يتضح أن الحزن ليس حالة بل مسيرة، لا تحتاج إلى خريطة بل إلى تاريخ، وإذا لم أتوقف عن كتابة ذلك التاريخ عند أي نقطة عشوائية، فلا يوجد سبب يجعلني أتوقف أبدًا.
حزن ملحوظ لسي إس لويس (1961)
مقال: روبرت مكروم
نُشر في الجارديان، يونيو 2016
ترجمة: زينب أبو علي
"لم يخبرني أحد أبدًا أن الحزن يشبه الخوف كثيرًا". بداية من افتتاحيته الشهيرة، يدفع كتاب "حزن ملحوظ" بقرائه إلى أرض مقفرة من الحزن والرثاء. إذ يمنح الثكل بعدًا دراميًا ويواجه بلا رحمة الناجي التعيس بسؤال ملح وكاسح وهو "أين الرب؟".
تتردد أصداء إجابة لويس على هذه المعضلة الوجودية عبر باقي الكتاب في نوع من الغضب الملموس، إذ يقول "اذهب إليه عندما تكون حاجتك ملحة، عندما تصبح شتى أنواع المساعدة بلا جدوى، وماذا ستجد؟ بابًا مغلقًا في وجهك، وصوت صعق وصعق مزدوج يأتي من خلف الباب. ثم بعد ذلك، يسود الصمت. وربما أيضًا قد تستدير مبتعدًا، فكلما طال انتظارك، أصبح الصمت مؤكدًا أكثر. لا تتسرب أي أضواء من النوافذ، ربما هذا المنزل خالٍ، وهل كان مأهولًا قبل ذلك؟ لقد بدا كذلك ذات مرة، وكان هذا التبدي بنفس القوة، ماذا يمكن أن يعني ذلك؟ لماذا يكون شديد الحضور كقائد في وقت الرخاء وغائبًا في وقت المحن الذي نحتاج فيه إلى مساعدته؟".
يمكن حتى لغير المؤمن المشوش أن يقدر الشعور العميق بالخيانة هنا، ففي الأوقات الطيبة حيث السعادة والأمان، ربما لا تشعر أنك بحاجة إلى المواساة وربما تفترض أن الرب لن يكون موجودًا عندما تحتاجه. وبقلم مؤمن يكتب لويس متحسرًا: "الاستنتاج الذي أخشاه ليس أن الرب غير موجود، ولكن أن تلك حقيقة الرب، فتوقف عن خداع نفسك".
معظم نص لويس يشبه النصوص الدينية، بينما تحمل الأجزاء الأخرى طابع كتب المساعدة الذاتية الذي يتحول سريعًا إلى الغنائية، يوعز لويس قائلًا "يتضح أن الحزن ليس حالة بل مسيرة، لا تحتاج إلى خريطة بل إلى تاريخ، وإذا لم أتوقف عن كتابة ذلك التاريخ عند أي نقطة عشوائية، فلا يوجد سبب يجعلني أتوقف أبدًا. كل يوم يوجد شيء لتأريخه. يشبه الحزن وادٍ طويل ومتعرج، يقود كل منعطف فيه إلى الكشف عن منظر طبيعي مختلف تمامًا".
يعتبر كتاب "حزن ملحوظ" مربكًا بالنسبة لعصر علماني، إذ يقود قرائه إلى تلميحات عن القديس أوغسطين واعتبارات تتعلق بالجنة والخلود مقترنة بمناقشات مكثفة وتحليلية ذاتية عن الانفصال والانعزال والمعاناة المسيحية. بعض الأمور التي أثارت تعجب لويس عصرية وقاسية، فيقول: "سرطان، ثم سرطان، ثم سرطان. أمي، ثم أبي، ثم زوجتي، أتساءل مَن التالي في القائمة".
بمجرد أن يضبط القارئ/ة عاطفته/ا على موجات لويس، يصبح هذا السرد الجاف المنعش أحيانًا، لحوار الإنسان مع اليأس، مقنعًا ومواسيًا في آن واحد، وذلك بعدة طرق مثيرة لا علاقة لها بالموت. وكما كتب روان ويليامز: "إذا كان ألم الخسارة يمكن أن يُعاش بصدق (ليس يتكيف معه)، فيجب أن يكون من خلال اعتراف واضح باستحالة امتلاك من نحب أو الاستحواذ عليه".
إن بعض أفضل الفقرات التي كتبها لويس تستدعي قوة مقال عاطفي سابق وهو "المحبات الأربع" حيث كتب لويس: "لقد رأينا الأوجه المختلفة للمقربين منّا، من زوايا مختلفة، وتحت إضاءات شتى، وعبر عدة تعبيرات بين الاستيقاظ والنوم والضحك والبكاء والأكل والتفكير إلى أن تحتشد كل الانطباعات في رأسنا ثم تلغي بعضها الآخر متحولة إلى ضباب".
وعلى عكس المتوقع، لا تسرد هذه السلسلة من أفضل الأعمال غير الروائية خلفية الكلاسيكيات التي وقع عليها الاختيار، ولكن كواليس كتاب "حزن ملحوظ" تستحق التكرار. طوال حياته، كان "جاك" لويس رجلًا تعذب بمآسي الحب، وُلد عام 1898 في أيرلندا الشمالية. تلقى تعليمًا شبه حكومي في إنجلترا ثم كان ضابطًا في الحرب العالمية الأولى حيث تعرض لإصابة بالغة أثناء القتال. وبالنسبة له، كانت الأهوال التي قابلها في الخنادق مجرد نوع جديد من الرابطة مع الموت، إذ فقد أمه عندما كان طفلاً يبلغ من العمر 10 سنوات. وكتب في سيرته الذاتية "مفاجأة الفرح" عندما توفيت أمه ورأى جثمانها "لقد اكتسح الخوف الحزن".
فيما بعد، تكريمًا لاتفاق عُقد في ميدان القتال مع جندى زميل راح ضحية للحرب، شكل لويس علاقة غير اعتيادية مع جين مور التي كانت تكبره بحوالي 26 عامًا، وكان يناديها "أمي"، وتوفيت بداء الخرف عام 1951.
في عام 1956، عندما تخلى لويس عن أمان العزوبية لأجل الشاعرة الأمريكية جوي دافيدمان، عايش نوعًا من التحول إلى متع الحميمية الأنثوية، كما ضم في كنفه ابنيّ زوجته خلال فترة زواجه، ولكن هذا الازدهار المتأخر انتهى بسرعة عندما شُخصت جوي بالسرطان، وتوفيت بعد أربع سنوات، ليغرق "لويس" في أزمة إيمانية تناولها في كتاب "حزن ملحوظ". ربما كان جرحه بسبب وفاتها أعمق مما ظن. توفي لويس في نوفمبر 1963 قبل عيد مولده الخامس والستين بأسبوع.
مخطوط هذا النص الذي تتجاوز عدد صفحاته الخمسين صفحة قُدمت إلى دار فيبر وفيبر للنشر على أنه عمل لكاتب يحمل اسم مستعار وهو ديميديوس، وذلك بواسطة كيرتس براون الوسيط الأدبي الذي أعلن أنه لا يملك الحق للإفصاح عن هوية الكاتب الحقيقية، كما أنه ليس مهتمًا بالمزيد من الاستفسارات عنه. كان تي. إس إليوت أول شخص يقرأ النص، إذ عمل مديرًا في دار فيبر وفيبر، وادعى إليوت أنه استطاع تخمين اسم الكاتب ثم احتفظ به لنفسه كما جرت العادة، ثم أوصى بسرعة النشر وطلب اسم مستعار أقل افتعالًا، فكلمة "ديميديوس" تعني في اللاتينية "مقسوم نصفين". وفي الحال اقترح لويس اسمًا بديلًا، ونشرت "حزن ملحوظ" في خريف عام 1961 باسم إن دبليو كليرك. وبفضل دعم إيليوت وعلاقاته، جذب هذا الكتاب الصغير اهتمامًا كبيرًا لا يتناسب مع كون كاتبه غير معروف.
في مطلع عام 1964، أي بعد وفاة لويس ونشر الكتاب بعدة سنوات، منح ميراثه الإذن بإعادة نشر الكتاب تحت اسمه الحقيقي مضيفًا إليه مكانة متنامية على أنه كلاسيكية معاصرة.
فقرة مميزة:
"عندما لا تتردد في روحك سوى أصداء نداء استغاثة، قد يكون ذلك هو الوقت الذي يتخلى فيه الرب عنك، فأنت رجل غريق لا يمكن إنقاذه لأنه يقبض على الشيء ويخطفه".
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها