اليوم سأحاول أن أعطيكم لمحةً موجزةً حول العلاقة بين النساء والماء في العصور الوسطى، وكيف صارت الدموع -بالنسبةِ للنساء- قرابين تقوي من صلتهن بالمسيحِ. 

قرابين الماء.. النساء والماء في العصور الوسطى

مقال لهيتا هاوز

ترجمة: هشام حسن

د. هيتا هاوز: باحثة متخصصة في النصوص التعبدية في العصور الوسطى، النصوص التي كتبها نساء أو كُتبت للنساء.

نٌشِر المقال على مدونة History Of Emotions بتاريخ 8 مايو، 2014


النزول من على الصليب، لجوزيف جانسينز

ثمة شيء ما متعلق بالماء يصعب تفسيره: ينساب الماء وينبثق من قبضة أيدينا، يلف ويدور يصعب الإمساك به، ثم يتجمع في ثبات حينما لا نتوقع ذلك. البحث أو العودة إلى أصل ما، كان ذلك الدافع المبدئي لمشروع (ستريم) الذي أقامتاه (كلير ويسلر) و(تشارلوت ستيل)[1]. ومع ذلك فإنهما في طريقهما للعودة إلى الأصل ضلا الطريق رغمًا عنهما، وهداهما الماء إلى أمور أخرى وأبقاهما في أسرها وطلب منهما أن يظلا كذلك. بالنسبة لي هذا يشير إلى شيء أهم من العودة إلى الأصل، شيء يفوق الوصف. كان الكثير من حديثنا يكشف عن رغبة في العودة إلى الأصل أو منشأ: "فلنعد للبداية"، "حيث بدأ كل شيء"، "ذلك المحفز"، "كانت هذه هي اللحظة"، "في تلك المرحلة.." وبالرغم من ذلك فإننا في بحثنا عن البداية، في بحثنا عن الأصل أو المنشأ انحرفنا: سلكنا طريقًا مختلفًا، ووجدنا أمورًا لم نكن نعلم أننا نبحث عنها. نعتقد أن دافعنا هو أن نصل إلى أصل ولكن في الواقع ريما يكون الأمر مختلفًا تمامًا، يبدو الماء أقدر من الكلمات على وصف هذا الشعور: انساب باستمرار في جهات مختلفة ضالة للطريق، شعرت بأن بحثي حول الماء والدموع يشبه ذلك إلى حد كبير.

اليوم سأحاول أن أعطيكم لمحةً موجزةً حول العلاقة بين النساء والماء في العصور الوسطى، وكيف صارت الدموع -بالنسبةِ للنساء- قرابين تقوي من صلتهن بالمسيحِ. لا أظنها ستكون مبالغة إن قلت إنه حتى يومنا هذا ثمة علاقة وثيقة تربط النساء بالماء، وكان (كلاوس ثويليت) واحدًا من علماء الاجتماع الذين تقفوا أثر تلك العلاقة، وكذلك (آن كارسون) من بين الكُتَّاب.

برزت تلك العلاقة تحديدًا في العصور الوسطى، فارتبطت بنظريات الطب وعلم اللاهوت. كانوا يؤمنون في ذلك الوقت أن جسم الإنسان مكون من أربعة أخلاط[2]: الصفراء والسوداء والبلغم والدم، وكل خليط له ما يقابله من العناصر: (الماء والهواء والأرض والنار)، وأن صحة الجسم معتمدة على توازن تلك الأخلاط. واختلف تركيب الأخلاط في الرجال عن النساء جزئيًا: فكانوا يؤمنون بزيادة طفيفة في الماء في أجسام النساء على الرجال وبالتالي زيادة خليط البلغم، أما أجسام الرجال فكانت أكثر حرارةً وجفافًا حيث ارتبطت أجسامهم بالنار وزاد فيهم خليط الصفراء زيادة طفيفة. كانت الزيادة في خليط البلغم وعنصر الماء في النساء تقابل بشيء من الريبة والغموض. وعلى النقيض، كانوا يظنون أن طبيعة الرجال الحارة والجافة هي نوع من المكافأة لهم.

(لوحة من العصور الوسطى لفنان غير معروف)

الاعتقاد بكثرة الماء في أجسام النساء له تفسيرات كثيرة، الحيض أحد أكثر تلك التفسيرات تأثيراً. تنزف النساء مرة كل شهر، ولا أحد يعرف السبب. علم الجميع بثقة أن ذلك النزيف له علاقة بلعنة حواء[3]، عقابًا للمرأة ومَعْبَرها للحمل والولادة. كانوا يقترحون النظريات بثقة لكنها كانت بعيدة تمامًا عن الصواب. فلم يكن أحد يعلم فعلًا ما العلاقة بين الحيض بالماء.

في العصور الوسطى، سرى اعتقاد أن سوائل الجسم بما فيها الماء تمثل شكلاً مختلفًا من أشكال الدم. لذلك فإن ذلك النزيف الشهري للمرأة، خلَّد الربط بين النساء والماء، وخلَّد أيضًا الفكرة القائلة بأن أجسام النساء رطبةٌ بشكل سيء لدرجة أنها تسرب ماء. سأعرض بعض الأمثلة من التراث الشعبي في العصور الوسطى؛ لأوضح اعتقادهم حول الحيض وذلك الماء الفائض: كانوا يعتقدون أن دم الحيض قد يسمم الرجال، خصوصًا آرائهم، إذ أنه ملوث، بل وخطير. ومن المفارقات أنهم كانوا يشعرون بنوع من القلق الخاص من النساء اللَّواتِي وصلن سن اليأس وتوقفن عن الحيض. يجب أن يخرج كل هذا الدم إلى مكان ما، فظن البعض أنه يسير داخل أجسامهن للأعلى، ويخرج من مُقلة العين. فإذا نظرت امرأة وهي في مثل تلك الحالة إلى طفل فقد تسممه أو تقتله، وسموا عينها بـ"عين الشيطان".

لم تكن تلك المعتقدات مقتصرة على مجالس النساء، بل إن إيسيدور الإشبيلي -عالم اللاهوت البارز والموسوعيٌّ في القرن العاشر الذي راجت نصوصه في العصور الوسطى المتأخرة- كتب في أحد النصوص: "في وجود المرأة الحائض، لا تنمو المحاصيل، ويفسد النبيذ، ويموت العشب، وتفقد الأشجار ثمارها، ويصدأ الحديد.."، ولم يكن من الضروري أن يمس الدم تلك المواد، مجرد تواجد المرأة بالقرب منها كافٍ لإفسادها.

(آدم وحواء في جنة عدن – لـميلشيو فولجموت، 1941. في أقصى اليسار الإلهِ يخلق حواء من ضلع آدم وهو نائم، وفي المنتصف آدم وحواء يأكلان من شجرة المعرفة)

وصفت العلاقة بين النساء والماء بدقة في طب العصور الوسطى المتأخرة، لكن لم يكن الطب هو السبب الوحيد لتخليد هذا الربط بين النساء والماء. فمن ضمن الأسباب، أنهم كانوا يعتقدون أن المرأة مُتغيِرة وكذلك الماء. الماء يتحول وقد يسبب تحولًا في المواد الأخرى، يلتف ويدور ويغير اتِّجاهَه، يتجمد أو يغلي.

في التراث الشعبي وقصص الأساطير مثل التي في كتاب أوفيد (التحولات)[4] -الذي أعيد إحياؤه مصادفةً في القرن الثاني عشر- غالبًا ما يكون الماء مركز التغير: فنرى "هرمافروديتس"[5] يدخل الماء ويندمج للأبد مع الأنثى التي تطارده، ويصبح ذكراً وأنثى في الوقت ذاته. والنيادة (سياني)، نراها في حزنها، تذوب في الماء. وليس الماء وحده، بل ظنوا أيضًا أن النساء متغيرات. ففي أكثر أدبيات العصور الوسطى، رومانسية كانت أو حتى دينية، صُورت المرأة على أنها متقلبة وخائنة. منذ خيانة حواء[6] في جنة عدن فهموا أنه يصعب على المرأة أن تكون مخلصة. حتى في الحياة العملية، كان عمل النساء مرتبطًا بالماء أكثر من الرجال. كُنَّ هن الساقيات. كانت وظيفتهن أن يجلبن الماء ويحملنه ويطهرنه قدر الإمكان، بالإضافة لأعمال الطهي والتنظيف وتجهيز الطعام كي يحافظن على عائلتهن أصحاء. وفي كثير من الدول في وقتنا الحاضر، ما زالت الأمور المتعلقة بالماء من اختصاص النساء. وفي العصور الوسطى، لم يكن يسمح لأحد من المجتمع أن يقوم بعملية التعميد غير القساوسة والقابلات: نساء بلغن الخمسين من العمر ويحظين بتقدير بالغ.

العلاقة بين النساء والماء في الأمثلة السالف ذكرها تبدو غامضة في أفضل الأحوال، سلبية ومزعجة في أسوأ الأحوال. وعلى الرغم من ذلك فإنها صارت إيجابية بشكل مفاجئ في كثير من أدبيات العصور الوسطى المتأخرة وممارسات الدين. خالف الكُتّاب الروحانيون (الذكور منهم والإناث) التوقعات، وأعادوا صياغة تلك العلاقة، ليسمحوا للنساء أن يتخذن خطوات نحو تعديل تلك العلاقة واستغلالها.

قبل أن نُسلط بعض الضوء على هذا الاتجاه الروحاني، فإن الممارسات الدينية التي في كتاب "تقليد المسيح"[7] تستحق بعض التأمل. تتضمن تلك الممارسات اتباع المسيح، وتقليد تصرفاته، من أجل تشكيل اتصال معه وتحقيق تقوى وجدانية. قد يسرع المسيحي ليقتدي بالمسيح في الصحراء، أو يجلد ذاته ليفهم كيف كان المسيح يشعر عندما جلدوه وهو مصلوب. بدأت النساء تعي قدرتهن على أن يقلدن المسيح من خلال التأمل في أنوثتهن، وزاد ذلك الوعي في العصور المتأخرة، تحديدًا في القرن الرابع عشر. كان يقال عن أجسام النساء إنها مفرطة المياه، وتنزف، وتعاني من ضعفها. انظر لأي لوحة من لوحات العصور الوسطى السردية، التي تصور المسيح مصلوبًا، ينزف دمًا وماءً من جرح في جنبه، أو يتعرق دمًا على جبل الزيتون[8]، يظهر فيها النزيف والضعف بوضوح. عَلَّمنا مؤرخين مثل (كارولين ووكر باينوم) أن نرى هذا التشابه، لاحظته النساء في العصور الوسطى أيضًا واستغللنه ليصغن علاقة أعمق وأكثر قربًا مع المسيح. في خاتمة هذا المقال، أود أن أشارك بعض النتائج التي توصلت إليها في بحثي حتى الآن، البحث الذي يبدو أنه يتعمد استغلال العلاقة بين النساء والماء، وكذلك العلاقة بين أجسام النساء والمسيح.

(لوحة لفنان مجهول من أواخر القرن الخامس العشر، يظهر فيها المسيح والقديسة بريجيت السويدية)

قضيت الكثير من الوقت خلال العامين السابقين أقرأ نوعًا أدبيًا يسمى (سرديات أو تأملات في آلام المسيح). سرديات آلام المسيح كانت جزءًا من الكتابات الروحانية، التي عادةً ما تكون موجهة للنساء المتدينات اللواتي يرغبن في تقوية إيمانهن. وتلك النصوص هي عبارة عن وصفٍ لأحداث من حياة المسيح، وتدعو قارئاتها أن يضعن أنفسهن في تلك المشاهد الحقيقية. تشجعهن تلك النصوص على أن يتأملن تلك الأحداث، وأن يفكرن بماذا كن سيشعرن لو كن مكان المسيح نفسه، أو أن يتخيلن كيف سيكون رد فعلهن كأفراد لو كن حاضرات تلك الأحداث. صورت آلام المسيح ومعاناته بتفاصيل مؤلمة ليحفز التقوى الوجدانية بداخلهن. عندما قرأت تلك النصوص، خصوصًا الموجهة للنساء منها، لاحظت أن الكتّاب يلجأون لعنصر الماء لكي يسهلوا مشاركة القارئة، خصوصًا في مشاهد آلام وصلب المسيح. رسالة القديس أليرد رئيس دير ريفاولكس إلى أخته (قاعدة حياة الناسك) هي نص روحاني أكثر منها رسالة، كتبت في الأصل باللاتينية في القرن الثاني عشر، لكنها انتشرت على نطاق واسع وترجمت للإنجليزية المحلية في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر، مما يثبت أنها وصلت لكثير من القراء غير أخت أليرد.

(لوحة لفنان غير معروف تظهر فيها كريستين دي بيزان تقرأ)

يسْتَحَثَّ الماء -وخصوصًا الدموع في سرديات آلام المسيح خلال هذا النص الذي هو الأول من نوعه- المرأة أن تتحد مع المسيح وتشارك في مشاهد معاناته. يحثها النص من خلال لغة إلزامية مدهشة: "اذهبي إليه، اركضي نحوه، بسرعة، ماذا تنتظرين؟"، أن تلعق التراب من أقدامه الرطبة، أن تغرق دموعها البصاق الدنس من المتفرجين المتهكمين، أن تبكي بحزن وهي تشاهد معاناته، أن تغسل أقدامه بدموعها، وتجذب اهتمامه إذا بدا عليه رفضها في تلك السرديات. بينما تتخيل القارئة أنها تمسح قدمي المسيح، إذا حاول أن يبعد قدميه يرشدها أليرد أن: "ابقي واقفة في ثبات، وصلي في ضعف. وبأعين مغشية بالدموع، ابقي نظرك عليه، بأنين عميق، وبكاء مُفجع، قدمي له ما تتمنين لنفسك. حاربي بضراوة مع المسيح كما فعل يعقوب، سيكون سعيدًا بكل صدق أنك فقت يعقوب. ابقي هناك، وابكي عليه بحرقة دون توقف".

الدموع في هذه الحالة، أصبحت بمثابة دعوة للقارئة، طريقة لجذب اهتمام المسيح ورحمته. فإن الشيء الوحيد الذي لا يستطيع المسيح أن يتجاهله هو الدموع النابعة من نية صافية حتى لو كان الباكي عاصيًا. خلال سرديات آلام المسيح ترى الماء يصبح -بشكل استثنائي- عنصرًا حميميًا يربط بين القارئ والمسيح: قد تكون (مريم المجدلية) مسحت أقدام المسيح بالزيت[9]، ولكن تلك السرديات تسمح للقارئة أن تتخيل أنها هي نفسها تفعل ذلك بدموعها. قلبت علاقة النساء والماء هنا رأسًا على عقب فأصبحت إيجابية وتحقق النصر فيها للنساء. لا يزال النص يعمل بداخل إطار كراهية النساء، الإطار الذي يفرض فيه المفكرون الذكور ذلك الربط بين الماء والنساء على النساء. ومع ذلك فإن النص يدور داخل هذا الإطار رغبةَ في الوصول لتصور جديد لتلك العلاقة.

من العسير الوصول لنتائج ثابتة عند التحدث أو الكتابة أو حتى مجرد التفكير بالماء، فهو بطبعه عنصر زلق يصعب الإمساك به. ولكنني مع ذلك حاولت في هذه المقالة أن أعطيكم نبذة عن استخدام خاص للماء والدموع في زمن وسياق محددين. قدمت النساء في تلك النصوص قرابين الماء في صورة دموع، وهذه المقالة هي قرباني المائي أقدمه لكم.


[1] واحد من ثلاث تدوينات صوتية، شاركت فيها هيتا هاوز مع كلير ويسلر وتشارلوت ستيل. تحدثت فيه هاوز حول العلاقة بين المرأة والماء في العصور الوسطى. كلير ويسلر هي مغنية أوبرا ومصممة رقصات، في تعاون لها مع كلية الملكة ماري في عام 2014 أقامت فعالية باسم "أوعية الدموع".

[2] مذهب الأخلاط الأربعة: نظام طبي قديم مفصل لتركيب وعمل الجسم البشري، اعتمده اليونانيون، ظل رائجًا حتى ظهور الأبحاث الطبية الحديثة في القرن التاسع عشر.

[3] تقول بعض التفسيرات للكتاب المقدس كتفسير (جيمس فريزر) في الجزء الأول من كتابه "الفلكلور" في الصفحات رقم 142،143 أن الله لعن المرأة وحكم عليها أن تلد في ألم، وأن تكون خاضعة لزوجها.

[4] قصيدة سردية لاتينية، وتعتبر أحد أكثر الأعمال تأثيرًا في الثقافة الغربية، للكتاب ترجمة شهيرة للدكتور (ثروت عكاشة) تحمل اسم "مسخ الكائنات".

[5] هرمافروديتس: ابن (أفروديت) و(هرمس)، صبيًا جميلًا، أحبته النيادة (سالماسيس) ودعت أن تتحد معه اتحادًا أبديًا، فاندمجا معًا. واسم (هرمافروديتس) هو أصل كلمة (هرمافروديت) الإنجليزية، وتعني: الخنثى.

[6] هناك اعتقادات تقول بأن حواء خانت آدم بتحالفها مع الشيطان وإقناع آدم بضرورة الأكل من الشجرة المحرمة. «لَوْلاَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُن أُنْثَى زَوْجَهَا» رواه الشيخان وغيرهما.

[7] كتاب لـ توما الكمبيسي، هو أكثر كتاب تعبدي مسيحي قراءة بعد الكتاب المقدس، ولم يترجم أي كتاب أكثر منه في ذلك الوقت.

[8] التعرق الدموي هو حالة نادرة جدًا التي يتعرق بها الشخص المصاب دمًا، وقد تحدث عند أشخاص يعانون من درجات مرتفعة من الضغط العصبي «الإجهاد». وقد اقتُرحت عدة عوامل مسببة لهذه الظاهرة مثل الحيض بالإنابة والجهد الزائد.

[9] "وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة إذ علمت أنه متكئ في بيت الفريسي جاءت بقارورة طيب ووقفت عند قدميه من ورائه باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب" (لو7 :42و43)


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه