ولكنني لم أكن أبكي لأنني حزينة. أظن أنني كنت أبكي لأننا لم نملك مكانًا آخر نذهب إليه، ولا خيارًا آخر سوى مواصلة العيش في هذا العالم. أبكي لعدمِ وجودِ عالمٍ آخرَ يُمكنني اختياره، وأبكي مِن كل ما ينتظرُنا، وكل ما يُحيط بنا. 

اقتباسات من رواية الجنة لميكو كاواكامي

ترجمة: رانيا صبري

‘عن ترجمة سام بيت وديفيد بويت إلى الإنجليزية

ميكو كاواكامي كاتبة وشاعرة يابانية. قبل الكتابة عملت كمغنية وأصدرت ثلاثة ألبومات ثم انتقلت للكتابة وحققت نجاحًا كبيرًا، إذ دخلت العديد من كتبها قوائم الأكثر مبيعًا وحصلت على العديد من الجوائز، وتعتبر "الجنة" روايتها الطويلة الأولى.


ميكو كاواكامي، عن panmacmillan

كان كُل شيء جميلًا. في آخر الشارع - ذلك الذي قطعته عدد مرّاتٍ أكثر مما قد أُحصي - رأيت الجانب الآخر لأول مرةٍ يتلألأ باللون الأبيض. فهمت كل شيء الآن. من خلال دموعي، رأيتُ العالم يتضح أمامي. أصبح للعالمِ عُمقٌ الآن. صارَ له جانبٌ آخر. فتحت عينَيّ قدر ما استطعت، أُصارع لأرى كل شيء. كل ما تمكنت من رؤيته جميل. بكيت، وبكيت، وأنا واقفٌ هناك، مُحاطٌ بذلك الجمال، على الرغم من أنني لم أكن واقفًا في مكانٍ ما بالمعنى الحرفي. أمكنني سماعُ صوت انهمار دموعي. كان كل شيء جميلًا. لم يكن هناك من أشاركه إياه، ولا أحد لأُحدِّثه. فقط ذلك الجمال. 

***

ولكنني لم أكن أبكي لأنني حزينة. أظن أنني كنت أبكي لأننا لم نملك مكانًا آخر نذهب إليه، ولا خيارًا آخر سوى مواصلة العيش في هذا العالم. أبكي لعدمِ وجودِ عالمٍ آخرَ يُمكنني اختياره، وأبكي مِن كل ما ينتظرُنا، وكل ما يُحيط بنا. 

***

لكي يعيش الناسُ بقاعدةٍ ذهبيةٍ ما، يتعين علينا العيش في عالمٍ بلا تناقضات. ولكننا لا نعيش في عالم كهذا. لا أحد يعيش فيه. يفعل الناس ما يحلو لهم؛ أي شيء يُشعرهم بالارتياح. ولكن لا أحد يُحب أن يكون الضحية؛ لذا يبدأ الناس في التفوه بالخراء المبتذل عن كونهم يُحسنون معاملة الآخرين، ويُراعون مشاعرهم.. إلخ. الجميع يفعلون أشياء لا يُريدون أن يفعلها أحدٌ بهم. قولي إنني مُخطئ. الجميع يفعلون أشياء لا يُريدون أن يفعلها أحدٌ بهم. المُفترس يفترس فريسته. ولا غرض من المدرسة سوى فلترة الأولاد الذين يملكون ما يلزم عن الذين لا يملكون شيئًا. هذا كل شيء. حيثما نظرتِ، ترين القوي يدوس على الضعيف. حتى أولئك الحمقى الذين يظنون أنهم وجدوا تفسيرًا منطقيًا باختلاقِ عباراتٍ مثالية عن ماهيةِ العالم، لا يمكنهم الهرب. لأن العالم الحقيقي موجودٌ في كل مكان».

***

ما هو الموت على أي حال؟ سمحت لذلك السؤال المستحيل بملء ظلام غرفتي. فكّرت كيف أن هناك شخصًا ما يحتضر في مكانٍ ما في لحظةٍ ما. هذه ليست خرافةً، ولا دُعابةً، ولا نظرية. البشرُ يموتون على الدوام. إنها الحقيقة المُطلقة. لا يهم كيف نعيش حياتنا، سنموتُ عاجلًا أم آجلًا. في هذه الحالة، يُصبح العيشُ انتظار الموت. وإذا كان هذا صحيحًا، لِم نُرهق أنفسنا بالعيش؟ لِم أنا على قيد الحياة؟ لقد أثرتُ جنوني، وأخذت أتقلّب على السريرِ وألهث. عندها استوعبت أن الموت كالنومِ تمامًا. أنت تعلم أنك كنت نائمًا عندما تستيقظ في الصباح، ولكن إذا لم يأتِ الصباح تظلُّ نائمًا للأبد. لابد أن الموت هكذا بالضبط. عندما يموت أحدٌ، فإنه لا يعرف أنه قد مات. لأنه لا يُدرك ما حلَّ به. لا أحد يموت حقًا. باغتتني تلك الحقيقة كلكمةٍ مُفاجئة.

***

اسمع، إذا كان هناك جحيمٌ، فنحن فيه الآن. وإذا كانت هناك جنةٌ، فقد وصلنا. هذا كل شيء.

***

حتى إذا حدث أي شيء لنا، حتى إذا متنا ولم نُضطر للتعامل معهم مُجددًا، سيحدث الشيء ذاته لشخصٍ ما في مكانٍ ما. الشيء ذاته. سيُعاني الضعفاء دائمًا، ولا يوجد ما يمكننا فعله. لأن الأقوياء لن يتراجعوا. لهذا السبب تريد أن تدّعي أنك مثلهم، أليس كذلك؟ لأنك تريد أن تنضم إليهم.

***

الرسوم هنا مُحيّرة. بين درجات الأحمر والأخضر تتراقص العذارى مع الحيوانات، ويحمل ماعزٌ أو شيء ما كمانًا بفمه، ورجلٌ وامراةٌ يتعانقان تحت باقةٍ هائلة مُشتعلة. كان تجمُّع الصور غير المترابطة أقرب إلى لمحةٍ من حلم. ولكنه ليس جيدًا. كانت السعادة التي شعرت بها هناك قاسية، والحُزن باردًا لدرجةٍ خانقة. اللون الأزرق يُصارع درجات اللون الأصفر - التي كانت تقترب منه كالأعاصير - في اللوحة. تجمع الناس مشدوهين ليُشاهدوا سيركًا يعود للحياة.

***

لقد تعذَّبتَ كثيرًا بسبب عينيك. الأمرُ مؤلم، أنا أعلم ذلك، ولكنه جعلك ما أنتَ عليه. لا شكَّ في ذلك. ولأنني لن أتخلص من علاماتي، تعذَّبتُ أيضًا. لو لم نمتلكهم، لكان كل شيءٍ مختلفًا. لهذا السبب أنا أشعر بأنني سأفهمك أكثر من أي أحدٍ آخر، بل أنا متأكدة.

***

كانت علامتي الخاصة. علامةٌ تُذكِّرني أنني كنت معه. علامة لن يفهمها غيري. علامةٌ تدل على أن أبي موجودٌ هناك في مكانٍ ما، يرتدي الحذاء ذاته، وأنني كنت معه.

***

يبدو الأمرُ مُضحكًاـ ولكن عندما لا أفعل شيئًا، أشعر أنني أحاربُ شيئًا ما. وجهًا لوجه بالعِصي. لا يزول ذلك الشعور أبدًا، حتى وأنا أتمشى في الأرجاء.

***

«إذن المتحف هو الجنة؟»، سألت.

«لا»، أجابت.

أطلَقَت صوتًا ساخرًا ثم نظرت إليّ في عينيّ مباشرةً.

«أكثر لوحةٌ أحبها..»

«اسمها الجنة؟»

«لا»، وهزّت رأسها.

«الرسّام جيدٌ جدًا، ولكن أسماءَ اللوحات مملة لدرجةٍ تُشعرني برغبةٍ في البكاء. هنا، انظر إلى هذه»، وأشارت إلى اللافتة إلى جوار اللوحة. كانت على حق.

الاسم سيء جدًا مقارنة باللوحة.

«مُقرف، أليس كذلك؟»

«بعض الشيء».

»لهذا السبب أعطيتها اسمًا أفضل«.

»حقًا؟»

»أجل»، وضحِكَت بفخر.

»الجنة هي لوحةٌ لمحبوبَين يأكلان الكعك في غرفةٍ بها سجادةٌ حمراء وطاولة. إنها جميلةٌ جدًا. والمثير في الأمر هو أنه يمكنهما الالتفاتُ كيفما يريدان. حيثما ذهبا، وأيّما فعلا، لا شيء سيحولُ بينهما أبدًا. أليست أفضلهم؟»

»أجل..».

»إنها الأفضل»، وضحكت كوجيما مسرورةً.

»إذا نظرت حول الغرفة للحظةٍ، ستبدو كأي غرفةٍ أخرى ولكنها ليست كذلك، إنها الجنة».

»هل تقصدين أن المكان هو الجنة؟»

»لا، بل اللوحة التي أخبرتك عنها»، قالت كوجيما بحذر.

»هل أطلقتِ عليها اسم الجنة لأنهما مَيّتين؟»

»لا»، أجابت كوجيما بصوتٍ منخفضٍ صادرٌ من مؤخرة حلقها. »لقد حدث شيءٌ فظيعٌ لهما. شيءٌ حزينٌ جدًا، جدًا. ولكن أتعلم؟ لقد تجاوزاه. لهذا السبب يعيشان في رفاءٍ تام. بعد كل شيء، وبعد كل الألم، تمكنَا من الوصول إلى هنا. تبدو كأنها غرفة عادية، ولكنها حقًا الجنة»، وتنهّدت وفركت عينيها.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها