إحدى علامات قوة أفكار سالينز، هو نجاحه في إثارة مثل تلك الأسئلة، لا بصورتها الفلسفية المجردة والمكتفية بذاتها، بل انطلاقًا من التنوع المُتعين للخبرة البشرية المُعاشة.
مُهمة الأنثروبولوجيا*
مقدمة ديفيد جريبر** لكتاب اقتصاد العصر الحجري لمارشال سالينز***
ترجمة أمين حمزاوي
*العنوان من وضع المترجم
** ديفيد جريبر (2020 - 1961): أنثروبولوجي أمريكي وناشط لا-سلطوي، كان أستاذًا بكلية لندن للاقتصاد، أكسبه عمله المؤثر في الأنثروبولوجيا الاقتصادية ، ولا سيما كتابيه الدَين: الخمسة آلاف سنة الأولى Debt: The First 5000 Years ووظائف تافهة Bullshit Jobs بالإضافة لدوره الرائد في حركة احتلوا وول ستريت اعترافًا كواحد من أبرز علماء الأنثروبولوجيا والمفكرين اليساريين في عصره.
*** مارشال سالينز (2021-1930): أنثروبولوجي أمريكي اشتُهر بعمله الإثنوغرافي في جزر المحيط الهادئ، عُرف بمساهماته في النظرية الأنثروبولوجية. كان أستاذًا بقسم تشارلز إف جراي الفخري للأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية بجامعة شيكاجو. من مؤلفاته: الوهم الغربي حول الطبيعة البشرية The Western Illusion of Human Nature، واقتصاد العصر الحجري Stone Age Economics والذي نُترجم مقدمته.
سأستغل فرصة كتابة هذه المقدمة للمطالبة بترشيح مارشال سالينز Marshall Sahlins لجائزة نوبل في الاقتصاد. وطالما أن بوب ديلان قد تقلّد ميدالية الآداب، فإن مُؤلِف اقتصاد العصر الحجري Stone Age Economics وأعمال أخرى كثيرة غيّرت جذريًا تصوراتنا عن طبيعة الحياة الاقتصادية وآلياتها، هو مرشح جدير بتقلدها في حقل الاقتصاد.
لقد مَارست الدراسات الواردة في هذه الطبعة تأثيرات بالغة الأهمية على عدد من التخصصات الأكاديمية –يكفي ذكر الطرح الخاص بـ"الدوائر الثلاث للمُعاملة بالمِثل"(1) الذي طوّره سالينز في مقاله عن "علم اجتماع التبادل البدائي"، والذي تبناه الأركيولوجيون والمؤرخون وعلماء الكلاسيكيات والمُنظّرون السياسيون والأدبيون وعلماء النفس ومُؤرخو الفنون وعلماء الاجتماع والفلاسفة ودارسو الأديان. وربما يكون الاقتصاد هو الحقل الوحيد الذي لم يستفد من ترسانة الأدوات النظرية الخاصة بسالينز والواردة بهذا الكتاب. لكن لا بأس بذلك؛ فلدى الاقتصاديين تاريخ حافل بتجاهل أية مصطلحات ليست من اختراعهم. مقتنعين تمامًا بأنهم أصحاب اختصاص راسخ أقرب إلى علوم الطبيعة، تُميزه مقارباته الفريدة من نوعها للعقلانية البشرية. (هكذا، اطمأن الاقتصاديون إلى الاعتقاد بأنهم ربما العُلماء الوحيدون ضمن حقول الإنسانيات المختلفة، وفي الآن ذاته، بأنهم يَدرسون أشد مجالات الحياة البشرية التزامًا بالسلوك العلمي)، وهم يظهرون ازدراءً سيء السمعة للأدوات النظرية الُمطورَة داخل حقول أخرى. وهذا ما يجعل من الاقتصاد أضيق التخصصات أُفقًا وأشدها انكفاءً على الذات. وأكثرها حاجة إلى صدمة إنعاش تأتيها من الخارج.
لا ريب أن التاريخ ذاته قد نال من الاقتصاد بصدمات من داخله، كأزمة 2008 وهي بمثابة نقطة تحول من زاوية تأريخية. فقد حظى الاقتصاد بسطوة غير مسبوقة خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، حيث ظل يُعامَل بصفته تخصصًا أساسيًا، إلى درجة جعلت من الإلمام بشيء منه شرطًا لإدارة أي شيء ذا أهمية، حتى لو كان ذلك الشيء جمعية خيرية أو جامعة. وقد تأسست تلك السطوة في جانبها الأكبر على القناعة السائدة التي تَعتبر الاقتصاد كتخصص علمي مسئولًا عن خلق نظام عالمي عقلاني قائم بذاته، وكفء على نحو استثنائي، قبل أن ينهار كل ذلك بالطبع. فحقيقة أن جميع الاقتصاديين الكبار قد صَعقتهم الأزمة تمامًا (ما عدا بعض الاستثناءات القليلة التي تضم: ماركسيين وكينزيين وأشباههم من المنبوذين خارج التيار المًسيطر) جعلت عددًا متزايدًا يتساءل عن وظيفة الاقتصاديين الحقيقية والفائدة العائدة من وجودهم، ومن وجود ذلك الاختصاص الأكاديمي برمته.
ومن المثير للدهشة انبعاث مثل تلك الأسئلة بين طلاب أقسام الاقتصاد حول العالم، والذين شرعوا بالانخراط في تحرك عالمي لتغيير طريقة التدريس وجعل الاقتصاد أقرب إلى حقول الإنسانيات الأخرى حيث النظريات والنماذج المعيارية المتصارعة، كبديل عن النسق المُوحَّد والمُكوَّن من حقائق مُرسلة.
***
هذا ما يجعل من إعادة إصدار هذا المُجلد، ومن التعريف به، ملائمًا تمامًا للحظة التاريخية الحالية. وذلك لرغبتي في رؤيته مُدرجًا كجزء أساسي من المنهاج الدراسي لحقل اقتصاد أُعيدِت صياغته على أسس جديدة.
يُمثّل مارشال سالينز أحد التقاليد العريقة للأنثروبولوجيا (ربما أعرق تقاليدها على الإطلاق) وهو تقليد الُمفكِر الناشط، المنخرط في الحركات الاجتماعية، والذي يحظى إنتاجه الأنثروبولوجي في الآن نفسه بأهمية سياسية أكبر، لكونه يهدف إلى التأثير في الإدراك العام للإمكانات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المُتاحة. هذا التقليد الذي يُمكننا وصفه بـأنثروبولوجيا التحرير The anthropology of liberation، وذلك لحرص رواده الدؤوب على تحرير قرائهم من التصورات المُكبّلة للعقل والتي لا يدري أصحابها حتى بأنها موجودة.
لقد ضَرَب كل واحد من أولئك الرواد بإزميله الصغير جدار الحس الاقتصادي المشترك الزائف، والذي يدفعنا بمنتهى المَكر، إلى الإيمان بأن البشر كانوا منذ الأزل: الأفراد البرجوازيين الأنانيين، أو أنهم دائمًا ما أرادوا التحول إلى أولئك البرجوازيين الأنانيين، في حين لم تنقصهم سوى الوسائل التقنية لتحقيق ذلك.
كان مارسيل موس ناشط الحركة التعاونية (والذي أدار طيلة سنوات تعاونيةً للخبز في باريس) أول من تحدى على نحو فعّال، الأسطورة القائلة بأن الحياة الاقتصادية "نشأت من المقايضة" والقائلة أيضًا بأن البشر اخترعوا النقود أثناء انخراطهم في المقايضات السُوقية والتي دفعتهم بدورها لتطوير الوسيلة المناسبة للتعبير عن تلك المقايضات. وفي خضم ذلك، حَجَز مارسيل موس لكلمات مثل "بوتلاش" و"اقتصاد الهِبة" مكانًا دائمًا في صفوف الحركات الثورية والفنية منذ ذلك الحين.
أمّا مارشال سالينز، فقد فاق موس، وذلك عبر دراسته "مجتمع الوفرة الأصلي"، والتي ظهرت لأول مرة على صفحات جريدة سارتر "الأزمنة الحديثة" في باريس سنة 1968، حيث تَحدَى سالينز الفكرة ذاتها القائلة بشيء يُدعى "التطور الاقتصادي"، كما تحدى فرضية أن الجنس البشري نشأ عبدًا للظروف المادية والصراع اليائس من أجل النجاة وأن العلم والتكنولوجيا المنبثقة عنه مثّلا صيرورة تدريجية وحتمية لتحرر البشر من الضرورة المادية، تلك الفرضية المؤسسة على تجاهل الوقائع العلمية.(2) فالحياة خلال الحقبة الباليوثية (التي تمثل 90% على الأقل من التاريخ البشري) لم تكن بأي حال من الأحوال مجرد صراع لأجل البقاء.
في الواقع، عاش البشر الجزء الأكبر من تاريخهم في ظل وفرة مادية، ويرجع ذلك إلى كون الوفرة معيارًا نسبيًا وليس مطلقًا، فهي تعني إمكانية الوصول بسهولة إلى كميات كافية من الأشياء التي يرغب بها المرء أو يعتقد بأنه يحتاجها. وهكذا فإن معظم الجامعين – الصيادين Hunter-gatherers كانوا أثرياء بالنظر إلى احتياجاتهم. والأهم من ذلك هو أن ساعات عملهم القليلة ستكون موضع حسد لأيٍ من عبيد العمل المأجور المُعاصرين.
إن إعلان أنثروبولوجي تطوري وسياسي تقدمي سابق في رفضه لفكرة التطور الاجتماعي هي أشبه بوحي خاطف. حيث حَطّم سالينز بضربة واحدة دزينة من الفرضيات بشأن ما حدث حقًا على امتداد التاريخ البشري، وبالتبعية بشأن الغرض من التقدم التكنولوجي ذاته. وربما كان لتلك الدراسة وحدها أثرًا على المخيلة العامة أكثر من أي عمل أنثروبولوجي آخر قبلها أو بعدها. حيث اعتنقها الجميع بدءًا من الاشتراكيين والهيبيز، وصولًا لتجميعة لا نهائية تضم التخريبيين luddites المعاصرين. (3) بجانب أن مدارس في الفكر السياسي (مثل البدائية Primitivism، وتقليص النمو Degrowth)(4) لم تكن لتوجد أبدًا لولا مُساهمة سالينز تلك.
نُوقِشت الدراسة ضمن مجموعات للقراءة بين واضعي اليد(5) squatters في كرواتيا وفي الأكاديميات البديلة في كوريا واليابان، حتى أن مُفجّر الجامعات والطائرات UNABOMBR تيد كازنيسكي كَرّس جزءًا من وقته في السجن لكتابة نقد مُفصّل لها. لقد غيّرت تلك الدراسة بعمق من سردية التاريخ البشري –والمقصود به هنا، هو ذلك التاريخ الذي حدث بالفعل.
***
من المهم أن نفهم "مجتمع الوفرة الأصلي" وغيرها من الدراسات المتضمنة في اقتصاد العصر الحجري (التي تعتبر عادة جزءًا من مرحلة سالينز "الجوهرية" Substantivist phase) ضمن السياق الفكري الأوسع الذي خرجت منه. لقد تعلّم سالينز في جامعة كولومبيا خلال الخمسينيات، وقد حضر خلال عاميه الثالث والرابع عقب التخرج، الحلقات الدراسية للمؤرخ الاقتصادي المنفي في فيينا كارل بولاني، والتي عقدها في شقته بولاية نيويورك وحَضرها مفكرون لامعون أمثال دارس الكلاسيكيات موسى فينلي وعالم الآشوريات ليو أوبنهايم. وذلك حيث قاد بولاني تحديًا مباشرًا للأرثوذكسية الاقتصادية المهيمنة في ذلك الحين، مُجادلًا بأن فكرة وجود مجال منفصل يُدعى "الاقتصاد" هي مُجرد تطور تاريخي مُحدَث، بل وأكثر من ذلك؛ فقد جادل بولاني بأن الأسواق الأوروبية لم تنشأ كآلية تلقائية من أسفل [المجتمع]، بل أنها نشأت وتعززت من خلال سياسة واعية طَبقتها الحكومات. وأنه بدلًا من التعارض الطبيعي بل والحرب القائمة بين كل من الدولة والسوق (والتي افترضها الفكر الليبرالي على أقل تقدير منذ الثورة الفرنسية وبالتأكيد منذ الثورة الروسية) فقد كان السوق بشكله المعاصر مخلوقًا أوجدته الدولة بالأساس.
وقد سعى جزء كبير من عمل بولاني في جامعة كولومبيا إلى تعيين البدائل التاريخية التي بحوزتنا، وفهم الكيفية التي عملت بها فيما مضى اقتصادات: المشاركة والهبة والتوزيع. وقد ساهم سالينز نفسه في هذا الجهد بورقة غير منشورة عن بولينيزيا، تركها المُحررون جانبًا أثناء عملهم على كتاب "التجارة والسوق في الامبراطوريات المبكرة".
ينبغي أيضًا أن نتذكر أنه حتى ذلك الحين، مثلت هذه الأفكار ومعتنقيها خطرًا شديدًا. فحتى بولاني نفسه ظل مُجبرًا على التردد بين نيويورك ومونتريال الكندية لمقابلة زوجته العضوة السابقة في الشبيبية الشيوعية المجرية نظرًا لمنعها من دخول الولايات المتحدة. أمّا فينلي فوُضِع على القائمة السوداء وطُرِد من جامعة روتجرز الأمريكية لرفضه الشهادة ضد تلامذته قبل أن يجُبر على المنفى. بينما واجه طلاب آخرون في حلقات بولاني مصائر مشابهة.
لكن، بالنظر للوراء، سنجد أن بولاني كان أحد المفكرين القلائل الذين أدركوا بصواب تام كم اتسمت طموحات الاقتصاد الأكاديمي بالمبالغة الساذجة. بالإضافة إلى إدراكه حجم الكارثة المتوقعة إذا ما نجحت تلك الطموحات في فرض نفسها. ومن ثم جعل بولاني مما سماه "العقيدة الاقتصادية" “economism” خصمه الرئيسي، وتفترض هذه العقيدة بحسب بولاني أن الشكل الخاص الذي يميل النشاط الاقتصادي إلى اتخاذه في المجتمعات المعاصرة (أي: حساب الأرباح والخسائر المادية السُوقي) هو شرط مُلازِم دائمًا لجوهر هذا النشاط المتمثل في تنظيم المجتمعات البشرية لمواردها، وتلبية احتياجاتها المادية، وتوزيع الكماليات. وقد جادل بولاني بأن ذلك الخلط بين الشكل والجوهر يؤدي إلى "مُطابقة المجتمع بالسوق" وبالتالي إمكانية تفسير جميع السلوكيات البشرية وفق مصطلحات السوق. وعاقبة ذلك الخلط ضارة بشدة وكارثية على المستوى السياسي نظرًا لكونها تفترض ضمنًا أن النَهم الحسابي البارد هو الدافع "العقلاني" الوحيد (وبالتالي المقبول) لدى البشر. وفي ذلك، كان بولاني أشبه بنبي حقًا، لأن هذا الافتراض تحديدًا هو الذي سيطر منذ ذلك الحين.
لقد قوبلت محاولته لإجهاض ذلك الزحف الاقتصادوي في مهده بمقاومة عنيفة. حيث رفض جَمْع الأنثروبولوجيون الاقتصاديين السائد حينها استنتاجاته. مُصرّين على حمل لقب "شكلي"(6) formalist مثل ميدالية شرف وعلى أن الأسواق تعكس حقًا وبكل بساطة آليات الحساب العقلاني الشكلي. لقد جادلوا بأن الإنسان Homo كان على الدوام، وحتى درجة معينة على أقل تقدير، حيوانًا اقتصاديًا Oeconomicus (من المناسب في هذا السياق قول "هو" وليس "هي" نظرًا لأنهم لم يضعوا المرأة في حسبانهم) إذ يصطدم البشر بندرة الموارد ودائمًا وفي كل مكان، حيث يُنتظر منهم أن يقرروا أفضل الطرق لتوظيف تلك الموارد في تحقيق رغباتهم. حتى أن شكليين متطرفين مثل هارولد ك. شنايدر مَد أكثر تنبؤات بولاني تشاؤمًا على استقامتها، وذلك حيث جادل شنايدر بإمكانية تطبيق المنطق الاقتصادي على كافة السلوكيات البشرية دون استثناء (لتشمل على الأرجح المناظرات الأكاديمية، حيث من المفترض أن تخضع قرارات شنايدر بتزييف الإحصاءات من عدمه أو بإطلاق النار على مخالفيه في الرأي ببساطة لتلك النفعية الحسابية البحتة).
كان الشكليون Formalists مهندسي التيار السائد والمتمثل في البحث عن المبادئ الكامنة وراء الأنظمة الاجتماعية، أمّا الجوهريون Substantivists فقد مثلّوا الموضة البالية لـ"جامعي النحل" [أي جامعي الوقائع التي تساعد في تفسير سلوك الإنسان ضمن مستويات مختلفة: اجتماعية وسياسية واقتصادية تحكمها دوافع مختلفة غير الدافع الحسابي النفعي البحت] من أتباع رادكليف براون، والملتزمين بتقسيم المجتمعات ببساطة إلى أنواع (الاقتصاد القبلي، واقتصاد إعادة التوزيع [القَصر]، واقتصاد السوق)
ولم يكن سالينز بالشخص الذي ينسحب من معركة فكرية، بل أن غالبية الدراسات الواردة بهذا المجلد قد كُتبت (بشكل أو بآخر) ردًا على الأطروحات الشكلية. ودون أدنى شك، فقد مثّلت دراسته مجتمع الوفرة الأصلي نقدًا مباشرًا لمفهوم "ندرة الموارد"، وذلك لأن النُدرة بحسب سالينز تُوجد فقط في علاقة مع الحاجة المُلحّة على المرء. فمن الصعب حقًا العثور على كاسحة ثلوج في البرازيل، ومع ذلك ليس بمقدور عاقل أن يشتكي من نُدرة في كاسحات الثلوج البرازيلية بأكثر من شكواه من نقص أوعية البصق في ساحات كاليفورنيا العامة أو نقص أدوات صيد الأسماك بمحطة الفضاء الدولية، والتي قد تبدو حقائق بديهية، لكن لا تستحق نتائجها عناء التفكير بها.
هكذا، قضى سالينز معظم حياته العلمية في محاولة استخلاص النتائج المترتبة على سؤال: كيف انتهى المطاف بنا إلى مَركزة -تعيين حدود عالمنا حول الأشياء التي نعتقد بأنها تنقصه، حتى جعلته عاجزًا عن إشباع رغباتنا المادية؟ وبمُجرد طرح المسألة بهذا الشكل، تُوجَد إجابة واحدة ممكنة هي أنه ثمة خطب ما يتعلق برغباتنا، أو على الأقل يتعلق بالأشياء التي نظنها رغباتنا الحقيقية. (يُضفي هذا الجانب مزيدًا من التعقيد على المسألة: فعبر معظم التاريخ البشري، حتى عندما اعتقدت الغالبية بأن الإنسان كائن غير قابل للإصلاح، فإن قلة منهم هي من تصرفت على هذا الأساس بالفعل).
لماذا قمنا إذًا بنبذ رفاه الحقبة الباليوثية وخلقنا عالمًا حيث يعيش معظمنا بالفعل في احتياج؟
في دراسته المنقسمة إلى جزئين "نمط الإنتاج المنزلي" (وهي أقرب أعماله على الإطلاق لأنماط التحليل الماركسي) يُقدِم سالينز إجابة أولية على السؤال، تكمن في التنظيم الاجتماعي للإنتاج. والانطلاق من حقيقة أن الأسرة ظلت وحدة الإنتاج الأولية عبر معظم التاريخ البشري.
لقد أوضح الاقتصادي السوفييتي ألكسندر تشايانوف بإسهاب كيف أن توظيف العمل داخل منزل الفلاح الروسي تحكمه أولوية ضَمان درجة معينة من الحياة الكريمة لأعضاء المنزل كما يتصورونها (على سبيل المثال: غذاء كافٍ للاستهلاك الشخصي وللولائم وحفلات الزفاف، وربما أيضًا ما يكفي لإعالة النُساك والمهُرجين المتجولين...)؛ ولأجل القيام بذلك فإن أعضاء المنزل سيميلون إلى توزيع المهام على أساس الإنصاف أكثر من الكفاءة. وبمُجرد بلوغهم الحد الأدنى الملائم من الإنتاج، فإنهم يتوقفون عن العمل في التو واللحظة كي يقضوا وقت فراغهم في إمتاع أنفسهم.
وقد جمع سالينز قدرًا وفيرًا من الأدلة للبرهنة على أن ما أثبته تشايانوف فيما يتعلق بفلاحي روسيا ما قبل الثورة، ينطبق إلى حد كبير على جميع المجتمعات التي نُظِم فيها العمل حول الإنتاج المنزلي: وهكذا، ثمة حلقة واصلة بين رفاه كل من الجامعين-الصيادين، وسلوك أقنان القرون الوسطى، وبين (على سبيل المثال) صعوبة العثور على سيارة أُجرة في يوم ممطر (نظرًا لأن سائقي التاكسي، يفضلون العودة للمنزل بمُجرد تحقيق دخلهم اليومي المستهدف).
ومعنى ذلك، أن نزوع البشر لتفضيل الفراغ على تعاظم الثروة قد دام وقتًا طويلًا إلى أقصى حد. فأي شيء يا ترى قادنا (أو قاد كثيرين منا) لتغيير رأينا؟
في ظل نمط الإنتاج المنزلي، كان الدافع الوحيد لمراكمة الإنتاج سياسيًا بالأساس، ومُمثلًا في: الشيوخ الكبار، والزعماء الذين رغبوا في المزيد، نظرًا لأنهم (بخلاف أعضاء الأسرة) كانوا أفرادًا ينافسون بعضهم البعض في كل من الأبهة التفاخرية أو الحرب. وبالرغم من ذلك، وفي ظل غياب سلطة الدولة، فقد ظل ضغط هؤلاء على الآخرين لأجل مراكمة الإنتاج محكومًا بحدود صارمة، وذلك حيث طوّر أعضاء الأسر بسرعة معاييرهم الخاصة لما اعتبروه قدرًا معقولًا من استغلال إنتاجيتهم. ويطرح سالينز هنا مثالًا من هاواي، حيث سيُعدَم الزعماء ببساطة في حال تجاوزوا ذلك الحد المسموح من الإنتاجية. وأن تلك الحدود صارت مستحيلة فقط مع صعود الدولة.
بالتأكيد مثل ذلك محل جدل ونزاع في أوج حرب فيتنام، عندما تمكن جيش عصابات من الفلاحين المندفعين إلى حد كبير بواسطة حَمِيَّة أخلاقية، من شل أضخم آلة عسكرية دولتية في التاريخ البشري.
لكن مصير تشايانوف (الذي تم التخلص منه نهائيًا وأُعدم تحت حكم ستالين بسبب آرائه المخالفة حول الزراعة التجميعية) ألقى برؤية سالينز للدولة بوصفها شرًا في دائرة التناقض. فإذا كان البشر يميلون في الظروف الطبيعية نحو تفضيل وقت الفراغ على حساب مضاعفة الإنتاج، وإذا مَثّل التاريخ البشري صراعًا بين أولئك الذين رغبوا في مضاعفة الإنتاج من جهة، وأولئك الذين رغبوا في قدر أقل من الكماليات التفاخرية، فإلى أي جانب ينتمي اليسار؟
إحدى علامات قوة أفكار سالينز، هو نجاحه في إثارة مثل تلك الأسئلة، لا بصورتها الفلسفية المجردة والمكتفية بذاتها، بل انطلاقًا من التنوع المُتعين للخبرة البشرية المُعاشة. وكنتيجة لذلك، كانت مداخلاته عمومًا هي الأكثر استمرارية. وبينما يتذكر قلائل في وقتنا الحالي دراسة "نمط الإنتاج المنزلي"، فلا يزال الجميع يتجادلون بشأن القضايا التي أثارتها.
كما يمكن اعتبار "علم اجتماع التبادل البدائي" التي نشرها سالينز لأول مرة عام 1965 بمثابة رده على التهمة الموجهة للجوهريين بوصفهم مُجرد "جامعي نحل"، كما أنها محاولة للاشتباك مع البنيوية. وذلك حيث اقترح كل من كارل بولاني وكلود ليفي شتراوس تصنيفات ثلاثية لأنماط التبادل الاجتماعي. حيث مَيّز بولاني بين مجتمعات مؤسسة على المقايضة، وثانية على إعادة التوزيع(7) redistribution، وثالثة على السوق، أمّا ليفي شتراوس فقد جادل بأن جميع المجتمعات على السواء تتكون في جوهرها من ثلاثة مستويات للتبادل هي: البضائع (الاقتصاد)؛ النساء (القرابة)؛ الكلمات (اللغة) (وكأنه يضع نسخته الخاصة من التمييز الماركسي الشائع في ذلك الحين بين البنية التحتية الاقتصادية، والبنية الوسيطة الاجتماعية، والبنية الفوقية الأيديولوجية).
ولدى التصنيفين [أي تقسيم بولاني وشتراوس] مشاكلهما الخاصة. فقد كان بولاني فجًا إلى درجة جعلته عرضة لاتهامات بترسيخ الاختلافات بين الثقافات وتحويلها إلى اختلافات بين أنواع. (واعترض أندريه جوندر فرانك على تقسيم إيمانويل فاليرشتاين الثلاثي للنظام العالمي على غرار تقسيم بولاني، بحجة أن فاليرشتاين في حقيقة الأمر لم يتجاوز القسمة الصارمة بين: العائلة والحكومة والتجارة. في حين أن أي مجتمع متوسط التعقيد يجب أن يجمع بين الثلاثة).
بينما واجهت قسمة ليفي شتراوس مشكلة مغايرة، وهي أنها كانت تدحض نفسها ببساطة، ففكرة أن الزواج دائمًا ما يكون بالضرورة تبادلًا بين المرأة والرجل تستند إلى حجة تنفي وجود نُظم الحق/النسب الأمومي (بخلاف ما هو حاصل بالفعل)، أمّا أن تبادل الكلمات الخطابي يشبه تبادل البضائع، فتلك استعارة جامحة للغاية، ناهيك بخطلها العلمي. وواقعة أن تلك الاستعارة قد أُخذت على محمل الجد، بل واستُعملت كأساس للتحليل بواسطة كثير من المفكرين الفرنسيين تعكس الهيبة الفكرية للرجل في حينه، ناهيك عن سلطته المؤسسية الهائلة (كما تعكس بشكل ثانوي أيضًا، السلطة المضادة لنماذج مفتعلة من الماركسية فُرضت على المثقفين اليساريين بواسطة الحزب الشيوعي الفرنسي، والذي حمل شتراوس لواء معارضته).
لكن، في إنجاز تأليفي synthetical لافت للنظر، صَهر سالينز تلك الأفكار المتضاربة والمشوشة مُخرجًا شيئًا ذا قيمة. صحيح أنه اتفق مع مارسيل موس في أن جميع الإمكانيات [أشكال التبادل] دائمًا ما تتعايش جنبًا إلى جنب داخل أي مجتمع، كما اتفق مع ليفي شتراوس في نقده لموس لعدم إقرار الأخير بأن المعاملة بالمثل مثلت أساس جميع العلاقات الاجتماعية. لكن شتراوس كان مخطئًا في محاولته حل المعضلة باللجوء إلى نظرية شِبه ماركسية عن المستويات. إن ما نحتاج لفحصه حقًا هو كيف يبدو العالم الاجتماعي من أي منظور فردي مُتعين داخله. فكل شيء يعتمد على البينية الاجتماعية social distance، ومن ثم فإن التمييز الشهير بين: معاملة بالمثل مُعممة Generalized Reciprocity (بالأساس، ما يدعوه موس "شيوعية") بين الأقارب أو مع الأشخاص الذين يَعدهم المرء بمثابة أقارب؛ ومعاملة بالمثل وسيطة ومتناظرة Balanced –تحكمها النزاهة سواء في تبادل الأخوات أو الثأر وفق مبدأ "العين بالعين"، وأخيرا معاملة بالمثل سالبة، حيث العلاقات مع الأشخاص الذين لا ينطبق عليهم مبدأ المعاملة بالمثل من الأصل.(8)
وبالرغم من كونه تقسيمًا منقوصًا دون شك (وبالفعل تراجع سالينز عنه جزئيًا)، فإن فكرة تقسيم العلائقية الاجتماعية إلى دوائر أخلاقية متراكزة / مُتحدة المركز concentric ظلت مثمرة إلى أقصى حد، وقد استشَهد بها ووظفها الباحثون في جميع التخصصات تقريبًا (ما عدا تيار الاقتصاد الرائج مُجددًا)، كما أنها تمثل أحد أقوى أنساق التحليل الاقتصادي المبتكرة والمنبثقة خلال الثلث الأخير من القرن العشرين (وكم كانت الابتكارات قليلة في ذلك الحين).
قضى سالينز عامي 68-1967 ضيفًا على ليفي شتراوس، حيث واجه لأول مرة انشغالات ومعضلات الحياة الثقافية في فرنسا. كما شهد على أحداث انتفاضة مايو 1968 في السوربون، حتى أن عمله اللاحق، وخاصة استنكاره لماركس في "الثقافة والعقل العملي" بوصفه مجرد تجسد آخر للعقيدة الاقتصادية البرجوازية يُمكن وصفه بأنه انعكاس للنفور من سلوك الحزب الشيوعي الفرنسي، ذلك النفور المنتشر وسط الدوائر الراديكالية في حينه.
وبالرغم من أن انعطافته الكوزمولوجية اللاحقة تُرى غالبًا بوصفها قطيعة مع الانشغالات المسيطرة على اقتصاد العصر الحجري. إلا أن الحقيقة هي بخلاف ذلك. حيث يواصل سالينز طرح الأسئلة ذاتها من قبيل:
لماذا نرى العالم وكأنه غير كاف لتلبية رغباتنا؟ وإن لم يكن ذلك نتيجة لسيطرة نخب الدولة المتنافسة على البهرجة، أفلا يكون السبب أعمق من ذلك: مثل خلل متأصل في قلب التصورات الغربية عن الطبيعة البشرية وعن علاقات البشر بالكون من حولهم؟
ويقتفي سالينز في دراسته "مرارة العَذْب" (1996 The Sadness of Sweetness) أثر المشكلة رجوعًا إلى مفهوم القديس أوغسطين عن الخطيئة الأصلية، حيث يُلعَن البشر برغبات جامحة لا تَشبع عقابًا لهم على عصيانهم لله. وفي "الوهم الغربي حول الطبيعة البشرية" (2008) يقتفي سالينز نفس الأثر إلى حدود أبعد، رجوعًا إلى السفسطائيين.
ولا حاجة بنا لذكر كم أثارت هذه المداخلات جدالات صاخبة، لأن ذلك كان غرضها بالأساس. كما أن لدينا كل دواعي الاعتقاد بأنها ستثير مزيدًا من الكشوفات المفاجئة في المستقبل.
لا يزال تيار الاقتصاد الرائج يسعى لحل معضلات تنتمي للقرن التاسع عشر من قبيل: كيف نزيد الإنتاجية الكلية ونضمن توزيعًا فعّالًا للأساسيات في ظروف تُحددها الندرة العامة. لكن لو أراد نوعنا النجاة، سيتوجب علينا ابتكار نسق اقتصادي جديد ينطلق من أسئلة مختلفة تمامًا (على سبيل المثال، كيف نضمن الوصول لوسائل الحياة الأساسية في ظل إنتاجية تتضاعف بسرعة، وانخفاض في الطلب على العمالة البشرية، لكن من دون إفساد الكوكب؟).
لا بد من إعادة تخيل كل شيء، كما أن ظرفنا الحالي هو الظرف المثالي لإعادة اكتشاف الماضي، لا الماضي الفكري فحسب، ولكن ماضينا البشري قبل كل شيء: ذلك الكنز اللانهائي من الإبداعية البشرية والتجربة التي بمقدور الأنثروبولوجيا وحدها فك رموزها وتحرير أنفسنا من التصورات المسبقة، والسعي وراء تصورات مبتكرة من نوع جديد. وليس ثمة عمل أنثروبولوجي مُفرد يُمكنه الاستجابة لهذه المهمة بقدر اقتصاد العصر الحجري. إنه أحد الكتب التي جعلتني أقرر أن أصير أنثروبولوجيًا. وآمل بأن يجده القارئ على نفس الدرجة من الإلهام التي وجدتها.
هوامش:
1. تُعتبر المعاملة بالمثل تبادلًا يغطي مدى من الاحتمالات التي تعتمد على الصلة الاجتماعية التي تربط الأفراد. وفقًا لسالينز تنقسم المعاملة بالمثل إلى ثلاثة دوائر بحسب العلاقة التي تربط أفراد المعاملة:
أ. معاملة بالمثل مُعممة: تشير إلى التعاملات الإيثارية، على سبيل المثال: تتميز "الهدية الحقيقية" بعدم توقع ردها على الفور أو توقع ردها بهدية ذات قيمة مادية مكافئة لها بالضبط. هنا يقمع الجانب الاجتماعي (صلة القرابة – الصداقة.. إلخ) للصفقة جانبها المادي (تبادل بضائع متساوية القيمة)، أي لا يوجد سداد للديون في هذه الحالة. حيث لا يُحدَد زمن السداد ولا قيمته ولا كميته، كما لا يحتم فشل السداد توقف أحد الطرفين عن منح الطرف الآخر.
ب. معاملة بالمثل تناظرية: تشير إلى المبادلة المباشرة بالنظائر الاستهلاكية دون تأجيل، وبالتالي تشمل "تبادل الهدايا"، بالإضافة للشراء النقدي، يقل دور العنصر الاجتماعي في المبادلة، ويتحكم به العنصر المادي ومصالح الأفراد المادية.
ج. معاملة بالمثل سالبة: هي محاولة الحصول على أكثر مما يمنحه المرء، يمكن وصفها على أنها "مقايضة" أو "سرقة" أو "مساومة". وهي صورة لا شخصية تمامًا من المبادلة، إذ يسعى كل طرف للحصول على الحد الأقصى من المكاسب دون اعتبار الأبعاد الاجتماعية والشعورية للطرف الآخر. (المُترجم)
2. كي أكون واضحًا تمامًا، أعتبر نفسي (بتواضع) امتدادًا لهذا التقليد، والذي يجمع بين ارتباطات نشاطية وبين جهد واعي بذاته لمواصلة تقليد موس وسالينز لتحقيق أنثروبولوجيا اقتصادية مُنخرطة في الشأن العام. (جريبر)
3. حركة ترفض العديد من أشكال التكنولوجيا الحديثة وتدعو إلى تحطيمها لصالح أنماط حياة أبسط وأكثر بدائية، اكتسبت اسمها من حركة تخريب الآلات التي نشأت في إنجلترا في أعقاب الثورة الصناعية، والتي قادها عمال ناقمون على البطالة نتيجة استبدالهم بالآلات. (المُترجم)
4. Degrowth مصطلح يصف حركة سياسية واقتصادية واجتماعية بالإضافة إلى مجموعة من النظريات التي تنتقد نموذج النمو الاقتصاد استنادًا إلى الضرر الاجتماعي والبيئي الناجم عن السعي لتحقيق نمو إنتاجي لا متناه يتوافق مع ضرورات "التنمية" الغربية. يؤكد أنصارها على الحاجة إلى تقليل الاستهلاك والإنتاج العالميين (التمثيل الغذائي الاجتماعي) وإقامة مجتمع عادل، يتمتع أفراده باستقلالية ورفاهية مستدامة بيئيًا مع إحلال الرفاه الاجتماعي والنفسي محل الناتج المحلي الإجمالي كمقياس لتطور المجتمعات.
5. "وَضع اليد" أو "الاستيلاء على السكن" أو "احتلال المباني الفارغة"، هو احتلال مساحة من الأراضي أو المباني المهجورة أو غير المأهولة – المُستغلَة، وعادةً ما تكون مساحات سكنية مهجورة لا يتمتع المستوطنون العشوائيون بحق ملكيتها أو استئجارها ولا يمتلكون تصريحًا قانونيًا لاستعمالها.
يحدث الاستيطان العشوائي في جميع أنحاء العالم غالبًا عندما يحتل الفقراء والمشردون مبانٍ أو أراضٍ خاوية ليتخذوها مأوىً لهم. يبدأ الاحتلال غالبًا على هيئة مستوطنات عشوائية في كل من الدول النامية والأقل نماءً ومدن الصفيح. على سبيل المثال، يوجد العديد من سكان الرصيف والممَثلين بمجموعات مثل سكان الأحياء الفقيرة الدولية وحركة سكان مجوندولو في كل من الهند وجنوب إفريقيا. وفي هونج كونج يوجد ما يُدعى بأسطح الأحياء الفقيرة. وتحتوي البرازيل على تجمعات الفافيلا وحركات اجتماعية كبيرة تتألف من آلاف الأشخاص مثل حركة العمال المشردين وحركة العمال المُعدمين. وفي الدول الناطقة باللغة الإسبانية، تُعرف الأحياء العشوائية بمصطلحات عدة مثل: قصر البؤس (الأرجنتين) والقرى الشابة (البيرو) والسكن العشوائي (تشيلي وإسبانيا) والمستوطنات غير المنتظمة (جواتيمالا والأوروجواي).تحتوي الدول الصناعية المتقدمة غالبًا على أحياء عشوائية وحركات استيطان سياسية، والتي قد تكون ذات طبيعة لا سلطوية أو استقلالية ذاتية أو اشتراكية. استحدثت الحركات المعارضة من ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مساحات حرة مثل كريستيانيا: البلدة الحرة في الدنمارك وبلدة راجورد في هولندا. وتحدد الأوضاع المحلية سياق تلك الأحياء، فنجد المراكز الاجتماعية ذاتية الإدارة في إيطاليا، ومستوطنات اللاجئين العشوائية في أثينا، اليونان. وفي أواخر سبعينيات القرن الماضي، قُدر عدد المستوطنين العشوائيين نحو 50000 واضع يد في كل من إنجلترا وويلز. (المُترجم)
6. يعود التمييز بين عقلانية شكلية Formalist rationality وأخرى جوهرية substantive rationality بالأساس إلى ماكس فيبر، وبحسب فيبر تمثل العقلانية الشكلية ما هو قابل للحساب الكمي، والذي يستنفد خاصية الكمي دون غيره. يقول فيبر "سيتم استخدام مُصطلع (العقلانية الشكلية) للفعل الاقتصادي لتحديد مدى الحساب الكمي من أجل حساب ما هو ممكن تكنيكيًا وما يُمكن تطبيقه بالفعل. من ناحيةٍ أُخرى، فان العقلانية الجوهرية هي الدرجة التي يتم بها تزويد مجموعة مُعينة من الأشخاص، بغض النظر عن كيفية تحديدها، بالسلع بشكلٍ مُناسب عن طريق فعل اجتماعي موجه اقتصاديًا. حيث يتم تخطيط مسار الفعل هذا انطلاقًا من مجموعة مُعينة من القيم النهائية بغض النظر عن ماهيتها. إذن، الاقتصاد الجوهري هو ما يتحدد بقيم مُعينة تتجاوز ما يُمكن حسابه، أي الاقتصاد الذي يخدم غايات اجتماعية لا تتحدد من داخله. والعقلانية "الجوهرية" هي عقلانية لأجل (شيءٍ ما)، أما العقلانية الشكلية هي عقلانية (لذاتها) مأخوذةً كغايةٍ في حد ذاتها. (المُترجم، المصدر: سوسيولوجيا ماكس فيبر)
7. تشير إعادة التوزيع إلى نظام للتبادل الاقتصادي يشتمل على جمع مركزي للبضائع من أعضاء مجموعة يتبعها إعادة تقسيم هذه السلع بين هؤلاء الأعضاء. (المُترجم)
8. ألاحظ بشكل عابر، وفي مثال رائع على التقارب الفكري، أن نموذج الدوائر الثلاث المتراكزة هو نفسه الذي أنتجه Edmund Ronald Leach في عمله "الأبعاد الأنثروبولوجية للغة" لوصف العلاقة بين أنماط الزواج والمواقف المختلفة تجاه الحيوانات. وقد ظهر كلا العملين في نفس الوقت تقريبًا، 1964 و1965 على الترتيب، ولا يبدو أن أحد المؤلفين كان على علم بالآخر سلفًا. (جريبر)
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه