في العديد من الحالات تحل نضالات الاعتراف آنيًا محل النضالات من أجل العدالة الاقتصادية، وتدعم الأشكال القمعية 

إعادة التفكير في الاعتراف

مقال لنانسي فريزر

ترجمة: محمد السادات

مراجعة: إسلام عبد المجيد

نشر في مجلة the new left review في مايو 2000

* نانسي فريزر فيلسوفة أمريكية معاصرة (مواليد 1947)، تدرِّسُ الفلسفة والعلوم السياسيّة في «المدرسة الجديدة للأبحاث الاجتماعيّة» بنيويورك.


نانسي فريزر، عن cadtm

بدت النضالات من أجل «الاعتراف بالاختلاف» في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين مفعمة بوعد الانعتاق. لم تطمح كثرة ممن جمعتهم رايات الجنسانية والجندر والإثنية والعرق للتأكيد على الهويات المُنكرةَ فقط، وإنما أيضا لإثراء معارك إعادة توزيع الثروة والسلطة ببعد جانبي؛ فمع نهاية القرن، أصبحت قضايا الاعتراف والهوية أكثر مركزية، إلا أن الكثيرين من البلقان حتى رواندا يحملون أعباء مطالب الهوية المختلفة والتي بدورها كانت داعمة لحملات التطهير العرقي، بل وحتى الإبادة الجماعية كما بالمثل حشدت حركات المقاومة لها.

ليست خاصية تلك النضالات فقط التي تغيرت، وإنما معاييرها أيضًا. الآن تقود مزاعم الاعتراف بالاختلاف العديد من صراعات العالم الاجتماعية؛ من معسكرات السيادة الوطنية ودون الوطنية إلى المعارك حول التعددية الثقافية والحركات النشاطية الجديدة لحقوق الإنسان الدولية التي تسعى إلى الترويج لكلا من الاحترام العالمي للإنسانية المشتركة وتقدير التمايز الثقافي. لقد أصبحت تلك المطالب سائدة داخل الحركات الاجتماعية كالنسوية التي كانت سابقًا في طليعة المطالبين بإعادة توزيع الثروات. بلا شك، تغطى مثل تلك النضالات نطاقًا واسعًا من الطموحات، بداية من الانعتاقية المستحقة إلى المرفوضة مطلقًا (تقع على أغلب الاحتمالات في مكان ما بين ذاك وذاك). على الرغم من ذلك، فالرجوع إلى القواعد المشتركة يستحق الاعتبار. لماذا اليوم، بعد سقوط النموذج السوفيتي الشيوعي ومع توسع العولمة، تأخذ العديد من الصراعات هذه الصيغة؟ لماذا تدير العديد من الحركات مطالبها تحت مصطلح الاعتراف؟

نطرح هذا السؤال لنلاحظ الانخفاض النسبي في مطالب إعادة التوزيع المساواتي؛ في حين تسود قواعد الخصومة السياسية، فإن خطاب إعادة التوزيع أصبح أكثر خفوتًا اليوم. بلا شك، يبدو أن الحركات التي كانت منذ زمن غير بعيد متصدرة لمطالب المشاركة العادلة في الموارد والثروة لم تختفِ تمامًا، لكن تقلص دورها بشكل كبير بفضل الخطاب النيوليبرالي المتنامي ضد المساواة على غياب أي نموذج ممكن لاشتراكية مجدية وانتشار الشك في إمكانية الدولة الكنزية الاشتراكية الديمقراطية على الاستمرار في وجه العولمة.

إذن، إننا في مواجهة لكوكبة جديدة من قواعد صياغة المطالب السياسة، والتي بالتالي تحيرنا في مسألتين. أولًا: تحدث تلك النقلة من إعادة التوزيع إلى الاعتراف على الرغم من امتداد اقتصاديات العولمة أو بسببها، في حين يفاقم الامتداد الوحشي للرأسمالية من حدة اللامساواة الاقتصادية. في هذا السياق، عوضًا عن أن تساعد مطالب الاعتراف بشكل ضئيل على تعزيز وتعقيد وإثراء نضالات إعادة التوزيع، فهي تهمشها وتحجبها وتستبدلها. تلك المسألة سوف أسميها إشكالية الإحلال. ثانًيا، تقع نضالات الاعتراف اليوم في لحظة من التضخم المطرد للتفاعل والتواصل الثقافي الشامل، في حين أن الهجرات الممتدة والتدفق الإعلامي العالمي يهجنان ويعددان الأنماط الثقافية. على الأغلب تأخذ تلك النضالات حتى الآن مسارات لا تساعد على تعزيز تفاعل محترم في ظل سياقات التعددية الثقافية المتزايدة، لكنها تساعد على اختزال وتشيؤ هويات الجماعات جذريًا، كما أنها تشجع على كلا من النزعات الانفصالية والتعصب والشوفينية والأبوية والسلطوية. تلك المسألة سوف أسميها إشكالية التشيؤ.

إن كلتا الإشكاليتين، الإحلال والتشيؤ، في غاية الأهمية: بقدر ما تحل سياسات الاعتراف محل إعادة التوزيع، فإنها في الواقع ربما تدعم اقتصادات اللامساواة؛ وبقدر ما تُشيأ هويات الجماعات، فإنها تخاطر بالسماح لانتهاكات حقوق الإنسان وتجميد العداءات العميقة التي تزعم الوساطة فيها. لا عجب إذن، من نفض العديد لأيديهم عن «سياسات الهوية» –أو اقتراحهم بالتخلص من النضالات الثقافية أيضًا. بالنسبة للبعض، إن هذا يعنى إعادة الأولوية للطبقية على الجندر والجنسانية والعرق والإثنية. بالنسبة ﻵخرين، فإن هذا يعني بعث الاقتصادوية. بالنسبة لبقية الآخرين، تعني رفض كل مطالب «الأقلوية» الخارجة عن السيطرة والإصرار على استيعابهم داخل معايير الأغلبية -تحت اسم العلمانية والكونية والجمهورياتية.

ردود الأفعال تلك مفهومة: فلقد ضلّوا بعيدًا هم أيضًا. ليست كل أنماط الاعتراف متساوية في الضرر: بعضها يقدم حلولًا انعتاقية أصيلة من ظلم مجحف لا يمكن معالجته عبر إعادة التوزيع فقط. علاوة على ذلك؛ تعتبر الثقافة أرضية شرعية للنضال، بل ضرورية، وهي موقع لارتكاب المظالم، ومتراكبة مع اللامساواة الاقتصادية. يتضح التصور الملائم في أن نضالات الاعتراف تستطيع مساعدة إعادة توزيع الثروة والسلطة ودعم التفاعل والتعاون عبر خلجان الاختلاف.

يعتمد كل شيء على كيفية انتهاج الاعتراف. أود هنا أن أناقش أننا في حاجة إلى طريقة لإعادة التفكير في سياسات الاعتراف، من حيث يمكنها مساعدتنا على حل إشكاليتي الإحلال والتشيؤ، أو على الأقل التخفيف منها. ذلك يعني وضع مفاهيم لنضالات الاعتراف لكي تستطيع الاندماج مع نضالات إعادة التوزيع، عوضًا عن استبدالها وتقويضها. كما تعني أيضًا تطوير مجال للاعتراف حيث يستطيع استيعاب التعقيدات الكلية لهويات المجتمع، بدلًا من ذلك الذي يدعم التشيؤ والانفصالية. ومن هنا أقترح ذلك النموذج لإعادة التفكير في الاعتراف.

نموذج الهوية

إن النهج المعتاد لسياسات الاعتراف -الذي سوف أدعوه «نموذج الهوية»- يبدأ من الفكرة الهيجلية، حيث الهوية بنية حوارية خلال عملية الاعتراف المتبادل. وفقًا لهيجل؛ يحدد الاعتراف علاقة تبادلية مثالية بين الذوات، من حيث ترى كل منها الأخرى على أنها مساوية لها ومنفصلة عنها. تلك العلاقة تأسيسية للذاتية: يصبح الواحد ذاتًا فردية فقط من خلال فضيلة الاعتراف، ويصبح مُعترفًا بالذات من خلال ذات أخرى. إذن الاعتراف من الآخرين ركيزة للتطوير من إدراك الذات. كونك مرفوض الاعتراف بك أو كونك غير معترف بك لهى المعاناة في كل من: التشوه في علاقة الفرد مع ذاته، وجرح في هوية الفرد.

ينقل أنصار نموذج الهوية المخطط الهيجلي للاعتراف إلى أرضية ثقافية وسياسية، حيث يدعون أن الانتماء إلى الجماعة التي تُخفَض قيمتها بواسطة الثقافة المهيمنة لهو عدم اعتراف ومعاناة في علاقة الفرد مع ذاته. وكنتيجة للصدامات المتكررة مع نظرات الوصم من الهيمنة الثقافية للآخر، يضمر أعضاء الجماعات صورًا ذاتية سلبية، ويُمنعون من تطوير هويتهم الثقافية. من هذا المنظور، تهدف سياسات الاعتراف إلى إصلاح التفسخ الذاتي الداخلي عبر تفنيد الصورة المهينة التي تتبناها الثقافة المهيمنة عن الجماعة المقلل من شأنها. كما أنها تقترح أن يرفض أعضاء الجماعات التي لم يعترف بها مثل تلك الصور المهينة، في سبيل تمثيل ذاتي جديد من صناعتهم، ملقية بما تضمره من هويات سلبية، وتشترك بشكل جماعي لإنتاج ثقافتهم المؤكدة ذاتيًا، والتي بالإصرار عليها علانية، سوف تحصد الاحترام والتقدير من المجتمع بحرية. النتيجة حينما تنجح: هي «الاعتراف»، أي علاقة غير مشوهة مع الذات.

بلا شك، يحتوي نموذج الهوية ذلك على بعض الرؤى الأصيلة في التأثير النفسي للعنصرية والجنسانية والكولونيالية والإمبريالية الثقافية، لكنها إشكالية سياسية ونظرية. فمساواة سياسات الاعتراف بسياسات الهوية يشجع على كل من: تشيؤ هويات الجماعة، وإحلال إعادة التوزيع.

إحلال إعادة التوزيع

أولًا لنضع في اعتبارنا الطرق التي تميل إليها سياسات الهوية لتحل محل نضالات إعادة التوزيع. بسبب الصمت التام حول موضوع اللامساواة الاقتصادية، يُعالج نموذج الهوية لعدم الاعتراف على أنه ضرر ثقافي قائم بذاته حيث يتجاهل العديد من أنصار سياسات الهوية ببساطة الظلم التوزيعي تمامًا، ويركزون على جهود التغيير الثقافي فقط، بينما الآخرون الذين هم على النقيض من ذلك، يقدرون حدة سوء التوزيع ويتمنون إصلاحه بصدق. لكن كلا التيارين يؤديان في النهاية إلى إحلال مطالب إعادة التوزيع.

يطرح التيار الأول عدم الاعتراف (misrecognition) على أنه إشكالية إفقار ثقافي. تقع جذور الظلم في التمثيلات المهينة، لكنها لا تُرى على أنها مؤسسة اجتماعيًا. بالنسبة إلى ذلك التيار؛  تكمن عقدة تلك الإشكالية في الخطابات المعومة، لا في مأسسة الدلالات والمعايير. يجرد كل من التيار الأول والثقافة المتشيئة عدم الاعتراف من مصفوفته المؤسسية وتعتم على تشابكه مع الظلم التوزيعي. لربما فاتهم على سبيل المثال العلاقات (مأسسة أسواق العمل) بين المعايير الذكورية التي تخفض من قيمة النشاطات ذات الكود «النسوي» في يد والأجور المنخفضة للنساء العاملات في اليد الأخرى. كذلك، يتغاضون عن العلاقات المؤسساتية داخل نظم الرعاية الاجتماعية بين المعايير المغايرة جنسيًا التي تجرم المثلية في يد، ومنع الثروات والفوائد عن المثليين والمثليات في اليد الأخرى. بالتعتيم على مثل تلك الروابط، فإنهم يجردون عدم الاعتراف من دعائم بنيته الاجتماعية ويساوونه بالتشوه الهويَّاتى. بالتالي مع تقلص سياسات الاعتراف إلى سياسات الهوية؛ يتم إحلال سياسات إعادة التوزيع.

التيار الثاني لسياسات الهوية، لا يتجاهل ببساطة سوء التوزيع بهذه الطريقة. أنه يُقدِّر أن الظلم الثقافي، على الأغلب مرتبط بظلم آخر اقتصادي، لكنه يسيء فهم خاصية تلك الروابط. يفترض أنصار ذلك المنظور، المشاركين بشكل مؤثر «ثقافيًا» في نظرية المجتمع المعاصر، أن سوء التوزيع مجرد تأثير ثانوي لعدم الاعتراف. بالنسبة إليهم، تمثل اقتصادات اللامساواة تعبيرات بسيطة عن الثقافات الهرمية؛ وبالتالي، الاضطهاد الطبقي هو تأثير البنية الفوقية على خفض القيمة الثقافية للهوية البروليتارية (أو كما قال أحدهم في الولايات المتحدة، من «الطبقية»). أنه يتبع من ذلك المنظور، أن كل أشكال سوء التوزيع يمكن معالجتها بشكل غير مباشر، عن طريق سياسات الاعتراف؛ بإعادة القيمة للهويات المُخْفَضَة قيمتها ظلمًا، يعد ذاك في ذات الوقت هجوم على المنبع العميق للامساواة الاقتصادية وبالتالي لا حاجة إلى سياسات صريحة عن إعادة التوزيع.

من ذلك المسار، يرجع الثقافويون أنصار سياسات الهوية ببساطة إلى الشكل المبكر من الاقتصادوية الماركسية الرثة؛ حيث أنهم يتيحون لسياسات الاعتراف أن تحل محل سياسات إعادة التوزيع، تمامًا كما أتاحت الماركسية الرثة لسياسات إعادة التوزيع أن تحل محل سياسات الاعتراف. في الواقع، إن الثقافوية الرثة ليست أكثر كفاءة في فهم المجتمع المعاصر مما فعلت الاقتصادوية الرثة.

لكن وجب الاعتراف، ربما تُعْقَل الثقافوية لو أن الفرد يعيش في مجتمع حيث لا توجد أسواق حرة نسبيًا، حيث لا تُنظِّم أنماط القيمة الثقافية علاقات الاعتراف فقط، وإنما سوء التوزيع أيضًا. في مثل ذلك المجتمع، ستذوب اللامساواة الاقتصادية والهرمية الثقافية بسلاسة والضرر الهوياتي سوف يترجم بدقة وفورًا إلى ظلم اقتصادي، وسوف يحال عدم الاعتراف مباشرة إلى سوء توزيع. هكذا، كلا شكليّ الظلم يمكن معالجتهما في ضربة واحدة، وسياسات الاعتراف التي أصلحت عدم الاعتراف بنجاح سوف تشمل سوء التوزيع أيضًا. لكن الفكرة عن مجتمع (ثقافي) نقي بلا علاقات اقتصادية -الآسرة لأجيال من الأنثروبولوجيين- لهي بعيدة جدًا عن الواقع الحالي، حيث أن نظام السوقنة (marketization) قد اجتاح كل المجتمعات إلى درجة ما، على الأقل الفصل الجزئي للآليات الاقتصادية عن الأنماط الثقافية للقيمة والمنزلة. بالاستقلال الجزئي من تلك الأنماط، تتبع الأسواق منطقها الخاص التي ليست فيه مقيدة كليًا بالثقافة ولا خاضعة لها. ونتيجة لذلك، فإنها توَلِّد اقتصادات اللامساواة التي ليست مجرد تعبيرات عن الهويات الهرمية، ففي ظل تلك الظروف، لهو خداع كبير أن يستطيع الواحد معالجة كل أشكال سوء التوزيع بواسطة معاني سياسات الاعتراف، لأن نتيجتها الشبكية يمكنها فقط أن تحل النضالات من أجل اقتصاد عادل.

تشيؤ الهوية

لا يمثل الإحلال مع ذلك الإشكالية الوحيدة: يميل نموذج سياسات الهوية للاعتراف إلى تشيؤ الهوية. بسبب تأكيدها على الحاجة إلى إظهار هوية جماعية أصيلة مولدة ومؤكدة ذاتيًا وعرضها، فهي تضع عبئًا أخلاقيًا على الأعضاء الفرادى ليتوافقوا مع ثقافة جماعة محددة. حتى لا يُتهموا بساطةٍ بالخيانة؛ يُمنَع وفقًا لذلك الخلاف في الرأي الثقافي والتجريبي، بل وأيضًا النقد الثقافي الذي يشمل مجهودات استكشاف التشعبات داخل الجماعة، مثل الجندر والجنسانية والطبقة، وبالتالي فإن التحقيق فيها أبعد ما يكون عن الترحيب به، مثل الفروع الأبوية داخل الثقافة الخاضعة، ويميل نموذج الهوية لوسم مثل ذاك النقد على أنه «زائف». يمثل التأثير العام فرضًا لهوية جماعة واحدة مبسطة تمامًا تنكر تعقيدات حياة الناس، وتعدديتهم التعريفية، وأقطاب الجذب لانتماءاتهم المتنوعة. ومن الساخر إذن أن نموذج الهوية يعمل كوسيلة عدم اعتراف، فبسبب تشيؤ هوية الجماعة، ينتهي بالتعتيم على سياسات تحديد الهوية الثقافية والنضالات داخل الجماعة من أجل السلطة لتمثيلها. يحجب ذلك النهج قوة الهوامش المنتشرة، عبر حجب مثل تلك النضالات عن المشهد، ويعزز الهيمنة داخل الجماعة. بالتالي يسلم نموذج الهوية نفسه بسهولة شديدة إلى الأشكال القمعية لكلا من: النزعة الجماعانية، ويدعم الإلزامية والتعصب والأبوية.

أكثر من ذلك، يميل نموذج الهوية بشكل متناقض إلى إنكار فرضيته الهيجلية، التي قد بدأت عبر افتراض أن الهوية هي بنية حوارية عبر التفاعل مع ذات الآخر، لكنها تنتهي بتقييم مونولوجي مفترضًا أن الأشخاص غير المعترف بهم يمكنهم، بل ويجب عليهم بناء هويتهم بأنفسهم. بل يفترض أبعد من ذلك، وهو أن الجماعة تملك الحق أن تكون مفهومة عبر مفاهيمها الخاصة فقط، حيث لا يستطيع أحد قط أن يسوغ رؤيته لذات أخرى من منظور خارجي، أو من اختلاف مع تفسيرات الآخر الذاتية. لكن مجددًا، يسري ذلك على النقيض من الرأي الحواري، جاعلًا الهوية الثقافية مولدة ذاتيًا، وممثلة ذاتيًا حيث يقدم الفرد نفسه إلى الآخرين على أنه رأي عرضي. نادرًا ما يعزز ذلك النوع من سياسات الهوية التفاعل الاجتماعي عبر الاختلاف سعيًا لإعفاء «الأصالة» التمثيلات الذاتية الجماعية من أي تحديات ممكنة في الحيز العام، بل على النقيض من ذلك، أنه يشجع على الانفصالية وانغلاق الجماعة.

إذن، نموذج الهوية للاعتراف معاب بعمق، في كلا من: ضعفه النظري وإشكاليته السياسية، حيث أنه يساوى سياسات الاعتراف بسياسات الهوية، وبذلك فهو يشجع على كل من: تشيؤ هويات الجماعة، وإحلال سياسات إعادة التوزيع.

عدم الاعتراف مكانةً للخضوع

بناء على ما سبق سأقوم بطرح نهج بديل، نهج يعالج عدم الاعتراف على أنه مسألة مكانة اجتماعية. من ذلك المنظور، ما يتطلبه الاعتراف ليس هوية جماعة محددة، إنما المكانة الفردية لأعضاء الجماعة كأعضاء كاملي الحقوق في التفاعل الاجتماعي. بالتالي لا يعني عدم الاعتراف التقليل من قيمة هوية الجماعة أو تشويهها، بل الخضوع الاجتماعي بمعنى المنع من المشاركة كنظير في الحياة الاجتماعية. إصلاح هذا الظلم لا زال يتطلب سياسات اعتراف، لكنها لن تتقلص أكثر في «نموذج المكانة» إلى مسألة هوية؛ عوضًا عن ذلك أنها تعني سياسات تهدف إلى القضاء على الإخضاع عبر تأسيس حزب غير المعترف بهم كعضو كامل الحقوق في المجتمع وقادر على المشاركة على قدم المساواة من الآخرين.

سأشرح ذلك: رؤية الاعتراف على أنه مسألة مكانة تعني اختبار تأثيرات الأنماط المؤسساتية للقيمة الثقافية على الثبات النسبي للفاعلين الاجتماعيين. في حالة أو عندما تشكل تلك الأنماط الفاعلين على أنهم نظراء في المجتمع، وقادرون على المشاركة على قدم المساواة مع الآخرين في الحياة الاجتماعية، حينها يجب أن نتحدث عن الاعتراف المتبادل ومساواة المكانة. عندما تشكل على النقيض من ذلك بعض الأنماط على أنها أدني منزلة ومقصية ومختلفة تمامًا، أو ببساطة مخفية -في قول آخر، على أنها أقل من عضو كامل الحقوق في التفاعل الاجتماعي- حينها يجب أن نتحدث عن عدم الاعتراف ومكانة الخضوع. من ذلك المنظور، عدم الاعتراف لا هو تشوه نفسي ولا هو ضرر ثقافي قائم بذاته، لكنه علاقة مؤسساتية للإخضاع الاجتماعي. بالتالي كونك غير معترف بك لا يعنى ببساطة، إساءة الظن بك، أو كونك محط نظرات الاحتقار، أو تخفض قيمتك حسب سلوكيات أو معتقدات أو تصورات الآخرين، بل يعني أن تكون مكانتك كعضو كامل الحقوق في التفاعل الاجتماعي منسية نتيجةً للأنماط المؤسساتية للقيمة الثقافية التي تشكل المرء على أنه بالمقارنة ليست له قيمة للاحترام وللتقدير.

كذلك في نموذج المكانة، لا يتم تداول عدم الاعتراف عبر التمثيلات الثقافية أو الخطابات المعومة، بل يتم ذلك كما نرى خلال الأنماط المؤسساتية؛ في قول آخر، خلال أعمال المؤسسات الاجتماعية التي تنظم التفاعل وفقًا للمعايير الثقافية المعيقة للمساواة. ربما تشمل الأمثلة قوانين الزواج التي تستثنى الشراكة المثلية على أنها غير شرعية ومنحرفة، وسياسات الرعاية الاجتماعية التي تصم الأم العزباء بأنها متطفلة غير مسؤولة جنسيًا، وممارسات ضبطية مثل «التصنيف العرقي» التي ترهن الأفراد المصنفين عرقيًا بالجريمة. في كل تلك الحالات ينظم التفاعل بواسطة الأنماط المؤسساتية للقيمة الثقافية، التي تشكل بعض الفئات من الفاعلين الاجتماعيين كمعياريين وآخرين قاصرين وأدنى قيمة: «مستقيم» هو طبيعي، «مثلي» هو منحرف، «الأسر التي يعيلها الذكر» هي أمر ملائم، «الأسر التي تعيلها النساء» هي أمر غير ملائم، «البيض» يلتزمون بالقانون، «السود» يمثلون خطرًا. النتيجة في كل من تلك الحالات هي منع بعض الأعضاء من المجتمع من المكانة كعضو كامل الحقوق في التفاعل، والقدرة على المشاركة على قدم المساواة من الآخرين.

كما تقترح تلك الأمثلة، يمكن لعدم الاعتراف أن يتخذ أشكالًا متعددة. تؤسس المجتمعات التفضيلية في التعقيد الحالي القيم المعيقة للمساواة في كل مواقع المؤسسات وعلى أنماط مختلفة نوعيًا. في بعض الحالات يصبح عدم الاعتراف قضائيًا ومدونًا صراحة في القوانين الرسمية. وفي الحالات الأخرى هي مؤسسة عبر السياسات الحكومية والقوانين الإدارية أو الممارسة المهنية. كما أنها يمكن أن تؤسس بشكل غير رسمي أيضًا؛ في الأنماط الترابطية، أو الأعراف طويلة الأمد، أو الممارسات الاجتماعية المترسبة للمجتمع المدني. لكن مهما كانت الاختلافات في الشكل، يظل جوهر الظلم كما هو؛ في كل حالة تشكل الأنماط المؤسساتية للقيمة الثقافية بعض الفاعلين الاجتماعيين على أنهم أقل من أعضاء كاملي الحقوق في المجتمع وتحرمهم من المشاركة كنظراء للآخرين.

إذن في نموذج المكانة يشكل عدم الاعتراف شكلًا من الإخضاع المؤسسي، وبالتالي يمثل انتهاكًا فجًا للعدالة. حيثما وكيفما تحدث، فإن المطالب بالاعتراف واجبة. لكن لاحظ بدقة ما يعنيه ذلك: أنها لا تهدف إلى تقييم هوية الجماعة، وإنما تهدف عوضًا عن ذلك إلى التغلب على الإخضاع، تسعى مطالب الاعتراف في ذلك النهج إلى تأسيس حزب الخاضعين كشريك كامل الحقوق في الحياة الاجتماعية، وقادر على التفاعل مع الآخرين كنظير لهم. في قول آخر، إنها تهدف إلى هدم الأنماط المؤسساتية للقيمة الثقافية التي تعيق المساواة في المشاركة وتستبدلها بأخرى تعزز المناصفة التشاركية. يعني معالجة عدم الاعتراف اﻵن تغيير المؤسسات الاجتماعية، أو على وجه الدقة، تغيير القيم المنظمة للتفاعل التي تعيق المناصفة التشاركية في جميع المواقع المؤسساتية كافة. كيف يجب أن يحدث هذا تحديدًا في كل حالة يعتمد على النمط المؤسسي لعدم الاعتراف؟ تتطلب الأشكال القضائية تغييرًا قانونيًا، والأشكال السياسة الراسخة تتطلب تغييرًا سياسيًا، والأشكال الترابطية تتطلب تغييرًا ترابطيًا، وهلم جرًا. يختلف النمط والوسيلة للإصلاح حسب اختلاف المواقع المؤسساتية. لكن في كل حالة الهدف هو نفسه: إصلاح عدم الاعتراف يعني استبدال الأنماط المؤسساتية للقيمة التي تعيق المناصفة التشاركية باﻵخر اللائي تمكن المناصفة التشاركية أو تدعمها.

لننظر مرة أخرى على حالة قوانين الزواج التي ترفض المشاركة المنصفة للمثليين والمثليات. فكما نرى أن جذور الظلم تكمن في مأسسة نمط القيمة الثقافية في القانون المغاير جنسيًا، الذي يشكل المغايرين جنسيًا على أنهم معياريون والمثليين على أنهم منحرفون. تتطلب معالجة الظلم تفكيك الأنماط الثقافية المؤسسة واستبدالها بأخرى تدعم المساواة نسبيًا. لكن ربما يتم ذلك بطرق عدة: إحدى الطرق يمكن أن تكون عبر منح المثليين والمثليات ذات الاعتراف الذي يتمتع به المغايرين جنسيا حاليًا، عبر تقنين الزواج من نفس الجنس؛ واﻷخرى يمكن أن تكون عبر تفكيك مأسسة الزواج المغاير جنسيًا، وفصل الحقوق مثل التأمين الصحي عن الحالة الاجتماعية وإسنادها إلى بعض الأسس الأخرى كالمواطنة. على الرغم من أنه قد يكون هناك أسباب مقنعة لتفضيل أحد هذين النهجين على اﻵخر، إلا أنهما من حيث المبدأ يمكنهما دعم المساواة الجنسية ومعالجة هذه الحالة من عدم الاعتراف.

إذن يصبح نموذج المكانة على العموم غير ملزم قبليًا إلى أي نمط من أنماط معالجة عدم الاعتراف، عوضًا عن ذلك أنه يتيح نطاقًا للاحتمالات؛ تعتمد على ما يحتاجه الأطراف الخاضعة تحديدًا من أجل المشاركة كنظراء في الحياة الاجتماعية. في بعض الحالات ربما يحتاجون لأن يتحرروا من النسب المبالغ فيه أو التمييز البنيوي؛ في بعض الحالات الأخرى يحتاجون حتى لأن يكون التمييز غير المعترف به مأخوذًا في الحسبان. في الحالات الأخرى المتبقية لربما يحتاجون إلى نقل التركيز على الجماعات المميزة أو المهيمنة فاضحين تمييز تلك الجماعات، الذي قد كان يعرض زورًا على أنه عالمي؛ بدلًا من ذلك لربما يحتاجون إلى تفكيك مصطلحات محددة تساهم في الاختلاف وتصاغ حاليًا. في كل حالة يوائم نموذج المكانة لمعالجة الترتيبات الملموسة التي تعيق المساواة. لذلك على العكس من نموذج الهوية، فهو لا يمنح امتيازا قبليًا إلى النُهج التي تُقَيِّم خصوصية الجماعة، عوضًا عن ذلك فهو يتيح من حيث المبدأ ما يمكن أن ندعوه بالاعتراف العالمي، والتفكيك الاعترافي، وكذلك التأكيد الاعترافي على الاختلاف. مجددًا تمثل النقطة الحاسمة أن في نموذج المكانة لا تتوقف سياسات الاعتراف على الهوية لكنها تسعى إلى معالجات مؤسسية للأضرار المؤسساتية، مركزة على الثقافة من حيث أشكال أرضيتها الاجتماعية (على النقيض من التعويم الحر)، تعمل هذه السياسات على جعل الغلبة إلى مكانة الخضوع عبر تغير القيم التي تنظم التفاعل وترسيخ أنماط قيمة جديدة تدعم المناصفة التشاركية في الحياة الاجتماعية.

معالجة سوء التوزيع

ثمة اختلافات أكثر أهمية بين نموذج المكانة ونموذج الهوية. في نموذج المكانة ليست الأنماط المؤسساتية للقيمة الثقافية هي العقبة الوحيدة للمناصفة التشاركية. على النقيض، فإن المساواة التشاركية تُعاق أيضًا حينما يفتقر أحد الفاعلين للموارد الضرورية للتفاعل مع الآخرين كنظير لهم. في تلك الحالات يشكل سوء التوزيع إعاقة للمناصفة التشاركية في الحياة الاجتماعية، وبالتالي شكلًا من الإخضاع الاجتماعي والظلم. إذن على العكس من نموذج الهوية، يفهم نموذج المكانة العدالة الاجتماعية على أنها تشمل بعدين تحليليين مختلفين: البعد الاعترافي والذي يهتم بتأثيرات المعاني المؤسساتية والمعايير على المكانة النسبية للفاعلين الاجتماعيين؛ وأبعاد التوزيع، حيث يشمل التوزيع للموارد المتاحة على الفاعلين الاجتماعيين[1]. بالتالي يرتبط كل بعد مع جانب تحليلي مختلف للنظام الاجتماعي. يتماثل البعد الاعترافي مع نظام المكانة في المجتمع، وبالتالي مع الدستور، عبر الأنماط المتجذرة اجتماعيًا للقيمة الثقافية لفئات من الفاعلين الاجتماعيين محددين ثقافيًا -مكانة الجماعات- تُمايز تلك الفئات بالشرف النسبي والمنزلة والتقدير الذي تتمتع به على النقيض من الآخرين. يتماثل البعد التوزيعي على النقيض مع البنية الاقتصادية للمجتمع، وبالتالي مع الدستور، عبر نظم الملكية وأسواق العمل للفئات المحددة اقتصاديًا من الفاعلين الاجتماعيين أو الطبقات المميزة بثرواتها المختلفة من الموارد[2].

علاوة على ذلك فإن كل بعد مرتبط بشكل تحليلي مختلف للظلم. البعد الاعترافي كما رأينا مرتبط بالظلم في عدم الاعتراف. والبعد التوزيعي في المقابل متماثل مع الظلم في سوء التوزيع، حيث تحرم البنية الاقتصادية أو نظم الملكية أو أسواق العمل الفاعلين الاجتماعيين من الموارد اللازمة لتحقيق مشاركة كاملة. أخيرًا فإن كل بعد يتماثل مع شكل تحليلي مختلف للإخضاع: يتماثل البعد الاعترافي كما نرى مع مكانة الخضوع، التي تجذرت في الأنماط المؤسساتية للقيمة الثقافية؛ ويتماثل البعد التوزيعي في المقابل مع الإخضاع الاقتصادي، الذي تجذر في الخصائص البنيوية للنظام الاقتصادي.

إذن يضع نموذج المكانة إشكالية الاعتراف في إطار اجتماعي أوسع. من ذلك المنظور تظهر المجتمعات على أنها مجالات معقدة حيث لا تشمل الأشكال الثقافية للنظام الاجتماعي فقط وإنما الأشكال الاقتصادية للنظام الاقتصادي أيضًا. يوجد في كل المجتمعات هذان الشكلان من النظام متراكبين بين بعضهما. في ظل الظروف الرأسمالية، وعلى الرغم منها لا يمكن أن يختزل أحدهما اﻵخر كليًا. على النقيض من ذلك فإن البعد الاقتصادي أصبح منفصلًا نسبيًا عن البعد الثقافي كما في ميادين نظام السوقنة، حيث يهيمن الفعل الإستراتيجي، والذي يختلف عن الميادين بلا نظام سوقنة، حيث تهيمن فيها قيمة تنظيمية للتفاعل. والنتيجة فصل جزئي للاقتصاد التوزيعي عن بنيات المنزلة. لذلك في المجتمعات الرأسمالية، لا تفرض أنماط القيمة الثقافية التوزيع الاقتصادي بتاتًا (على النقيض من النظرية الثقافية للمجتمع) ولا يعكس اللامساواة الاقتصادية الطبقي ببساطة المكانات الهرمية؛ فضلًا عن ذلك أصبح سوء التوزيع مفصولًا جزئيًا عن عدم الاعتراف. لذلك بالنسبة لنموذج المكانة ليس كل الظلم التوزيعي يمكن تجاوزه عبر الاعتراف فقط. إن سياسات إعادة التوزيع ضرورية أيضًا[3].

إلا أن التوزيع والاعتراف ليسا منفصلين عن بعضهما في المجتمعات الرأسمالية بعناية. بالنسبة لنموذج المكانة، فإن كلا البعدين متراكبين ويتفاعلان سببيًا مع بعضهما. القضايا الاقتصادية مثل توزيع الدخل لديها اعترافات ضمنية: أنماط القيمة المؤسساتية في الأسواق ربما تميز النشاطات ذات أكواد «ذكورية»، «بيضاء» وهلم جرًا، على حساب أكواد «نسوية»، «سوداء». في المقابل قضايا الاعتراف -الأحكام على القيمة الجمالية مثلًا- لديها توزيعات ضمنية: تضاؤل الفرص في الحصول على الموارد الاقتصادية ربما يعيق المساواة التشاركية في صنع الفن[4]. يمكن أن تكون النتيجة حلقة مفرغة من الإخضاع، كما أن نظام المكانة والبنية الاقتصادية سيتشابكان ويعزز كل منهما الآخر.

إذن على العكس من نموذج الهوية ينظر نموذج المكانة إلى عدم الاعتراف في السياق الواسع لفهم المجتمعات المعاصرة. من ذلك المنظور لا يمكن فهم مكانة الخضوع بمعزل عن الترتيبات الاقتصادية، ولا الاعتراف المجرد من التوزيع. على النقيض من ذلك وعبر الأخذ في الاعتبار كلا البعدين، فقط يمكن تحديد ما يعيق المناصفة التشاركية في أي حالة عبر استخراج التعقيدات التراكبية للمكانة مع الطبقة الاقتصادية، بل يمكن تحديد الكيفية الأفضل لمعالجة الظلم. بالتالي يعمل نموذج المكانة ضد الميول لإحلال نضالات إعادة التوزيع. رافضًا المنظور الذي يرى أن عدم الاعتراف ضرر ثقافي قائم بذاته، أنه يفهم أن مكانة الخضوع على الأغلب مرتبطة بالظلم التوزيعي. على العكس من النظرية الثقافوية للمجتمع وعلى الرغم من ذلك فإنه يتجنب قطع التعقيدات بين تلك الروابط، مقدرًا أنه ليست كل أشكال الظلم يمكن التغلب عليها بالاعتراف فقط، فإنه يؤيد النهج الذي يدمج بوضوح مطالب الاعتراف مع مطالب إعادة التوزيع، وبالتالي يخفف من إشكالية الإحلال.

يتجنب نموذج المكانة تشيؤ هويات الجماعة أيضًا: كما نرى ما يتطلبه الاعتراف في هذه الحالة ليس هوية جماعة محددة إنما مكانة الأفراد كأعضاء كاملي الحقوق في التفاعل الاجتماعي. يقدم هذا التوجه العديد من المميزات. عبر التركيز على المؤثرات في المعايير المؤسساتية على قدراتها اللازمة للتفاعل، ويتجنب النموذج تشيؤ الثقافات المجردة واستبدال الهندسة الهوياتية بالتغيير الاجتماعي. كذلك عبر الرفض للمعالجة التمييزية لعدم الاعتراف التي تقيم هويات الجماعة الموجودة، فهو يتجنب التكوينات الراسخة حاليًا والتغير التاريخي الإقصائي. وأخيرًا عبر تأسيس المناصفة التشاركية كحد معياري، يقدم نموذج المكانة مطالب الاعتراف إلى الآليات الديموقراطية من التبرير العام، وبالتالي تمنع المونولوجات السلطوية لسياسات الأصالة وتمنع تقييم التفاعل المتعدد الثقافات، على العكس من الانفصالية وانغلاق الجماعات. بعيدًا عن التشجيع على الجماعانية القمعية، حيث يعمل نموذج المكانة على مناهضتها.

تلخيصًا لما سبق: نضالات الاعتراف الحالية على الأغلب تظهر بمظهر سياسات الهوية. هادفة إلى مكافحة التمثيلات الثقافية المهينة للجماعات الخاضعة، إنهم يجردون عدم الاعتراف من مصفوفته المؤسسية ويقطعون صلاتها مع السياسة الاقتصادية وطالما أنهم يقدمون هويات جماعية ذات "أصالة"، فإنها تخدم تعزيز التفاعل عبر الاختلاف أقل مما تفعل بتعزيزها للانفصالية والامتثالية والتعصبية. تميل النتائج لأن تكون مؤسفة بشكل مضاعف: في العديد من الحالات تحل نضالات الاعتراف آنيًا محل النضالات من أجل العدالة الاقتصادية، وتدعم الأشكال القمعية الجماعانية. على الرغم من ذلك، ليس الحل في رفض سياسات الاعتراف مجملًا. إن هذا سوف يدين الملايين من الناس الذين يعانون ظلمًا فظيعًا والذي يمكن إصلاحه فقط عبر نوع ما من الاعتراف. عوضًا عن ذلك، إن ما يتطلبه الأمر هو سياسات بديلة للاعتراف، سياسة غير هوياتية والتي يمكنها معالجة عدم الاعتراف دون التشجيع على الإحلال والتشيؤ. نموذج المكانة الذي ناظرت لأجله، يوفر الأسس لذلك، عبر فهم الاعتراف على أنه مسألة مكانة، وعبر اختبار علاقته بالاقتصاد الطبقي وبناء عليه يستطيع الفرد التقليل من إحلال نضالات إعادة التوزيع إذا لم تحل الإشكالية تمامًا، وعبر تجنب نموذج الهوية، يستطيع الواحد أن يبدأ في تقويض الميول الخطيرة لتشيؤ الهويات الجماعية.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه


[1] في الواقع يجب أن أتحدث "على الأقل عن نموذجين تحليليين لأبعاد التمييز" من أجل إتاحة الإمكانية لفهم أوسع. لدى في رأسي تحديدًا تصنيف ثالث ممكن لمعوقات المناصفة التشاركية والذى أسميه السياسي، كمقابل للاقتصادي والثقافي. مثل تلك المعيقات التي تشمل إجراءات صناعة القرار التي تهمش بشكل منهجي بعض الأفراد حتى في غياب سوء التوزيع وغياب عدم الاعتراف، على سبيل المثال، تفوز الدوائر الفردية بكل القواعد الانتخابية التي تمنع تصويت الأقليات شبه الدائمين. (لإجراء بحث موسع عن ذلك المثال انظر: Lani Guinier, The Tyranny of the Majority, New York 1994). تبرز الإمكانية لتصنيف ثالث وهو المعوقات السياسية للمساواة التشاركية حجم امتناني إلى ماكس فيبر وبالأخص إلى مقال ‘Class, Status, Party’ من كتاب: From Max Weber: Essays in Sociology, Hans H. Gerth and C. Wright Mills, eds, Oxford 1958. في المقال الحالي، أضع صيغة ملائمة للتمييز الفايبيرى بين الطبقات والمكانة مع التمييز بين التوزيع والاعتراف. حتى الآن التمييز الفايبيرى ثلاثي وليس ثنائي: "الطبقة والمكانة والحزب". بذلك، أعد فعليًا للتنظير الثالث مكانًا ونوعًا سياسيًا لمعوقات المساواة التشاركية، والتي يمكن تسميتها المنع أو اﻹقصاء السياسي. فأنا لا أطور هذه الإمكانية هنا، لكن على الرغم من ذلك، أقتصر على سوء التوزيع وعدم الاعتراف، بينما أترك تحليل المعوقات السياسية لمناسبة أخرى.

[2] فى هذا المقال استخدمت متعمدة مفهوم الطبقة الفايبري، وليس المفهوم الماركسي بالتالي، أستطيع فهم موضع طبقة الفاعلين في مصطلح يحدد علاقاتهم مع السوق، وليس بمصطلح يحدد علاقاتهم مع الإنتاج. هذا المفهوم الفايبيرى عن الطبقة كتصنيف اقتصادي ينظم اهتمامي عن التوزيع كبعد معياري للعدالة أفضل من المفهوم الماركسى عن الطبقة كتصنيف اجتماعي. إلا لا أعنى بذلك رفضي الفكرة الماركسية عن (نمط الإنتاج الرأسمالي) كنموذج شامل المجتمع. على النقيض، أجد هذه الفكرة مفيدة كإطار شامل يمكن من خلالها وضع الفهم الفايبيرى لكل من المكانة والطبقة. بالتالي، أرفض الرؤية لماركس أو فايبر على أنهما مفكران متناقضان وغير قابلين للتوفيق بين أفكارهما. للتعريف الفايبيرى عن الطبقة انظر: Max Weber, ‘Class, Status, Party’.

[3] لنقاشات كاملة عن معيار عدم الاختزال المشتركة في سوء التوزيع عدم الاعتراف، الطبقة والمكانة في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، انظر:

Nancy Fraser, ‘Heterosexism, Misrecognition, and Capitalism: A Response to Judith Butler’, NLR 1/228, March–April 1998, pp. 140–9; and ‘Social Justice in the Age of Identity Politics: Redistribution, Recognition and Participation’, in The Tanner Lectures on Human Values, volume 19, ed. Grethe B. Peterson, Salt Lake City 1998, pp. 1–67.

[4] لفهم أشمل، إذا اختزل نسبيا، اعتمادا على هذه القضية انظر:

Pierre Bourdieu, Distinction: A Critique of Pure Taste, tr. Richard Nice, Cambridge, MA 1984.