بقي ستفنسون شخصية بارزة تجذب الأنظار وتزخر بالتناقضات. وقد حظي في عصره بقرَّاء نهمين إلى أعماله بوصفه مؤلفًا لقصص المغامرات الموجهة إلى الصبية وصاحب روايات الرعب والفنتازيا التي راجت أعظم الرواج لدى البالغين.

المخطوف لروبرت لويس ستفنسون (1886)

مقال روبرت مكروم

ترجمة إسلام الزنكي

عن كتاب "أفضل مئة رواية في اللغة الإنجليزية" الصادر عن كتب مملة بالتعاون مع دار هن للنشر والتوزيع


من رسوم نسخة عام 1913، عن الجارديان

في مجتمعٍ غيَّرت وجهه التحولات الجذرية التي أحدثها قانون التعليم العام الصادر عام 1870، بذَّ روبرت لويس ستفنسون معاصريه في أواخر العصر الفيكتوري بوصفه فنانًا رومانسيًّا مدهشًا، ونجمًا في سماء الأدب. ولقد سلك في مسيرته الأدبية مسلكًا حديثًا، رغم ما يبدو في بعض الأحيان من أنه قد ضحى بالحياة على مذبح الأدب. لكنه أنكر التزامه هذا إنكارًا قاطعًا إذ أخبر قارئًا أمريكيًّا من معجبيه بأنه "إنسانٌ يؤثِر الحياة على الفن، ويعلم أن الحبَّ خيرٌ من كليهما...". غير أن سجله الإبداعي ينمُّ عن النقيض، ليضيف بذلك لغزًا جديدًا إلى هالة الغموض التي تكتنف سيرته. ولذا بقي ستفنسون شخصية بارزة تجذب الأنظار وتزخر بالتناقضات. وقد حظي في عصره بقرَّاء نهمين إلى أعماله بوصفه مؤلفًا لقصص المغامرات الموجهة إلى الصبية وصاحب روايات الرعب والفنتازيا التي راجت أعظم الرواج لدى البالغين. وريثما صدرت روايتاه "جزيرة الكنز" و"القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد" صارتا في عداد الأعمال الكلاسيكية، لما لهما من سردٍ موجزٍ ألمعيٍ كأنَّ له من التكثيف ما للسينما. وقد أنجز كتابتهما على نحوٍ من السرعة يعجز العقل عن تصوره، إذ استغرق في كتابتهما بعض أيامٍ إلى بضعة أسابيع. ولعل هذا ما جعل ستفنسون (أكثر من أي كاتب ضمته هذه السلسلة) أستاذًا في اقتناص سوانح الخيال في صورة واحدة نابضٍة بالحياة. على سبيل المثل هو من أثبت في رواية "روبنسون كروزو" (المقال الثاني في السلسلة)، أن آثار قدمٍ في الرمال تصلح أن تكون صنعةً سرديَّة حاذقة.

وعلى كل حال، فعندي أن "المخطوف" تحل من أعماله المحل الأرفع، روايةٌ خالدة تعج بالأحداث المثيرة ستكون منبع إلهامٍ لكُتَّابٍ من مشارب مختلفة من أمثال: جوزيف كونراد، وجون بوكين، وجراهام جرين، وموريل سبارك. وهي بالمثل تبصرٌ مدهشٌ في الشخصية الأسكتلندية المعقدة بشطريها السلتي والساكسوني. وكما هو الحال في "الدكتور جيكل ومستر هايد"، فإن "المخطوف" تكشف لنا عن هوس ستفنسون بانشطار الذات، وفي العام الذي شهد التصويت على الاستقلال تبقى "المخطوف" عملًا لا غنى عن قراءته. ولقد أدرجتها في السلسلة لتبرز لنا أسكتلندا التي تضرب بجذورها في أعماق ستفنسون إلى جانب عبقريته كاتبًا.

تخدعنا الرواية بسهولتها. وهي إن كانت تظهر بمظهر قصةٍ للصبية تضرب بجذورها في الواقع التاريخي، فإنها كذلك تبرهن على براعة ستفنسون في ابتكار الحيل الفنية. لقد أنجزت "المخطوف"، على الأقل، ثلاثةَ أهدافٍ في الآن ذاته. أولها: أنها مغامرة مثيرةٌ ومدهشة يظهر فيها ستفنسون آخذًا بزمام السرد، بنثرٍ متقشفٍ، يلابس السحر. حتى ليتركني أنا القارئ أكاد أكون مبهور الأنفاس إثارةً وإعجابًا. لم يكن هنري جيمس بأقل مني إعجابًا، وكان واحدًا من كبار المولعين بتسلسل الفصول في "رحلة جوية إلى هيثر". ونظرًا لما تتدفق به القصة من حيوية فقد انكبَّ على قراءتها حتى وصل إلى الفصل العاشر، "حصار البيت المستدير".

وثانيها: أنَّ "المخطوف" عالجت حدثًا تاريخيًّا هو جريمة "أبين" التي وقعت في مايو عام 1752، وقُتِل فيها "الثعلب الأحمر"[1]- فصاغتها حكايةً شعبيةً كانت محط أنظارِ قطاعٍ عريضٍ من الجماهير التي طالعتها لأول مرةٍ على صفحات جريدة "يونج فوكس". لم يحقِّر ستفنسون من شأن النوع الأدبي الذي يكتبه. فـ"المخطوف"، شأنها شأن "جزيرة الكنز"، ظهرت مشفوعةً بخريطةٍ تكون لتكون معينًا على بسط الدراما؛ بل إن عناوينه التي وضعها للفصول كفيلةٌ وحدها بأن تكون سببًا في بيع القصة: "أواجه خطرًا كبيرًا في منزل آل شو"، و"الرجل ذو الحزام الذهبي"، و"منزل الخوف". وأخيرًا، بزغ نجمها لأنها دراسةٌ خالدة ومُلهِمةٌ عن الازدواجية في الشخصية الأسكتلندية. ديفيد بلفور يميني من السهول الاسكتلندية تعود أصوله إلى سلالة مشيخية معروفةٍ بحصافة الرأي، جرت واقعة اختطافه الصادمة حين عزم على أن يطالب بميراثه من عمه الشرير إبنزر. إن وصف بلفور لآلان ريك (ستيوارت) بأنه "متمردٌ بغيض، وهاربٌ من الجندية، ورجل الملك الفرنسي"- يمثل الروح المزهوَّة في المرتفعات بعد تمرد اليعاقبة عام 1745، هذا التمرد المندفع والطائش والرومانسي والمحكوم عليه بالفشل—سطرٍ بارعٍ في حوار لا يُنسى. وكلاهما شكَّل ثنائيًّا مشهودًا، كثيرًا ما يكون مولعًا بالجدال، وكلاهما ينعم (مع ستفنسون) بسخاء اللهجة الأسكتلندية. كأنها كعكة فواكهٍ تنتجها دولةٌ غنية، هكذا هي "المخطوف" وقد طُعِّمت بحفناتٍ من الكلمات الدارجة: "ain": واحد، "bairn": طفل، "blae": كئيب، "chield": رفيق، "drammach": دقيق الشوفان النيئ، "fash": إزعاج، "muckle": ضخم، "siller": نقود، "unco": للغاية، "wheesht": اصمت،... والعشرات من الكلمات. إن الكلمات الدارجة الاسكتلندية أذكت في "المخطوف"، على نحوٍ ما، نارًا لا تخبو وأضفت عليها حيوية، غير أن الجو السائد داخل الرواية كان كئيبًا. وقد عبَّر ستفنسون عن هذا من خلال صوت بلفور وهو يستعيد تجربته «أسوأ جزء في مغامراتي... رانسوم قُتل، وشون يرقد محتضرًا على أرضية المنزل المستدير، أما كولن كامبل (الثعلب الأحمر) فإنه يقبض على صدر معطفه...». لقد نجا بلفور طبعًا، أما البقية تقريبًا فكان مصيرهم الموت. أما ستفنسون نفسه فقد مات فجأةً إثر صعقة على جزيرة ساموا في الثالث من ديسمبر عام 1894، عن عمرٍ ناهز أربعةً وأربعين عامًا.

ملحوظة عن النص

كُتبت "المخطوف" لتكون روايةً للصبية، ونشرتُ أول ما نشرت مسلسلةً على صفحات جريدة "يونج فوكس" بدءًا من مايو وحتى يوليو من العام 1886. اتخذت الرواية هيئة كتابٍ للمرة الأولى على يد "كاسل وكومباني" في يوليو عام 1886. تتضمن "الأعمال المجمَّعة لستفنسون" واحدًا من أطول العناوين الفرعية وأكثرها تفصيلًا في الأدب الإنجليزي:" مذكرات عن مغامرات ديفيد بلفور في عام 1751؛ كيف جرى التخلص منه؛ معاناته في جزيرة صحراوية؛ رحلته في المرتفعات البرية؛ معرفته بآلان بريك ستيوارت وغيره من يعاقبة المرتفعات سيئي السمعة؛ إضافةً إلى كل ما عاناه على يد عمه، إبنزر بلفور الذي ينتسب زورًا إلى آل شوس. كتبه وقدَّم له روبرت لويس ستفنسون مع مقدمة بقلم السيدة ستفنسون".

لَقيَت "المخطوف" قبولًا حسنًا لدى نشرها وحازت إعجاب العديد من الكتاب أمثال: هنري جيمس الذي أثنى على حيوية سردها، وخورخي لويس بورخيس، وشيموس هايني، وغيرهم الكثير. ونُشرت تكملة لها بعنوان "كاتريونا" في عام 1893، لكنها كانت دون المستوى.


[1] المقصود بالثعلب الأحمر كولن روي كامبل، الذي اغتيل قنصًا عام 1752 (فيما عُرف بجريمة أبين) في أعقاب هزيمة اليعاقبة بعد تمردهم من أجل استعادة العرش البريطاني لجيمس فرانسيس إدوارد ستيوارت. اتُهم في القضية أحد قادة عشيرة ستيوارت المتعاطفة مع اليعاقبة، جيمس ستيوارت، وشُنِق. بعدها اكتُشفت براءته. كانت هذه الأحداث مصدر إلهام رواية ستفنسون.