هناك تسمية أكثر شيوعًا للقُرّاء النَّهمين الذين يهوون جمع الكتب وهو تعبير «دودة الكتب»، مع أنَّ هُناك حشرات عدّة يمكنها أن تتغذّى على مكوّنات الكتاب إلا أنَّ الدّيدان ليست منها، لكن مع هذا فقد التصق هذا الاسم بمحبيّ الكتب وجامعيها.
رفوف المكتبة.. التصنيف وإعادة التصنيف
مقال لعمر زكريا
قرأتُ عبارةً في أحد الكتب تعود للقرن السابع عشر عن قائلٍ مجهول الهُوية تُفيد بأن حتى لو كان مجموع عدد كتبٍ يصل إلى خمسين ألفًا فهي ليست مكتبة ما لم تكن مُنَظَّمة، تمامًا كالقول إنَّ جمهورًا من ثلاثين ألف رجلٍ غير منتظمين هم ليسوا جيشًا. مِن المؤسِف في هذا المِثال أن تكون الإيجابيّة المقصودة في تنظيم المكتبة مربوطة بشكلٍ ما، وبـإيجابيّة ما، مع التنظيم العسكري. فعلى العكس إنَّ عدم انتظام الجندي هو نقيصة بحقّه حسب أدبيات الجيش ولكن هل فعلًا يمكننا القول إنَّ عدم انتظام الكتاب ضمن مجموعة كتب غير مرتّبة هي نقيصةٌ بحقّ الكتاب؟
الكتاب لا ينقص، لكنّه معرَّضٌ للضياع. فالكتب معروفةٌ بأنّها كائنات شرهة وولودة. لا تكتفي بخلايا العقول بل تتوسّع لتبتلع المساحات. وإن كان نظام المكتبات العامّة أسلوبًا لمأسسة تنظيم الكتب والسيطرة عليها بحجّة سهولة الوصول إليها، فماذا يحلُّ في الكتب المنزلية الخاصّة؟ تلك الكتب التي يصفها زوران جيفكوفيتش ضمن نصوص (المكتبة) بأنّها «تبتلع المساحات ابتلاعًا. وهذا قانون لا يمكن تبديله، فمهما أعطيت الكتب من مساحة فإنّها لا تكتفي أبدًا. تحتلُّ في البداية الجدران، ثُمَّ تنتشر لتشغل كُلَّ حيّزٍ يمكن أن يحتويها، حتى لا يبقى سوى السقف النّاجي الوحيد من هذا الغزو. ثُمَّ تتوالد الكتب الجديدة، ولا تحتمل عندئذٍ فكرة التخلُّص من أي كتابٍ لديك أبدًا. وهكذا تزيح الكتب عن طريقها كُلَّ شيءٍ غيرها ببطء وخفية، كأنّها نهرٌ مُنساب».
إنَّ المكتبة المنزليّة المُصَنَّفة قابلة أكثر للسيطرة على مدخلاتها ومخرجاتها (إن وُجِدت هذه الأخيرة). أصحاب مجموعات الكتب المُبَعثرة لا يمكنهم السيطرة على حُبّ الكتب وامتلاكها وقراءتها وعلى الأغلب تكرار العناوين، أولئك الذين يُطلَق عليهم وصفٌ يُسمّى بالـ«ِبليوفيليا». على عكس ما يبدو فإنَّ البِبليوفيليا ليس مرضًا نفسيًّا بل اسم ظاهرة الولع بالكتب وحسب. وهُناك ترجمة لا إشكاليّة فيها وهي بكلّ بساطة «حُبُّ الكتب»، هناك تسمية أكثر شيوعًا للقُرّاء النَّهمين الذين يهوون جمع الكتب وهو تعبير «دودة الكتب»، مع أنَّ هُناك حشرات عدّة يمكنها أن تتغذّى على مكوّنات الكتاب إلا أنَّ الدّيدان ليست منها، لكن مع هذا فقد التصق هذا الاسم بمحبيّ الكتب وجامعيها.
جمع الكتب قد يكون متخصّصًا وقد يكون عامًّا وأحيانًا كثيرة يرتبط بطبعات مُعيّنة (قديمة أو عليها تواقيع وإهداءات) ومنها ما لديه ارتباط حميميّ كأن يرثها من أحد أفراد أسرته.
كثيرون هُم مَن يُشَبّهون طِباعي لطباع جدّي لجهة أُمّي ويقولون إنّي ورثت منه هدوءه وطريقة كلامه. وامتدَّ هذا الميراث ليشمل مجموعة لا بأس بها من كتبه. مِن المؤسف أنَّ تلك الكُتُب ما كانت لتجتمع بيننا إلا بفقدان أحدنا. إنّه من الغريب أنّني أود لو أتعرَّف عليه الآن بعد أن قرأت من كتبه ما قرأت، ولكنّني لست مُتأكّدًا مما إذا كنت سأقرؤها إذا ما كان لا يزال على قيد الحياة. إرث الكتب ظاهرة غريبة قياسًا على كلّ ممتلكات أُخرى قد نرثها من أحد.
أمرٌ وحيد كانت تقرّعني عليه جدّتي عندما كانت ترى رفوفي وتنفي وجود شبهٍ بيني وبين جدّي عليه، يبدو أنَّ ترتيبي لكُتُبي كان سيُزعجه لأنَّ الأحجام ليست مُرتَّبة بشكلٍ متناسق. كان جدّي يُعطي لأحجام الكُتُب أهمية أثناء صفّها على الرّفوف فتكون الكتب الأكبر حجمًا على الأطراف وينقص حجمها كلّما اتّجهت إلى وسطه. علاقة جدّي بالكتب كانت بصريةً إذن، يكفي أن يتذكّر شكل الكتاب وحجمه حتى يعرف أين يجده في مكتبته.
لم أفهم يومًا لماذا قد يكون هذا الترتيب أفضل من ترتيبي. هل لأنّ تناسق المكتبة سيكون أكثر راحة للعين؟ أليس أسهل لو كانت مُرتَّبةً حسب الموضوع؟ أليس الترتيب الموضوعيّ ممنهج أكثر من الترتيب البصريّ؟
الرَّفُّ السادس من الخزانة اليُمنى في مكتبتي المنزليّة الحاليّة تحتوي على الكتب في العلوم الاجتماعيّة لذا فهي تتضمّن كتب علم الاجتماع (السوسيولوجيا) وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وعلم النفس (السيكولوجيا) وبعض كتب العلوم السياسيّة والاقتصاد. كُتُبٌ موروثةٌ أغلبها من مكتبة جدّي. لطالما كان وجود هذه الكُتُب على هذا الرَّفّ أمرًا بديهيًّا يكاد يكون طبيعيًّا، فلا مجال أن تكون غير ذلك. فهكذا كانت في الجامعة.
حيثُ حصلتُ على تعليمي الجامعي كان نظام الجامعة مُتأثّرًا بالنظام الأميركي، فهُناك عدّة كُليّاتٍ مُقَسّمة إلى أقسام وكلّ مجموعة من الأقسام لها تصنيف محدّد. فمثلًا في كليّة العلوم والآداب هُناك العلوم الطبيعية (فيزياء، كيمياء، جيولوجيا...) والعلوم الاجتماعية (سوسيولوجيا، سيكولوجيا، تربية، اقتصاد، سياسة) والإنسانيات (التاريخ، أركيولوجيا، الفلسفة، اللُّغات...) والمهارات الحسابيّة (الرياضيات، علوم الحاسوب).
مبدأ الكُليّات والأقسام موجودٌ في أنظمة الجامعات الأُخرى، لكنّني تفاجأتُ عندما اكتشفت أنَّ الجامعات الإسبانيّة تُصنّف السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا ضمن سياق الإنسانيات في حين أنَّ كُليّة العلوم الاجتماعية تشتمل على أقسامٍ مثل التمويل والتسويق والإدراة، أقسامٌ ليست حتى ضمن إطار كليّة العُلوم والآداب في الجامعات الأميركـيّة لأنّها مُدلّلة بكُليّة خاصّة لإدارة الأعمال. كُليّة ليست موجودة في الجامعات الإسبانية.
مبدأ تقسيم العُلوم قديمٌ قِدَم المعرفة نفسها. إحصاء العلوم كان عملًا أكاديميًّا يسعى له المُرَبّون والعلماء والفلاسفة للإحاطة بها. وقد يُسهّل هذا التصنيف عمل الأنظمة التعليميّة ربما، لكنّه لا يُشكّل إلا تحديًّا لتصنيف الكتب. يبدو أنَّ مكتبتي كانت ملوَّثةً بالتصنيف الأميركي، وغلبني جدّي الذي عاش تحت الاستعمار الفرنسيّ حيث كانوا يُجبرونهم على التكلُّم بالفرنسيّة طيلة النهار، حتى في ساعات الاستراحة، وإلا كانوا يُعاقَبون. جدّي أتقن العربية راشدًا، أمّا أنا فتعليمي المدرسيّ كان بالعربية، لكنّني كنت مخروقًا بالاستعمار أضعاف ما كان جدّي ومكتبته. أردتُ تحرير نفسي من هذا لكنّني عندما حاولت لم أجد أمامي إلّا حلًّا أصوليًّا، عدت فيه إلى تصنيف العرب للعلوم، لكنّه رسم علامة استفهامٍ كبيرة حول فعل التصنيف نفسه وليس مضمون التصنيف فقط.
لقد قام العرب بالتصنيف مِن قبل، فهل يَصلُحُ تصنيفهم للعلوم أن يُدير مكتبة؟ للعصر الوسيط تيّاران في التصنيف، التقليدي والأصيل. يتميّز التقليدي بتأثُّره بالعلوم اليونانيّة أمّا الأصيل فهو ما أضاف إلى مُصَنّفات التقليديين العلوم الشرعية أيضًا مُبقيًا على تصنيفات العلوم العقلية (التي نصلها بالعقل). أشمل تصنيفٍ قدّمه للعلوم من التيّار الثاني كان ابن خلدون بسبب وضعه لتصنيفه في زمنٍ متأخّرٍ جدًّا حيث انحطاط الحضارة كان قد بدأ.
أمّا أبرز التقليديين من المُصنّفين الأوائل كانا الفارابي وابن سينا حيث أنَّ كليهما، مُتأثّرَين بأرسطو، قسّما العلوم إلى علومٍ نظرية (يعرفها الإنسان ولا يُمكن له فعلها كالطبيعيات وعلم الهيئة) وعملية (يعرفها الإنسان ويمكن له فعلها كالفقه وتدبير المدينة وتدبير المنزل) وتحت كلّ منهما تتفرّع العلوم إلى ترتيبات أدق.
كلاهما وضعا العلوم الطبيعية والرياضية والإلهية (الفلسفة) ضمن العلوم النظرية لكنَّ الفارابي أضاف اللسانيات والمنطق (وقد التزم ابن خلدون لاحقًا بهذا) في حين أنَّ ابن سينا، التزامًا بأرسطو، اعتبر أنَّ المنطق هو أداة لدراسة العلوم جميعًا وليس علمًا قائمًا بنفسه. هذا يعني أنَّ كلاهما لو قاما بتأسيس كليّة فسيكون المنطق في كليّة الفارابي له قسمٌ ومنهاجٌ خاص في حين أنّه درسٌ يفتتح ويتخلّل مضامين أقسام كُليّة ابن سينا. لكن ماذا سيفعل أمين مكتبة كُليّة ابن سينا لو أتاه كتابٌ في المنطق ومهاراته ولا يتطرّق إلى أيّ من أقسام الكُليّة الأُخرى؟ سيقوم إمّا باستحداث تصنيفٍ خاص بالمكتبة أو يستعير من نظام الفارابي أو ابن خلدون.
وهذا ما يحدث عمليًّا في كثيرٍ من الجامعات الأوروبيّة، فنظام التصنيف العالمي العشري للمكتبات والمنتشر في أوروبا هو نسخةٌ مُعدّلة من نظام تصنيف ديوي العشري الأميركي. وترميز 3 هو للعلوم الاجتماعية وتدخل ضمنه السوسيولوجيا، رغم أنّها في كليّة الإنسانيات في الجامعة نفسها.
ماذا عن الكُتُب الخاصّة؟ ذلك الوحش المُترقّب للانقضاض على بقيّة الزوايا والأثاث لإزاحته. أوّل ما سكنتُ البيت الذي أنا فيه الآن كان عليّ أن أعرف إلى أين سأنقل مكتبتي وكيف سأصنفها. جدّي اختار الحجم وأنا اخترت الموضوع، والأمثلة الشبيهة لا تنتهي؛ مثلًا أحدُ أصدقائي مصممٌ وفنّان، وفي مجموعته الخاصّة، التي أطلق عليها اسم «خزانة الكتب الجميلة»[1]، يُعطي لصناعة الكتاب وتاريخه بُعدًا في التصنيف، فبعضها على الرفوف نفسها لأنَّها من عمل نفس الخطّاط أو الرسام، للمواضيع أيضًا حقُّها في خزانته. وعلى قاعدة أنَّ للكتب الرديئة أهمية أيضًا لأنّها توضّح لنا أكثر جودة الجيّد، فعنده رفٌّ خاصٌّ من الكتب رديئة الصنع والمضمون اسمه «قائمة العار».
لن أستطيع التقيُّد بمواضيع الأكاديميا، ففيها مداخل لن أقتني منها ولديّ كُتُبٌ لا تستوعبها. لذا أجدني كُلَّ حينٍ وآخر أُغيُّر ترتيب الكتب ومواضعها، فكُتُبُ النَّقد الأدبي أحيانًا تكون لوحدها وأحيانًا بجانب كتب الفكر. أُحاول قدر الإمكان إعطاء الحجم حقّه. أمّا بالنسبة للّغة فالكُتُب العربيّة لوحدها والتي باللّغات الأُخرى في خزانة مُختلفة، فقط حتّى بدا لي أنَّ هُناك موضوعًا واحدًا تصنيفه يتعدّى التفرقة اللّغوية، تلك الكُتُب التي تتحدّث عن التاريخ لكنّها لا تنتمي إلى رفّه، وفيها نقد لكنّها لا تنتمي إلى رفّ النّقد الأدبي، وتحتوي على الكثير من الفكر لكنّها لا تقع ضمن كُتُب الفكر أو الفلسفة، وفيها رواياتٌ أيضًا لكنّها ليست في خزانة الروايات. إنّها مجموعة كتبٍ فاتنة تتحدّث عن علاقات حميمة بين أُناسٍ لا أكترث بهم، ومكتباتهم وكتبهم وكتاباتهم التي قد لا أكون قد قرأت منها شيئًا. إنّه رفُّ الكُتب التي عن الكتب، الرفُّ الوحيد في مكتبتي متعدّد اللُّغات.
[1] https://khazanet.org/
* المقال خاص بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منها