هل هُناك مَن يعتبر أنَّ القراءة نفسها فعلٌ شائن؟ لو افترضنا أنَّ هُناك من بدأ برنامجًا إذاعيًّا أو تلفازيًّا يريد به التحريض على القراءة سيحتاج هو نفسه إلى كتابة وقراءة ملاحظاته لفعل ذلك.
أدبيات لا للكتب
مقال: عمر زكريا
ظاهرة حُبّ الكتاب ما كانت لتكون ظاهرة لو أنّها كانت بديهية. لكنَّ العالم مليء بالبشر من غير القُرّاء، بل إنَّ معظم البشر إحصائيًّا هم ليسوا من هواة قراءة الكتب. غالبًا ما يذهب النّاس إلى التحجُّج بالوقت أو التعب أو مشاغل الحياة اليومية. لا يعترفون بأنّهم لا يحبّون القراءة، بل حتّى بعضهم يؤكّد احترامه للقُرّاء وشغفه بالقراءة لولا أحد الأمور المبيّنة في الأعلى.
كثرة هذه الادعاءات جعلت من ظاهرة قراءة الكتب تبدو وكأنّها رفاهيّة. لكنَّ هذا لبس ليس صحيحًا. قد يكون اقتناء الكتب رفاهية، حيث للكتب أولوية أو على الأقل لها خانة في ميزانيّة العائلة، وكذلك أيضًا امتلاك مساحة في البيوت نُعطيها للمكتبة، يُمكن أن نتقبّل فكرة أنّها شكلٌ من أشكال الرفاهيّة. لكنَّ القراءة نفسها ليست كذلك، فالكثير من القُرّاء لا يملكون المال أو الوقت أو المساحة لكنّهم يجدون مُتسعًا لقراءة كتبهم، والتي ربما لا يملكونها. الشخص الذي لا يقرأ الكتب هو بالعادة شخصٌ لا يُريد أن يقرأ.
قد يكون الشخص ليس بقارئٍ لأنّه لم يكن في بيئة ترى في الكتاب فائدة فابتنى لنفسه هذا المفهوم من محيطه. أو ببساطة قد لا يُريد أحدٌ ما قراءة الكُتُب لأنّه لا يُجيد القراءة، وآخرون يذهبون إلى ثُنائيّة العمليّ والنظريّ فلا يقرأون كتابًا ما لم يكن مُقرّرًا ويأتي من قراءته فائدة ماديّة ملموسة كشهادة أو ما شابه. جميع هذه الأسباب وما سبقها وإضافةً إلى غيرها أيضًا تستمرُّ بتجنُّب الاعتراف بما قد يراه الكثيرون سيئًا أو نقيصة، الاعتراف بكره الكتب أو حتى الخوف منها.
يتساءل محمّد آيت حنا في كتابه "مكتباتهم" فيما إذا كان هُناك أفضلية حقيقيّة للقُرّاء على غير القُرّاء سوى أنَّ القُرّاء يكتبون في فوائد القراءة وأهميتها في حين أنَّ غير القُرّاء لا يفعلون ذلك. في الواقع سيكون هذا تناقضًا في كتابة كتابٍ عن مساوئ الكتب وأهمية التخلُّص منها. حصل هذا فقط في إطار تجريم الكتب السخيفة أو "المذمومة" أو "المسمومة". ومع هذا فإنَّ التوجّه النقدي دائمًا يُحيل مجدّدًا إلى أنَّ الأدب السيء مهمٌّ بقدر أهميّة الأدب الجيّد لأنَّ الأول يبرز الأخير.
لكنَّ هذا لا يعني أنَّ مُعارضي قراءة الكتب لم ينتجوا نصوصًا أو لا يملكون وسيلة، كالراهب الإيطالي جيرولامو سافونارولا الذي كان خطيبًا كاثوليكيًّا بارعًا حرَّض على الكثير من الكتب والفنون بخطبه وقام بإحراقها. وفي العالم الحديث ومنذ اختراع المذياع أضحى لغير القُرّاء وسائل متعدّدة تغنيهم، حسب ما يدّعون، عن الكتب. عرفتُ شابًّا في الجامعة كان مقتنعًا بأنّه ليس مُحتاجًا للكتب بسبب اكتفائه بالرسائل الأخلاقية المتفلسفة المنضوية في بعض الحوارات من بعض مشاهد أفلام هوليوود. لكن حتى هذا الشاب لا يُنكر أهميّة الكتاب، فهل قد يصل أحدٌ إلى استخدام هذه الوسائط للهجوم على قراءة الكُتُب؟
الكثير يفعل ذلك لكن ليس هجومًا على القراءة نفسها بل على عناوين كُتُبٍ مُعيّنة لذمّها دون غيرها لما تحتويه على ما يعتبرونه مفاسد. وهذا ليس بعيدًا حتى عن عالم الكُتُب الذي فيه يوجد كُتُبٌ تُحرّض على أُخرى.
يبقى السؤال هل هُناك مَن يعتبر أنَّ القراءة نفسها فعلٌ شائن؟ لو افترضنا أنَّ هُناك من بدأ برنامجًا إذاعيًّا أو تلفازيًّا يريد به التحريض على القراءة سيحتاج هو نفسه إلى كتابة وقراءة ملاحظاته لفعل ذلك. إنَّ الخوف والكره الذي يُقال عن القراءة لا تعني إجادتها بعينها، فالجميع يستعملها للعمل، لقراءة الرسائل والإعلانات والأخبار والعقود وفي التبضُّع، نحتاج للقراءة لمعرفة اسم سلعة وما هي وأين أُنتجت ومتى تنتهي صلاحيتها وسعرها. إنَّ الخوف والكره ليس موجّهًا نحو فعل القراءة نفسه بل إلى الحدث الذي ينقل لنا الأفكار؛ الكِتاب[1].
تمثَّل رُهاب الكُتُب، أو ما يُعرَف بالـ"بِبليوفوبيا"، بحرق الكتب غير المرغوبة وتدميرها لما تحتويه على مُفسدات أخلاقيّة واجتماعية، حتى إنَّ محارق الكُتُب وتدميرها حدثت في إطار الحروب والاحتلالات المتلاحقة أيضًا بهدف طمس الهويات لدى الآخر وهدم ماضيه أو بهدف إيقاف نشاطه العلمي بقصد ترويضه وسهولة السيطرة عليه وطمس ذاكرته الثقافيّة وكسر احتماليات صعوده مجدَّدًا. ومُدمّر الكُتُب يُسمّى "بِبليوكلاست" حيث اللفظ المُضاف "كلاستوس" يعني باليونانيّة التكسير أو التحطيم.
في إطار التدمير الحربي تذكُرُ ريبيكا نوث في بحثها ’إبادة الكتب‘ Libricide تطوّر الأنماط التي أتت على تدمير الكتب إثر احتلال أو غزو. فالنمط الأوّل كان تدميرًا عرضيًّا للمكتبات صاحَبَ دمارًا أكثر شمولًا للمناطق التي تَمَّ احتلالها. لاحقًا تطوّر النمط الثاني لاعتبار الكتب غنيمة حرب فتمَّ الاستيلاء عليها باعتبارها امتيازًا للمنتصر وتعزيزًا للإرث الثقافي. لكن مع بروز الإيديولوجيا الدينية والقومية للإمبراطوريات أصبح كلُّ مَن وقعت يداه على الكُتُب يُعطي نفسه حقَّ تصنيفها إلى ضار أو نافع ممّا أدّى إلى عمليات إتلاف مُشرعَنَة للكتب المرفوضة، وهذا أبرز مظاهر البِبليوفوبيا وأوسعها.
يُصنّف الصحافيّ الإنكليزي هولبروك جاكسون في كتابه "الخوف من الكُتُب" Fear of Books البِبليوفوبيا أو رُهاب الكتب إلى نوعٍ نَشِط و نوعٍ خامل. حيث إنَّ النَّشِط يسعى إلى التخلُّص فعليًّا من الكتب والخامل يكتفي بكراهية الكتب وعدم قراءتها وحسب.
إنَّ أكثر مظاهر رُهاب الكتب فهمًا هو النابع من الأميّ عندما كان يرى قدرة المُتعلّمين على التلاعب بالألفاظ عبر كتابتها. وربما كان في هذا بعض الاعتقادات بسحرٍ من نوعٍ ما في العصور الوسطى. لكن في ما بعد أصبح الرُّهاب يأخُذُ طابعًا سياسيًّا حيث تقوم القوى الحاكمة (من ملوك وساسة ورجال دين وأرستقراطيين) بإضرام النّار بكلّ ما قد يهدّد سلطتهم.
كثيرة هي أمثلة محارق الكتب ومغارقها المبنية على الجهل والخوف الحاكميّ. لكنَّ مظهرًا واحدًا من الرُّهاب النّشط يُثيرني. إنّه الذي يُمارسه القُرّاء، ولكن ليس خوفًا على الآخرين أو منهم، بل خوفًا على أنفسهم. أحد علماء العصر العبّاسي واسمه أبو سليمان الداراني ألقى بكتبه في تنور وأحرقها وهو يقول لها: "والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك". إلى آخر لحظة من لحظات حياة كتبه بقي يُخاطبها، إنّه مُحبٌّ للكتب ولديه رُهابٌ منها في آن واحد. اختلط عليه الكثير من أدبيات وأخلاقيات عصره فلم يقدر على تحمّل حبّه للعلم والفكر اللذين في الكُتُب فخشي على نفسه ممّا قد يعتبره كبوةً فألقى بكتبه في النار.
الرُّهاب الخامل لا يختلف كثيرًا عمّا ألمَّ بالداراني. لي صديقٌ هو قارئ نهم "نَصَحَه" زوج أخته بالتوقّف عن القراءة لأنّها تبعده عن الحق وهذا قد يؤثّر على أخلاقه. ومثلهم التقيتُ أُناسًا لا يقرأون بحُجّة الخلل الذي يشعرون به أثناء القِراءة، يدَّعون بقدرة عجيبة للكتب تسيطر عليهم، خاصّة إذا كانت تُذكّرهم بأدوات تحليلية تعلموها في زمن الدراسة. خوفٌ من ذكريات غير مرجوّة وتأثيرٍ مذموم، وربما الملل.
الخوف من الملل في زمنٍ أضحى الوقت فيه سلعة ليس خوفًا يُستهان به. ففي عالمٍ لكلّ أداة مظهران حيث الشاشة والهاتف والمواقع الإلكترونية والمجلّات تصلح للعمل والتعليم وتصلح للتسلية فقد أُعطي ضمنها دورٌ للكتاب هو فيه خاسر لا محالة. فعندما يكون أوّل تفاعل مع الكتب في هذا العالم هو عبر الكتب المدرسيّة المملّة في مؤسّسات تعليمية مهترئة لا تُحفّز على العلم إنّما تحبط كلَّ رغبة فيه، لن يكون الوجه الآخر للكتاب جذّابًا. إن كان الكتاب غير المدرسي (أو غير الجامعي) هو أداة تسلية إضافية إلى جانب ألعاب الفيديو والأفلام والمسلسلات التجارية ومواقع التواصل فأكثر الكتب التجارية الاستهلاكـيّة الساعية للتسلية فقط لن تكون برّاقة بما يكفي لتنافس هذه الوسائل. ودور النشر العربية تسعى كثيرًا نحو تلك الكتب وتُلقي بالملامة على السوق بأنّه ليس مجديًا.
أخبرني صديقٌ كان قد أقام فترة بين أقاربه بعد سنوات طويلة من الهجرة أن ابن عم له رآه يحمل كتابًا مرّة فسأله متهكّمًا: ما هذا الكتاب ولماذا تقرأ؟ أعندك امتحان؟ فماذا سيكون موقف مؤسّسات التعليم عندما تعرف بأنّها تُخرّج أفواجًا من حَمَلة الشهادات (وبعضها شهادات عُليا) مُصابين برُهاب الكتب بسببها؟ وأنَّ بعض هؤلاء يعملون في مجال التعليم أيضًا؟ أكاد أجزم بأنّني أستطيع تسمية بعضهم بالاسم هُنا دون أيّ قلق من دعوى قدحٍ وذم لأنَّ أيًّا منهم لن يصل إلى هذا السطر ليرى اسمه أو اسمها.
***
القُرّاء الذين يُسخّفون لائحة قراءة الآخرين لديهم شكلٌ أقل عنفًا من رُهاب الكتب لكنّه رُهاب فيه من التعصّب نحو فئة من الناس أو فئة من الكتب لا محالة. إنّهم أولئك القُرّاء الذين يُشاركون في الأمسيات الثقافية ويحبّون تكرار جملةٍ تُعطيهم شيئًا من قيمة لدى أنفسهم وهي: "ليس المهم أنّك تقرأ، المهم ماذا تقرأ". الكثيرون لا يريدون قراءة كتبٍ رديئة أو الاحتفاظ بها، بل حتى لا يتوانون عن التنديد بكتبٍ تحمل إيديولوجيا مغايرة، فالأصولي الديني يرفض الكتب العلمانية والأصولي العلماني يرفض كتب الأصوليين الدينيين وكلاهما يعتبران أنَّ كتب الآخر مضيعة للورق. إلا أنّهما قد يتفقان أنَّ هذا المقال يستحقُّ الحرق لأنّني أصنفهما ضمن المصابين برُهاب الكتب وهما يَدعيان العلم.
قصص إتلاف الكتب والمكتبات كثيرة والتاريخ لا يزال يشهد هذه الحوادث، منها بسبب الرُّهاب من هذا الناقل للوعي والفكر ومنها بهدف التدمير وحسب أو عارضٌ من عوارضه. لكن هل يُعقل أن يفعل أحدٌ ذلك لأنَّ كتبه عادت عليه أو عليها بالفائدة؟ كلُّ قارئ يُدرك أنَّ إعادة القراءة قد تعني إعادة الفهم. والكتاب الذي قد يكون منغلقًا على نص الكتابة التي في داخله لا يستطيع، كما لا تستطيع الكتابة، إغلاق مجال المعاني الواردة في المتن. لكنَّ خبرًا من الأخبار الواردة في كتاب "حرقُ الكُتُب" لخالد السَّعيد قد لا يُنبئ بما يبدو بديهيًّا عند كلّ قارئ. فقد قام أبو الحسن أحمد بن أبي الحواري، صاحب الدّاراني الذي أحرق كتبه في التّنور، برمي كتبه في البحر وقال لها: "نِعم الدليل كنت والاشتغال بالدليل بعد الوصول مُحال". وفي عنعنة أُخرى: "يا علم، لم أفعل بك هذا استخفافًا، ولكن لمّا اهتديت بك استغنيتُ عنك".
لا يوجد مؤشّرٌ فيما لو كانت هاء المُلكية في "كُتُبِه" تعود على الكتب التي قرأها أم التي ألّفها. وإن افترضنا أنّها التي قرأها لأنّه، حسب قوله، "وصل" فيها إلى "الهُدى"، فإمّا أنّ ابن أبي الحوراني أدرك ما في الكتب من توالدٍ للمعاني التي لا نصلها إلّا بإعادة القراءة فخشي على ما وصله من يقينٍ بفضلها أن يتصدَّع بفعل إعادة الفهم. أو أنَّه ببساطة لم يعلم ما في إعادة القراءة من إمكانيّة التوسّع فكان امتلاك الكتب لا فائدة منه. لكنَّ هذا مؤشّرٌ إلى أنّه قرأ كتبه مرّة واحدة فقط، فهل اهتدى إلى يقينه بالقراءة الأولى؟
هل يكون هُناك زمنٌ لا يملك فيه المرءُ مُمتلكًا ما فقط لأنّه بلا فائدة مباشرة له؟ وهل يُمكن أن يقتنع القارئ في الزمن المُعاصر بعدم جدوى أو جمال امتلاك الكُتُب، سواء التي قرأها وكرهها أو التي أحبّها واستفاد منها؟ وما هو موقف القارئ الحقيقيّ بجامع كتبٍ لا يجمعها لأجل القراءة ولا حتى بهدف عرضها وتزيينها على الرّفوف؟
هُناك مَن يمتلك الكتب الجيدة لكن ليس لقراءتها، ويملكون الكتب الفخمة والمتقنة الصنع لكن ليس لعرضها. يجمعونها بهدف الجمع نفسه وقد لا تكون في مكان مرئيّ في منازلهم. إنَّهم الذين وصل بهم حبُّ الكتب إلى نقاطٍ أبعد...
[1] https://www.mutalammes.com/post/%D8%A7%D9%84%D9%82-%D9%85-%D8%B7-%D8%B1-%D9%85-%D9%82-%D8%AF-%D9%85%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%DA%AA-%D9%BA-%D8%A7%D8%A8%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC-%D9%BB%D9%80-%D8%A7
* المقال خاص بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه