إن الاشخاص الماهرين ليسوا دائمًا الأكثر تعاونًا، وبرغم ما لديهم من قوة ذهنية فغالبًا ما يفتقرون إلى العاطفة. ففي النهاية، نحن نعيش في عصر الجدارة المعرفية حيث يحظي معدل الذكاء IQ بتقدير أكبر من الذكاء العاطفي EQ.
«امتياز الجدارة»: معيار الكفاءة في الماضي لم يعد يجدي اليوم
مقال رنا فوروهار*
* محررة في الفاينانشال تايمز وكاتبة أعمال أمريكية
ترجمة: محمد بدر
نُشر في الفاينانشال تايمز، سبتمبر 2020
منذ بضع سنوات، كتب زميل في العمل عمودًا مثيرًا للجدل بشكل بارع، معلنًا أنه لا ينبغي على المؤسسات أن توظف سوى عددًا قليلًا من الأشخاص فائقي الذكاء. إنهم، بالتأكيد، مولعون بالحقائق والأفكار المجردة والنقاشات الحيوية، لكن عندما تضع الكثير منهم في غرفة واحدة، سيصبح بإمكانهم إفساد النظام بحبهم للتعقيد والصراع.
كما نعلم نحن «الأشخاص العاملين في مجال المعرفة» فإن الاشخاص الماهرين ليسوا دائمًا الأكثر تعاونًا، وبرغم ما لديهم من قوة ذهنية فغالبًا ما يفتقرون إلى العاطفة. ففي النهاية، نحن نعيش في عصر الجدارة المعرفية حيث يحظي معدل الذكاء IQ بتقدير أكبر من الذكاء العاطفي EQ. يتم تحفيز الطامحين إلى النجاح لاستخدام عقولهم، ولا يولون نفس الاهتمام لقلوبهم أو أياديهم. نحن جميعًا في وضع أفقر لهذا السبب، وفقًا للمحلل السياسي ديفيد جودهارت الذي يجادل في كتابه «الرأس واليد والقلب» حول كيف أصبح الأشخاص الأذكياء أقوياء لهذه الدرجة ولماذا. وهو واحد من ضمن العديد من الأعمال الجديدة التي تسلط الضوء على سياسة الجدارة وكيف خلقت عالمًا غير متوازن بشكل خطير عن طريق مكافأة نخبة صغيرة من القائمين بالأعمال الذهنية بشكل غير متناسب.
بالتأكيد أبرزت جائحة كورونا بشكل سريع ضرورة الأنواع الأخرى من العمال –مثل الممرضات والعاملين بالرعاية وسائقي التوصيل. لكن بينما نحتفي بهذه المهن على اللافتات التي نضعها على نوافذنا أثناء الحجر الصحي، يبدو جليًا هوية الرابحين الحقيقيين في هذا المجتمع: النخب العالمية ذات التعليم العالي، أو علي الأقل المُعتَمَدَة جامعيًا علي نطاق واسع، إنهم ذلك النوع من الأشخاص الذين يتعاملون مع الأرقام وتجارة الأسهم والبرامج الحسابية ويكتبون مقالات صحفية من ذلك النوع الذي يسترسل في النصح والتسلط من أبراجهم العاجية على شباب جيلهم.
إنهم يمثلون طبقة حاكمة جديدة قد تكون أكثر فسادًا من الطبقة العليا التي حكمت قبلهم، وفقًا لكل من جودهارت ومايكل ساندل الذي يبحث في كتابه «طغيان نظام الجدارة» حول أثر الهوس بالجدارة في تقويض الترابط المجتمعي والديمقراطية الليبرالية. وفقًا لساندل، الذي يركز بشكل رئيسي على الولايات المتحدة، أصبح الحلم الأمريكي المتمثل في شق طريقك العصامي نحو النجاح مجرد أسطورة. كان من المعهود إنجاز ذلك إذا اجتهدت دراسيًا بشكل كافٍ، أما الآن فمن المرجح تحقيق ذلك إذا كان والداك قادرين على تحمل تكلفة آلاف الدولارات من أجل الإعداد لاختبار القبول بالجامعة أو تعيين مستشار لتقديم سيرة ذاتية قوية بما يكفي -أو حتى تزويرها– لتأمين قبولك في رابطة جامعات اللبلاب[1].
لم يكن من المتوقع أن يكون الأمر كذلك، بل كان من المفترض أن تكون سياسة الجدارة أفضل من الهياكل الاجتماعية المُقَيِّدة في الماضي، عندما كانت العائلة والروابط الاجتماعية هي من تحدد النتائج. على مدى عقود طويلة مضت عندما أخذت الهياكل الطبقية التقليدية في الولايات المتحدة وبريطانيا في الانهيار، فتم استبدالها بنظام جديد للتقدم التعليمي والمهني قائم على درجات الاختبار والتقديرات والذكاء متمثلًا بشكل حصري في معدل الذكاء IQ. وفجأة أصبح من الممكن لأطفال الطبقة العاملة الأذكياء أن يصبحوا جزءًا من نخبة الجدارة.
لكن هناك جانب مظلم. كما لاحظ عالم الاجتماع البريطاني مايكل يونج عندما صاغ مصطلح «حكم الجدارة» في كتابه التنبؤي عن المستقبل الديستوبي «صعود حكم الجدارة»، فعلي الرغم من عيوب النظام الطبقي القديم فقد منع التعسف الأخلاقي كلًا من النخب والطبقة العاملة من الاعتقاد بأنهم استحقوا وضعهم الاجتماعي بطريقة ما. يستشهد كل من ساندل وجودهارت، اللذان يمزجان التحليلات والحقائق والآراء في سرد قصصي يسهل استيعابه، بعمل مايكل يونج، ومن الواضح تأثرهما برؤيته. وكما يوضح يونج: «الآن بعد أن تم تقييم الناس على أساس القدرة وبالتالي زادت الفجوة بين الطبقات اتساعًا. لم تعد الطبقات العليا تولي اهتمامًا للنقد الذاتي ولا يضعفها الشك بالنفس».
وفي الوقت نفسه يجب على أعضاء الطبقة العاملة تقييم أنفسهم ليس لمعاييرهم الشخصية –حيث غالبًا ما تكون سمات الشخصية والخبرة والحس السليم والمثابرة بنفس أهمية الذكاء المبني علي الاختبار- بل بمقاييس نخب الجدارة وبدون الدرجات العلمية المناسبة ومؤهلات المهنة والتوجيهات التي أقرها أسيادهم المتعلمون، كانوا في كثير من الأحيان يعدون غير جديرين أو كما وصفتهم هيلاري كلينتون بسخرية وضعت حدًا لمشوارها السياسي «التعساء».
في كتابهما «أموات اليأس»، كشف آن كيس وآنجوس ديتون الخسائر التي لحقت بالرجال البيض بالتحديد من الطبقة العاملة. يمكن للتهميش أن يكون مميتًا مثل الفقر، فالوضع المتدني في التسلسل الهرمي يخلق التوتر والقلق اللذين يؤديان إلى إفراز الكورتيزول المدمر للجهاز المناعي في الجسم. مع حرمانهم من الاحترام وتخلفهم عن الثقافة المتغيرة لبلدهم، أصبح يشعر بعضًا من أفراد الطبقة العاملة البيض بأنهم غرباء عن أرضهم، في استعارة لعنوان كتاب عالم الاجتماع آرلي راسل هوشيلد عن صعود اليمين الشعبوي جنوب الولايات المتحدة.
إن واحدة من المفارقات المأساوية على مدى العقود الماضية هي الكيفية التي تم التخلي بها عن تلك الفئة من قبل أبطالهم التقليديين في اليسار. خذ على سبيل المثال جناح بيل كلينتون في الحزب الديمقراطي، فعلى الرغم من تبشيرات كلينتون الواسعة بقدرتنا على الشعور بالألم الجماعي فإن العديد من مبادراته كرئيس للولايات المتحدة كانت صفقات تجارية أحدثت فراغًا اقتصاديًا في مناطق من حزام الصدأ[2]؛ السياسات المالية والضريبية التي استفاد منها الذين جنوا أموالًا من الاستثمارات بدلًا من الدخل صاغها تكنوقراطيون استخدموا خوارزميات لا تأخذ في حساباتها حياة الناس العاديين، وكانت النتيجة انتخاب دونالد ترامب وريث النخب الذي لم يكن من المفترض أن يحقق شيئًا لولا أموال عائلته، وهزأ بسخرية شهيرة بعد نجاحه في الانتخابات التمهيدية قائلًا: "أحب أصحاب التعليم المتدني".
كما أشار جودهارت، فقد فاز ترامب لأنه ترك لغة السياسة التكنوقراطية المعتادة و الاغترابية في كثير من الأحيان والمحببة لدى كلينتون وأوباما، وخاطب مباشرة الغريزة عازمًا على مواجهة الوطن بالحقيقة المرة – يميل النخب من جميع المشارب السياسية إلى ازدراء ذوي التعليم الأدني. يكتب ساندل «القبول بناء على المؤهلات والدرجات هو آخر تحيز مسموح به»، ويعرض إحصائيات توضح أن في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأجزاء من أوروبا كان المشاركين ممن حصلوا على تعليم جامعي لديهم في الواقع تحيز أكبر ضد الفئة الأدنى تعليمًا مقارنة بالفئات الأخرى المحرومة.
ليس من المفترض أن تمنحك الشهادة الجامعية التعاطف لكنها تضمن لك وظيفة جيدة. كانت الفكرة التي تزعم أن التعليم من شأنه تحسين رأس المال البشري وبالتالي جعل العمال والبلدان أكثر إنتاجية في صلب نهج مدرسة شيكاجو للاقتصاد المبني على السوق والأثير لدى نظام الجدارة. بُحثت الفكرة بشكل أكثر شمولًا في الكتاب المفصل بشكل رائع بعنوان «أزمة الجدارة» الذي يتناول التوترات بين الديمقراطية وسياسة الجدارة.
لكن هذه الأيام حتى الشهادة الجامعية سوف تأخذك إلى حد بعيد بفضل صراع التسلح التعليمي الكائن في قلب نظام الجدارة. أدت فكرة الجميع يحتاج إلى مثل هذه الشهادة سواء كانت تتطلبها الوظيفة أم لا إلى إضفاء طابع الاحترافية على مهن مثل التمريض.
ومع ذلك كما يبين جودهارت، فإن ذلك لم يحسن من النتائج ولا الرضا المهني. هذا يرجع بنسبة كبيرة إلى أن الاحترافية أدت إلى تقليل الوقت الذي يقضيه العامل بالوظائف ذات المكانة الاجتماعية المنخفضة مثل الرعاية (والتي من الشائع القول عنها: ينبغي أن تقوم بها النساء بالفطرة) وكذلك زيادة متطلبات المستندات البيروقراطية المضجرة. يضيف جودهارت أن خلال السنوات الأخيرة، بينما يتمتع العاملون في مجال العلوم المتطورة بمستويات إضافية من الاستقلالية في وظائفهم، فأولئك الذين لديهم وظائف روتينية أو شبه روتينية شهدوا انخفاضًا كبيرًا في الاستقلالية والذي يفاقم لديهم الشعور بالتوتر –فكر في سائق أوبر أو باريستا ستاربكس الذين تُنَظَّم حياتهم عن طريق الجداول القائمة على الخوارزميات والبرمجة.
علي مستوي المجتمع، لم يفض الكم المتزايد من التعليم إلى تضييق فجوة المساواة –ويرجع ذلك إلى أن الناس الأكثر قدرة على الاستفادة من هذا القدر من التعليم يسعون بطبيعة الحال إلى أن يكونوا أغنياء وذوي امتيازات. يلاحظ ساندل أنه في الولايات المتحدة، فرصة الطلاب المنحدرين من الأسر التي يزيد دخلها عن مئتي ألف دولار في الحصول على درجات أعلى من 1400 في اختبار سات للقبول في الجامعة، هي واحد من كل خمسة أشخاص، في حين الذين ينتمون إلى عائلات يقل دخلها عن مئتي ألف دولار، فإن ذلك يمثل واحدًا فقط من كل خمسين شخص. توجد نفس العلاقة بين الثروة ودرجات الاختبار في بريطانيا، يلاحظ ماندلر أن دولًا مثل السويد وهولندا قطعت شوطًا أفضل بكثير من المملكة المتحدة في الحد من اللامساواة ليس لأنها وسعت من نطاق التعليم، لكن لأنها وظفت إعادة توزيع الثروة في جعل الفروق الطبقية أقل اتساعًا.
في الولايات المتحدة أصبح العبء الثقيل للديون الطلابية –التي وصلت إلى تريليوني دولار– بمثابة الريح المعاكسة للحراك الاجتماعي، يكابد الطلاب من أجل الالتحاق بالكلية المناسبة ثم يعملون بدوام جزئي أو حتى كامل أثناء الدراسة لمحاولة دفع تكاليف تعليمهم، مما يجعل من الشاق عليهم أن يقدموا أداءً جيدًا ويفاقم من احتمالية انقطاعها عن الدراسة لينتهي بهم المطاف في وضع أسوأ مما كان عليه الحال عندما بدأوا. بالطبع يعلم بنك الاحتياطي الفيدرالي جيدًا أن الآثار الباهظة لتراكم الديون الطلابية هي واحدة من أكبر التحديات المتوسطة إلى طويلة المدى التي تواجه النمو الاقتصادي الأمريكي.
حتى بالنسبة للنخب التي لا تقلق بشأن مسألة التكاليف، فإن الحياة داخل عجلة الهامستر هذه استبدادية. في كتاب ساندل، يعبر أحد مسؤولي القبول بجامعة هارفارد عن مخاوفه من أن الذين يمضون سنوات تعليمهم الجامعي والثانوي مكابدين في تخطي عراقيل الإنجازات الكبيرة ينتهي بهم الأمر ناجين في حالة يرثي لها من المعسكرات المضنية للتعلم مدى الحياة. عندما تم نشر المقال على موقع القبول، من الواضح أنه لم يقف حائلًا أمام حرص جموع المتعطشين للظفر بخاتم عضوية رابطة اللبلاب الثمينة.
مع ذلك يتنبأ هؤلاء المؤلفين بأننا قد نكون على أعتاب ثورة مضادة لنظام الجدارة، ربما يأتي السوق يومًا ليفضل عمل العاطفة والأعمال اليدوية حيث تنجز الكثير من الأعمال الذهنية بواسطة الذكاء الاصطناعي. يقدم جودهارت حجة لضخ الاستثمار العام في البيئة والرعاية الصحية وهي دفعة إضافية لاستخدام القلب واليدين. يعتقد ساندل أن منظومتنا السوقية التي يظفر فيها الفائز بكل شئ بحاجة للإصلاح هي الأخرى.
قد يفسر هذا أيضًا لماذا تتحرك النخب من الشباب البيض إلى جانب أصحاب البشرة الملونة في مسيرات «حياة السود مهمة». هم يحتجون ضد الظلم لكنهم يحتجون أيضًا ضد نظام يجعل الجميع في مواجهة الجميع، ويكافئ مجموعة أصغر وأصغر من الأشخاص الجالسين على القمة. لا عجب أن ثمة بشائر تشير إلى أن جيل الألفية بدأ في تجاهل أوراق الاعتماد واكتساب القوة في سبيل كسب وقتهم الخاص.
لن يجادل أحد من أجل العودة للنظام الطبقي القديم، لكن يجب على سياسة الجدارة أن تتطور. في كتابه الصادر عام 1958، يتوقع مايكل يونج أن غطرسة نخب الجدارة ستؤدي إلى غليان سياسي يفضي إلى سقوطها. هل وصلنا إلى هذا المدى؟ وإلى أين نتجه؟ أيًا كانت نتيجة انتخابات نوفمبر في الولايات المتحدة أو الحصيلة النهائية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيكون من الحكمة الاستماع لنصيحة يونج حيث يكتب «إذا تم تقدير الناس بناء على لطفهم وشجاعتهم وخيالهم وحساسيتهم وليس فقط لذكائهم وتعليمهم ومهنتهم وسلطتهم، فلن تكون هناك طبقات. عندئذ سيكون لكل شخص فرصة متساوية ليس للنهوض في العالم عن طريق أي مقياس رياضي، لكن لتطوير قدراته الخاصة لينعم بحياة غنية»، ربما في عالم ما بعد الجدارة سيكون هذا الأمر ممكنًا.
[1] رابطة اللبلاب: رابطة جامعية رياضية في الأصل، ولكنها تجمع الجامعات الثماني الأفضل في الولايات المتحدة.
[2] حزام أو نطاق الصدأ، وهي مناطق بغرب وسط أمريكا، كانت تضم العديد من المصانع التي تراجع العمل فيها منذ السبعينيات.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه
One Reply to “«امتياز الجدارة»: معيار الكفاءة في الماضي لم يعد يجدي اليوم”
ممتاز
المزيد حول هذا الموضوع