كانت روحه مليئة بالتساؤلات والصرخات التي تستجدي التحرر، فبدأ يكتب لأنه أراد الخلاص من عتمته الداخلية ويرغب في أن يحول الظلام إلى نور، ووجد أن الكتابة قادرة على تخليصه من الألم وبث الفرحة، بل أن الكتابة ذاتها كانت قادرة على إشباعه، فهو لا يأكل وإنما يكتب لحمًا وخبزًا وخمرًا على ورقة بيضاء ويلتهمها.

تقرير إلى جريكو.. رحلة البحث عن شياطين تسكننا

مراجعة لكتاب "تقرير إلى جريكو" لنيكوس كازنتزاكيس

مقال: كارولين كامل


نيكوس كازنتزاكيس، عن ekathimerini

"لم أكن أعرف ما الذي سأفعله بحياتي. قبل كل شئ كنت أريد جوابًا، جوابي، على الأسئلة الأبدية. وبعد ذلك أقرر ما الذي سأصير إليه أنا"، يقول بطل كتاب "تقرير إلى جريكو" للكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكيس، الكتاب الذي يرى البعض إنه يروي مسيرة الكاتب نفسه الفكرية.

أجمل الكتب التي أقرأها هي التي أشعر أن الكاتب يحدثني بشكل شخصي، وتمس كلماته معارك وصراعات تعتمل داخلي، وهذا ما شعرت به بعد صفحات قليلة من "تقرير إلى جريكو"، وصرت مهتمة أن أعرف هل يُشكل هذا الكتاب بالفعل مسيرة كازنتزاكيس الفكرية أم لا، ولكن بعد أن توغلت في رحلتي برفقته، قررت ألا أشغل بالي بهذا السؤال حتى لا يشوش عليَّ متعة القراءة.

الكتاب يمثل رحلة فكرية لبطل خلال فترة زمنية هي حياته، ومكانية من خلال تجواله حول العالم، يلتزم في الحكي بنموه زمنيًا، ولكن لا يمنعه هذا من القفز ذهابًا وإيابًا بحرية ودون أن يُصيب القارئ بالارتباك، فالسرد سلس وممتع خاصة وإننا برفقة بطل تساوره الأسئلة والشكوك التي يُفصح عنها بجرأة ويخوض حياته باحثًا بإخلاص عن تفسيرات وليس بالضرورة إجابات.

ولأن الرحلة في الأساس فكرية يُعزي البطل تأثره الفكري إلى ثلاث شخصيات هي "المسيح وبوذا ولينين"، وإن كان أوليس ملك إيثاكا الشخصية الأسطورية حاضرًا بقوة في تشكيل وعيه ومرافقًا له طوال الرحلة، بالإضافة إلى آخرين مثل الفيلسوف الألماني نيتشه، والعامل البسيط زوربا الذي صار فيما بعد بطل أشهر رواياته التي تحمل الاسم نفسه "زوربا".

تجدر الإشارة إلى أنه لولا جودة الترجمة للمترجم السوري الراحل ممدوح عدوان، لما كانت لهذه الرحلة الطويلة أن تكون بهذه المتعة.

هالة النور

كان البطل منذ طفولته مهمومًا ومشغولًا بالأسئلة التي نمت وزادت بنموه، وهو ما تتناوله فصول الكتاب، رحلة فكرية يخوضها البطل، فتتغير قناعاته وتتبلور.

البطل طفل لأسرة مسيحية أرثوذوكسية تشكل الغالبية في جزيرة كريت التي كانت خاضعة للحكم العثماني حينها، فمنذ اليوم الأول وهو يعي أنه هناك أبناء كنيسته والآخر، الذي يشكل بالنسبة له العدو والمحتل والمختلف عنه في كل شيء حتى الرائحة، كما يقول “كنت أميز قبل كل شيء، بين روائح المسيحيين والأتراك".

منذ بداية رحلته يصنف البطل الأشياء وفق ثنائية الله والشيطان، النور والظلمة، مسيحي ومسلم، وهي الثنائية التي تهيمن على تفكيره إلا أنها سوف تتغير على دروب رحلته، عندما نصل إلى صراعه الداخلي ما بين  النار والتراب، واللحم والروح، والمرئي وغير المرئي.

ليس سهلًا ولكن ليس غريبًا أن يبحث طفل نشأ في كنف التربية المسيحية الأرثوذكسية عن القداسة، تحاصره أساطير الشهداء والقديسين الذين قهروا التنانين والشياطين، بشر سعوا بإرادتهم إلى الألم والتعاسة والجوع حتى يرتقوا إلى مصاف المُنعمين في السماء برفقة المسيح، وصار حلمه المسيطر على براءته هو الحصول على هالة منيرة تتوج رأسه مثل القديسين.

التربية المسيحية التي يستبد بها تأنيب الضمير، وتشجع على زهد الحياة الأرضية لضمان الحياة الأبدية ما بعد الموت، فحرم الطفل نفسه من الملذات الطفولية، وصار يدعو الناس إلى التوبة، وكرس وقته من أجل التقرب إلى الله حتى يضمن خطوة أبعد عن الخطيئة، حاول أن يركب بمفرده مركب متجهة إلى جبل آثوس، وعندما سأله كابتن المركب عن السبب، جاوبه "سأصبح قديسًا"، ضحك البحار وطلب منه أن يعود إلى والديه، فعاد بطلنا وهو يشعر بالخيبة لأنه لن يصير قديسًا.

لم يكن سعي البطل للقداسة كافيًا ليحول بينه وبين الشرور وسحرها، فكانت كلمة "الخطيئة" تثير الفزع في نفسه، ويحكي أنه كلما سمعها يرى في خياله ثعبانًا مرعبًا، إلا أن الخوف من الخطيئة لم يمنعه من التلفظ بالكلمات الممنوعة التي يُعاقب عليها بأن تضع له أمه فلفلًا حارًا على لسانه، الكلمات التي أحس بمتعة كبيرة من لفظها، ويقول إنه بعد سنوات طويلة لا تزال كل كلمة ممنوعة تخرج من شفتيه تفوح منها رائحة الفلفل الحار. 

حاول البطل مرة أخرى في مرحلة الشباب، مع الرهبنة أو ما يسميها "القداسة"، ولكنه يفشل ويقول "تلك المرة الثانية التي تجهض فيها محاولتي للوصول إلى القداسة"، ويحكي عن لقائه براهب في صحراء سيناء نصحه بأن يعود إلى العالم حيث هو الدير الحقيقي الذي يصبح فيه قديسًا، وهنا انتهت مساعيه تجاه القداسة.

لم يتخلص من أسئلته بخصوص الله، بل ظلت ترافقه حتى المشيب، ويقول في النهاية "وبينما أنا أفكر في ذلك توضح ذهني. وأدركت أنني كنت أبحث عن الله طوال هذه السنوات دون أن أنتبه إلى أنه يقف أمامي مباشرة، تمامًا مثل الخطيب الذي يظن أنه قد ضيع خاتم الخطبة، ثم يبحث عنه قلقًا في كل مكان ولا يجده لأنه يلبسه في أصبعه".

السفر

لم يكن البطل قادرًا على تجاوز رغبته في القداسة بسهولة، فهو عاش طفولته يسرد على زملائه قدراته الخاصة، فهو قد رأى ملاكًا على باب المنزل، وغيرها من تخيلاته التي يقول عنها "وما كنت أقوله لم يكن صحيحًا ولا كذبًا، إنه شيء يتجاوز المنطق والأخلاق ليحلق في جو ألطف وأكثر حرية"، بالإضافة إلى تربيته ومدرسته التي يديرها رهبان، فكان محاصرًا طوال الوقت حتى حان له أن يخرج في رحلته الخاصة.

الخروج عن المألوف، والتفتيش عن حقيقة ما وجدنا أنفسنا وآباءنا عليه هو رحلة جريئة، لأننا نضع الموروث جانبًا، ونعطي للعقل فرصة أن يعمل بحرية خارج قيود ما تم حشوه به منذ الصغر، وهي الرحلة التي قد ينتج عنها ربما التمسك أكثر بما لدينا، أو إعادة صياغته بشكل مختلف، أو التمرد والتخلي عنه، ويقول بطلنا: "يبدو أننا نحفر لكي نكتشف أية شياطين تختبئ في أعماقنا".

لم يكن لدى البطل قيود تمنعه من أن يقضي وقته في البحث، وكان السفر وسيلته لأن يجد الإجابات، على الرغم من أن والده ربما ليس الأفضل، ولكنه لم يحول دونه ودون السفر واكتشاف العالم، حتى وإن لم يكن مقتنعًا بما يفعله، ولم تحُل عوائق جغرافية أو مادية من أن يتحرك ويكتشف، وفوق كل ذلك كان لديه الشغف والقوة لأن يخوض تلك الرحلات.

يصرح البطل أن التحديات من البداية كانت تكمن في ذاته، فهو قضى سنوات شبابه يصارع المتاعب المألوفة للشباب، وكما كبر كبرت أيضًا رغباته القديمة وزادت عليها رغبات جديدة، مضافًا إليها وحوشه الداخلية، فيقول: "استيقظ في داخلي وحشان هائلان: ذلك النمر الذي أسميه اللحم، وذلك النسر النهم الذي يلتهم أحشاء الإنسان وكلما أكل ازداد جوعه، العقل".

ألقى بنفسه في خضم صراع جديد، داخلي بحت، خوفه وخضوعه اللذين لم يعودا مقبولين بالنسبة له، فيقول: "دائمًا وكلما توصلت إلى يقين، تصبح راحتي وهدوئي قصيري العمر. تنبع شكوك ومقلقات جديدة من هذا اليقين. وأجد نفسي مجبرًا على البدء بكفاح جديد لتخليص نفسي من اليقين السابق.. إلى أن ينضج هذا اليقين الجديد أخيرًا ويتحول بدوره إلى شك. فكيف إذًا نستطيع تحديد الشك؟ شك؟ أم يقين جديد".

هكذا يخاطب البطل نفسه ويخاطبنا، يطرح الأسئلة ولكن لا يعد القارئ بإنه سوف يجد الراحة والإجابات، على العكس كلما تقدمنا في الرحلة برفقته كلما اكتشفنا أن ما نحسبه يقينًا يتزعزع، وتصبح الحاجة إلى البحث مرة أخرى مُلحة فُنكمل معه القراءة برضا وشغف.

قد تبدو تغييرات البطل في علاقته مع الله من نقيض إلى آخر، إلا أنه غير معني يتوضيح موقفه من الإيمان، وإنما يبحث في سر علاقة الإنسان بهذا اللامرئي، وتواكله عليه انتظار لهبات خيرية، فيقول "حتى الآن كنا قد عهدنا إلى الله بالإدارة الكاملة للعالم. أيمكن أن يكون قد جاء دور الإنسان لتحمل المسؤولية، دورنا لخلق عالم، عالمنا الخاص، وبعرق الجبين؟"

الألوهية

ينتهي الحال ببطلنا ليكون كاتبًا، ولكن ليس لأنها المهنة التي سُئل عنها وهو صغير: ماذا يريد أن يصبح عندما يكبر، ولكن لأنه كما يقول بطرافة: "وبما أنني لم أستطع أن أكون قديسًا أو بطلًا فلقد حاولت، عن طريق الكتابة، أن أجد بعض العزاء عن عجزي".

كانت روحه مليئة بالتساؤلات والصرخات التي تستجدي التحرر، فبدأ يكتب لأنه أراد الخلاص من عتمته الداخلية ويرغب في أن يحول الظلام إلى نور، ووجد أن الكتابة قادرة على تخليصه من الألم وبث الفرحة، بل أن الكتابة ذاتها كانت قادرة على إشباعه، فهو لا يأكل وإنما يكتب لحمًا وخبزًا وخمرًا على ورقة بيضاء ويلتهمها.

هذا نهج كتابته الذي بدأه بشحذ أدواته "النظر والشم واللمس والذوق والسمع والعقل"، إلا أنه كرر في أكثر من موضع أن ما ترسب في عقله منذ الطفولة ترك أثرًا لا يمحى، ولديه القدرة على استعادته بمنتهى الدقة حتى في سنوات شيخوخته، فهو لم ينس لقائه الأول بالبحر والنار والمرأة وبروائح العالم.

ويقول: "في الحقيقة إن عقل الطفل وعينيه وأذنيه معجزات. وأيه معجزات!! وبأي نهم تلتهم هذا العالم وتملأ نفسها"، يكتب البطل مستندًا بالأساس على ما تشبعت به روحه في سنواته الأولى، وربما من هنا تأتي الحرية والطلاقة والخيال وخفة الظل في سرده.

رحلة البطل بحثًا عن مصدر الصوت الداخلي، كانت رحلة كفاح كما يقول ولا راحة فيها، إلا أنه سمع هذا الصوت يحدثه: "لم أنت مندهش؟ ولم تحدق هكذا بعينين جاحظتين؟ ألم تعرفني بعد؟ تظن أنني صوت الله. أليس كذلك؟ لا. أنا صوتك أنت. إنني أسير معك دائمًا، ولا أتركك أبدًا".

لا يمكن من خلال مسيرة البطل تحديد موقفه من الإيمان بالله أو عدمه، يقول في الختام: "بعض الناس يقولون عني إني مهرطق. دعهم إن لدي كتابي المقدس الخاص بي".

عند الانتهاء من قراءة "تقرير إلى جريكو" اكتشفت أنها ليست رحلة فكرية فقط، وإنما سجل حياة، عامر بالبشر والأحداث، نجح كازنتزاكيس في أن يجعل كل التفاصيل مهمة وشيقة، الطعام والروائح والطقس والحزن والصمت وغيرها من الأشياء التي نعتبرها عابرة ومُكررة، لم تكن هكذا لدى الكاتب، فكل شئ يحتاج إلى تأمل.

أحببت استخدامه للمجاز في قص الدروس التي تعلمها، ولعل الصبر كان أكثرها رقة وعذوبة، كان البطل متعجلًا لأن يرى المعجزة تتحقق كما يقول، فأخرج يرقة من شرنقتها ونفخ فيها أنفاسًا حارة ظنًا منه أنها سوف تنطلق فراشة، إلا أن اليرقة المسكينة سقطت ميتة قبل أن تكمل قدرها في التحليق فيقول: "امتلأ قلبي غمًا، فبسبب تسرعي، لأنني تجرأت على تخطي قانون أزلي قتلت فراشة".

في النهاية ربما لم يفلح البطل في أن يصبح قديسًا، لكنه صار إلهًا بفعل الكتابة فيقول: "صرت أحس بالزهو وأنا أكتب. ألم أكن إلهًا أفعل ما أشاء: أعيد صياغة الحقيقة وأشكلها كما أحب أن تكون - كما يجب أن تكون؟ كنت أجمع بين الكذب والحقيقة جمعًا لا انفصام له".


* المقال خاص بـ Boring Books

** تحتفظ الكاتبة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقالها دون إذن منها