ما يُهم تومبسون كان المظاهر المتعددة لأخوّة الطبقة العاملة الإنجليزية (الموجودة بين عدد لا حصر له من الحرفيين، والخياطين، والنساجين، وعمال الطباعة، والحدادين، وخدم المنازل) والتي أهملها المؤرخون من قبل، أو عاملوها بفتور، أو استهتروا بها.

خَلْق الطبقة العاملة الإنجليزية لإدوارد تومبسون

مقال: روبرت مكروم

نُشر في الجارديان، يونيو 2016

ترجمة: أمين حمزاوي


إدوارد تومبسون، عن الجارديان

"إنني أسعى لتخليص خَائط الجوارب المسكين، والقَصّاص[1] مُخرِب الماكينات، ونسّاج النول المهجور[2]، والحِرفي (الطوباوي) الزائل ... من ازدراء الأجيال الجديدة الهائل..". بتلك النبرة الحماسية، بدأ مؤرِخ مَحلي مغمور ثورةً في التاريخ الاجتماعي والثقافي، والتي ستترك أثرها على عقول وتوجهات جيل بأكمله من الدارسين بشكل لا مثيل له في بريطانيا أواخر القرن العشرين. بعد تومبسون، ستصبح "الثقافة الشعبية" "popular culture" حجر أساس راسخ في الفكر الثقافي التقدمي.

كان تومبسون إنجليزيًا شماليًا، قَضى خدمته العسكرية في كتيبة دبابات بشمال أفريقيا أثناء الحرب العالمية الثانية، كما كان عضوًا نشطًا في الحزب الشيوعي (البريطاني) طيلة الأربعينيات والخمسينيات. وقد انضم في عام 1946 إلى جماعة الحزب من المؤرخين. قبل أن يغادره بنهاية الخمسينيات، رفقة كثيرين ممن أحبطتهم استجابة الاتحاد السوفييتي للانتفاضة المجرية عام 1956 وسياسة الاتحاد بعد ستالين. وقد شرع في كتابة "خَلْق الطبقة العاملة الإنجليزية" (دُعي أولًا: سياسة الطبقة العاملة بين عامي 1790 و1921) بوصفه وطنيًا وسياسيًا راديكاليًا متحمسًا للاشتباك مع التقاليد الثقافية المضادة داخل بلده، تكريمًا لأبطال طبقتها العاملة الجنينية.

يعكس تومبسون ذلك في فقرة مؤثرة: "ربما كانت حرفهم وتقاليدهم على وشك الزوال. وربما كانت  عدوانيتهم تجاه الصناعة الوليدة رجعية، أو أن مُثلهم العليا الجماعاتية  communitarian كانت مُجرد خيالات، ومؤامراتهم الثورية اندفاعات طائشة. إلا أنهم عاشوا في زمن اضطرابات اجتماعية حادة لم نَختبرها. لقد كانت تطلعاتهم مشروعة في نطاق خبرتهم؛ وإن كانوا ضحايا لحركة التاريخ، فإنهم ما يزالون ضحايا حياتهم الخاصة ذاتها".   

كاد تعاطف تومبسون العميق والدؤوب مع موضوعه أن يكون روائيًا. وبصفته طالبًا لشعائر الريف، فقد دان بالكثير لعمل وليام كوبيت رحلات ريفية (1822). وبصفته مؤرِخًا، ظل تومبسون منشقًا، ومارقًا، ومثاليًا طيلة حياته.  فبينما ركّز أسلافه من مؤرخي الطبقة العاملة انتباههم على: بيانات البطالة، وتفاوتات الأجور، وتعداد سكان الحضر، بالإضافة لتاريخ الحركة الميثاقية وانبثاق حزب العمال المستقل، تناول تومبسون موضوعه بحذر ملائم، منطلقًا من أسفل لأعلى وليس العكس. حيث مثلت الطبقة لديه "جماعة" وليس –كما يراها ماركس– جزءًا من بناء ميكانيكي.  [3] ما يُهم تومبسون كان المظاهر المتعددة لأخوّة الطبقة العاملة الإنجليزية (الموجودة بين عدد لا حصر له من الحرفيين، والخياطين، والنساجين، وعمال الطباعة، والحدادين، وخدم المنازل) والتي أهملها المؤرخون من قبل، أو عاملوها بفتور، أو استهتروا بها. لكن، بالنسبة له، فقد تَوّلد وعي الطبقة العاملة المشترك في وقت أبكر بكثير مما هو شائع. وهو يضع تعريفه الحماسي لذلك الوعي في فقرة شهيرة، مُجادِلًا بأن "الطبقة تحدث عندما يمتلك بعض الأفراد، نتيجة مجموعة معينة من الخبرات (الموروثة أو المُتبادَلة)، وعيًا بأنفسهم، وبوحدة مصالحهم بوضوح فيما بينهم، وباختلافها عن مصالح المجموعات الأخرى (وتعارضها معها على الأغلب). تتحدد الخبرة الطبقية المقصودة بموقع المرء من علاقات الإنتاج، والذي يكتسبه بمُجرد الولادة (أي: رغمًا عنه). أمّا الوعي الطبقي فهو التعبير الثقافي عن هذه الخبرة: التي تتجسد في التقاليد، وأنظمة القِيم، والأفكار والمؤسسات المختلفة. وإذا بدا أن الخبرة الطبقية مُحدَدة موضوعيًا بشكل حاسم (بمعزل عن الإرادة الفردية)، فلا يصح ذلك على الوعي الطبقي. إذ يُمكننا ملاحظة أن منطقًا ما يَحكم استجابات فئات مهنية تخضع لظروف متشابهة، لكننا نظل عاجزين عن استنتاج قانون ثابت لتلك الاستجابات. وذلك لأن وعي الطبقة ينبثق بطريقة واحدة في كل زمان ومكان، لكن ليس الطريقة بحذافيرها".

بالنسبة لتومبسون، فقد جسدت التفاصيل المعتادة وشبه المَنسية لحياة العمل اليومية سردية الطبقة العاملة الإنجليزية. فكان من أوائل الذين أحالوا باستفاضة إلى أعراف البلدات الصغيرة، والتقاليد المحلية؛ إلى النكات، والنشرات، والخطابات واليوميات شبه الأُمية، بالإضافة للكتيبات المُندثرة والممنوعة. إلى درجة الاستشهاد بالأغاني القصيرة، ومَحاضر اجتماعات النوادي العمالية.

عمل تومبسون على تشريح بريطانيا – قبل الصناعية  preindustrial Britain بدقة فائقة. كما أنه كَشف –بأسلوب إنجليزي للغاية– عن تجربة الرجل العامي المفقودة منذ ذلك الحين (يَعيب عليه منتقدوه إغفاله لقصة نساء الطبقة ذاتها)، وهي سمة يمكن تتبعها حتى الحقبة الأنجلو-ساكسونية.[4] وبينما ابتلع الغليان التكنولوجي خلال الستينيات العديد من الجماعات الإنجليزية التقليدية، فإن نشْر خَلق الطبقة العاملة الإنجليزية في ذلك الحين، مَثّل رثاءً لاواعيًا لأسلوب حياة نعرف الآن أنه اندثر للأبد.

كان إدوارد تومبسون مُجدِدًا ورائدًا ترك أثرًا عميقًا على جيل كامل من المؤرخين الإنجليز والأمريكيين. لكنه، وعلى نحو غير مقصود، وقف على الجبهة الخاسرة من التاريخ. فعلى الرغم من أنه انتمى لعصر التأريخ الماركسي الذهبي، إلا أن قرنًا من النضال الاجتماعي–السياسي كان يُشرِف على الزوال من أمامه. واليوم، مع مرور جيل عقب أحداث 1989، وحيث التفكيك الشامل لتقليد ثقافي كان مُهيمنًا ذات يوم، يبدو وكأنه من السهل إقحام تومبسون في "مزبلة التاريخ" الخاصة بتروتسكي[5]، لكن من الخطأ فعل ذلك، إذ يُمثّل عمل تومبسون الثاقب وثيقة ثورية بليغة، تُظهِر كيف تم افتراس مثل ذلك الوعي الثقافي والسياسي الحيوي المذهل (للطبقة العاملة) في جوف كل من: المعارضة الرسمية والحيونة dehumanising التي أفرزها التصنيع. أو كما يصف تومبسون ذلك في خاتمته:

"مُعزَزين بخبرات القرن ال 17، وحاملين تقاليدهم الثقافية والليبرتارية التي سبق أن وصفناها عبر القرن الـ 18، ومُكوِنين أعرافهم التشاركية الخاصة داخل روابطهم التعاونية ونواديهم المهنية، لم ينتقل هؤلاء، في غمضة عين، من الفِلاحة إلى المدينة الصناعية الحديثة، بل عانوا تجربة الثورة الصناعية بوصفهم أناسًا أحرارًا.... وربما جسّدوا أكثر الثقافات الشعبية فرادة في التاريخ الإنجليزي".

يصف أستاذ الفكر السياسي البارز مايكل كيني كتاب تومبسون بإيجاز قائلًا: إنه أحد أكثر الأعمال أثرًا وأوسعها قراءة في التاريخ الإنجليزي المنشور بعد عام 1945. وبالنسبة للأوبزرفر Observer، كان الكتاب، وسيظل: "تحفةً".

اقتباس مميز

"عند هذه اللحظة، تحولت الحملة الانتخابية إلى شغب. وعندما خسر سادلر[6] الاقتراع، أُحرِقت دمى ماكولي [7]ومارشال [8] في مركز نفس المدينة حيث أُحرقت من قبل دمى توماس بين بواسطة المُوالين عام 1792 [9]".  


[1]  القصّاص CROPPER هو حرفي في مجال صناعة الأقمشة الصوفية، وظيفته القص CROPPING : عملية كشط وتسوية سطح القماش، وقد تمت باستخدام قواطع يدوية حتى العقد الأول من القرن الـ 19، حيث استَبدلت القواطع الآلية القصاصين اليدويين، لينخرط هؤلاء في حركة تخريب الماكينات Luddite الرائجة في ذلك الحين، ويُنظمون تخريبًا كبيرًا للقواطع الآلية بمقاطعة يوركشاير عام 1812، استلزم قمعه 4000 جندي. (المُترجِم).

[2] آلة النسيج اليدوي.

[3] التمييز الحاد من جانب الكاتب (مكروم) هنا غير دقيق، فالطبقة لدى ماركس هي وحدة (جدلية) من العوامل الموضوعية والذاتية. حيث يميز ماركس بين "الطبقة في ذاتها": أي مجموعة الناس الذين يشتركون في نفس الموقع من علاقات الإنتاج وفي ظروف حياة موضوعية واحدة، وبين "الطبقة لذاتها": أي الطبقة بعد أن تعي مصالحها بدرجة من الوضوح وتسعى لتحقيقها بشكل جماعي. وتظل "الطبقة لذاتها" إمكانية possibility ليست حتمية التحقق، وهنا يبرز دور العامل الذاتي ممثلًا في الأيديولوجيا (الهيمنة) أو النشاط الفكري الإنساني بوصفه جزءًا من العالم المادي (وليس منفصلًا عنه كما في الفلسفة المثالية) يتأثر بالعالم ويؤثر فيه بالمثل. ولذلك قد تسعى الطبقة ضد مصالحها ببساطة كما كتب ماركس في عمله السياسي التشريحي الفذ "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت"، وربما كان السؤال المهيمن على الفكر الماركسي بتنويعاته منذ ذلك الحين هو كيف يتشكل وعي الطبقة العاملة ذاتيًا بشكل مطابق لمصالحها، وضمان ألا تنجر الطبقة العاملة ضد نفسها.

 قد تنتج الالتباسات المشابهة لالتباس الكاتب على الأغلب من الفصل الحاد بين المواضع التي يظهر فيها ماركس بصفته اقتصاديًا / عالم اجتماع: يُحلل ويشرح الظروف الموضوعية لتكوّن الطبقة، وموقف الفيلسوف والثوري الساعي لإعادة صياغة ذاتية للوعي الطبقي. هذا الفصل غير حاصل عند ماركس نفسه، والذي لا يميز دوره كعالم أو فيلسوف عن دوره كثوري يسعى لتغيير المجتمع. (المُترجِم) 

[4] ‏ فترة من تاريخ إنجلترا تمتد بين القرن الخامس إلى القرن الحادي عشر، أي منذ نهاية الحكم الروماني في بريطانيا وحتى الغزو النورماندي عام 1066. تألفت الجزيرة حينها من عدة ممالك أنجلوسكسونية مختلفة حتى عام 927، حيث توحدت لتشكل مملكة إنجلترا على يد الملك أثيلستان. (المُترجم، المصدر: ويكيبيديا)

[5] اشتهر تعبير "مزبلة التاريخ"    dustbin of history بعدما استعمله ليون تروتسكي لوصف المناشفة (أحد أطراف الثورة الروسية 1917

[6] Michael Thomas Sadler (1780 – 1835): برلماني مُحافِظ عن دائرة ليدز، وأحد أنصار مكافحة الفقر وحركة تقصير ساعات العمل المزدهرة في ذلك الحين.

[7] Thomas Babington Macaulay: برلماني عن حزب الأحرار البريطاني Whigs المنافس لحزب المحافظين، وكان من أنصار السياسة الاستعمارية.

[8] John Marshall: عضو برلماني عن دائرة ليدز، وصاحب معمل Marshall الشهير لغزل الكتان بمقاطعة يوركشاير، ربح (مع ماكولي) انتخابات 1834 على حساب سادلر.

[9] بين عامي 1792 – 1793 أحرق الموالون loyalists لسيطرة بريطانيا على أمريكا الشمالية دُمى توماس بين: أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، وذلك ردًا على نشر مؤلفه "حقوق الإنسان" (1792) والذي أثار حفيظة الحكومة البريطانية المتخوفة من أن تساهم أفكار بين في وصول الثورة الفرنسية إليها.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه