بالنسبة للولايات المتحدة، بدأت المهمة بدءًا رئيسيًا في عام 1961، أو 1965، بعد قرار تونكين، بالنسبة لهير بدأت في 1967 حين أصبح مراسل حرب لمجلة (إسكواير) مقيمًا في سايجون. 

مراسلات لمايكل هير

مقال: روبرت مكروم

نُشر في الجارديان، مارس 2016

ترجمة: مارينا أشرف


من فيلم apocalypse now، عن الجارديان

إن الحقيقة المُتجلية في أدبنا هي إنه بالرغم من سائر أنواع التقدم، إلا أن الإنسانية ما تزال تعيش وتموت تحت وطأة الحربٍ أو السلامٍ. فيظل هناك موضعٍ لكتاب حرب عظيم مثل «مُراسَلَات» Dispatches. يبدو «مُراسَلَات» على غرار أسلافه -من هوميروس إلى همينجواي ، الموجودين بنفس الصحبة- يبدأ من منتصف الأمر، فيُقحم قُراءه في منطقة الحرب قبل أن يتمكنوا من اتخاذ مواقع دفاعية:

«كانت توجد خريطة لفيتنام مُعلقة على حائط شقتي في مدينة سايجون وفي بعض الليالي عند عودتي إلى المدينة متأخرًا، قد أستلقي على فراشي وأنظر إليها، متعبًا جدًا للدرجة التي لا تسمح لي سوى بخلع نعلي. كانت هذه الخريطة أعجوبة، وخصوصًا الآن حيث إنها لم تعد حقيقية على الإطلاق».

يتوجب على قُرَّاء مايكل هير (Michael Herr) باعتبارهم زوارًا لمكان لا يمكن تعيينه - فمنذ سنوات لا يوجد بلد هنا، فلا يوجد سوى الحرب - التأقلم مع التجربة السريالية لفيتنام[1] في عام 1967، كما لو أنه لا يوجد أمامهم خيار: توجد حرب واقعة.

لعل اقتران إلحاح سرد هير الذي يفرض نفسه – فوُضِعَ كل سطرٍ كما لو أن اعترضته قذيفة قادمة – بصوت هير الساحر في حد ذاته، هو أعظم إنجاز لكتاب يقدم وصفًا مُحددًا عن الحرب في زمننا، لقرابة الأربعين عام، وخصوصًا حرب فيتنام – واحدة من بين حروب ما بعد الحرب العالمية الأكثر ترويعًا. استلهم هير من مثال الصحافة الجديدة[2]  New Journalism في ستينيات القرن الماضي، فيُعبر صوته - بعد توم وولف (Tom Wolfe) - عن مناجاته الداخلية حيث تتسم تارةً بالخوف الشديد وتارةً بالهوس، متضافرة مع قصاصات من موسيقى الروك آند رول والرَّطانة اليومية «للجرانتس[3]grunts»، والجنود الأمريكيين (GIs) في مستنقعات فيتنام وأدغالها ومروحياتها في مهام البحث عن قوات تشارلي (Charlie)، أي مليشيات الفيت كونج[4] وتدميرها:

«ما إن صرنا فوق قرية صغيرة قُصفت لتوها بضربة جوية، هجمت كلمات أغنية لوينجي مانون (Wingy Manone) التي كنت أسمعها حين كنت صغيرًا على رأسي (أوقف الحرب، هذه القطط تقتل نفسها). اتجهنا إلى الهبوط وعُلقنا في الهواء واستقررنا في دخان منطقة الهبوط الأرجواني، وإذ عشرات الأطفال انطلقوا من ثكناتهم يهرعون نحو بؤرة هبوطنا، فيضحك الطيار ويقول: (فيتنام يا رجل. أسرع، اقصف هؤلاء، أسرع اقصفهم)».

بالإضافة إلى الخطر شديد الوطأة والصوت المحفور في الذاكرة في مُراسَلَات، يوجد أيضًا تعاطف مايكل هير العميق نحو نفسية الرجال في القتال واستيعابها. فبفضل اِنهِماك هير الأرعن في الحرب في واحدة من أكثر لحظاتها جنونًا – نظرًا لعمله كصحفي لإحدى المجلات أثناء هجوم التيت[5] عام 1967 وتداعياته - استوعب مزيج الدعابة والجنون والمخدرات، ووضعهم جميعًا على الصفحة بتوارد لفظي نادر بين الدقة والشفقة بحيث تعتقد كقارئ: أنني كنت هناك. في النهاية، إذا لم يكن كل هذا كافيًا، فأن هير - في فيتنام (شاعرًا بسوء ما لم يشعر بمثله من قبل) - كاتب ممتاز:

«في سايجون كنت دائمًا أخلد إلى النوم مسطولًا، لذلك لم أكن أتذكر أحلامي، وربما يكون طيبًا أن تصمت في عمق وعتمة وسط تلك المعلومات، وتحصل على أي قسط من الراحة، فتستيقظ مشوشًا بكل المشاهد عدا المشهد الذي تذكرته بالأمس، فقط بمذاق حلم سيء في فمك، أشبه بمضغ لفافة عملات معدنية قديمة ومتسخة في نومك».

تُقرأ إحدى أفضل فقرات هير -وهي جديرة بالاقتباس- وكأنها هلوسة؛ فبعضها ببساطة عبارة عن: أوصاف لكونك مسطولًا على خطوط الجبهة، مثل شخصية في (القيامة الآن) Apocalypse Now، الفيلم الكلاسيكي الذي ساهم هير في كتابة السيناريو الخاص به:

«فقط أستلقى هناك متتبعًا دوران مروحة السقف، وأنظر إلى صرصور ضخم على ولاعتي الزيبو داخل مطفأة القطران. مرت أَيام كنت أود فعل ذلك حتى قبل أن تطأ قدمي الأرض. أمي العزيزة، أنا مسطول مرة أخرى. في الهايلاندز (the Highlands)، قد يبيع لك المونتانيردز[6] رطلًا من العشب الأسطوري مقابل علبة سجائر سالم، تعاطيت المخدرات مع بعض المشاة من الفرقة الرابعة...».

يمكن لهير أن يكون هزليًا أيضًا، في وصف مهمة الولايات المتحدة، يكتب هير: «في المؤخرة جندي مشاة ثمل، وفي مقدمة ثالوث القيادة: قائد ذو عيون زرقاء، ووجه بطولي، وسفير طب الشيخوخة للحالات الطارئة، وممثل ذو بأس عديم الرحمة لوكالة الاستخبارات الأمريكية».

يضيف هير بطريقة جافة - بذكر اسم العميل السري، روبرت كرومر المُلقب بموقد اللحام (Blowtorch) داخل البلاد - أن: «إذا (أخبر) وليم بليك كرومر أنه رأى ملائكة على الأشجار، سيحاول كرومر أن يثنيه عن فكرته. وإذا فشل، سيأمر بأن يُنزع ورق الشجر».

لا تُعد «مُراسَلَات» واضحة بطريقة أليمة فقط، إنما تعرف إنها جزء من التسجيل التاريخي، وإنها متأصلة في التاريخ، حتى إذا لم يتمكن أحد من تحديد أصول مأساة الهند الصينية[7]. لمرة أخرى يقول هير: «مهمة المفكرين تشبه تلك التي كانت لديهم في عام 1954 كتاريخ يمكن الرجوع اليه؛ إذا رأيت الفترة التي تعود إلى الحرب الثانية والاحتلالات اليابانية فأنت ذو بصيرة تاريخية». بالنسبة للولايات المتحدة، بدأت المهمة بدءًا رئيسيًا في عام 1961، أو 1965، بعد قرار تونكين[8]، بالنسبة لهير بدأت في 1967 حين أصبح مراسل حرب لمجلة (إسكواير) مقيمًا في سايجون. يكتب هير: «إن المكوث في سايجون، أشبه بالمكوث في بتلات مطوية لوردة مسممة، يتوغل التاريخ المسمم في جذورها بغض النظر إلى أي مدى تريد أن تهرب من آثارك».

وكانت سايجون أبعد من أن تكون خارج حدود السيطرة:

«... الشباب الأمريكيون من المناطق الريفية الذين في الخدمة العسكرية المؤقتة[9]، متهمين بالكراهية ومستندين إلى الخوف من الفيتناميين؛ الآلاف من الأمريكيين جالسين على مكاتبهم يصرخون في نغمة مملة، (لا يمكن السماح لهؤلاء بفعل شيء سخيف، لا يمكن السماح لهؤلاء بفعل شيء سخيف... )».

التحق هير بالعمل مع مصور الحرب الإنجليزي تيم بيدج، وشون ابن إيرول فلين الذي اختفى جراء في إحدى المهمات، فقد ذهب في جولة بالمروحية حول منطقة الحرب، في عملية تشتمل على مخاطر جسيمة، وتقطعت به السبل في منطقة كاي سان  في شتاء عام 1968، أثناء الحصار المشين (مشهد عظيم في صميم «مُراسَلَات»)، صامدًا أمام الصعاب. ظل هير إلى أن أنهى مهمته حتى عام 1969، ثم عاد إلى مدينة نيويورك وبحوزته مجموعة من الملاحظات وملف مقالات مجلة إسكواير وكهف ذكريات مسممة. في خلال 18 شهر من العودة إلى الوطن، كان هير في غمار اكتئاب شبه مُعِيقًّ، ربما أصبحت كتابة مُرَاسَلَات جزءًا من طريق الخروج من الجحيم.

كان ثمرة هذا هو كتاب نُشر في 1977، تمنى كتابته كل صحفي وكاتب كان في أي وقت مضى في منطقة حرب، بداية من چون لو كاريه إلى روبرت ستون. تُعقد المقارنات مع كتب أخرى أمثال «شارة الشجاعة الحمراء»، و«كل شيء هادئ على الجبهة الغربية»، ولكن هذا الكتاب مختلف: إنها بقلم كاتبُ وليس جنديًا، كما أن حساسية الكاتب جعلت الكتاب آسرًا لجيل كامل من القُرَّاء. عبر صحفي مشهور آخر ينتمي إلى الصحافة الجديدة، وهو هنتر إس تمبسون، عن العَمَل حين قال: «قضينا جميعًا عشر سنوات محاولين تفسير ما حدث لأذهاننا وحياتنا في العقد الذي نجونا منه أخيرًا – ولكن «مُرَاسَلَات» لمايكل هير جعل الباقي منا في حال أفضل».

هنا في المملكة المتحدة، حيث عاش هير لفترة من الزمن خلال ثمانينيات القرن الماضي، كان مراسلو الحرب الانجليز - أمثال زميلي إيد ڨاليومي مراسل صحيفة أوبزرفر - يقومون بصياغة واضحة للمقدمة. كتب فاليومي: «كل كاتب يحاول الكتابة لأول مرة في صحافة الحرب، سيذهب للقاء مايكل هير أشبه بِمُتعلم آلة التشيلو المتجه إلى إيمستسلاف روستروبوفيتش. بعيدًا عن التعلم عن طريق الاستماع، الشيء المُرضي أن تجد أن حماقات المرء ومخاوفه هي أصداء تلك الموجودة لدى هير؛ فغالبًا يفهم المرء ويقبل مراوغات الآخر في إصدار الأحكام في أعقاب الحرب».

يبدو الأمر - في القرن الجديد، وفي المشهد الجيوسياسي الجديد - كما لو أن كل شيء ولا شيء قد تغير. كما يكتب هير، في إحدى فقراته التي لا يمكن نسيانها بسهولة، أن جيش الولايات المتحدة «استعاد الأرض سريعًا، استعادة ذات ثمن باهظ، بهلع كامل وبممارسات أقرب إلى الوحشية القصوى. كانت آلتنا مدمرة، ذات قدرات متنوعةـ يمكنها القيام بكل شيء عدا التوقف».

اقتباس ختامي

«لقد مررت بذلك الأمر عدة مرات ولم أستعد خوفي سوى مرة واحدة فقط، هبوط كلاسيكي حار للغاية مع حرارة قادمة من أشجار تبعد حوالي 300 ياردة، يدفع إطلاق نيران الرشاشات الكاسح الرجال لغمر رؤوسهم في مياه المستنقعات، هاربين على أيديهم وركبهم نحو العشب الذي لم تقلمه النُصُول الدوارة، لا يوجد ملاذ أفضل من ذلك لكنه أفضل من لا شيء».


[1] بدأت حرب الڨيتنام باحتلال فرنسي تخلصت منه البلاد وانقسمت إلى بلدين شمالية شيوعية وجنوبية مدعومة وممولة من قبل الأمريكيين. بدأ الشمال في شن هجمات على الجنوب من أجل توحيد البلاد إلى أن قتل بعض الجنود الأمريكيين ومن هنا بدأت الحرب بين أمريكا وڨيتنام. (المترجمة)

[2] يقصد بها حركة أدبية أمريكية قامت من ستينيات إلى سبعينيات القرن الماضي حيث دحضت أساليب الصحافة التقليدية متجهة إلى الأسلوب القَصصي. (المترجمة)

[3] هو لقب جنود المشاة في حرب الڨيتنام. (المترجمة)

[4] هي مليشيات عسكرية بدأت مقاومتها الأولى ضد الاحتلال الفرنسي، وحين قسمت البلاد اتبعت ڨيتنام الشمالية ضد ڨيتنام الجنوبية. (المترجمة)

[5] هجوم حدث من القوات الڨيتنامية ضربت فيه القوات الأمريكية في مقتل. (المترجمة) 

[6] سكان الجبل. (المترجمة)

[7] Indochina  

[8] هو قرار فرضه الكونجرس بمنح الرئيس الأمريكي ليندون جونسون استخدام القوة العسكرية في جنوب الڨيتنام (دون إعلان حالة حرب) عام 1964. (المترجمة)

[9] هي خدمة عسكرية مؤقتة في موقع واحد أو أكثر بعيدًا عن مواقع الخدمة العسكرية الدائمة في الولايات المتحدة. (المترجمة)