كان بو كاتبًا أصيلًا على نحو لم يتوفر في إيرفنج و"فينمور كوبر". إضافة إلى أنه أول كاتب أمريكي يحاول كسب معيشته بالكتابة، كان النموذج الأصلي لفناني الأدب الرومانسي.

حكاية أرثر جوردن بيم من نانتاكيت لإدجار آلان بو (1838)

مقال: روبرت مكروم

ترجمة: مصطفى عبد المنعم

عن كتاب "أفضل مئة رواية في اللغة الإنجليزية" الصادر عن كتب مملة بالتعاون مع دار هن للنشر والتوزيع


إدجار آلان بو، عن الجارديان

الأمريكيون قادمون. كما لاحظ الكثير من القراء أن القائمة –حتى الآن- إنجليزية تمامًا بخلاف كاتب أو اثنين من أيرلندا. كل ذلك سيتغير. ضمن جيل ثورة 1776، بدأ الكتاب الأمريكان في استكشاف حسٍّ أمريكيٍّ خالص يمكن رصده. بعد هزيمة أمريكا لإنجلترا في حرب 1812 بشكل خاص، ظهر شعور بالثقة الأدبية ولمحة من الهوية القومية التي وُصِفَت بـ "القومية الأدبية".

تولَّى كُتَّابٌ مثل "واشنطن إرفنج" في مجموعته القصصية "ريب فان وينكل وأسطورة سليبي هولو" و"جايمس فينمور كوبر" في "آخر سلالة الموهيكان" الريادة في وصف الحالة الأمريكية بصوت أدبي أمريكي مميز. ومن الأهمية بمكان أنهم بدأوا في اكتساب جمهور في لندن وعبر الجزر البريطانية.

خلال الفترة من 1830 وحتى نشوب الحرب الأهلية في 1865 ستحدث نهضة أمريكية. أعمال ناضجة ومؤثرة كتبها "رالف والدو إمرسون" و"هنري ديفيد ثورو"  -كما سنرى لاحقًا- "ناثانيال هاوثورن" و"هرمان ميلفل" وكثيرون آخرون.

لكن يعتبر إدجار آلان بو –مواليد 1809- إشارة بدء لما سيكون حوارًا أدبيًّا أنجلو- أمريكيًا. كان بو كاتبًا أصيلًا على نحو لم يتوفر في إيرفنج و"فينمور كوبر". إضافة إلى أنه أول كاتب أمريكي يحاول كسب معيشته بالكتابة، كان النموذج الأصلي لفناني الأدب الرومانسي. فهنري ميلر مثلًا و"جاك كرواك" و"ويليام. س. بوروز" وحتى "هانتر. س تومسون" يدينون بشيء لإدجار آلان بو. فأسلوبه البدوي البوهيمي ومساره المهني المعذب والمتطلب استمرا في غواية شباب الكتاب الأمريكيين الذين يرون في أنفسهم اختلافًا عن الأغلبية. وفي بريطانيا، تفاعل الكثير من كتاب أواخر الحقبة الفيكتورية مع خيالاته مثل وايلد وستيفنسن وسواينبرن وييتس.

بادئ ذي بدء، كان بو ناقدًا شرسًا للمشهد الأدبي الأمريكي حديث الولادة. شرس جدًا في هجومه على ما اعتبره كتابات رديئة لدرجة أن أحد زملائه النقاد وصفه بأنه لا يستخدم الحبر في كتابة نقده وإنما حمض البروسيك الحارق.

كان بو رجل الآراء المتطرفة والذي عرف قمة النجاح وهاوية الفشل. كانت قصيدة "الغراب" ذائعة الصيت، بينما ظلت معظم كتابته مهملة ومُتجَاهَلة. في أماكن أخرى كان يُنظر إليه على أنه رجلٌ مخمور. مدمن مخدرات ومنبوذ. وعندما مات في شوارع بالتيمور في سن الأربعين سنة 1849، تعامل الجميع مع مصيره كجزء من كتاباته. على الرغم من ذلك أُدركت –تدريجيًا- عبقريته. واليوم لا يمكن تجاهل تأثيره على تطور فن كتابة القصص البوليسية والخيال العلمي وتقريبًا على كل أنواع القصص المتعلقة بالموت. كما أن خيالاته أصبحت جزءًا من التكامل الجمالي للأدب الأمريكي. فهو وميلفل وصل كليهما متأخرًا إلى قمة الشهرة.

بالرغم من شهرة قصص مثل "القلب الواشي" و"جريمتا شارع مورج"، تعد روايته الوحيدة "حكاية أرثر جوردن بيم من نانتاكيت" قصة مغامرات كلاسيكية تملؤها عناصر ما ورائية مزعجة لطالما أعجبت وألهمت كتابًا لاحقين؛ فنجد مثلًا أن فصل "رؤية الحوت" من رواية "موبي ديك" الشهيرة لم يكن ليكتب لولا بو. أو مثلًا "الكأس الذهبية لهنري" جيمس التي تدين بالكثير لإدجار آلان بو.

مصدر الإلهام لرواية "حكاية آرثر جوردن بيم من نانتاكيت" كان حداثيًا وأمريكيًا كذلك. طرقت الفكرة ذهن بو من جريدة. في فبراير 1836 نشرت جريدة "نورفولك بيكن" حادثة مفصلة لغرق سفينة اسمها "آرييل" في عاصفة في أعالي البحر، وكانت تلك القصة المثالية التي بحث بو عنها طويلًا. فشأنه شأن أي كاتب شاب طموح كان يسعى خلف الشعبية والتقدير الأدبي. وبعد كتابته لعدد من القصص القصيرة الناجحة، أشار على ناشره "ويزلي هاربر" بأن القراء في ذلك البلد لديهم تفضيلات مقررة بالفعل –خاصة في الأدب- وهو قصة واحدة ومتصلة في الكتاب بالكامل. "ومهما آلت الأمور إلى التغيير، تظل كما هي"[1].

لم تكن قصص مغامرات أعالي البحار جديدة بالنسبة لبو. فقد حصل قبل ذلك على جائزة عن قصتيه: "الهولندي الطائر" و"مخطوطة داخل قارورة". شرع بو في تخطيط روايته، يرسل بطل القصة –الذي يشابه إيقاع اسمه اسم بو نفسه- على ظهر سفينة صيد حيتان اسمها جرامباس في رحلة استثنائية في البحار الجنوبية على نحو قصيدة "صقيع منتصف الليل" لصامويل تيلور كولريدج لكنه يدفع الأحداث تجاه سلسلة من التهديدات الخطيرة؛ عصيان وعاصفة وحطام وأسماك قرش، وإرهاب آكلي لحوم البشر وسفينة أشباح وأراضٍ جليدية يسكنها محليون متوحشون.

قرأ بو وأعجب بقصص روبنسون كروزو –رقم 2 في القائمة- وتعلم من نموذج ديفو، فنرى أن افتتاحية رواية "أرثر جوردن بيم" تحاكي نفس افتتاحية كروزو، بل تقترض منها ذات النمط التأليفي. ومثلما فعل ديفو، عزز بو واقعية القصة عبر استعارة روايات معاصرة لمغامرات البحار الجنوبية.

ولأن "أرثر جوردن بيم" رواية بقلم بو، فإنها تتخطى كونها مجرد سرد متسلسل للأحداث بل تشبعت بالتحليلات النفسية والوجودية. فنجد مثلًا فرويد يحيل إلى الكثير من أجزائها السودوية. إضافة إلى ذلك، نجد أن الأجزاء التالية من السرد تستكشف ثيمة متكررة في كتابات بو، وهي رغبة الإنسان اللاواعية في الإبادة. لم يكن بيم على وشك الموت فقط بل نراه في أحد الفصول ميتًا بالفعل. وذلك العنصر الماورائي بالتحديد أثار حفيظة العديد من قراء بو الأوائل، ولن يتوقف عن إثارة حنق القراء اليوم أيضًا.

برغم الغرابة، أو ربما بفضلها، امتد سحر تلك الرواية إلى أعمال أخرى شهيرة. فقد وجد آرثر كونان دويل وبي تريفن ودايفيد موريل نقطة التقاء في رواية بو الوحيدة. ترجمها بودلير، وكتب جول فيرن جزءًا ثانيًا لها، في حين أورد بول ثيرو في صحيفة باتاجونيان إكسبريس سنة 1979 أنه قرأ مقطعًا منها على خورخي لويس بورخيس فقال الكاتب العجوز:

«إنها أعظم أعمال بو».

ملحوظة عن النص

في البداية، ظهرت رواية آرثر جوردون بيم في فصول في بعض إصدارات صحيفة "ساوذرن ليتيراري ماسنجر" ولأسباب غير معلومة –على الأرجح تتعلق بإدمانه للكحول- انسحب بو واستمر في العمل على مسودة روايته الوحيدة في أثناء إقامته في مدينة نيويورك. نشرت دار "هاربر وبراذرس" الرواية بالكامل في النهاية سنة 1838 كما نشرت نسخة بريطانية منها بواسطة دار ويلي وبوتنام في أكتوبر من نفس السنة.


[1] اقتبس مكروم من الكاتب الفرنسي جان بابتيست ألفونس: Plus ça change, plus c'est la même chose


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه