هناك رموز في المسرحية تشير إلى أن "المستمع" و"القارئ" هما في الحقيقة نفس الشخص، خاصة وأنهما "متشابهان في الملامح بالقدر المتاح" وأنهما في الحقيقة بيكيت يحكي لنفسه

ارتجالية أوهايو

صمويل بيكيت

ترجمة: كريم عبد الخالق


من عرض لمسرحية "ارتجالية أوهايو"

مقدمة

بحسب الممثل الإنجليزي ديفيد واريلو فإن أهم نصيحة قدّمها له بيكيت وقت تقديم "ارتجالية أوهايو" لأول مرة هي أن يتعامل معها باعتبارها حكاية قبل النوم. وإذا كانت "ارتجالية أوهايو" عبارة عن حكاية داخل مسرحية Metatheatre، حيث يحكي "قارئ" حكاية من كتاب إلى "مستمع"، ولكون الحكايتين –الحكاية المسرودة والمشهد الذي نراه أمامنا- متصلتين في الأساس أو بالأحرى هما نفس الحكاية، فهذا يفتح الكثير من الاحتمالات. إن المسرحية بالكامل هي في الأساس حكاية داخل حكاية، أي أننا أمام حلقة مفرّغة يصبح فيها المتفرج "مستمعًا" آخر، ويصبح فيها بيكيت "قارئًا" آخر. والاحتمال الآخر أن بيكيت نفسه –بعد انتهائه من الكتابة- يصبح "مستمعًا" مثلنا، صانعًا حكاية قبل النوم من أجله هو أيضًا.

لكن لماذا يقدّم بيكيت هذه المسرحية لنفسه؟ هناك رموز في المسرحية تشير إلى تلك الفكرة، وأن "المستمع" و"القارئ" هما في الحقيقة نفس الشخص، خاصة وأنهما "متشابهان في الملامح بالقدر المتاح" وأنهما في الحقيقة بيكيت يحكي لنفسه، أو لنقل يواسي نفسه.

تدور الحكاية المسرودة حول فقد صديق/ حبيب/ رفيق، وما تبع ذلك من محاولة الهروب من هذا الفقد. ليس هناك تفسير وحيد لهوية هذا الصديق/ الحبيب/ الرفيق أو إشارة إلى جنسه حتى، كما هو الحال مع رموز بيكيت كلها. لكن تشير بعض الرموز إلى أن هذا الصديق/ الحبيب/ الرفيق قد يكون جيمس جويس، فمثلًا يذكر "القارئ" أن بطل الحكاية المسرودة كان يرتدي "قبعة قديمة من الحي اللاتيني" ويتجوّل بجوار "النهر". وقد ذَكر جيمس نولسون في كتابه Damned to Fame: The Life of Samuel Beckett أن شقة جويس في فرنسا كانت على مسافة 500 متر فقط من نهر السين، واعتاد بيكيت وجويس أن يتجولا معًا بجوار النهر في صباح الآحاد، وقد كان جويس يرتدي عادة قبعة قديمة قد اشتراها من الحي اللاتيني. مرة أخرى لا يمكن الجزم بأن المسرحية تتحدث عن حنين بيكيت لصديقه جويس، فنجد نولسون مثلًا يشير إلى عشاء قضاه مع بيكيت عام 1981، وتحدثا خلاله عن المسرحية. حين أخبره نولسون أنه كان يعتقد أن "الوجه العزيز" الذي يظهر لبطل الحكاية هو في الحقيقة وجه مرأة، رد عليه بيكيت أنه "وجه سوزان... لقد تخيلتها ميتة عدة مرات"، وسوزان هي زوجة بيكيت والتي استمرت علاقتهما على مدار أربعين عامًا غير متصلة.

لا يمكن إنكار العلاقة الواضحة بين "ارتجالية أوهايو" و"شريط كراب الأخير" والتي كتبها بيكيت قبل عقدين تقريبًا من "ارتجالية". فإذا كان كراب يستخدم المسجّل في تقديم أو تأخير الشريط الذي يستمع له، فإننا نجد هنا "المستمع" يطرق طرقة واحدة على الطاولة، فيكرر "القارئ" الجملة الأخيرة، ثم يكمل الحكاية بعد طرقة أخرى. وإذا كان كراب يستمع إلى الشرائط التي هي عبارة عن تسجيل لذكرياته هربًا من الوحدة، وهربًا من الموت الذي يقف خلفه كما يصفه المسرحي هارولد بنتر، فإن "المستمع" هنا لا يهرب من الموت، بل من انتهاء الحكاية.

المترجم


ارتجالية أوهايو

كُتبت عام 1981. قُدمت أول مرة بجامعة ولاية أوهايو في نفس العام. نُشرت أول مرة من قِبل فابر أند فابر بلندن، عام 1982.

م= مستمع

ق= قارئ

متشابهان في الملامح بالقدر المتاح[1].

ضوء على طاولة في وسط الخشبة. بقية الخشبة في ظلام تام.

طاولة بيضاء عادية من الخشب، مقاسها لنقل 8*4 قدم.

كرسيان خشبيان عاديان بلا أذرع لونهما أبيض.

م يجلس أمام الطاولة يواجه المقدمة عند نهاية طول الطاولة على يمين الجمهور. رأسه منكّسة مسنودة على يده اليمنى. وجهه مستتر. يده اليسرى على الطاولة. يرتدي معطف أسود طويل. شعره طويل وأبيض.

ق يجلس أمام الطاولة بزاوية جانبية عند منتصف عرض الطاولة يمين الجمهور. رأسه منكسة مسنودة على يده اليمنى. يده اليسرى على الطاولة. هناك كتاب أمامه على الطاولة مفتوح على الصفحات الأخيرة. يرتدي معطف أسود طويل. شعره طويل وأبيض.

قبعة سوداء عريضة في منتصف الطاولة.

يضاء النور.

عشر ثوانٍ.

يقلبُ ق صفحة.

صمت.

ق: (يقرأ) لم يتبق سوى القليل لأقوله. في محاولة أخيرة-

(يطرق م بيده اليسرى على الطاولة).

لم يتبق سوى القليل لأقوله.

(صمت. يطرق م).

في محاولة أخيرة للحصول على الراحة انتقلَ من المكان الذي كانا فيه معًا لفترة طويلة إلى غرفة فردية على الجانب الآخر من النهر. من نافذتها الوحيدة كان يمكنه أن يرى نهاية المصب لجزيرة البجع.

(صمت).

تمنى أن تتدفق الراحة من غير المألوف. غرفة غير مألوفة. مشهد غير مألوف. إلى الخارج حيث لا شيء قد شورِكَ أبدًا. العودة إلى حيث لا شيء قد شورِكَ أبدًا. من هنا تمنّى جزئيًا ذات مرة لو يتدفقُ مقدار من الراحة.

(صمت).

يومًا بعد يوم كان يمكن رؤيته يمشي ببطء على الجزيرة. ساعة بعد أخرى. بمعطفه الأسود الطويل مهما كان الجو وبقبعة قديمة من الحي اللاتيني. عند طرف الجزيرة كان دائمًا يتوقّف ثابتًا عند التيار المنحسر. كيف يختلط  ذراعا النهر في دوامات من السعادة ويتدفقان معًا. ثم يلتفتُ وتعود خطواته البطيئة أدراجها.

(صمت).

في أحلامه-

(يطرق م).

ثم يلتفتُ وتعود خطواته البطيئة أدراجها.

(صمت. يطرق م).

في أحلامه تم تحذيره من هذا التغيير. رأى الوجه العزيز وسمعَ الكلمات السرّية، ابق حيث كنا وحدنا معًا لفترة طويلة، ظِلّي سيواسيكَ.

(صمت).

ألم يكن قادرًا-

(يطرق م)

رأى الوجه العزيز وسمعَ الكلمات السرّية، ابقى حيث كنا وحدنا معًا لفترة طويلة، ظلّي سيواسيكَ.

(صمت. يطرق م)

ألم يكن قادرًا الآن على أن يعود؟ يدركَ خطأه ويعود حيث كانا وحدهما معًا لفترة طويلة. وحدهما معًا قد تشاركا الكثير. لا. ما فعله وحده لا يمكن التراجع عنه. لا شيء مما فعله وحده يمكن التراجع عنه. بواسطته هو فقط.

(صمت).

عند تلك النقطة القصوى قبضَ عليه خوفه من الليل مجددًا. زلّة بعد كل هذا الوقت وكأنها لم تحدث من قبل. (صمت. ينظرُ بإمعان). نعم، زلّة بعد كل هذا الوقت وكأنها لم تحدث من قبل. الآن بقوة مضاعفة تأتي الأعراض المخيفة موصوفة بالتفصيل صفحة أربعين الفقرة الرابعة. (يبدأ في العودة بالصفحات. يوّقفه م بيده اليسرى. يستمر في القراءة من الصفحة التي تركها طواعية). ليالٍ بيضاء مرة أخرى من نصيبه. مثلما كانت حين كان قلبه صغيرًا. لا نوم لا نوم شجاع حتى- (يقلب الصفحة).-الفجر.

(صمت).

لم يتبق سوى القليل لأقوله. ذات ليلة-

(يطرق م).

لم يتبق سوى القليل لأقوله.

(صمت. يطرق م).

ذات ليلة بينما جلسَ يرتعش رأسه بين يديه من رأسه إلى أخمص قدميه ظهر له رجل وقال، لقد أُرسِلتُ عن طريق-وهنا قال الاسم العزيز- لكي أواسيكَ. ثم أخرجَ كتابًا مهترءًا من جيب معطفه الأسود الطويل جلسَ وقرأ حتى الفجر. ثم اختفى دون كلمة.

(صمت).

في وقت لاحق ظهرَ مجددًا في نفس الساعة مع نفس الكتاب وهذه المرة دون تمهيد جلسَ وقرأه كاملًا من جديد خلال الليل الطويل. ثم اختفى دون كلمة.

(صمت).

لذا من وقت لآخر كان يظهرُ دون نذير ليقرأ الحكاية الحزينة كاملة مرة أخرى والليل الطويل ينقضي. ثم يختفي دون كلمة.

(صمت).

دون تبادل كلمة واحدة أصبحا وكأنهما واحد.

(صمت).

حتى جاءت الليلة أخيرًا حين أغلقَ الكتاب والفجر في متناول اليد لم يختفِ لكن جلسَ دون كلمة.

(صمت).

أخيرًا قال، لقد تلقيتُ كلمة من-وهنا قال الاسم العزيز- أنني لن أعود مرة أخرى. لقد رأيتَ الوجه العزيز وسمعتَ الكلمات السرية، لا حاجة لأن تذهب له مجددًا، حتى لو كان بمقدورك ذلك.

(صمت).

والحكاية الحزينة-

(يطرق م).

لقد رأيتَ الوجه العزيز وسمعتَ الكلمات السرية، لا حاجة لأن تذهب له مجددًا، حتى لو كان بمقدورك ذلك.

(صمت. يطرق م).

والحكاية الحزينة قيلت مرة أخرى بينما جلسا وكأنهما قد تحوّلا إلى حجر. عبر النافذة الوحيدة لم يرسل الفجر أي نور. من الشارع لم يأتِ صوت استيقاظ. أم كانت تلك المدفونة في أفكارٍ من يدري ما هي لم ينتبهوا لها؟ مقابل نور من النهار. مقابل صوت استيقاظ. أية أفكار من يدري. أفكار، لا، ليست أفكارًا. حِكَم من العقل. مدفونة في حِكَم من العقل من يدري ما هي. حِكَم من الغفلة. حيث لا نور يمكن أن يصل إليها. لا صوت. لذا اجلِس وكأنكَ قد تحوّلتَ إلى حجر. الحكاية الحزينة قد قيلت مرة أخيرة.

(صمت).

لم يتبقَ شيء لأقوله.

(صمت. ق يبدأ في غلق الكتاب.

يطرق م. الكتاب نصف مغلق).

لم يتبقَ شيء لأقوله.

(صمت. ق يغلق الكتاب.

يطرق م.

صمت. خمس ثوانٍ.

يخفضان معًا يمينهما على الطاولة، يرفعان رأسيهما وينظران لبعضهما. دون أن يرمشا. دون أي تعبير.

عشر ثوانٍ.

إظلام).


[1] في المعالجة السينمائية التي قدّمها المخرج الإنجليزي تشارلز ستوريدج عام 2000، قام جيرمي أيرونز بالدورين.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.