في الوقت الحالي يجري التعاطي مع هذا الانفصال. لم يعد هناك شيء مشترك بين العلم والثقافة؛ لهذا السبب نتحدث عن العلم والثقافة، العلوم الدقيقة أو الصلبة والعلوم الإنسانية أو الناعمة
مقال بسراب نيكوليسكو
ترجمة: أحمد إبراهيم العشماوي
بسراب نيكولوسكو: عالم فيزياء نظرية روماني فرنسي، عمل في المركز القومي للأبحاث العلمية Centre national de la recherche scientifique (CNRS)، ومنذ 1987 أسس وترأس «المركز الدولي للأبحاث والدراسات العابرة للتخصصات Centre international de recherches et études transdisciplinaires»، بالإضافة إلى إسهاماته العديدة على المستوى العلمي والأكاديمي.
1. ثقافتان ما بعد حداثيتان:
في مرحلة مبكرة من التاريخ الإنساني، كانت الثقافة والعلم غير منفصلين، مدفوعين بنفس التساؤلات حول معنى الكون والحياة.
خلال عصر النهضة، لم تكن الرابطة بينهما انقطعت بعد. الجامعة الأولى، كما يوحي اسمها، كان من المفترض أن تدرس دراسة كونية.(1) وقد تجسد الكوني في أولئك الذين تركوا بصماتهم على تاريخ المعرفة من خلال أعمالهم. كان الانفصال بين العلم والمعنى، وبين الذات والموضوع، حاضرًا بالتأكيد في بذور القرن السابع عشر عندما تمت صياغة منهجية العلم الحديث، لكنها لم تصبح مرئية سوى في القرن التاسع عشر، عندما بدأ الانفجار العظيم للتخصصية.
في الوقت الحالي يجري التعاطي مع هذا الانفصال. لم يعد هناك شيء مشترك بين العلم والثقافة؛ لهذا السبب نتحدث عن العلم والثقافة، العلوم الدقيقة أو الصلبة (كما لو كانت العلوم الإنسانية غير دقيقة) والعلوم الإنسانية أو الناعمة (كما لو كانت العلوم الدقيقة غير إنسانية أو فوق إنسانية). فإن العلم لا يمكنه الوصول إلى نبل الثقافة والثقافة لا يمكنها الوصول إلى منزلة العلم.
نحن نفهم الاحتجاج المُثار على مفهوم الثقافتين –الثقافة العلمية والثقافة الإنسانوية– الذي قدمه منذ أربع عقود تشارلز بيرسي سنو Charles Percy Snow، الروائي والعالم في آنٍ واحد.(2) العلم هو جزء فعلي من الثقافة، لكن هذه الثقافة العلمية منفصلة كليًا عن الثقافة الإنسانوية، ويُنظر إلى الثقافتين كخصمين. وكل عالم –العالم العلمي أو العالم الإنسانوي– منغلق بإحكام على ذاته.
في الآونة الأخيرة تضاعفت علامات التقارب بين الثقافتين، بين العلوم الإنسانية والعلوم الدقيقة، بالأخص في مجال الحوار بين العلم والفن، المحور المؤسس للحوار بين الثقافة العلمية والثقافة الإنسانوية. لكن هل هذه المصالحة ممكنة؟
الوضع اليوم أكثر تعقيدًا مما كان عليه عام 1959 عندما صاغ سنو مفهوم الثقافتين. يجري التعاطي الآن مع الزواج بين العلوم الأساسية والتكنولوجيا، عن طريق توليد ثقافة تكنوعلمية technoscientifique. تُعد هذه الثقافة الجديدة مصدرًا للقوة اللاعقلانية لعولمة بلا وجه إنساني متمركزة حول الاقتصاد، والتي يمكن أن تمحو كل الاختلافات بين الثقافات وبين الأديان. إن الثقافة الإنسانوية قد ابتلعتها phagocytée ((3 الثقافة التكنوعلمية –إلى حد كبير. يقف أمام هذه الثقافة الجديدة المتجانسة ما أدعوه بالثقافة الروحية، التي هي في الواقع كوكبة كبيرة من الثقافات والأديان والمجتمعات الروحية غير المتجانسة. وبالرغم من طبيعتها المتناقضة، تتشارك الثقافة الروحية في إيمان مشترك حول الطبيعة المزدوجة للكائن الإنساني: طبيعته الجسدية والبيولوجية والنفسية من جهة، وطبيعته المتعالية من جهة أخرى.
كعلماء ومفكرين ومشاركين ناشطين في الثقافة التكنوعلمية، فإن علينا مسؤولية كبيرة: أن نبني الجسور بين الثقافة التكنوعلمية والثقافة الروحية على وجه السرعة. لكن هل من الممكن تصور هذه الجسور أم أنها ليست سوى وهم طوباوي؟
2. العائق الابستمولوجي في مسار الحوار: مستوى واحد أم عدة مستويات للواقع؟
أمام النجاح الذي لا جدال فيه للعلوم الحديثة، تحاول العلوم الإنسانية بقوة وبدون توقف أن تحاكي العلوم الدقيقة. وبالتالي أصبحت الموضوعية والحياد معيارين للطابع العلمي في العلوم الإنسانية، وإن الهدف المقارب -سواء كان معترفًا أو غير معترف به- هو التقعيد الرياضي. إن ما يتم محاكاته في الواقع هي الفيزياء الكلاسيكية التي تم تجاوز أفقها الابستمولوجي اليوم، لذلك من المناسب أن نتساءل عمّا يُقصد بـ "العلم الحديث".
وُلِد العلم الحديث من انقطاع حاد وفجائي عن النظرة القديمة للعالم.(4) وتأسس على فكرة –مفاجئة وثورية في ذلك العصر- تقوم على الانفصال الشامل بين الذات الواعية والواقع، مفترضًا الاستقلال التام للذات عن الواقع الذي تراقبه. لكن العلم الحديث يعطي في نفس الوقت ثلاثة افتراضات أساسية، والتي تمتد بدرجة عالية إلى مستوى العقل والبحث في القوانين والنظام:
1. وجود قوانين كونية ذات طابع رياضي.
2. اكتشاف هذه القوانين بالتجربة العلمية.
3. قابلية المعطيات التجريبية للتكرار بشكل تام.
وبفضل جاليليو جاليلي فقد بلغ السمو بلغة الرياضيات الاصطناعية التي تختلف عن لغة القبائل إلى منزلة اللغة المشتركة بين الإله والبشر.
أكد النجاح الاستثنائي للفيزياء الكلاسيكية، من جاليلي وكبلر ونيوتن وصولًا إلى آينشتين، على دقة هذه الافتراضات الثلاثة. وفي نفس الوقت، لقد ساهموا في إنشاء نموذج معياري paradigme للبساطة أصبح سائدًا في بداية القرن التاسع عشر. ووصلت الفيزياء الكلاسيكية خلال قرنين إلى إقامة رؤية مُسكّنة وتفاؤلية للعالم، مُهيَّئَة على المستوى الفردي والاجتماعي للترحيب بظهور فكرة التقدم.
تأسست الفيزياء الكلاسيكية على فكرة الاستمرارية، بالتوافق مع الأدلة المقدمة من خلال آليات الإدراك: إننا لن نستطيع المرور من نقطة إلى أخرى في المكان أو الزمان دون المرور من خلال جميع النقاط الوسيطة.
ترتبط فكرة الاستمرارية بشكل جوهري بالمفهوم الأساسي للفيزياء الكلاسيكية: السببية الموضعيّة. كل الظواهر الفيزيائية يمكن فهمها من خلال سلسلة مستمرة من العلل والمعلولات: كل علة في نقطة معينة تتوافق مع معلول في نقطة لامتناهية القرب، وكل معلول في نقطة معينة يتوافق مع علة في نقطة لامتناهية القرب، لسنا بحاجة إلى أي فعل مباشر عن بعد.
وهكذا استطاع مفهوم الحتمية أن يحقق دخوله الانتصاري إلى تاريخ الأفكار. إن معادلات الفيزياء الكلاسيكية هي كالآتي: إذا عرفنا موضع وسرعة الأجسام الفيزيائية في لحظة معينة، يمكننا التنبؤ بموضعها وسرعتها في أي لحظة من الزمن. بالتالي فإن قوانينها حتمية. إن الحالات الفيزيائية وظائف للوضعيات وللحركات، ويترتب على ذلك أنه إذا حددنا الشروط الأولية (الحالة الفيزيائية في لحظة معينة من الزمن) يمكننا أن نتنبأ تمامًا بالحالة الفيزيائية في أي لحظة أخرى معينة من الزمن.
من الواضح تمامًا أن البساطة والجمال الإستيطيقي لهذه المفاهيم (الاستمرارية، السببية الموضعيّة، الحتمية) فعّالة جدًا في الطبيعة وقد فتنت أعظم العقول. لا تزال هناك خطوة يجب اجتيازها، والتي لم تعد ذات طبيعة علمية ولكن ذات طبيعة فلسفية وأيديولوجية: إعلان الفيزياء ملكة للعلوم. بتعبير أدق، اختزال كل شيء إلى ما هو فيزيائي وبيولوجي ونفسي لا يظهر سوى كمراحل تطورية لنفس الأساس. تم تسهيل هذه الخطوة من خلال تقدم الفيزياء الذي لا جدال فيه. هكذا وُلِدَت أيديولوجية العلماء التي ظهرت كأيديولوجية طليعية، والتي شهدت انطلاقة استثنائية في القرن التاسع عشر.
على المستوى الأكاديمي، كانت نتائج العلموية ضخمة. المعرفة الجديرة بهذا الاسم لا يمكن أن تكون إلا علمية وموضوعية. كل معرفة أخرى غير علمية يتم دفعها إلى جحيم الذاتية. وقد كان للموضوعية، التي أقيمت كمعيار أسمى للحقيقة، نتيجة حتمية: تحويل الذات إلى موضوع. إن موت الإنسان، الذي يعلن عن الكثير من الميتات الأخرى، هو الثمن الذي يجب دفعه من أجل ما يسمى بالمعرفة "الموضوعية". وفي الأساس، وخلف الأمل الهائل الذي أثارته، أورثت لنا العلموية فكرة ثابتة وراسخة: فكرة وجود مستوى واحد من الواقع.
من شأن الرؤية الجديدة للعالم –الرؤية الكمية– أن تدمر أسس الفكر اللانهائي.
في مطلع القرن العشرين، واجه ماكس بلانك مشكلة فيزيائية تبدو بريئة، مثل كل المشاكل الفيزيائية. لكن من أجل حلها، قد تم اقتياده إلى اكتشاف أثار فيه -حسب شهادته الخاصة- دراما داخلية حقيقية، لأنه أصبح شاهدًا على دخول الانقطاعية discontinuité إلى مجال الفيزياء. إن الطاقة حسب اكتشاف بلانك لها بنية غير مترابطة ومنقطعة. إن كوانتم quantum بلانك، الذي أعطى اسمه إلى ميكانيكا الكم quantique، أحدث ثورة في الفيزياء كلها وغيَّر نظرتنا للعالم بشكل جذري.
كيف نفهم حقيقة مفهوم الانقطاعية؟ هذا يعني أن تتخيل أن بين نقطتين لا يوجد شيء، لا أجسام، لا ذرات، لا جزيئات، لا جسيمات، فقط لا شيء، حتى أن كلمة "لا شيء" كثيرة!
وقد انعكس التشكيك في الاستمرارية على التشكيك في السببية الموضعية كذلك وعلى فتح صندوق بندورا المخيف.
وفقًا لميكانيكا الكم، تمتلك الكمية الفيزيائية عدة قيم محتملة، تتأثر باحتمالات محددة جيدًا. لكن في القياس التجريبي من الواضح أننا نحصل على نتيجة واحدة فقط للكمية الفيزيائية المعنية. إن هذا الإلغاء المفاجئ لتعددية القيم المحتملة لما "يمكن ملاحظته" فيزيائيًا، من خلال القياس، كان ذو طبيعة غامضة، لكنه أشار بوضوح إلى وجود نمط جديد من السببية.
بعد سبعة عقود على ميلاد ميكانيكا الكم، تم توضيح طبيعة هذا النمط الجديد من السببية بفضل نتيجة نظرية دقيقة –مبرهنة بل le théorème de Bell– وبفضل تجارب عالية الدقة. بالتالي أعلن مفهومًا جديدًا دخوله إلى الفيزياء: اللا-انفصالية non-séparabilité.
استمرت الكيانات الكمية في التفاعل بغض النظر عن تباعدها. وظهر بالتالي نمطًا جديدًا من السببية في تاريخ المعرفة، سببية شاملة تتعلق بنظام جميع الكيانات الفيزيائية في مجملها. إن ركيزة أخرى من ركائز الفكر الكلاسيكي –الحتمية– على وشك أن تتداعى بدورها.
إن الكيانات الكمية –الكوانتم les quantons– هي جسيمات وموجات في نفس الوقت، وبشكل أدق، فإنها ليست جسيمات ولا موجات. تظهر العلاقات الشهيرة لهايزنبرج Heisenberg بدون أي التباس أنه من المستحيل تحديد موضع الكوانتم في نقطة محددة في الفضاء وفي نقطة زمنية محددة. بعبارة أخرى، إنه من المستحيل تعيين مسار محدد جيدًا لجزيء كمي. إن اللاحتمية السائدة على المستوى الكمي هي لا حتمية تأسيسية وجوهرية وغير قابلة للاختزال، والتي لا تعني قطعًا الصدفة أو عدم الدقة. من المؤكد أن الأثر الثقافي الرئيسي للثورة الكمية هو التشكيك في الدوجما الفلسفية المعاصرة حول وجود مستوى واحد من الواقع.(5)
لنعطِ لكلمة "واقع" معناها البراجماتي والأنطولوجي في آنٍ واحد. أولًا وقبل كل شيء، ما نعنيه بالواقع هو ما يقاوم خبراتنا وتمثلاتنا وأوصافنا وصورنا أو تنميطاتنا الرياضية. لقد جعلتنا فيزياء الكم نكتشف أن التجريد ليس وسيطًا بسيطًا بيننا وبين الطبيعة، كأداة من أجل وصف الواقع، بل أحد الأجزاء المكونة للطبيعة. يجب أن نعطي بعدًا أنطولوجيا لمفهوم الواقع بالقدر الذي تشارك به الطبيعة في وجود العالم، فالواقع ليس بناءً اجتماعيًا أو توافقًا جمعيًا أو اتفاقًا بين-ذاتي فقط، بل إن له بعدًا عبر-ذاتي أيضًا، إلي درجة أن حقيقة تجريبية بسيطة يمكن أن تدمر أكثر نظرية علمية جمالًا.
من خلال مستوى الواقع، يجب أن نفهم مجموعة الأنظمة الثابتة في عمل عدد من القوانين العامة، على سبيل المثال: الكيانات الكمية تخضع لقوانين الكم، وهي في قطيعة جذرية مع قوانين العالم الماكروفيزيائي. وهذا يعني أن مستويين من الواقع يختلفان إذا كان هناك، بالمرور من أحدهما إلى الآخر، انقطاعًا في القوانين والمفاهيم الأساسية (مثل السببية على سبيل المثال). لم ينجح أحد في إيجاد تنميط رياضي يسمح بعبور صارم من عالم إلى الآخر.
في الواقع إن فيرنر هايزنبرج Werner Heisenberg اقترب كثيرًا في هذه الكتابات الفلسفية من مفهوم "مستوى الواقع". في مخطوطة 1942 الشهيرة (نُشرت بالألمانية فقط في عام 1984 وتُرجمت إلى الفرنسية في 1998) قدم هايزنبرج، الذي كان يعرف هوسرل جيدًا، فكرة ثلاث مناطق للواقع، قادرة على إمدادنا بإمكانية الوصول إلى مفهوم "الواقع" بحد ذاته: المنطقة الأولى هي منطقة الفيزياء الكلاسيكية، الثانية هي الخاصة بفيزياء الكم والظواهر البيولوجية والنفسية، الثالثة هي منطقة الخبرات الدينية والفلسفية والفنية (6). هذا التصنيف له أساس دقيق: وهو التقارب المتزايد بين الذات والموضوع.
إن ظهور مستويات مختلفة من الواقع في دراسة الأنظمة الطبيعية يُعد حدثًا بالغ الأهمية في تاريخ المعرفة، وهو ما يمكن أن يقودنا لإعادة التفكير في الحوار بين العلوم الإنسانية والعلوم الدقيقة. إن عبر التخصصية تتبدى لي كوسيط حتمي لهذا الحوار.
3. متعدد، وبين، وعبر تخصصي Multi-, inter- et transdisciplinarité
إن الازدهار غير المسبوق للمعارف في عصرنا يضفي الشرعية على مسألة تكيف العقليات مع هذه المعارف. العولمة على وجه الخصوص مصدر محتمل للمزيد من الانحطاط، والخطرين الأكثر تطرفًا للعولمة هما المجانسة الثقافية والدينية والروحية، ونوبات الصراعات الإثنية والدينية كاستجابة دفاعية للثقاقات والحضارات عن ذاتها.
يفترض الانسجام بين العقليات والمعارف بشكل مسبق أن هذه المعارف قابلة للإدراك والفهم، لكن هل يمكن أن يظل الفهم موجودًا في حقبة الانفجار العظيم للتخصص وللتخصصية المفرطة؟
جرت ترجمة الحاجة الضرورية إلى روابط بين التخصصات المختلفة من خلال ظهور متعدد التخصصات والبين تخصصية نحو منتصف القرن العشرين.
يتعلق متعدد التخصصات بدراسة موضوع من تخصص واحد من خلال عدة تخصصات في نفس الوقت. يقدم البحث متعدد التخصصات إضافة للتخصص المعني، لكن هذه "الإضافة" هي خدمة خالصة إلى هذا التخصص بحد ذاته.
وتتعلق بين التخصصية بنقل منهجيات تخصص ما إلى تخصص آخر. مثل نقل منهجيات الرياضيات إلى ظواهر الأرصاد الجوية أو تلك التي في البورصة، مما أدى إلى نشوء نظرية الفوضى. إن بين التخصصية تتجاوز التخصصات، لكن الغرض منها يظل كذلك مدرجًا داخل البحث التخصصي.
تتعلق عبر التخصصية، كما تشير البادئة اللاتينية عبر trans، بما يكون بين التخصصات وعبر التخصصات المختلفة وما وراء كل تخصص في نفس الوقت. وغايتها هي فهم العالم الحاضر الذي تُعد وحدة المعرفة واحدة من متطلباته. وقد تم تقديم كلمة "عبر تخصصية" في عام 1970 من خلال چان بياچيه.(6)
يتميز البحث عبر التخصصي بشكل جذري عن البحث التخصصي باعتباره مكملًا له. يتعلق البحث التخصصي بمستوى واحد من الواقع على أقصى تقدير؛ بجانب أنه في أغلب الحالات لا يتناول سوى شذرات من نفس المستوى الأحادي من الواقع. وعلى العكس، تهتم عبر التخصصية بالديناميكية الناتجة من خلال نشاط عدة مستويات من الواقع في نفس الوقت. ويتطلب اكتشاف هذه الديناميكية معرفة تخصصية بالضرورة. إذن التخصصية وتعدد التخصصات وبين التخصصية وعبر التخصصية هم أربع سهام لقوس واحد: المعرفة.
المعرفة العامة هي نمط جديد من المعرفة: المعرفة عبر التخصصية (CT)، والتي تتوافق مع معرفة الواقع المعيش بحيويته in vivo. هذه المعرفة الجديدة معنية بالتوافق بين العالم الخارجي للموضوع والعالم الداخلي للذات. إنها في الواقع معرفة طرف ثالث. وبحكم طبيعتها فإن المعرفة عبر التخصصية تتضمن نظامًا للقيم (يُنظر جدول رقم 1).
(جدول 1): مقارنة بين المعرفة التخصصية CONNAISSANCE
DISCIPLINAIRE (CD) والعبر تخصصية CONNAISSANCE TRANSDISCIPLINAIRE (CT)
معرفة تخصصية | معرفة عبر تخصصية |
في بيئة مصطنعة (في المختبر) IN VITRO | في الجسم الحي (في الميدان) IN VIVO |
العالم الخارجي – الموضوع | التوافق بين العالم الخارجي (الموضوع) والعالم الداخلي (الذات) |
المعرفة | الفهم |
الذكاء التحليلي | نمط جديد من الذكاء –التوازن بين العقل والحس والجسد |
موجهة نحو السلطة والاستحواذ | موجهة نحو الدهشة والمشاركة |
منطق ثنائي | منطق الثالث المشمول |
استبعاد القيم (الحيادية) | إدراج القيم (الخيار الإنساني) |
من الهام إدراك أن المعرفة التخصصية والمعرفة عبر التخصصية ليستا خصمين، بل مكملتين لبعضهما البعض؛ فمنهجية الاثنتين مؤسسة على الروح العلمية.
تُعد عبر التخصصية نهجًا شاهدًا على حضورنا في العالم وخبرتنا المعيشة من خلال المعارف المذهلة في عصرنا. تقود الرؤية العابرة للتخصصات، والتي هي رؤية عابرة للثقافات والأديان في آنٍ واحد، إلى تغيير راديكالي في المنظور والسلوك على المستوى الاجتماعي.
4. المنهجية عبر التخصصية
ترتكز المنهجية عبر التخصصية (8) على ثلاث مسلَّمَات:
1. مسلَّمَة أنطولوجية: وجود مستويات مختلفة من واقع الموضوع، ومستويات مختلفة من واقع الذات.
2. مسلَّمَة منطقية: إن العبور من مستوى من الواقع إلى مستوى آخر يتم من خلال منطق الثالث المشمول.
3. مسلَّمَة إبستيمولوجية: تتبدّى لنا بنية كل مستويات الواقع، في معرفتنا بالطبيعة وبالمجتمع وبذواتنا، كبنية معقدة؛ فكل مستوى هو ما هو عليه لأن كل المستويات الأخرى توجد في نفس الوقت.
ولقد حللت بالتفصيل تسويغ هذه المسلَّمَات في كتاب ما الواقع؟ Qu’est-ce que la Réalité. ولا بد من قول بعض الكلمات هنا حول دلالة المسلَّمَة الثانية.
يرتبط مستويان مختلفان من الواقع من خلال منطق الثالث المشمول، منطق جديد يقابل المنطق الكلاسيكي، حيث يرتكز المنطق الكلاسيكي على ثلاثة مسلَّمَات:
1. مسلَّمَة الهوية: (أ) هي (أ).
2. مسلَّمة عدم التناقض: (أ) هي ليست (لا أ).
3. مسلَّمَة الثالث المرفوع: لا يوجد حد ثالث (وهو T من "الثالث المشمول tiers inclus") يكون في نفس الوقت (أ) و(لا أ).
مع ذلك، وبعد كل شيء، إذا قلبنا هذا المنطق الذي ساد خلال ألفيّ عام، والذي يستمر في الهيمنة على فكرنا اليوم، سنصل فورًا إلى استنتاج أن كل الثنائيات المتناقضة التي أبرزتها فيزياء الكم –موجة وجسيم، استمرارية وانقطاعية، انفصالية ولا-انفصالية، سببية موضعية وسببية شاملة، تماثل وكسر التماثل، قابلية الانعكاس في الزمن ولا قابلية الانعكاس.. إلخ، تقصي بعضها بالتبادل؛ لأننا لن نستطيع التأكد من صلاحية شيء ونقيضه في ذات الوقت: (أ) و(لا أ).
قامت غالبية أنواع المنطق الكمي بتعديل المسلَّمَة الثانية في المنطق الكلاسيكي –مسلَّمَة عدم التناقض- بإدخال عدم التناقض في العديد من قيم الحقيقة بدلًا من تلك المتعلقة بالزوج الثنائي (أ، لا أ A, non-A). ويعود الفضل التاريخي إلى ستيفان لوباسكو (1900-1988) في إظهاره أن منطق الثالث المشمول منطق حقيقي، قابل للشكلنة ومُشَكلن، وذو قيم متعددة (ثلاثة قيم: أ، لا أ و جـ A, non-A et T) وغير متناقض. (9)
عندما قُدِّمَ مفهوم "مستويات الواقع" أصبح استيعاب مسلَّمَة الثالث المشمول مفهومًا كليًا، وهي أنه يوجد حد ثالث (جـ T) يكون (أ) و(لا أ) في آنٍ واحد.
من أجل الحصول على صورة واضحة لمعنى الثالث المشمول، لنتخيل ثلاث حدود للمنطق الجديد ( أ، لا أ و جـ A, non-A et T) وديناميّته المترابطة الممثلة كمثلث يقع أحد رؤوسه على مستوى من الواقع ورأسيه الآخرين على مستوى آخر من الواقع. إذا ظللنا على مستوى أحادي من الواقع ستبدو كل تمظهراته كصراع بين عنصرين متناقضين، وستُختبر الديناميّة الثالثة الخاصة بالحالة (جـ T) على مستوى آخر من الواقع، حيث ما يتبدى كشيء متناثر هو في الواقع موحَّد، وما يتبدى متناقضًا يُتَبيًّن كشيء غير متناقض. هذا هو تصور (جـ T) على نفس المستوى الأحادي من الواقع، والذي يُنتِج مظهر الثنائيات المتخاصمة التي تقصي بعضها بالتبادل.
إن منطق الثالث المشمول قادر على وصف التناغم بين كل مستويات الواقع من خلال عملية متكررة، وستستمر هذه العملية بشكل لا متناه حتى استنفاد كل مستويات الواقع -المعروفة أو الممكن تصورها- دون القدرة على الوصول إلى أي نظرية موحَّدة كليًا. وفي هذا الصدد يمكننا التحدث عن تطور المعرفة، دون القدرة على الوصول إلى عدم تناقض مطلق يشمل جميع مستويات الواقع: المعرفة منفتحة إلى الأبد.
يوجد بالتأكيد تناغم بين مختلف مستويات الواقع، على الأقل في العالم الطبيعي. في الواقع، يبدو أن الاتساق الذاتي الهائل –الحزمة الكونية الأولية un bootstrap cosmique- يحكم تطور الكون، من اللامتناهي الصغر إلى اللامتناهي الكبر، من اللامتناهي القِصَر إلى اللامتناهي الطول. ينتقل هذا الدفق من المعلومات بطريقة متناغمة من مستوى من الواقع إلى مستوى آخر من الواقع في عالمنا الفيزيائي. هذا التناغم يتم توجيهه: هناك سهم مرتبط بنقل المعلومات من مستوى إلى آخر. بالتالي، فإن التناغم ينتهي عند "أعلى" مستوى وعند "أدنى" مستوى من الواقع إذا كان مقتصرًا على المستويات الأحادية. لكي يستمر التناغم إلى ما وراء هذه المستويات المحدودة، ولكي توجد وحدة منفتحة، يجب أن نأخذ بالاعتبار أن تمتد كل مستويات الواقع من خلال نطاق من اللامقاومة إلى خبراتنا، تمثلاتنا، توصيفاتنا، صورنا، أو التعقيدات الرياضية. داخل هذا النطاق لا يوجد أي مستوى من الواقع.
تعود لامقاومة هذا النطاق من الشفافية المطلقة –بكل بساطة- إلى محدودية أجسادنا وأعضاء حواسنا، بغض النظر عن أدوات القياس التي تمد هذه الأعضاء الحسية. إن نطاق اللامقاومة يتوافق مع ما لا يخضع لأي عقلنة. ومن المناسب التذكير هنا بالتمييز العام الذي أقامه إدجار موران Edgar Morin بين العقلاني rational والعقلنة rationalisation (10). إن نطاق اللامقاومة عقلاني، لكنه غير قابل للعقلنة، فهو يعكس وجود تفاعل بين الذات والموضوع، غير قابل لاختزاله إلى ذات أو موضوع. هذا التفاعل هو في المقام الأول خبرة، والتي تنعكس من خلال شعور بما يربط بين الكائنات والأشياء، وبالتالي يحفز في أعماق الكائن الإنساني احترامًا مطلقًا للكائنات الأخرى المتحدة بفضل الحياة المشتركة على نفس الكوكب الواحد.
إن البنية المنفتحة لجميع مستويات الواقع تتوافق مع واحدة من أهم النتائج العملية للقرن العشرين: مبرهنة جودل Gödel الخاصة بعلم الحساب. تخبرنا مبرهنة جودل أن نظامًا غنيًا بشكلٍ كافٍ من المسلَّمات يقود حتمًا إلى نتائج إما غير قابلة للحسم وإما متناقضة. إن لنطاق مبرهنة جودل أهمية ضخمة لكل نظرية معرفية حديثة، لأنها ليست خاصة بمجال واحد من علم الحساب، بل أيضًا بكل نظرية رياضية تشمل بداخلها علم الحساب. فالبنية الجودلية لجميع مستويات الواقع، جنبًا إلى جنب مع منطق الثالث المشمول، تقتضي ضمنيًا استحالة بناء نظرية كاملة لوصف العبور من مستوى إلى آخر، وبالأحرى لوصف جميع مستويات الواقع. يجب أن تكون الوحدة التي تربط كل مستويات الواقع –إذا وُجِدَت- وحدة منفتحة بالضرورة.
يبدأ مبدأ جديد من النسبية في الظهور من التعايش بين التعددية المعقدة والوحدة المنفتحة: لا يُنشِئ أي مستوى من الواقع موقعًا مميزًا يمكننا من خلاله فهم كل مستويات الواقع الأخرى. إن مستوى ما من الواقع هو ما هو عليه، لأن كل المستويات الأخرى توجد في نفس الوقت. وهذا المبدأ من النسبية هو المؤسس لنظرة جديدة حول الثقافة والدين والسياسة والفن والتربية والحياة الاجتماعية، وعندما تتغير نظرتنا إلى العالم، يتغير العالم بدوره. "إن قول كلمة حقيقية يساوي تغيير العالم" مثلما كتب عالم التربية البرازيلي الكبير باولو فريري Paulo Freire في كتابه بيداجوچيا المقهورين Pédagogie des opprimés.
إن المعرفة بحسب الرؤية العابرة للتخصصات ليست خارجية ولا داخلية، بل هي خارجية وداخلية في آنٍ واحد. فدراسة الكون ودراسة الكائن الإنساني تدعمان بعضهما البعض. إن العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية متكاملان، وعبر التخصصية هي الطرف الثالث الذي يسمح بتفاعلهما.
يمكن أن نستنتج أن العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية وعبر التخصصية تُشكِّل ثلاثيًا للمعرفة، بما يسمح لظهور شكل جديد من الإنسانوية التي توفر لكل إنسان القدرة القصوى للتطور الثقافي والروحي. إنها مسألة البحث فيما يوجد بين الكائنات الإنسانية وعبرها وما وراءها، وهو ما يمكن أن ندعوه كينونة الكائنات.
الهوامش:
(1) إشارة الكاتب إلى إيحاء اسم الجامعة وعلاقته بالكونية نظرًا إلى أن كلمة جامعة Université مشتقة من الكون Universe. (المترجم)
(2) Charles Percy Snow, The Two Cultures, Cambridge University Press, Cambridge, 1993. Ce livre est fondé sur une conférence donnée par Charle Percy Snow en 1959.
(3 فعل مشتق من Phagocyte أي الخلية البلعمية أو الخلية البالعة بالعربية، وهي خلية حية تبتلع وتحطم الدخيل الغريب عن الجسم، مثل الكائنات الدقيقة وحطامها، وتسمى هذه العملية بالبلعمة، لذلك ترجمت الفعل بأحد الوظائف الأساسية للعملية. (المترجم)
(4) Basarab Nicolescu, Nous, la particule et le monde, Rocher, Monaco, 2002
(5) Basarab Nicolescu, Qu’est-ce que la Réalité?, Liber, Montréal, 2009
(6) Werner Heisenberg, Philosophie – Le manuscrit de 1942, trad. de l’allemand et introduction par Catherine Chevalley, Paris, Seuil, 1998 [éd. allemande :1984], p. 218-306.
(7) Jean Piaget, « L’épistémologie des relations interdisciplinaires » dans L’interdisciplinarité; Problèmes d’enseignement et de recherche dans les universités, OCDE, Paris, 1972, p. 131-144.
(8) Basarab Nicolescu, La transdisciplinarité, manifeste, Rocher, Monaco, 1996
(9) Stéphane Lupasco, Le principe d’antagonisme et la logique de l’énergie – Prolégomènes à une science de la contradiction, Monaco, Le Rocher, coll. « L’esprit et la matière », [1951] 1987
(10) Edgar Morin, « Anthropologie de la connaissance », dans La méthode, tome III, La connaissance de la connaissance, Seuil, Paris, 1986.
ببلوجرافيا:
Heisenberg, Werner, Philosophie – Le manuscrit de 1942, trad. de l’allemand et introduction par Catherine Chevalley, Paris, Seuil, 1998 [éd.allemande:1984].
Lupasco, Stéphane, Le principe d’antagonisme et la logique de l’énergie – Prolégomènes à une science de la contradiction, Monaco, Le Rocher, coll.
« L’esprit et la matière », [1951] 1987.
Morin, Edgar, « Anthropologie de la connaissance », dans La méthode, tome III, La connaissance de la connaissance, Seuil, Paris, 1986.
Nicolescu, Basarab, La transdisciplinarité, manifeste, Rocher, Monaco, 1996
Nicolescu, Basarab, Nous, la particule et le monde, Rocher, Monaco, 2002.
Nicolescu, Basarab, Qu’est-ce que la Réalité?, Liber, Montréal, 2009.
Piaget, Jean, « L’épistémologie des relations interdisciplinaires » dans L’interdisciplinarité; Problèmes d’enseignement et de recherche dans les universités, OCDE, Paris, 1972, p. 131-144.
Snow, Charles Percy, The Two Cultures, Cambridge University Press Cambridge, 1993
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه