يد العديد من الفنانين المختلفين وحفلت بمزج بين فكرتي اللعب والثقافة، بحيث أتى كل عدد من المجلة بصندوق مليء بالكتيبات والفونوغراف والتسجيلات والبوسترات وكروت البريد، حتى إن أحد الأعداد اشتمل على فيلم سوبر 8. وقالت محررة المجلة "فيليس جونسون" فيما بعد إنها أرادت أن تبتعد عن شكل وصيغة المجلة لأنها كانت مقيدة بشكل كبير.
- ازدهار الصحافة البديلة وامتزاج الأحبار في طباعة الأوفست وظهور شبكة أخرى
في منتصف ستينيات القرن العشرين، ظهرت العديد من الحركات الثورية وحركات الثقافة المضادة الجديدة، وأدى ذلك إلى تحول أبعد في الطباعة البديلة وأنتج عددًا لا يحصى من المجلات الجديدة بنهاية هذا العقد. لعل أول علامة على ذلك التحول كانت مجلة "جرينتش فيليج فويس Greenwich Village Voice" التي تأسست في 1955 داخل شقة صغيرة مكونة من غرفتي نوم في نيويورك، وقد وضعت نفسها منذ اللحظة الأولى في موقع معارضة شديدة للثقافة البرجوازية البراقة المتمثلة في مجلة النيويوركر New Yorker، ولما يقرب عقد من الزمن مثلت المجلة الصوت الأوحد لهذا النوع من النقد الثقافي الراديكالي الذي شكل سياسية المجلة التحريرية.
وفي سبتمبر 1966 وفي الطرف الآخر من الولايات المتحدة الأمريكية، نشر العدد الأول من مجلة "سان فرانسيسكو أوراكل San Francisco Oracle" لتعطي صوتًا شرعيًا ومتميزًا لحراك الثقافة المضادة الذي ظهر في منطقة هاويت آشبري Haight-Ashbury،كما لعبت المجلة دورًا في تغيير جذري في طريقة تصميم المطبوعات. في هذا الوقت كانت طباعة الأوفست offset printing الرخيصة قد تحسنت بالشكل الذي سمح بإعادة إنتاج جماليات الفن السايكاديلكي psychedelic التي أنتجت في الأصل باستخدام طباعة الشاشة الحريرية silkscreen printing. صمم المجلة آلان كوهين Allen Cohen وفريقه الذين أتعبوا عمال المطابع بمطالبتهم بألوان خاصة وجديدة، حتى إن العمال في النهاية تركوا ماكينات الطباعة لكوهين وفريقه ليعملوا على طباعتها بأنفسهم. فمزجوا الألوان بشكل عشوائي نتج عنه تنويعات من ألوان الطيف والألوان المختلفة التي نثرت ومزجت في كل الصفحات.
كانت جريدة الأوراكل التي وصلت في ذروة شهرتها إلى توزيع 150,000 نسخة تمثل تصورًا للمجلة كأكثر من مجرد حفنة أوراق تقدم محتوى أدبيًا أو معلومات سياسية، فمن خلال التخلص من الهيكل التيبوغرافي المعتاد وتغيير ترتيب النصوص تمكن مصممو الجريدة من التلاعب بتصميم العناوين، ولم تعد النصوص منظمة بشكل محدد، لكن تحركت لتمتزج مع الرسوم التوضيحية المنتشرة في صفحات عديدة حتى إن المجلة تحولت لعمل فني مميز، بل وأكثر من ذلك لتجربة حسية وبصرية، كما كسر استخدامهم للألوان القواعد السائدة في نقل المعلومات والنتيجة، بالاضافة إلى نجاحهم الكبير، كانت تعد تعبيرهم بشكل كبير عن روح وجماليات عصرهم. وما لبث أن حاكى تجربتهم أعداد لا تحصى من المجلات البديلة، وبهذا أثبت مرة أخرى وسط النشر البديل الناشئ قدرته على الاستمرار من خلال مساعدة القليل من المطابع المتعاطفة مع أفكاره، وبدأت المطابع التعاونية في الظهور بعد ذلك.
ظهرت أيضًا حالة التنقل والسفر المعروفة عن جيل الستينيات الأمريكي فيما ينشر من مجلات ومطبوعات، وأفضل مثال على ذلك "مشاهد أخرى Other Scenes" وهي مطبوعة نصف شهرية حررها "جون ويلكوك John Wilcock " في أي مدينة صادف تواجده فيها ووزعت أعداد المجلة حول العالم.
إحدى الأفكار المؤثرة التي ظهرت في تلك الفترة كانت تأسيس شبكة Network من المجلات، وطبق هذه الفكرة في شكلها التعاوني ما كان يعرف بنقابة الصحافة البديلة Underground Press Syndicate وهي شبكة من جرائد ومجلات الثقافة المضادة التي أنشئت في 1967 على يد عدد من أوائل الناشرين المستقلين. كان الاتفاق بين هؤلاء الناشرين يعطي أي عضو من الشبكة الحق في إعادة طبع محتوى من ناشر آخر مجانًا، وكان يحق لأي ناشر الانضمام لتلك الشبكة فيما بعد، شريطة الموافقة على نفس تلك الشروط. وأدى ذلك إلى انتشار واسع لقصص ورسوم ومقالات تعبر عن أفكار الثقافة المضادة وتوفير حجم هائل من المحتوى للمطبوعات الصغيرة الناشئة. فحينما بدأت تلك الشبكة كانت تضم 62 من حوالي 150 مطبوعة اعتبرت وقتها مطبوعات بديلة.
كانت إحدى المنظمات المميزة أيضًا في ذلك الوقت شبكة أخبار التحرير Liberation News Service، وهي شبكة إخبارية يسارية وفرت خدمة إخبارية بين 1967 و1981 وأخذت في النمو من ورقة واحدة مطبوعة بالميموغراف توزع على عشر جرائد إخبارية إلى أن أصبحت مطبوعة كاملة تحتوى على ما يقرب من عشرين صفحة من المقالات والرسومات، وكانت ترسل بالبريد لحوالي ثمانين مشتركًا. تمكنت الشبكة من إلقاء الضوء على حقائق لم تغطها وسائل الإعلام الرسمية، وذلك بفضل علاقاتها الممتدة بمجموعات راديكالية أخرى حول العالم.
وبحلول العام 1969 كان قد أصبح لدى كل مدينة كبيرة أو مدينة جامعية في أمريكا الشمالية جريدة بديلة واحدة على الأقل، وعلى الرغم من ذلك فأغلب تلك الجرائد اختفت بحلول العام 1973، وما لبث أن ظهرت مطبوعة جديدة تدعم تطوير الشبكات ونشر المعلومات تحت اسم "كاتالوج كل الأرض The Whole Earth Catalog" الذي نشره "ستيورت براند Stewart Brand" بشكل منتظم بين 1968 و1972 وبشكل متقطع بعد ذلك، احتضن محرر الكاتالوج فكرة تعزيز الوصول إلى الأدوات التي تُمكن كل فرد على حد وصفه من "إيجاد ما يلهمه وتشكيل البيئة من حوله ومشاركة مغامرته مع كل المهتمين".
وبينما ظلت المطبوعة بشكل حصري دليلًا يعرض كمية كبيرة ومتنوعة من الأدوات التي تشمل خرائط وحصص دراسية وأدوات طبخ متخصصة وحتى أجهزة السنثسيزر synthesisers الموسيقية وأجهزة كمبيوتر شخصية، كانت الاختيارات التحريرية لـ"كاتالوج كل الأرض" غاية في التنوع والتعقيد، وما نتج عنها كان مطبوعة يمكن وصفها بأنها هجين بين عمل أقرب لعمل منسقي المعارض الفنية وبين قائمة موارد يُمكن استخدامه، علاوة على ذلك فقد كان يتم تصنيف وتقييم ما يُكتب عنه في الكتالوج بالاستعانة بخبرات واقتراحات القراء لتضاف إلى آراء طاقم التحرير، ولهذا كان حجم التفاعل بين الناشر والقارئ كبير للغاية، ويمكن اعتبار هذه المطبوعة أداة يستخدمها مجموعة من الأفراد ليشكلوا معًا شبكة واحدة ويستخدموها سويًا للكشف عن ومشاركة معلومات مهمة تتيح للأشخاص تغيير علاقاتهم ببيئتهم الشخصية والاجتماعية، وتعتبر رسالة الوداع "ابقوا جوعى، ابقوا حمقى" الموجودة في آخر عدد للكتالوج في 1974 كنبوءة للأجيال اللاحقة من الناشرين.
- زيروجرافي نسخ العالم وإعادة تشكيل الثقافة
بعد الميميوجراف كانت التكنولوجيا التي أحدثت ثورة في عالم الطباعة البديلة هي الزيروجرافي xerography أو كما تعرف بالنسخ photocopying. أصدرت شركة زيروكس Xerox الإصدار الأول من ماكينة النسخ في الستينيات من القرن العشرين (بالرغم من اكتشاف مبادئ الطباعة بالتيار الكهربائي الساكن قبل ذلك في القرن الثامن عشر) ليتم لتستخدم في مكاتب الشركات وأماكن العمل. ولاحقًا في السبعينيات من القرن العشرين أصبحت تلك التكنولوجيا متوفرة لعموم الناس بشكل أوسع من خلال ماكينات تعمل عبر تزويدها بعملات معدنية ومحلات متخصصة في تصوير وطباعة الأوراق. أصبح بإمكان الجميع أن ينتجوا نسخة بالأبيض والأسود من أي ورقة أصلية يمتلكونها بشكل رخيص وسريع مما فتح الباب أمام احتمالات لا تنتهي في عالم الطباعة محدودة الكمية.
ظهرت ماكينات النسخ في الوقت المناسب قبل ظهور حركة البانك Punk الثقافية بقليل التي اعتمدت على هذا الوسيط الجديد واحتضنته وخاصة لميزاته الجمالية وخصائصه كطريقة للتواصل. بظهور ماكينات النسخ فقد أصبح نشر مطوية أو طباعة منشور أسهل من أي وقت مضى، وشكلت مطويات البانك جزءًا أساسيًا في هذا المشهد الثقافي عبر تطويع جماليات الأبيض والأسود في وسيط النسخ وبروح تتلاعب بعملية التصوير نفسها (على سبيل المثال: الظلال والتباينات في الألوان التي تظهر مع عملية إعادة تصوير نسخة أكثر من مرة، والقدرة على "التقاط صورة" باستخدام ماكينة التصوير والتأثيرات الغريبة التي يُمكن الحصول عليها من خلال تحريك الورقة الأصلية خلال عملية النسخ) وكل ذلك كان مصدر إلهام لما يعرف بحركة فن النسخ Copy Art Movement فيما بعد.
ومع الوقت أصبحت تقنية النسخ عنصرًا أساسيًا في ثقافة البانك لأسباب مختلفة؛ منها توفير طريقة للتعبير عن الذات بحرية، وتشجيع ثقافة الاعتماد على الذات، وكذلك كانت تلك التقنية متاحة للجميع ورخيصة التكلفة كذلك، بالإضافة إلى أن الحرية في جمع وترتيب الصور أدت إلى إنتاج الكولاج الذي أعطى مساحة لصانعي المطويات من ثقافة البانك بإعادة استخدام وسائط مصورة بأشكال حرة ومختلفة. وبعض تلك التقنيات ما زالت تستخدم إلى يومنا هذا. بعض تلك المطبوعات كـ"بووك يور أون فاكينج لايف Book your own fuckin life" احتوت على قوائم واسعة من الأشخاص وجهات الاتصال الضرورية للبقاء والاستمرارية لفرقة البانك المترحلة مُشكلة بذلك استكشاف لبناء الشبكات التي تشكل مشهدًا ثقافيًا.
وفي نفس الوقت مع صعود حركة النشر المرتبط بمشهد البانك الثقافي كانت هناك حركة فنية أخرى قد بدأت في إنتاج أعمال مطبوعة باستخدام ماكينة التصوير لكن من منظور آخر. كانت حركة فن البريد Mail Art تثمن هي الأخرى أفكار الاستقلال والعمل الذاتي وحرية التعبير التي لاءمت نقدهم لعالم الفن (بلا منسقين فنيين ولا نقاد والكل بإمكانه أن يصبح فنانًا من خلال تجميع أعمال الآخرين عبر البريد). اعتمد فنانو حركة فن البريد على بنية تحتية مهمة، لكن غير مستغلة وهي نظام البريد العالمي. كما أشار جون هيلد الابن John Held Jr "النظام البريدي ونظرًا لحمايته من قبل اتفاقيات دولية فقد أصبح واحدًا من وسائل الاتصالات الوحيدة بين الفنانين المعزولين عن بعضهم البعض من قبل الأنظمة السياسية المختلفة".
كانت أولى المطبوعات التي تنتمي لتلك الحركة هي المطوية الشهيرة التي تصدر ضمن ما يعرف بمدرسة التواصل البريدي في نيويورك New York Correspondence School Weekly Breeder التي ظهرت في أواخر الستينيات من القرن العشرين، ووزعت على العديد من المشاركين في حركة فن البريد ليؤكدوا مرة أخرى الأهمية الكبيرة لمفهوم "الشبكة". يفترض بمطويات فن البريد أن يجري تبادلها بين المشاركين تشجيعًا لفكرة قيام كل شخص بتحرير مطبوعاته بنفسه. واحدة من التجارب التي قامت بها إحدى المطويات التي تدعى "كباريه فولتير Cabaret Voltaire" حيث أرسل المحرر ستيف هيتشكوك Steve Hitchcock صورة لـ"اختبار رسم" عبارة عن مجموعة من الخطوط العشوائية، وحفز المشاركين على إكمال الرسمة، وكان العدد الثاني من المطوية يحتوي على مجموعة من الرسومات التي أرسلت وذيلت بالعناوين البريدية لكل فنان.
من ضمن الأنواع الفرعية في مطويات فن البريد كان هناك ما يعرف بـ"التجميعات assemblies" حيث يدعو الناشر مساهمين، ثم يرسل كل شخص فيهم نسخًا متعددة من أعماله لتغطية عدد النسخ في هذا الإصدار. كل نسخة من المطوية يتم تُجمَع وتُجَلَّد بشكل فريد وشخصي.
على سبيل المثال، مطوية "إكس راي X Ray" جمع محرروها 226 نسخة من كل إصدار، بينما جمع محررو مطوية "برين سيل brain cell" العديد من الملصقات والطوابع التي تم التبرع بها وطبعت بأداة منزلية للطباعة الملونة اسمها "برنت جوكو Print Gocco".
وبين الـ 1970 والـ 1982 نشر "ريتشارد كوستي لانتز Richard Kostelanetz" عبر دار النشر الخاصة به العديد من "التجميعات" سنويًا، وعرضت تلك المطويات صنوفًا من الفن والأدب لم تكن لتنشر في أي مجلة أخرى. بدلًا من أن يختاروا موادًا معينة للنشر طلب رتشارد من المساهمين إرسال ألف نسخة مما يريدون نشره وجمع هو بعدها كل المحتويات البصرية والكتابات في شكل كتب.
نشرت مجلة "آرت بوستال! Arte Postale!" الرائدة في فن البريد التي يترأس تحريرها "فيتوري باروني Vittore Baroni" أعدادًا من المجلة بموضوعات محددة على سبيل المثال "إصدار اللعب" الذي احتوى على ألعاب ابتكرها مؤلف مختلف في كل صفحة من المجلة، ومن أجل أن تلعب كان عليك أن تقطع الصفحة وتثنيها أو تتلاعب بها حسب القواعد التي يمليها المؤلف، وبشكل ما للعب كان يجب أن تفكك المجلة أو تدمرها.
الوعي الذاتي لهذه الشبكة الواسعة (التي سبقت الإنترنت) دعمه عدد قليل من المطبوعات التي تخصصت حصرًا في نشر إعلانات عن المشروعات الجديدة، وكانت "الجلوبال ميل Global Mail" أكثر تلك المطبوعات أهمية. كما أشارت ناشرة "الجلوبال ميل" أشيلي باركر أونز Ashley Parker Owens "ليس هناك من مكان واحد لفن البريد أو للتعاون المتشابك.. هناك ما هو أهم من المشروعات والمعارض.. المعنى الحقيقي هو التبادل بين الأفراد.. السر هو في تلك الطاقة الإيجابية".
طريقة أخرى لاستخدام ماكينة النسخ كانت ما اتبعه فصيل منبثق عن حركة الماركسية الاستقلالية في إيطاليا أطلق عليه حركة "الاستقلالية الإبداعية Creative Autonomism" التي انتعشت في إيطاليا خلال سنة 1977 نظرًا لحدوث موجة كبيرة من التظاهرات في الجامعات على مستوى إيطاليا ككل، ونتج عن تلك التظاهرات المئات من المطويات السياسية المتأثرة بالدادائية والسريالية. وقد حفلت تلك المطويات بمحتوى مُعارض وصل لحدود خرق القانون في بعض الأوقات. واحدة من أكثر الظواهر إثارة للاهتمام في تلك الفترة هي نوع من المطبوعات المزيفة التي يحاكي مبتكروها التصميم الجرافيكي والخطوط الطباعية لجرائد شهيرة، أشهر المطبوعات من هذا النوع كانت سلسلة من الحملات الصحفية التي نشرت حوادث مختلقة ساخرة تحتفظ بقدر من الواقعية وجرى تنسيقها لتشبه تصميم بعض الجرائد الكبرى وعرضها بالقرب من أكشاك الجرائد وكان محتواها يترك في الجمهور مزيجًا من الغضب والصدمة وعدم التصديق.
وفي بولندا أيضًا ظهرت جريدة مزيفة تدعى "تربيونا لودو Trybuna Ludu" نشرت ووزعت خلال زيارة البابا يوحنا بولس الثاني لبلده بولندا في 1979 وجاء في صفحتها الأولى عنوان ساخر "استقالة الحكومة وتعيين البابا ملكًا للبلاد". وفي فرنسا تم توزيع نسخة مزيفة من مجلة "لوموند ديبلوماتيك Le Monde Diplomatique" بشكل سري على عدد من المشتركين، واحتوت المجلة على تعليقات تسخر من مقتل أعضاء جماعة الجيش الأحمر في سجن شتامهايم في ألمانيا. يمكن القول إن مبتكرو تلك الصحف المزيفة طبقوا مقولة كارل ماركس "إن المهمة الأولى للصحافة هي تقويض أسس النظام السياسي الحالي".
كانت النسخ بالإضافة لكل ما سبق وسيطًا رخيصًا وسهلًا لطباعة حملات النشطاء السياسيين، وبالأخص محاولات النشطاء التوسع في مناطق حضرية كان يتم وقتها في نهاية السبعينيات إعادة تشكيلها وتخطيطها.
كانت مطوية "بامبينا بريكوكي BambinaPrecoce" التي حررها "توماسو توزي Tommaso Tozzi " في الفترة بين 1984 و1986 التي كانت تلصق على حوائط مدينة فلورنسا (سواء في وسط المدينة أو في الأحراش) وكانت تلك محاولة في استكشاف أشكال مبتكرة لتوزيع المطبوعات. يُمكن أيضًا اعتبار المجلة كنوع من فن الأداء المطبوع، فأحد الأعداد كان مصمم بأسماء شوارع مزيفة في حجم ورقة A3 بينما صمم عدد آخر كدليل سياحي بخريطة توضح الجرافيتي الموجود في المدينة.
ختامًا، تجدر الإشارة إلى نوعين من التكنولوجيا تم استخدامهم لطباعة المطويات في تلك الفترة لكن بشكل هامشي. طلاب العمارة استخدموا تقنية تدعى "هيلوجرافي heliography" التي أنتج بها مطويات في صورة ورقة طويلة تشابهت مع المطويات التي تستخدم آلة الفاكس fax zines وفي الحالتين كان التوزيع محدودًا، وكان يتم نقل النسخ بشكل مباشر من خلال ماكينات الفاكس من خلال عملية نقل هرمية بحيث يتم نقل المطوية لتصل إلى عدد محدد من القراء.
- الثورة الرقمية وصعود وهبوط المطويات
لكن التطور الأهم، الذي أحدث ثورة في عالم الطباعة كان انفجار التكنولوجيات الرقمية، فمع القسم الأخير من ثمانينيات القرن العشرين أصبح باستطاعة أي شخص شراء برنامج كمبيوتر للنشر المكتبي Desktop Publishing (DTP) software في مجالات عدة، ومع امتلاك العديد من الأفراد العاديين للكمبيوتر الشخصي وآلة الطباعة فأصبحت وسائل الإنتاج متاحة للجميع في المنزل.
مكن هذا التغير التكنولوجي عددًا من الهواة (الذين أطلق عليهم جيل غرف النوم bedroom generation) من إتمام مطبوعاتهم في بيئة شخصية داخل منازلهم. في نفس الفترة ظهرت وسائط تخزين رقمية جديدة كالقرص المرن Floppy Desk الذي كان يخزن قدرًا معقولًا من البيانات في وقتها بالإضافة إلى سعره الزهيد.
واحدة من أولى المطبوعات التي استخدمت وسائط التخزين كالقرص المرن كانت (بيتوين سي آند ديه Between C and D) وهي مجلة أدبية ربع سنوية كانت تصدر في نيويورك بين 1983 و1990 وقام بتحريرها كل من "جويل روز Joel Rose وكاثرين تيكسير Catherine Texier".
حملت المجلة شعار (الجنس، والمخدرات، والخطر، والعنف، والكمبيوتر) وطبعت على ورق كمبيوتر computer paper وبيعت في حافظات من البلاستيك وكانت الإصدارات المحدود للمجلة تقتنى من قبل المكتبات والمعارض الفنية في نيويورك، بينما يُمكن شراء الأعداد القديمة على أقراص مرنة.
وبالتدريج بدأ عدد من محرري ومؤلفي المطويات في احتضان الوسيط الجديد -القرص المرن- وذلك عن طريق تزويده مع مطبوعاتهم ليحمل محتوى إضافيًا. إحدى التطبيقات المفاهيمية لتلك الفكرة ظهرت في المطوية الإيطالية المتخصصة في الأدب وفن البريد "إدينويودو Adenoidi" التي زودت عددًا لها بقرص مرن يحتوي على عدد من الصور الملونة التي ظهرت مطبوعة بالأبيض والأسود على صفحات المطوية وتم إضافة تعليق نصي وسهم يوضح الألوان الناقصة ومكانها في الصورة، وبمرور الوقت ظهر نوع جديد من النشر فجاءت مطبوعات صممت بالأساس كمجلة تفاعلية قامت على التجريب بين أشكال مختلفة من الوسائط من ضمنها الوسيط الحديث وقتها القرص المضغوط CD-ROM.
إحدى التوجهات في ذلك الوقت كانت إعادة إنتاج التقاليد والمعايير الخاصة بالطباعة وإضافة محتوى من الرسوم المتحركة والصوتيات. كانت مجلة "بلندر Blender" و"لانش Launch" المنافسة لها أولى المجلات التي نشرت مجلة باستخدام وسيط القرص المضغوط لنشر محتوى ذي صلة بموسيقى البوب Pop music بالإضافة إلى الإعلانات.
أُنتجت كذلك العديد من المجلات التفاعلية المعتمدة على القرص المدمج التي ركزت تحديدًا على الأشكال التجريبية لتصميم الواجهة البصرية لها ومنها مجلة "بلام Blam!" التي كانت مجلة رقمية بحتة وليست مطبوعة عادية، لكن ومع نمو مهنة التصميم الجرافيكي الرقمي ظهرت مجلات تمزج بين الوسائط الرقمية والورقية كمجلة "جاس بوك Gas Book" التي تجمع بين وسائط مختلفة كقرص مدمج وكتاب وقرص مدمج صوتي وملصقات وتي شيرت.
شهدت بداية تسعينيات القرن العشرين زيادة غير معهودة في إنتاج المطويات، ربما كنتيجة لظهور الوسائط الرقمية. توجت تلك الموجة بظهور مطوية "فاكت شيت فايف Factsheet Five" ذات الأهمية التاريخية، التي أطلق عليها "أم كل المطويات"، فلمدة ما يقرب من عشرين عامًا لعبت دورًا مهمًا في ربط عالم المطويات ببعضه البعض. أسس "مايك جيندرولي Mike Gunderloy" مطوية "فاكت شيت فايف" في 1982 وفي 1987 أدار منتدى إلكتروني مرتبط بالمطوية ويُعتبر الأول من نوعه في ذلك المشهد الثقافي. ونشر جيندرولي أكثر من ألف مراجعة لمطويات أخرى في كل إصدار، وبعد ثلاث سنوات وفي 1990 توقف جيندرولي عن تحرير المطوية نظرًا لعدم قدرته على التعامل مع العبء الكبير المطلوب لإتمام ونشر كل عدد، ولذلك تدخل سيث فريدمان Seth Friedman العضو النشط في مشهد صانعي المطويات وقتها ليحل محل جيندرولي كمحرر للفاكت شيت فايف، ونجح في إدارته للمطوية وساهم في دعم صانعي المطويات حول العالم.
في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، وصل عدد المطويات إلى ما يقرب من خمسين ألف مطوية. غطت شتى أنواع الموضوعات الاجتماعية والشخصية. وكان مشهد المطويات نشطًا للغاية ومتطورًا يحتضن أشكالًا مختلفة من الاجتماعات بنسب حضور جيدة ويدعمه موزعون محترفون، وتُخصص له أقسام في المكتبات العامة. أشار جيندرولي لهذا في مقدمة كتابه "عالم المطويات World of Zines" حيث قال "إن عالم المطويات في الحقيقة يعتبر شبكة تضم مجموعة من الشبكات المختلفة، لكن الأزمة الاقتصادية في منتصف التسعينيات أثرت بشدة على المطويات الورقية وبالأخص مع زيادة الرسوم البريدية وإفلاس عدد من أهم موزعي المطويات (أبرزهم ديزيرت موون Desert Moon) مما أجبر محرري المطويات على إتباع سياسات نشر أكثر حذرًا".
علاوة على ذلك مع نهاية التسعينيات فقد تغير مجال الإعلام بشكل كامل مرة أخرى، ففي عام 1995 كانت شبكة الويب على وشك البدء، ووقتها كتب "جون ماركوف" في نيويورك تايمز إن كل شخص يمتلك جهاز مودم بإمكانه أن ينشر آراءه حول العالم. في بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين توقفت معظم المطويات عن النشر على الورق، واختاروا بدلًا من ذلك اعتماد النشر على شبكة الإنترنت، وهذه الظاهرة كانت على وشك أن تحل محلها ظاهرة جديدة اعتبرت محل جدل في وقتها حيث بدأت الملايين من المدونات في الظهور لتشكل وسيطًا جديدًا.
وحده أدب الخيال العلمي بمقدوره أن يقدم لنا تصورًا لما قد يحمله مستقبل الطباعة، مثال على ذلك التصور الذي قدمه "ويليام جيبسون William Gibson" في قصته "أجريبا Agrippa" الصادرة في 1992 التي تعكس العلاقة بين الورقي والرقمي في صورة قصيدة إلكترونية بيعت كقرص مرن باهظ الثمن يأتي في تغليف خاص به. وكان النص مبرمج بحيث يتلاشى تلقائيًا، مع التنقل من صفحة لأخرى وكذلك طُبعت النسخة الورقية للكتاب على ورق معالج كيميائيًا بحيث تختفي الصور والكلمات مع تعرضها للضوء. يُمكننا أن نستوعب هذا العمل كتسليط ضوء على إيماننا بالوسيط الورقي وأيضًا تمثيل لعدم استقرار الوسائط الإلكترونية، وبين هذا وذاك فالعمل يدعو للتساؤل عن مستقبل النشر في كل من الورق والوسائط الرقمية، ويتنبأ بمستقبل من التشابك المستمر بين الوسيطين.
- وسائط متشابكة، نظرة إلى المستقبل القريب
"المطويات هي وسيط تحرري بكل معنى الكلمة"، أعلن "ستيفن شاورتز Stephen Schwartz" في كتابه "تاريخ المطويات History of Zines". هذا التعريف يُمكن بسطه ليشمل أيًا من المطبوعات البديلة المتميزة والرائدة. لكن السؤال هو هل ما زال ذلك صحيحًا في عصرنا الرقمي الحالي؟ ما الذي يعنيه خلق "مطبوعة بديلة" في هذه البيئة الجديدة؟ المتطلبات الأساسية تبقى كما هي: تحدي الوسيط السائد، وصياغة جماليات جديدة أصيلة مبنية على ميزات الوسيط الجديد، وإنتاج محتوى ذي صلة بالوضع المعاصر. مع الوقت أصبح المفهوم الرائد "الجمع بين الوسائط intermedia" الذي بدأه فنان حركة الفلكسز "ديك هيجنز" في منتصف الستينيات من القرن العشرين قد أصبح الآن هو القاعدة، وبينما أصبح الناشرون المستقلون في القرن الواحد والعشرين متشككين بشكل أكبر من أي وقت مضى حول استمرارية نشاطهم في المستقبل، لكنهم بالتأكيد يطوعون وسائط متعددة كطباعة الأوفست، أو النسخ، أو الطبع عند الطلب، أو المدونات أو أي مزيج من الوسائط التي من شأنها مساعدتهم في مشروعهم الحالي.
وعلى الجانب الآخر وبينما تظل ثقتنا في الوسيط الطباعي ثابتة كما هي، لكن رؤيتنا لهذا الوسيط تغيرت بحيث أصبحنا نراه وسيطًا بطيئًا في إيصال المحتوى بالمقارنة بالوسائط الرقمية الحية التي تنقل لنا التحديثات لحظة بلحظة، وهذا ما يظهر بشكل أكبر في قطاع الأخبار، الذي يرى البعض أنه قد تم إعادة هيكلته بشكل كامل، وإحدى العلامات على هذا التطور الذي يحدث في قطاع الأخبار هو المحاولة البائسة لبعض المنصات الرقمية في التخمين المستمر لما يحدث أو ما قد يحدث قريبًا، وذلك باستخدام لغة مائعة مصممة لخداع القارئ من أجل أن يثق في كل التحديثات المذكورة في الأخبار المنشورة من قبل.
تحدى العمل الفني "نيوست ويك Newstweek" (وهو تلاعب باسم مجلة نيوزويك Newsweek الشهيرة) فكرة إيماننا وثقتنا بمحتوى الويب سهل التعديل كالأخبار. صمم الفنانان "جوليان أوليفر Julian Oliver ودانيا فاسيليف Danja Vasiliev" أداة إلكترونية صغيرة تشبه شاحن الكمبيوتر المحمول، التي حين توصل بشبكة الإنترنت تتصل بشبكات الانترنت العامة (في كافيه على سبيل المثال) فيعطي للفنانين القدرة على تعديل المحتوى المعروض على متصفحات الأشخاص الموجودين في الكافيه بشكل مباشر، وذلك يشمل قصصًا إخبارية موجودة على جرائد إلكترونية شهيرة فيجد الشخص نفسه بشكل غير متوقع أمام عناوين غريبة كاللبن والهرمونات لماذا ابنك يمتلك ثديًا. إحدى الصحافيات رأت التأثير المباشر لذلك على مقال لها، وهاتفت الجريدة قبل أن تكتشف أنها الوحيدة التي تقرأ هذه النسخة المعدلة من محتوى مقالها.
إحدى المشروعات المهمة في الألفية الجديدة هي بالتأكيد الحملة العظيمة للمجموعة المتخصصة في الناشطية الفنية "ذا ياس مين The Yes Men "بالتعاون مع "ستيف لامبرت Steve Lambert" والوكالة المضادة للإعلانات The Anti-Advertising Agency، التي جرى دعمها ماديًا من قبل مجهولين حيث طبعوا عددًا من النسخ المزيفة لجريدة "نيويورك تايمز New York Times " في 12 نوفمبر 2008 بتاريخ يخص المستقبل القريب 4 يوليو 2009 واحتوت على أخبار إيجابية فقط، ويأتي هذا التاريخ بعد وقت قصير من انتخاب باراك أوباما كرئيس للولايات المتحدة.
حاكت الجريدة المزيفة شكل وأسلوب النسخة الأصلية من النيويورك تايمز بشكل كبير، حيث قلدت بدقة كل التفاصيل الموجودة بما فيها الإعلانات المعتادة، ولذلك نجحت النسخة المقلدة في خداع عدد من الجمهور الذي حصل على العدد الموزع بواسطة مجموعة من المتطوعين في الشوارع.
ويأتي اختيار وسيط الجريدة الورقية الذي يعتبر واحدًا من أكثر الوسائط الاعلامية المهددة، ليعكس من ناحية ثقتنا كأفراد في الوسائط المطبوعة كالجرائد، ومن ناحية أخرى فإنه من الواضح مرور تلك الوسائط المطبوعة بمرحلة تغير ملحوظ مما يؤدي لتحول كبير في علاقة الجمهور معها. لبت الجرائد اليومية في السابق الحاجة لمعرفة كل ما يحدث أولًا بأول، لكن الآن تلك الحاجة تلبيها شبكة الإنترنت بمواقعها العديدة المحدثة بشكل دائم، وتبعًا لذلك فالجريدة كوسيط متغير بشكل دائم يحاول محرروها بشكل أكبر سد احتياجنا لمعرفة ما يحدث في اللحظة الراهنة من خلال إعلان بالحقيقة بدلًا من سردها، بينما تستمر الجرائد نفسها بتمرير الإحساس بأننا جزء من مجتمع أكبر من القراء.
تلقى هذه المحاولة التاريخية لنشر نسخة مزيفة من النيويورك تايمز الضوء على مستقبل النشر، فنرى هنا محتوى يستشرف مستقبلًا لم يأتِ بعد يُطبع ويُقَدَّم كواقع ليبين لنا كيف أن الأخبار "الواقعية" تتحول مع الوقت لما يشبه الواقع الافتراضي. عالم واسع مزدحم ومتغير بشكل دائم ومتسارع ويُمكن التحرك داخله إلى الأبد بين روابط تؤدي إلى اتجاهات وأبعاد مختلفة.
لكن من أجل أن نفهم تأثير هذه المطبوعة المزيفة كعمل مفاهيمي وحملة ناشطية يجب أن نستوعب في البداية كيف يتشكل إدراكنا الحالي للأخبار من هذه المساحة الافتراضية للأخبار التي ننتقل فيها كل يوم. تأتي ثقتنا في هذا العمل من كونه مطبوعًا، ومن الطريقة التي طبع بها ولذلك فإن هذا العدد المزيف هو توضيح مثالي لعبارة الفيلسوف "فرانكو بيراردي Franco Berardi "معلومات كاذبة ينتج عنها أحداث حقيقية".
يبقى أن نقول إنه من الواضح تمامًا تحول الطباعة كوسيط كنتيجة لامتزاجها (الأخير؟) مع التكنولوجيات الرقمية كآخر الوسائط التقليدية التي تدخل عملية التغيير تلك بعد الموسيقى والراديو والتلفزيون، ونستطيع أن نفترض أن هذا التحول لن يكون سهلًا أو بسيطًا.