ظل مفهوم تولستوي عن الحقيقة حتى نهاية الرواية تدميريًا هادمًا لأي مثال أخلاقي استطاع بناءه جزئيًا حتى أرعب ذكاؤه ومقدرته العالم، فأفنى عمره مكرسًا كل قوى عقله وإرادته لنفي هذا الحقيقة

القنفذ والثعلب ﻷشعيا برلين

مقال روبرت مكروم

نُشر في الجارديان، أغسطس 2016

ترجمة سمية عبد العليم


أشعيا برلين عن الجارديان

"يعرف الثعلب العديد من الأشياء، بينما يعرف القنفذ شيئًا واحدًا كبيرًا". كان أشعيا برلين مدرسًا شابًا في جامعة أوكسفورد في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين عندما صادفته لأول مرة فتنة هذه الكلمات المنظومة للشاعر الإغريقي أرخيلوخوس الذي عاش في القرن السابع قبل الميلادي، وغدت له ولرفاقه وسيلة مسلية يستخدمونها لتصنيف أصدقائهم إما قنافذ أو ثعالب. 

يبدو أن هذه الشذرة الحكمية الغامضة قد علقت في عقل برلين حتى أصبحت نواةً ملهمةً لمقال استثنائي عن تولستوي، أملاه في ظرف يومين وعنوّنه في الأصل "شكوكية ليو تولستوي التاريخية" (وكان الناشر جورج ويدنفيلد هو من اقترح العنوان البديل). لم يكتف برلين في مقاله بتحليل نص الحرب والسلام واستنطاقه، بل عمل على تحري واستكشاف الفوارق الأساسية بين هؤلاء المفتونين بالتنوع اللانهائي للأشياء (الثعالب) وهؤلاء الذين يربطون كل شيء بنظام مركزي جامع (القنافذ).

بعد ذلك، وفي نقاش نقدي آخر، لم يعد تقسيم البشر إلي قنافذ أو ثعالب وسيلة ظريفة للتصنيف فحسب، بل طريقة وجودية لمواجهة الواقع أيضًا. الثعالب مثلًا ستخلص إلي حقيقة أنهم يعرفون الكثير من الأشياء، وأن توصلهم لرؤية كلية للعالم يقع غالبًا خارج مقدرتهم، وأن عليهم أن يتصالحوا مع واقع محدودية معرفتهم. في كتابه حياة أشعيا برلين يقتبس كاتب السير الذاتية مايكل إجناتيف عن برلين قوله: "إننا جزء من مخطط شامل للأشياء أكبر مما يمكننا أن نستوعبه؛ نعيش في هذا المحيط وبموجب قوانينه، وفيه نصبح حكماء فقط بالقدر الذي يبلغنا حد الوفاق والسلام معه".

وعلى النقيض فإن قنفذ برلين لا يعقد سلامًا مع العالم ويبقى مستعصيًا على التصالح. هدفه أو هدفها هو معرفة شيء واحد مهم، وبتعبير إجناتيف، "يجاهد بكل قوته ليلبس الحقيقة رداءًا موحدًا. يقنع الثعالب بما يعرفونه ولعلهم يعيشون حياة سعيدة. أما القنافذ فلا يقنعون وقد لا يعيشون حياة سعيدة".

بالطبع لا يدور مقال برلين الشهير حول الحياة البرية، بل هو عن الشخصية الفكرية السامية للفنان المبدع. يبدأه برلين بممارسة تقسيمته واصفًا دانتي وباسكال وإبسن وبروست (من بين صفاتٍ أخرى) بالقنافذ، وشيكسبير وهيرودوتس وأرسطو ومونتيني وبلزاك وجوته وجويس بالثعالب.

بعد كذلك يمضي مقال برلين عابرًا قائمة من عظماء الكُتاب الروس، مثل بوشكين ودستويفسكي وتورجنييف وتشيخوف وجوجول حتى يصل إلي الحالة الغريبة لكونت دي تولستوي ويُقر بتحيره في أمره. ويتساءل هل كانت رؤية تولستوي واحدة أم متعددة هل هو عنصري الوجود أم مركب متجانس العناصر، ويعترف قائلًا، "إنه لا توجد إجابة واضحة أو مباشرة على هذا السؤال".

وهنا يتحول القنفذ والثعلب إلى عملٍ ألمعيٍ مبهر يناقش في أقل من مائة صفحة فلسفة تولستوي في الفن والتاريخ (كما عبر عنها في رواية الحرب والسلام). قوبل الكتاب بحفاوة منذ صدوره وكتبت صحيفة ذي أوبزيرفر البريطانية، "هذا الكتاب صغير الحجم عظيم الأهمية، كما أنه شديد الإمتاع لدرجة أن قارئه لا يلاحظ أنه بحثٌ معرفيٌ موسوعي". وفي الطرف الآخر من الأطلنطي كتبت جريدة النيويورك تايمز: "لا يتمتع السيد برلين فقط بالعتاد اللازم لهذه المهمة من سعة إطلاع وأدب وفلسفة، بل إن لديه إحساسًا عميقًا وحاذقًا تجاه لغز شخصية تولستوي، وهو يكتب معبرًا عن كل هذا ببلاغةٍ رائعة". 

في مراسلاته مع الناقد الأمريكي القدير إدموند ويلسون لخص برلين مقالته ببساطة شديدة قائلًا: "ما زلتُ مقتنعًا بأن طبيعة شخصية تولستوي ومواهبه جعلته ثعلبًا، لكنه صدق وآمن بالقنافذ حتى تمنى أن يُصيّر نفسه واحدًا منهم. وهكذا نشأ بداخله صدعٌ يعرفه الجميع". هذا "الصدع" الموجود عالميًا: الذي يجعل البشر متقبلين دائمًا للحياة كما هي، وفي الوقت نفسه تواقين إلي حقيقة بسيطة موحدة تشمل الوجود وتعطيهم تفسيرًا وعزاءً عميقًا. 

تكمن بطولة القنافذ في رفضهم كل ما يحدّ من قدراتهم وفي أنهم لا يقبلون أبدًا الخضوع للقيود المعتادة. كما كتب إغناتييف، احتقر تولستوي كل المذاهب دينيةً وعلمانية، ولكنه لم يستطع أبدًا التخلي عن احتمالية وجود تفسير مطلق. أو كما كتب برلين، "ظل مفهوم تولستوي عن الحقيقة حتى نهاية الرواية تدميريًا هادمًا لأي مثال أخلاقي استطاع بناءه جزئيًا حتى أرعب ذكاؤه ومقدرته العالم، فأفنى عمره مكرسًا كل قوى عقله وإرادته لنفي هذا الحقيقة".

أصبحت هذه التفرقة بين الثعلب التعددي وبين القنفذ الأحادي موضوعًا رئيسيًا في التحليل الثقافي الحديث. أما الجائزة الكبرى فهي أن استخدام برلين الرائع للمفهوم قد ألهم محاكاته في عمل بارودي ساخر. في مجلة بانش الهزلية (24 فبراير 1954) قسّم جون باول، مع الاعتذار لإدوارد لير*، العالم إلي "بومٍ" و"قطط"، "الأولى حكيمة ومتحررة وأشبه بالأشباح" والثانية "مُدورة ومستغِلة وكثيرة الزغب". 

بقى مقال برلين على مر الزمن لأنه تحفة أدبية، واستعراض فكري آخذ للأنفاس لأستاذ عصري، وتحقيق بارع في شخصية وأعمال كاتب عظيم، ولعل سبب بقائه هو أن أغلب البشر منقسمون بين العيش كالثعالب أو القنافذ. برلين الذي قال يومًا "أنا شديد الأسف لتسمية كتابي القنفذ والثعلب، الآن أتمنى لو لم أفعل"، لكن قَبِلَ في النهاية بالتفرقة وأقر بأنه "على الأرجح ثعلب". 

اقتباس ختامي 

"هناك بون شاسع بين هؤلاء الذين يربطون كل شيء برؤية مركزية أحادية، بنظام واحد تتفاوت درجات تماسكه ووضوحه، وبموجبه يفهمون ويفكرون ويشعرون –مفهوم واحد عالمي ناظم بداخله هو فقط يصبح لكل ما يكونونه وما يقولونه معنىً- وبين الجانب الآخر حيث هؤلاء الساعين لنهايات متعددة غير مترابطة وأحيانًا متعارضة، مرتبطةً، إن وجد لها رابط، بطريقة واقعية لأسباب نفسية أو جسدية، متحررة ًمن أي مبدأ أخلاقي أو جمالي".

ثلاث أعمال للمقارنة:

جورج شتاينر، تولستوي أم ديستوفسكي؟ مقال في التناقض (1960) 

أشعيا برلين، ضد التيار: مقالات في تاريخ اﻷفكار (1979) 

إدموند ويلسون، الخمسينيات: من مذكرات ويوميات المرحلة، حرره ليون إديل (1986)


* تستخدم جملة "مع الاعتذار لكذا ويُذكر اسم صاحب العمل الأصلي" للتقديم لأي عمل بارودي، وفيها هنا إشارة لأشهر قصائد إدوارد لير "البومة والقطة".


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه