الظاهر لنا أن كانط قد بنى صرح فلسفته على الخيال، أو على الأقل ما نستطيع الاحتفاظ به من فلسفته وأسسها بعد التطورات في العلوم والرياضيات. 

في الأسس الخيالية لفلسفة كانط

مقال: محمد حسين


إيمانويل كانط، عن wikimedia

يمكننا سرد تاريخ الفلسفة بتكرار قصة فيلسوف نابه يهدم ما سبقه من الصروح الفلسفية، ويضع أخيرًا أساسًا متينًا للفلسفة يحميها من الهدم ليبني عليه صرحه الشاهق لعله يبلغ الأسباب. إلى أن يتبعه فيلسوف نابه جديد يهدم صرحه مع باقي الصروح ويضع أساسًا جديدًا، أو يهدم كل أساس ممكن ويقول باستحالة الفلسفة.

لم يتوقف الفلاسفة عن إيجاد طرق مبتكرة لبناء صروح شاهقة، ولا طرق جديدة لهدمها. وما كان فيلسوفنا كانط ببدعًا من الفلاسفة ولم تنقصه النباهة، فوجد أساسه الفلسفي في نقد العقل وتحليله واكتشاف قواعده وحدوده، ورأى أن كل فلسفة سابقة عليه هي معرفة بغير أساس نتيجة لسوء استخدام العقل وتطبيق قواعده في غير موضعها.

حين أقام كانط (1724 - 1804) فلسفته كان هناك اتجاهان متعارضان في الفلسفة، الاتجاه العقلاني ويقول بقدرة العقل على الوصول إلى الحقائق اليقينية بالتأملات القبلية، معتمدًا فقط على الأفكار الفطرية في العقل، وبدون الحاجة إلى التجربة، والاتجاه التجريبي الذي يقول بالعكس، العقل صفحة بيضاء لا يحتوي على أي أفكار فطرية ويكتسب كل أفكاره ومعارفه من التجربة. جمع كانط بين العقلانية والتجريبية، أو ما أسماه ثورة كوبرنيكية[1] في الفلسفة.

بدأ كانط ثورته في كتابه العمدة «نقد العقل الخالص» حيث فحص العقل واستنبط قواعده، ومنها حاول إرساء قواعد لميتافيزيقا علمية يمكن أن تتقدم في سيرها كباقي العلوم بعد أن ظلت الفلسفة تهرول في المكان لقرون بدون أن تتقدم خطوة واحدة، ثم اختصر فلسفته النقدية في كتاب «مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علمًا» ليُمكِّن القارئ من أن يرى النقطة الأساسية في لمحة واحدة. وفي الكتابين قال إن العالم في ذاته مجهول لنا، كل ما نعرفه عنه هو الظواهر التي نختبرها، وتلك الظواهر وإن كان مصدرها العالم الخارجي إلا إن صورتها هي نتاج لعقلنا نحن وليس للعالم، فالعقل يحتوي فطريًا على مجموعة من القواعد السابقة عن أي تجربة والتي تجعل التجربة ممكنة، ونحن حين نعرف أي شيء عن العالم بالتجربة فإن العقل يصبغ تجربتنا وفقًا لقواعده، كأنه يضع «فلتر» على الطبيعة فنراها في صورة القواعد العقلية.

أي أن المبادئ الأساسية للطبيعة (كالسببية أو حتى الزمان والمكان) هي في الحقيقة قواعد العقل لا الطبيعة، لكنه يوافق التجريبيين في اعتقادهم أن قواعد العقل تلك صالحة للاستخدام فقط في نطاق التجربة، وأي محاولة لتطبيقها على الميتافيزيقا وما وراء التجربة ستنتج معرفة مشكوك في صدقها.

أقام كانط فلسفته بناءً على قدرة العقل على إنشاء معرفة تركيبية قبلية (أي سابقة على أي تجربة، مستمدة من العقل نفسه لا من العالم الخارجي) حقيقية (أي تنطبق دومًا على الواقع)، وأثبت تلك القدرة بقوله بتركيبية الرياضيات.

فإذا كان العقل البحت قادر على إنتاج الرياضيات المجردة -كالحساب والهندسة البحتة- بمجرد التفكير القبلي بدون الإحالة لأي تجربة خارج العقل نفسه، وإذا كانت هذه العلوم في نظره تركيبية ويقينية، إذا كان ذلك كذلك، فهذه المعرفة وتلك المفاهيم -وهي عند تحليلها لأبسط صورة تعطينا مفاهيم المكان والزمان- هي صفة للعقل نفسه لا الواقع الخارجي، أي إنها قواعد للعقل، أو مجرد صورة القوة الحساسة بتعبير كانط، وبهذا استطاع تفسير كيف للعالم أن يخضع لقواعد الهندسة، واستطاع أن يدعي بعلمية ميتافيزيقاه ويتفادى الشك التجريبي لهيوم[2].

أي إن فلسفة كانط تقوم أساسًا على أن الرياضيات تركيبية، وقبلية، وحقيقية بمعنى أنها تنطبق دومًا على خبرتنا للواقع -معطيات الحواس-، وكلٌ من هذه الادعاءات الثلاثة فيه نظر.

عادة ما يقسم الفلاسفة -ومعهم كانط- المعرفة إلى تحليلية وتركيبية. فأما المعرفة التحليلية فهي المعرفة المشتقة من تعريف الموضوع، كقولنا بأن الرجل زيد من البشر، فكونه من البشر جزء من تعريف الرجل وداخل في حده. ويمكننا القول إن القضايا التحليلية هي القضايا الناتجة عن مبدأ عدم التناقض، فلو أنكرنا أن زيد الرجل من البشر لوقعنا في تناقض مع تعريف الرجل. أما المعرفة التركيبية فهي ما جاوز ذلك، أي التي تضيف معلومة غير متضمنة في تعريف الموضوع، كقولنا إن زيدًا أطول من عمرو، فلا يوجد في تعريف زيد أو عمرو ما يخبرنا عن أن أحدهما أطول من الآخر، ولا يمكننا إثبات تلك القضية بتحليل تعريفنا لزيد وعمرو وتحري عدم الوقوع في التناقض، بل علينا قياس طوليهما للتحقق من تلك القضية.

فالمعرفة الناتجة عن العلوم التجريبية دومًا تركيبية، أما علم الرياضيات فسننظر فيه الآن.

من الواضح أن أي برهان رياضي هو مجموعة خطوات من القضايا التحليلية، أي إنه يقوم على مبدأ عدم التناقض. لكن طبيعة المسلمات الرياضية (هل هي تحليلية أم تركيبية؟) ليست واضحة بذات القدر.

ويكفي النظر لأي من الأسس الحديثة للحساب -من أشهرها Peano’s axioms[3] - لترجيح أن الحساب ومسلماته تحليلية، فمقولة مثل 1 + 1 = 2 هي ليست مسلمة، بل يمكن إثباتها تحليليًا من بعض المسلمات الأبسط، كتعريف العدد صفر، وتعريف دالة function S تربط كل رقم بتاليه، ويبقى تعريف الجمع بأنه دالة recursive معرفة كالتالي:

a + 0 = a and a + S(b) = S(a + b)

ومن هنا يمكننا بسهولة إثبات أن 1 + 1 = 2 كالتالي:

1 + 1 = S(0) + S(0) = S(S(0) + 0) = S(S(0)) = 2

وبطريقة مماثلة يمكن إثبات كل الحساب من مجموعة تعريفات ومسلمات بسيطة.

أو يمكن تعريف الأعداد من خلال مجموعات رياضية فالعدد 2 هو مجموعة كل المجموعات التي تحتوي على عنصرين فقط، كمحاولات العلامة برتراند رسل ووايتهد.[4]

فإن قال قائل بأن تلك التعريفات للعدد (سواء بشكل recursive أو كمجموعة رياضية set أو غيرها) هي تعريفات تحتاج أصلًا للعدد، فتعريف العدد 2 كتطبيق الدالة S مرتين على صفر تحتاج أصلًا للعدد 2، وأن أي تصور «حقيقي» للعدد نستطيع تعيينه وتخيله يلزم عنه أن تكون القضايا الحسابية دائمًا قضايا تركيبية، كتصور «خمس نقاط مثلًا، ثم نضيف بواسطة العيان واحدة بعد الأخرى من الوحدات الخمس المعطاة إلى تصور سبعة. إذن فنحن نتوسع في مفهوم تصورنا ونضيف إليه تصورًا جديدًا لم يكن متضمنًا في مفهومه».[5]

قلنا إن تعريفاتنا تلك للعدد هي القبلية بحق، وأي تصور للعدد يحتاج لتعيينه -كتصور خمس نقط- فهو تصور يفترض صورًا أو أشياء، وهي إما أن تكون مُدرَكَة أو مُتَّخيلَة وبالتالي فهو تصور تجريبي بعدي a posteriori (وفقًا لما فهمناه من كانط فهو يظن أن بعض الخيال قبلي a priori بدليل كون الحساب والهندسة قبليين ولهذا الخيال دورٌ كبير في فلسفة كانط، لذا سنعود له لاحقًا).

أما في الهندسة فالقول بأنها تحليلية يبدو أصعب، أقام إقليدس هندسته على خمس مسلمات، أكثرهم إثارة للاهتمام هي آخرهم، مسلمة التوازي وتقول «من أي نقطة تقع خارج مستقيم ما، يوجد مستقيم واحد فقط موازٍ للمستقيم المذكور (أي لا يتقاطع معه)».[6]

أثارت هذه المسلمة اهتمام وحنق الرياضيين دومًا، فهي لا تبدو تحليلية بوضوح، وتبدو أعقد من أن تكون بديهة، حاول الكثيرون إثباتها من المسلمات الأربع الأخرى بلا نجاح، فلإثباتها تحتاج لافتراض مسلمة أخرى مشتقة منها -كأن تقول بأن مجموع زوايا المثلث 180 درجة-.

ما يجعل تلك المسلمة مثيرة للاهتمام بحق هو اكتشافنا أنه يمكننا التلاعب بها، فبدلًا من القول بوجود موازٍ واحد لأي مستقيم يمكننا أن نقول بوجود أكثر من واحد، أو لا يوجد أي موازٍ للمستقيم.

فهل يعني هذا أن هذه المسلمة تركيبية؟ إذا كنا نستطيع القول بنقيضها ألا يلزم عن ذلك أننا لا نستطيع القول بأنها مشتقة من التعريفات وقانون عدم التناقض؟

ليس بالضرورة، فيمكن القول بأن هذه المسلمة ناتجة عن تعريفنا للمفاهيم الهندسية نفسها، وأي تغيير فيها هو في الحقيقة تغيير في المفاهيم الهندسية، فمن تعريف المستقيم الإقليدي أن له موازٍ واحد، أما المستقيم غير الإقليدي فيختلف، أو هو حتى تغيير في طبيعة الإحداثيات نفسها. وهناك محاولات لتأسيس الهندسة على أساس الهندسة التحليلية والتي تقوم على الجبر والأعداد -والراجح أن مسلماتها تحليلية كما بينّا-، فيمكن تعريف نظام إحداثي تكون النقطة فيه زوج من عددين حقيقيين، والخط هو مجموعة حلول معادلة وهكذا.[7]

فقول الجمهور إن الهندسة البحتة تحليلية وهو الراجح عندنا.

لكن حتى وإن قلنا بأن الهندسة تركيبية فمسلمة التوازي -أو بالأحرى التلاعب بها- تفتح الباب أمام أصعب تهديد لفلسفة كانط وتلاميذه.

فبعد ما يقرب من عشرين عامًا من موت كانط اكتشف بعض الرياضيين[8] أننا يمكننا تغيير هذه المسلمة وبناء هندسات جديدة لا إقليدية[9] لها نفس تناسق الهندسة الإقليدية، لكنها تسمح لأن يكون للمستقيم عدد أقل أو أكثر من المتوازيات، أي أن المثلث فيها مجموع زواياه أكبر أو أقل من 180 درجة.

فحتى قول كانط بأن المعرفة الرياضية هي معرفة حقيقية ويقينية أصبح قول لا يمكننا قبوله الآن مع تطور فلسفة الرياضيات.

كل برهان رياضي يأتي في صورة: بما أن كذا إذن كذا، والصحيح أن نقول إذا كان كذا سيكون كذا. فالرياضيات كلها بناء معقد من البراهين التحليلية -تحصيل حاصل- التي تستمد صحتها من مجموعة من المسلمات التي لا يمكن إثبات صحتها. «وعلى ذلك يمكن تعريف الرياضيات على أنها الموضوع الذي لا نعرف فيه مطلقًا ما نتحدث عنه، ولا ما إذا كان ما نقوله يعتبر حقيقيًا».[10]

وعند هذه النقطة يتضح لنا إشكالية تصنيف المسلمات لتحليلية أو تركيبية، فهي ليست قضايا نعرف صدقها بطريقة تحليلية من تعريفاتها، أو بطريقة تركيبية من خارجها، بل هي مجرد افتراضات -أقرب للتعريفات- لا نجزم بصدقها أصلًا.

فنحن نعرف الآن أن العقل يمكنه أن يفترض أي مجموعة من المسلمات بشرط أن تكون متناسقة consistent -رغم أن هذا ليس بالسهولة التي يبدو عليها، وأن يبني رياضيات كاملة عليها -كالهندسات غير الإقليدية، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنها صحيحة أو خاطئة، هي فقط صحيحة إن صحت مسلماتها، ولا فضل لرياضيات على أخرى إلا بالتجربة أو الخيال (فالهندسة الإقليدية وحدها دونًا عن الهندسات غير الإقليدية هي التي يستطيع العقل تخيلها، وسنتحدث عن الخيال بتفصيل أكثر لاحقًا).

كما تتميز الهندسة الإقليدية على ما عداها بأنها الهندسة الوحيدة لرؤيتنا، فبالرغم من أن نظرية أينشتاين وإثباتها التجريبي أثبتا بأن الهندسة الفيزيائية لعالمنا -إن أمكننا الحديث عن شيء كهندسة العالم- هي في الحقيقة لا إقليدية، إلا أن وجهة نظر أي مراقب في أي مكان للعالم ستكون دومًا إقليدية، فالمراقب أ الذي يرى مراقب ب يتحرك في مسار منحنٍ بسبب الجاذبية لن يرى مكانًا منحنيًا لا إقليديًا، فقط سيرى المراقب ب يسير في مسار منحنٍ في فضاء إقليدي، وسيرى المراقب ب شيئًا شبيهًا. ونحن نحتاج النظرية النسبية لتفسير هذا الانحناء عن طريق القول بلا إقليدية الفضاء أو بوجود قوى كونية مجهولة تقوم بثني وتغيير أطوال المسارات والأجسام المادية، وهما قولان متكافئان. لكن لا أحد يستطيع أن يدعي لا إقليدية مشاهداتنا نفسها. لذا يستطيع المتبني للكانطية الحديثة أن يقول بأن نظرية النسبية أو أي نظرية عن لا إقليدية الكون هي مجرد نموذج لتفسير تجاربنا وعلاقاتها ببعض، أما تجاربنا ومشاهداتنا نفسها فهي دائمًا وأبدًا إقليدية، وفي هذا معه حق، لكن عليه أن يجيب كيف يستطيع العقل تجاوز قوانينه والتوصّل لهندسات لا إقليدية، ثم لماذا نحتاج في المقام الأول لهذا التجاوز لتفسير العالم كما نراه.

في الأسس الخيالية لفلسفة كانط

بما أننا انتقلنا من الكلام في الرياضيات والمنطق للفلسفة، وهي فنٌ لا يتورع أهله عن الإتيان بالعجائب فسأتكلم فيه وإن كان غير فني.[11]

الظاهر لنا أن كانط قد بنى صرح فلسفته على الخيال، أو على الأقل ما نستطيع الاحتفاظ به من فلسفته وأسسها بعد التطورات في العلوم والرياضيات. فعند كانط الهندسة تقوم على تخيل المكان (أو ما يطلق عليه العيان المجرد للمكان)، فنحن نستطيع، بدون الإحالة لأي تجربة، أن نتخيل نقطة في الفراغ ثلاثي الأبعاد، أو خط مستقيم، أو مستوى. ومن هذه الكيانات المتخيلة وبناءً على الخيال وحده تتضح لنا البراهين الإقليدية، ويمكننا إثبات الهندسة الإقليدية كلها فقط من الخيال بدون أن نرى خطًا مستقيمًا واحدًا في الواقع. ومن الهندسة يمكننا اشتقاق العدد عن طريق عدّ الزوايا في شكل ما (يعرّف كانط العدد «عن طريق الإضافة المتتالية للوحدات في الزمان»[12] لكننا آثرنا تجنب مفهوم الزمان لأنه غير محدد بالشكل الكافي وسيجر علينا صعوبات لا حصر لها).

يقول كانط لإثبات أن المكان والزمان -وما يتبعهما من معرفة تركيبية- هما جزء من العقل المجرد، أي شرطين صوريين لقوتنا الحساسة: «وإذا كان ثمة ريب في أنهما [أي الزمان والمكان] حدان ملازمان للأشياء من حيث نسبتها إلى القوة الحساسة لا من حيث هي أشياء في ذاتها، فإني أود أن يقولوا لي كيف نحكم بأنه من الممكن أن نعرف قبليًا وبالتالي قبل كل معرفة للأشياء أي قبل أن تكون الأشياء معطاة لنا، ما هي طبيعة عيانها، وهو هنا المكان والزمان».[13]

بناءً على ما قلنا بالسابق سنسمح لنفسنا بتغيّر سؤال كانط إلى «إني أود أن يقولوا لي كيف نستطيع قبليًا وبالتالي قبل كل معرفة للأشياء تخيل المكان».

وأنا أستطيع التفكير في ثلاث إجابات محتملة لسؤاله:

الإجابة التجريبية: يتعامل الإنسان من اللحظة الأولى لوجوده مع المكان، فحتى الجنين في ظلماته الثلاث يستطيع الإحساس بالمكان من خلال حركاته، فهو حين يركل بطن أمه أو يغير زاوية ذراعه فإنه يقرر الحركة ثم يشعر بتغير موضع أجزاء جسده في المكان. وبالتالي يمكننا القول -بشكل نظري بالطبع- إنه يستطيع تخيل المكان الإقليدي بإعادة تمثل تجربته مع الحركة والمكان. فلا يوجد ما يمنع افتراض أن هذا الخيال الذي يبدو قبليًا وتجريديًا هو مجرد تجريد مشتق من تجاربنا مع المكان، ومن كثرة -بل قل ملازمة- تجربتنا للمكان يبدو لنا هذا الخيال وكأنه مستقل عن التجربة نفسها. ربما يستطيع علم نفس الأطفال أن يلقي بعض الضوء هنا.[14]

الإجابة التطورية: الإنسان كغيره من الكائنات الحية يعيش حياته في فضاء إقليدي ثلاثي الأبعاد، ويتطور ليلائم بيئته. فلا عجب أن يُطَوِّر عقل الإنسان -وغيره من الكائنات الحية- القدرة على التعامل مع المكان الإقليدي ثلاثي الأبعاد وتخيله بشكل قبلي فطري سابق على التجربة، أو على الأقل أن يُطَوِّر نوعًا من الاستعداد الفطري العقلي لتعلم قواعد المكان الإقليدي وتفسير تجاربه في ضوء تلك القواعد. فقد تكون قواعد المكان -أو الميل والاستعداد لتعلم تلك القواعد- محفورة في العقل البشري بشكل سابق على التجربة فعلًا، لكن سيكون التفسير الأقرب لهذا هو أنها نتاج لتطور العقل ليلائم بيئته، أي أنها في النهاية تجريبية ومشتقة من العالم الخارجي وإن كان على مدى ملايين السنين والأجيال بدلًا من أن تكون مشتقة من تجربة إنسان واحد.

الإجابة المادية الترانسندالية: مادة المخ نفسها والتي يقوم عليها العقل والوعي هي جزء من هذا العالم ومحكومة بقواعده، قد يكون هذا هو السبب في كون العقل تحكمه نفس القواعد التي تحكم عالمه، فمادة عالم منطقي ثلاثي الأبعاد ستنتج وعيًا منطقيًا لا يستطيع تخيل أكثر من ثلاثة أبعاد، وبهذا يمكننا الحديث عن ترانسندالية مادية إن صح التعبير.

نحن لا نحتاج لقبول فلسفة كانط لتفسير الرياضيات ولا الخيال، فيمكن القول إنهما نتاج التجربة والمادة، سواء عن طريق التعود مع تجربتنا المباشرة للعالم، أو التكيف مع تجربتنا معه عبر الأجيال، أو حتى لأن هذا الخيال هو إدراك العالم لنفسه من خلالنا.

وبهذا نستطيع أن نقول عن قواعد العقل التي قال بها كانط شيئًا شبيهًا بما قاله كانط عن كل ميتافيزيقا سابقة عليه: معرفة مشكوك في صدقها هي نتاج الاستعداد الطبيعي للعقل، ولكن ليس استعدادًا للميتافيزيقا. لكن بدلًا من أن نقول عن قواعد العقل تلك أنها استعداد طبيعي للعقل، نقول عنها إنها نتاج التعود أو التكيف مع البناء الفيزيائي لبيئتنا، مجرد رواسب للتجربة وليست قواعد فطرية متعالية للعقل المجرد.


[1] نسبة للعالم الفلكي نيكولاس كوبرنيكوس صاحب النظرية القائلة بدوران الأرض حول الشمس وليس العكس. تعد تلك النظرية بداية ثورة علمية وأساس لعلم الفلك الحديث.

[2] ديفيد هيوم هو فيلسوف تجريبي وصل بالفلسفة التجريبية بصورتها السائدة في عصره لنتيجتها المنطقية، انطلق كغيره من الفلاسفة التجريبيين في عصره من أن العقل صفحة بيضاء يتعلم من التجربة، فتوصل لأن السببية هي مجرد اعتيادنا على مشاهدة تعاقب حدثين، ولا نستطيع تبرير تحويل هذا الاعتياد إلى قانون ملزم للطبيعة، وبهذا أهدر مبدأ العلية والاستقراء وانتهى لأن كل تصورات العقل وأفكاره من ترسبات التجربة لا من العقل نفسه، ونتائج هذا الشك التجريبي كارثية، فكل فكرة واستدلال ليسا إلا نوعًا من الإحساس ناتج عن العادة شأنهما في ذلك شأن الشعر والموسيقى.

يقول كانط عن ديفيد هيوم أن «تنبيهه أيقظني من سباتي الدوجماطيقي ووجه بحوثي في الفلسفة النظرية وجهة جديدة تمامًا».

[3] “The Principles of Arithmetic, Presented by a New Method (1889).” Giuseppe Peano

[4] Principia mathematica, by Alfred North Whitehead and Bertrand Russell. 1910

[5] «مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علمًا»، إمانويل كانط، ترجمة نازلي إسماعيل حسين، صفحة 57، وسنشير له فيما بعد بالمقدمة.

[6] بالطبع نحن نتحدث هنا عن الهندسة ثنائية الأبعاد.

[7] Geometry: Euclid and Beyond by Robin Hartshorne.

[8] جون بولياي Bolyai (1802–1860م)، و ن. إ. لوباتشفسكي N. I. Lobachevski (1792–1856م)، وك. ف. جاوس K. F. Gauss (1777–1855م)، و ب. ريمان B. Riemann (1826–1866م)

[9] الهندسة الإقليدية هي الهندسة المعنية بالأسطح المستوية أو الفضاء ثلاثي الأبعاد المنتظم العادي، أما الهندسات اللاإقليدية فهي معنية بالأسطح والفضاءات غير المنتظمة التي تحتوي على تمددات وانكماشات وانبعاجات وانحناءات.

[10] برتراند رسل من مقال الرياضيات وعلماء ما وراء الطبيعة، من كتاب «عبادة الإنسان الحر» ترجمة محمد قدري عمارة صفحة 82

[11] ثم إني لست متخصصًا في الرياضيات والمنطق على أي حال.

[12] المقدمة صفحة 79

[13] المقدمة صفحة 80

[14] خبرتي المحدودة مع الأطفال قبل التعليم أنهم بسطاء العقل والتفكير لا يبدو عليهم أدنى معرفة بمبادئ المنطق ناهيك عن الهندسة، وفي سن أصغر لا يفقهون حتى أبسط مفاهيم المنطق كأكبر من وأصغر من. لكني لا أستطيع أن أجزم إن كان هذا بسبب أنهم لم يتعلموه بعد، أم أن قواعد المنطق محفورة فطريًا في عقلهم فعلًا، هم فقط ليسوا بالذكاء الكافي لاستخدام تلك القواعد لحل المشكلات لذا لا يظهر عليهم فهمها.


* المقال خاص بـ Boring Books

** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه