بين شخصيات دوستويفسكي شخصيات نيتشوية، بمعنى أن فيها من فلسفة نيتشه، وفيها أيضًا من حياته، وهذا من مشيئة القدر أو المصادفات وحدها
نيتشه في روايات دوستويفسكي
مقال: ماجد وهيب
نُشر في العدد 16 من كتاب «مرايا»
يُعرف دوستويفسكي بأنه روائي نفساني، استطاع من خلال دراميات كبرى شديدة الحبكة أن يقدم لقرائه شخصيات فريدة وخالدة في التاريخ الأدبي، وتأتي فرادتها من كونها شخصيات قد رسمت بدقة شديدة، وما يجعل دوستويفسكي نفسانيًا في سرده الروائي هو أنه حين رسم شخصياته استطاع، بعبقرية لم يصل إليها أحد من قبل، أن يقدم تصويرًا دقيقًا لنفسية شخصياته، الأمر الذي جعل عالم النفس الكبير سيجموند فرويد شديد الإعجاب برواياته. وبجانب الدراما والتحليل النفسي في أعماله الأدبية كان دوستويفسكي، شأنه شأن كل الكتاب الكبار، صاحب رؤية خاصة للإنسان وللعالم وفلسفة ينقلها لنا من خلال رواياته، وهكذا كان روائيًا يصنع دراما ومحللًا نفسيًا وفيلسوفًا ومفكرًا كبيرًا.
وكما كان فرويد معجبًا به لما في رواياته من تحليل نفسي دقيق، كان نيتشه أيضًا من معجبيه. وإعجاب نيتشه به يقودنا إلى ما نريد أن نقوله من هذا المقال، وهو أن نبين بأبسط تعبير، دون التعرض لأفكار الاثنين سواء بالرفض أو الموافقة، أن بين شخصيات دوستويفسكي شخصيات نيتشوية، بمعنى أن فيها من فلسفة نيتشه، وفيها أيضًا من حياته، وهذا من مشيئة القدر أو المصادفات وحدها، أن يجري معها قريبًا مما جرى معه، ومبدئيًا فالقول بوجود نيتشه في روايات دوستويفسكي ليس معناه أبدًا أن هناك رواية لدوستويفسكي سنجد فيها شخصية تشبه نيتشه إلى حد التطابق، وإنما يمكننا أن نجد جانبًا من فلسفته، وحياته الشخصية أيضًا، في رواية، وجانبًا آخر في رواية أخرى. جرى هذا طبعًا دون أن يكون دوستويفسكي قد سمع عن نيتشه وتأثر به واستفزته شخصيته فكتب نماذج بشرية تشابهه. المنطقي، والمثبت بناء على قول نيتشه نفسه بأنه من محبي دوستويفسكي، أن العكس هو ما جرى، وهو أن نيتشه تأثر وتفاعل مع شخصيات دوستويفسكي، أعجب بأشياء وعارض أشياءً أخرى. نقاط الاختلاف بينهما يمكن بسهولة الإشارة إليها، وهي الأكثر والأوضح والأهم، دون التمعن حتى في قراءة الاثنين.
يكفي أن نعرف أن أكثر ما يميز نيتشه هو إلحاده الشديد وانتقاده لأخلاقيات المسيحية حتى أنه أسماها بأخلاقيات العبيد، حتى اتهمه أندريه جيد بأنه كان يغار من المسيح إلى حد الجنون، وهو صاحب الإعلان عن موت الإله وهو المبشر بالإنسان الفائق، وكان دوستويفسكي على النقيض، شديد الإيمان، محبًا للمسيحية والمسيح، بل لا يرى الخلاص للإنسان إلا من خلال الله ولا يرى ضياعه إلا في محاولته بأن يكون إلهًا، ويرفض أن نطلق العنان لعقل الإنسان. أما نقاط التلاقي فلا بد من التمعن حتى نراها، إنها موجودة بين السطور، وفي هذا المقال سنحاول أيضًا الوصول إليها والتوقف عندها.
لنفهم كيف يكون نيتشه حاضرًا في شخصيات دوستويفسكي، وكيف يكون بين الاثنين نقاط تلاقٍ واختلاف، أو لنذهب إلى أكثر من هذا ونقول، تخيلًا وليس جزمًا، إنه ربما تكون قراءة نيتشه لدوستويفسكي وإعجابه بكثير من شخصياته الروائية قد ساهما بقدر كبير في تشكيل فلسفته، بل وفي تشكيل شخصيته نفسها وسلوكه ووعيه، علينا أن نتبع طريقًا من اثنين، أولهما أن نتخيل نيتشه يقرأ ديستويفسكي ويتأثر به، سلبًا وإيجابًا، فيكتب، وهو الطريق المنطقي، أما ثانيهما فهو العكس تمامًا، وغير منطقي بالمرة، لكننا سنفترضه جدلًا، وهو أن نتخيل دوستويفسكي حيًا معاصرًا لنيتشه ويقرأ كتبه، فيتفق معه فيما يتفق، وهو القليل، ويختلف معه فيما يختلف، وهو الكثير. سيختلف معه حين يقرأ هجومه على المسيحية وأخلاقها وعلى الفضيلة باعتبارها في وجهة نظر نيتشه نموذجًا للانحطاط، وحين يقرأ إعلانه عن موت الإله وتبشيره بالإنسان الأعلى. ستثير كتابات نيتشه غيظ دوستويفسكي لأنها ضد فلسفته، ويريد أن يرد عليه بالطريقة التي يعرفها، وهي تأليف الروايات، ماذا سيفعل؟ سيرسم شخصيات تشابه نيتشه وتتبنى فلسفته، أو جزءًا منها، ولكي يثبت خطأ رؤية نيتشه وصحة رؤيته هو، لا بد أن يعطي لهذه الشخصيات النيتشوية نهايات تبدد سعادتها، أو تعيدها عن الطريق أو تغير وجهة نظرها، وفي المقابل ستكون هناك شخصيات على النقيض من نيتشه وفلسفته، وهذه الشخصيات هي التي سينبثق منها النور. يساعدنا على تخيل ذلك أن دوستويفسكي، رغم عبقريته الروائية، لم ينج من فخ الوقوع في الأيدولوجية وصبغ رواياته بها، فكان يطرح السؤال وفي النهاية يقدم الجواب حسب وجهة نظره. وهكذا ستكون الشخصيات النيتشوية في روايات دوستويفسكي هي نقاط اختلاف بينهما وليست نقاط تلاقٍ، لأن الأخير لا يرسمها متبنيًا وجهة نظرها أو راضيًا عن سلوكها، وإنما يرسمها ناقدًا لها رافضًا لما تعتنقه من أفكار.
إلى أقصى الطريق
يمكننا البدء من نقطتين، يمكن اعتبارهما نقطتي تلاقٍ، أولهما طبيعة شخصيات دوستويفسكي وطبيعة نيتشه وفلسفته. القارئ لأعمال دوستويفسكي يعرف أن شخصياته في الغالب كانت شخصيات شديدة الانفعال، لا تعرف الاعتدال في مشاعرها ولا في سلوكياتها، تذهب إلى أقصى الطريق، فإذا سلكت، كما في «الإخوة كارامازوف»، طريق القداسة، أصبحت الأب زوسيما أو أليوشا، وإذا سلكت في الطريق المعاكس، أصبحت إيفان أو فيودور كارامازوف. وفي «الأبله» يسير الأمير ميشكين إلى أقصى طريق النبل والطيبة والصفاء، وفي «الشياطين» تسير شخصيات كثيرة في الطريق المعاكس، حيث طريق القسوة والعنف والإرهاب. الانفعالية الشديدة هي ما تميز فلسفة نيتشه أيضًا، قمة الثورة والتمرد، هو نفسه قال عن نفسه إنه ليس بإنسان وإنما حزمة ديناميت. «ابن مدنك على سفوح جبل فيزوف»، هكذا قال في كتابه: «العلم المرح»، ولدى دوستويفسكي شخصيات كثيرة عاشت على سفوح جبل فيزوف، وكأنها قرأت مقولة نيتشه واقتنعت بها فاختارت أن تعيش فوق حمم بركانية، أو العكس، وهو الأسهل تخيله، أن نيتشه قرأ شخصيات دوستويفسكي المنفعلة المليئة بالدينامية والشطط، فكتب جملته: «ابن مدنك على سفوح جبل زيزوف»، تأثرًا بها. دوستويفسكي لم يكن يهتم بالإنسان في حالته الساكنة، لم يرصده في عاديته، وإنما رصده في حركته وجموحه، شخصياته دائمًا في احتكاك مع الطبيعة والله والمجتمع والأفكار والآخرين، ومع نفسها قبل أي شيء. هكذا كانت فلسفة نيتشه أيضًا، وكان نيتشه نفسه، فلا هو ولا فلسفته كانا في حالة سكون وإنما في دينامية وشطط وجموح. وهكذا تكون هذه النقطة ليست نقطة تلاقٍ بين نيتشه ودوستويفسكي في وجهات نظر، وإنما هي فقط نقطة تلاقٍ بين طبيعة شخصية الأول وطبيعة شخصيات الثاني الروائية.
النقطة الثانية هي أيضًا لا تخص التلاقي في وجهات النظر، وإنما هي نقطة تلاقٍ بين طبيعة كتابة الاثنين، أو ما يهتم به كلاهما في كتابته، أو بين الوصف الذي من الممكن أن نطلقه على روايات دوستويفسكي والوصف الذي من الممكن أن نطلقه على فلسفة نيتشه، فإذا كان الأول يهتم في رواياته بتصوير الجانب النفسي في شخصياته، حتى أمكننا أن نقول عن رواياته إنها روايات نفسية، فنيتشه أيضًا يمكن اعتبار فلسفته بأنها فلسفة نفسية إذا صح التعبير، فلسفته كلها مبنية على المشاعر والانفعالات، إنه يميل إلى الفردية المطلقة، وكان يرد كل شيء إلى الإنسان، ومكان القيم الحقيقي لديه في ذهن الإنسان وليس في العالم ولا في طبيعة الأشياء، وتبنى هجومًا عنيفًا على الميتافيزيقا. وهكذا فمثلما كان اهتمام دوستويفسكي بالإنسان في رواياته، كان اهتمام نيتشه أيضًا بالإنسان في فلسفته، حتى أنه في شذراته، وهي تمثل أغلب كتاباته، كان دائمًا ما يخاطب الإنسان، يحاوره ويسدي له النصائح والحكم والمقولات. الإنسان هو محور اهتمام كليهما وله سخرا كتاباتهما. من هنا يمكننا القول بأن فلسفة نيتشه كانت فلسفة نفسية، أي أنها كانت تهتم بالنفس البشرية وتعزز من قيمة الإنسان كخالق وليس كمخلوق. دوستويفسكي أيضًا كان يعزز من قيمة الإنسان في رواياته كخالق، ولكن ليس المقصود من الخالق هنا عند دوستويفسكي بأن يكون الإنسان إلهًا، وإنما يكون خالقًا لطريقه، أي أنه مخلوق حر ينال حريته ويمشي بها إلى آخر طريقه، فيصبح خالقًا لمصيره.
الاستخدام المفرط للقوة
الآن علينا أن نذهب إلى أفكار نيتشه ونبحث عنها في شخصيات دوستويفسكي، أو نقوم بالعكس، وهذا ما أفضله، وهو أن نذهب لشخصيات دوستويفسكي ونبحث فيها عن أفكار نيتشه. أي الطريقين سيصل بنا إلى الغاية، وهي أن نضع يدينا على الشخصيات النيتشوية في روايات ديستويفسكي ونبين نقاط التلاقي والاختلاف في وجهات النظر بينهما.
لنبدأ برواية الإخوة كارامازوف، ليس فقط لأنها درة أعمال دوستويفسكي بإجماع أغلب النقاد والقراء، وإنما أيضًا لأنها الرواية التي تضم بشكل واضح النموذجين: النيتشوي والضد، ولأنها أكثر رواياته اهتمامًا بمسألة الإلحاد، والإلحاد أول ما يطرأ إلى أذهاننا عندما نذكر نيتشه. الأب هنا نيتشوي بقدر ما، نيتشوي بكونه متفقًا مع نيتشه في رؤيته بأن الحرية في إشباع الرغبات وكل إشباع لأي جزء في الإنسان هو مصدر قوة له، وكان كانط يتبني مذهبًا آخر وهو أن حرية الإنسان في زهده في رغباته، وقد عارض نيتشه ذلك. في الابن دميتري سنجد أيضًا ملمحًا نيتشويًا إذ أنه كان مشابهًا لأبيه بقدر كبير في إشباعه لرغباته حتى نافسه على حب امرأة. ويمكن اعتبار الابن أليوشا هو الضد نيتشوي، هو الكانطي فيما يخص الرغبات والحرية إذا جاز التعبير. الشخصية النيتشوية الأخرى في «الإخوة كارامازوف»، النيتشوية بقدر أكبر ولكن ليس بصورة كلية أيضًا، هي شخصية إيفان. إيفان نيتشوي بنظره لما هو أرضي، بعدم اكتراثه بما هو ميتافيزيقي، باحتقاره لأخلاق المسيحية. في كتابه «العلم المرح» يقول نيتشه: «إن كل العواطف النبيلة والسمحة للسوقيين مجردة من كل منفعة». نيتشوي برفعه من قدر نفسه، في كتابه «إنسان مفرط في إنسانيته» يقول نيتشه: «إن الإنسان كلما رفع من قدر نفسه كلما اتسعت الهوة التي تفصله عن الحيوان». وكان إيفان نيتشويًا أكثر وأكثر بإلحاده. «إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح»، هكذا يقول إيفان. لنضع مقولته أمام إعلان نيتشه بموت الإله وإيمانه بأن الإلحاد خير فعل يقوم به الإنسان. هل كان كل شيء مباحًا لدى نيتشه؟ بالنظر في تبشيره بالإنسان الفائق، السوبرمان، وتبريره لاستخدام القسوة إذا لزم الأمر، ومدحه للقوة والحروب لكونها تحرك قوى الإنسان وتجعل الروح البشرية غانمة واعتباره أن مثل هذه الأمور من أخلاق السادة. «هذا اللوح الجديد أعلقه فوقكم يا إخوتي لتغدوا قساة»، يقول نيتشه في «أفول الأصنام». ويقول أيضًا في الكتاب نفسه: «إذا ما كانت قسوتكم لا تريد أن تقطع وتبرق وتفصل، فكيف سيكون لكم أن تكونوا شركاء إبداع؟» بالإضافة إلى كلامه عن إرادة القوة، يمكننا أن نجد اعترافًا ضمنيًا منه بأن كل شيء مباح ليصل الإنسان إلى أن يكون سوبرمان، وفي سبيل أن تحقق السياسة مرامها لا مانع لديه في الاستخدام المفرط للقوة.
في كتاب «غواية اللامعقول ـ قصة الغرام الفكري بالفاشية من نيتشه إلى ما بعد الحداثة»، يقول ريتشارد وولين، بترجمة محمد عناني: «كان نيتشه رسول الجلال الثقافي ولكنه كان أيضًا مدافعًا شديد المراس عن السلطة والقسوة وشرعة المقاتل التي يجسدها بعض طغاة التاريخ الذين أسرفوا في سفك الدماء مثل الإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر ونابليون». لننظر إلى تأثير مقولة إيفان، أليست هي التي قادت أخاه المصاب بالصرع إلى قتل الأب؟ إيفان لم يقل له اقتل، لكن كلمته جعلته يقتل. ويقابل ذلك في فلسفة نيتشه أن الفاشية وجدت فيه مبشرًا لها. في كتاب «غواية اللامعقول»، الذي سبقت الإشارة إليه، نقرأ: «في نوفمبر من عام 1933 قام هتلر بزيارة تكريم إلى أرشيف نيتشه في فايمر.. وفي أعقاب زيارة هتلر أضيفت القداسة على نيتشه بعد وفاته باعتباره الوحي الفلسفي من وراء المذهب النازي». هكذا يمكننا اعتبار نيتشه معادلًا لإيفان والفاشية معادلًا لسمردياكوف، قاتل أبيه، المتأثر بإيفان.
واستمرارًا لفرضية أن دوستويفسكي يقرأ نيتشه ويريد الرد عليه، ننظر إلى نهاية الرواية ونهاية إيفان، التي هكذا، وحسب فرضيتنا، سيكون دوستويفسكي قد وضعها ليثبت خطأ وجهة نظر نيتشه، وهي هنا موت الإله ونفعية الإلحاد. في الصفحات الأخيرة يقولها سميردياكوف صراحة لإيفان: «أنت علمتني أن أفكر هذا التفكير وأن أقضي في الأمور على هذا النحو، كنت تقول لي دائمًا إذا لم يوجد الإله الذي لا نهاية له، فالفضيلة إذن باطلة لا جدوى منها ولا داعي إليها، هكذا كنت تفكر أنت واستندت أنا إلى أقوالك». لدى إيفان الفضيلة باطلة، ولدى نيتشه هي ليست فقط باطلة وإنما أيضًا نموذج للانحطاط. «المراحل الكبيرة في حياتنا هي هناك عندما نجرؤ على أن نغير اسم شرنا ونعمده خيرنا»، يقول نيتشه في كتابه «ما وراء الخير والشر». بعد ذلك يقتل سمردياكوف نفسه، فتضيع العدالة ويُحكم على دميتري، المظلوم، بالسجن. تفككت الأسرة، فيخرج إيفان عن صمته، عن تخبطه وهذيانه، ويحس بأنه مسؤول نحو أخيه ونحو العائلة، لم ينفعه إلحاده الذي كان سببًا في قتل أبيه، والذي بدوره أدى إلى تفكك الأسرة وضياعها. الإلحاد الذي نادى به نيتشه يرى دوستويفسكي إنه هدّام، ووراء كل موت للإله ضياع للإنسان، ودون الإله لن تعرف البشرية الحب المخلص، هكذا يرد دوستويفسكي على نيتشه، وفي سبيل رده يأتي بشخصية نيتشوية، ملحدة، وهي إيفان، ليثبت لنا وجهة نظره. دوستويفسكي لا يرى أخلاقًا خارج الدين، لهذا جعل إيفان يؤمن بأن في الإلحاد سيصبح كل شيء مباحًا، لسنا هنا بصدد مناقشته في ذلك، لكن الغريب أن هذا الإيمان، المسيحي جدًا، لم يجعله يسلم من انتقاد الكنيسة له عند نشر روايته، بالطبع ليس لأنه لا يرى أخلاقًا خارج الدين، وإنما لأنه يقر بضرورة إعطاء الحرية الكاملة للإنسان ليكتشف طريقه، وهو ما جرى مع إيفان ودميتري أيضًا، وكونه لا يرى أخلاقًا خارج الدين هي نقطة اختلاف قوية بينه وبين نيتشه، فالأخير يرى مصادر الأخلاق عديدة وأن القيم الأخلاقية يخلقها أناس مختلفون، ولا يرى أصلًا أن أخلاقيات الدين أخلاقيات نافعة، بل يراها أخلاقيات عبيد وضارة. دوستويفسكي لا يترك بطله إيفان نيتشويًا إلى آخر الرواية، فلا بد، لأسباب درامية وفنية أيضًا، أن يتغير كي لا يظل شخصية ثابتة انتهت كما ابتدت، وهو فعل غير محبب دراميًا وفنيًا، ولأسباب فلسفية، تنفع مقدمة دوستويفسكي المنطقية لروايته، لا بد أن يتغير، ليبرهن على أن الإلحاد هدام والخلاص ليس فيه.
البطل السوبرمان
دوستويفسكي يتفق مع نيتشه في كونه يريد إنسانًا أعلى، إنسانًا أسمى، لكنه لدى دوستويفسكي أسمى روحيًا ودينيًا، ويرى أن وصول الإنسان لهذه المرتبة الروحية الأعلى يكون عن طريق التجربة
لننتقل إلى رواية أخرى لدوستويفسكي تهتم بفكرة أخرى هي من أهم ملامح فلسفة نيتشه، الرواية هي «الجريمة والعقاب» والفكرة هي البطل السوبرمان. البطل راسكولينكوف نيتشوي بشعوره أنه إنسان أعلى، غير تقليدي، بتقسيمه للناس إلى خاضعين طائعين ليس بإمكانهم خرق القانون، وخارقين يحق لهم مخالفة جميع القوانين. نيتشوي برغبته في تغيير العالم وقانون البشرية، بإيمانه بحريته التامة، حتى تسوقه حريته هذه إلى أن يقتل، وهو يفعل ذلك ليحقق فكرته السامية في نظره والتي ستعود بالخير على المجتمع. لكنه يعرف الشفقة رغم ذلك، يشفق على سونيا وعلى قتيلته أيضًا فيما بعد، وهو هنا غير نيتشوي، فليس في قاموس نيتشه معنى للشفقة، الفضيلة الدينية، إلا أنها أنانية مستترة لخوفنا من أن يحدث لنا كما يحدث لمن نشفق عليهم. في كتابه «أصل الأخلاق وفصلها»، يقول نيتشه: «إذا كان معبد على وشك أن يُشَيَّد فوجب أن يُدَمَّر معبد». كأن راسكولنيكوف قرأ هذه المقولة واقتنع بها، فرأى أنه في سبيل تشييد معبده الجديد عليه أن يدمر معبدًا قديمًا، فيستهين بقتل امرأة، يستهين بوصية لا تقتل، يمكن الإطاحة بهذه الوصية، وهي المعبد القديم، من أجل تشييد معبد جديد يرى راسكولينكوف إنه الأفضل والأنفع للبشرية، إنه هنا نيتشوي يرى نفسه مخلصًا ونبيًا جديدًا وأفكاره إعلانات حرب كما كان نيتشه ينظر إلى كتاباته. أو كأن نيتشه هو الذي قرأ راسكولنكوف وعرف فكرته السامية فألهمته شخصيته بهذه الجملة. نيتشه أيضًا كان يرغب في تغيير العالم، ولأجل ذلك أعلن موت الإله وقال إننا جميعًا قتلناه، وهو يريد أن يظل هذا الإله ميتًا. إن نقده للميتافيزيقا هو أيضًا قتل، نقده لقيم وأخلاقيات عصره المتوارثة قتل. وتخبرنا سيرته الذاتية، كما وارد في كتاب «غواية اللامعقول»، أنه أرسل إلى أستاذ الموسيقى كارل فوخس يقول: «إنه ما دام الإله القديم قد تنازل عن العرش فسوف أتولى أنا حكم العالم من الآن فصاعدًا». لم يحلم راسكولنيكوف بحكم العالم، ولم ير أنه يقبض دون مبالغة على مستقبل البشرية في قبضة يده كما أرسل نيتشه يقول إلى أخته، لكنه كان يرى أنه قادر على تغيير العالم وأنه إنسان غير تقليدي من حقه الاعتداء على القانون البشري. راسكولينكوف ونيتشه يختلفان في الشكل الذي يريدان أن يصبح عليه العالم، لكنهما يتفقان في رفض العالم الحالي وفي قدرتهما على تغييره للأفضل وسعيهما إلى ذلك. أما دوستويفسكي نفسه فيتفق معهما في شيء واحد، وهو رغبته في أن يتغير العالم للأفضل، لكنه يختلف معهما في الطريقة، وفي الشكل الذي يريد أن يتغير إليه العالم.
ومرة أخرى يحاجج دوستويفسكي وجهة نظر نيتشه في ضرورة سعي الإنسان ليكون سوبرمان، في تدميره للمعابد القديمة من أجل تشييد معابد جديدة، في قدرته على أن يغير العالم، أو يحكمه وفق قوانين جديدة يضعها هو، ولأجل ذلك يضع دوستويفسكي في الجريمة والعقاب نهاية تبدد كل ذلك، فرغم جريمة القتل لا يتغير العالم ولا يحقق راسكولينكوف ما كان يرجوه منها، ولا يستريح من عذابه إلا بالاعتراف بجريمته ونيل العقاب، بل أنه يعترف أنه بقتل العجوز قتل نفسه، والجريمة تفقده شعوره بالحب نحو الجميع، نحو أهله وحبيبته ورفقائه، ويشعر هنا بأنه عدم، وهنا يظهر، في مسألة العدمية، اختلاف جذري بين نيتشه ودوستويفسكي، فالأول يرى العدمية في أن تزول القيم العليا وتحل محلها القيم المزيفة، ربما يوافقه دوستويفسكي في ذلك، لكن لما نعرف ما هي القيم العليا والمزيفة عند كل منهما سنكتشف أنهما على غير وفاق، فالقيم العليا لدى نيتشه هي المزيفة لدى دوستويفسكي، والقيم العليا لدى دوستويفسكي، وهي القيم المسيحية، الإنسانية، قيم الخير، هي القيم الدنيئة والمزيفة لدى نيتشه وهي التي يريدنا أن ننقلب عليها. في كتابه «رؤية دوستويفسكي للعالم» يقول نيقولا برديائف، بترجمة فؤاد كامل: «فالإنسان الذي اعتقد نفسه نابوليونًا، إنسانًا عظيمًا إلهًا، فانتهك حدود ما هو مباح للطبيعة البشرية المخلوقة على صورة الإله، هذا الإنسان يتردى في الحضيض ويقتنع بأنه ليس إنسانًا أعلى (سوبرمان) وإنما مخلوق ضعيف وضيع، مهزوز، وقد اعترف راسكولينكوف بضعفه التام وبأنه عدم وأفضى به اختبار حدود قوته وحريته إلى نتيجة فاجعة... كل تصور آخر للإنسان الأعلى، السوبر مان، يقتل الإنسان». وكما حدث في «الإخوة كارامازوف» يحدث في «الجريمة والعقاب»، يتطور البطل وينتهي على غير ما بدأ، لنفس الأسباب الفنية والفلسفية. لا بد أن يصيبه تأنيب ضمير ويعترف بجريمته ويجد في ذلك الراحة ويعود قادرًا على الحب، ليكون قد تطور، وهو فعل يحمد فنيًا ودراميًا، وليبرهن دوستويفسكي على وجهة نظره وهي أن الإنسان ليس سوبرمان وسعيه إلى هذا يجعل منه قاتلًا، وليس بإمكانه أن يغير القانون البشري، وليس بإمكان القتل أبدًا أن يكون حلًا، وليس الإنسان إلهًا، ولا ينفعه أن يسعى إلى ذلك، هو فقط مخلوق على صورة الإله، وخلاصه في أن يظل على صورته.
دوستويفسكي يتفق مع نيتشه في كونه يريد إنسانًا أعلى، إنسانًا أسمى، لكنه لدى دوستويفسكي أسمى روحيًا ودينيًا، ويرى أن وصول الإنسان لهذه المرتبة الروحية الأعلى يكون عن طريق التجربة، إنه يرفض ما يقوله المسيحيون في صلاة أبانا الذي: «لا تدخلنا في تجربة»، إنه يريد للإنسان أن يدخل في التجربة حتى تصفى روحه ويسمو، لهذا هو يُدخل أبطاله في أصعب التجارب، وهو الأمر الذي حدث مع إيفان ودميتري في «الإخوة كارمازوف» وراسكولينكوف في «الجريمة والعقاب»، وهو ما حدث مع بطل المراهق كما سنرى. نيتشه أيضًا يتفق مع دوستويفسكي في أنه لم يكن يخاف التجربة، كان يريد للبشر أن يدخلوا فيها، ولكن ليس ليعبروا من خلالها إلى السمو الروحي، الديني، الإنساني، الفضائلي، ليس ليبصروا منها نور الله، كما يريد دوستويفسكي، وإنما ليخرجوا منها أقوى وأصلب، ليخرجوا منها آلهة. «ما لا يقتلني يجعلني أقوى»، هكذا يقول في أفول الأصنام، لم يقل ما لا يقتلني يجعلني أنقى، أصفى، أسمى روحيًا، قال: «أقوى» لأن هذا ما يهمه، أما النقاء والصفاء والسمو الروحي فهي الأمور التي تعني دوستويفسكي ويهتم بها ويرى فيها الخلاص. نيتشه، لكونه يرى القوة في السعادة والسعادة في تلبية الرغبات، ولأن الأشياء المرغوبة ليست سهلة أبدًا، يرى أن حياة الإنسان هي طريق ألم وكفاح دائم، وعلى الإنسان أن يمشي في طريقه بكل قوته لينال ما يريده ويهزم ما يعوقه ويغلب ما يستعصي عليه ليكون أعلى، وحياة الإنسان لدى دوستويفسكي هي أيضًا طريق ألم وكفاح، لكن غاية نيتشه من الكفاح الدائم هي إشباع الرغبات التي لا تنتهي عند الإنسان، أما عند دوستويفسكي فغايته من كفاح الإنسان هي أن يبصر نور الله.
دخول التجربة
في «المراهق» لدينا أيضا بطل نيتشوي، نيتشوي بكونه برجماتي، بالإرادة القوية والعزيمة الصلبة في أن يصبح شخصًا ثريًا، حتى أنه في سبيل ذلك يعزف عن تناول الطعام ليدخر ويكوِّن ثروة ويدبر الخطط والمناورات لتحقيق حلمه في الثراء، حتى أنه لا يتردد في ابتزاز أبيه. آركادي، بطل المراهق، يعامله زملاؤه باحتقار ويرونه شخصًا دنيئًا، لكن ذلك لا يؤثر عليه في شيء، الإرادة الصلبة التي لديه لن يوقفها أي عائق. في كتابه «ما وراء الخير والشر» يقول نيتشه: «من يحتقر نفسه ما زال يحترم نفسه بوصفه محتقرًا». آركادي المراهق هوميروسي يوناني أيضًا مثل نيتشه، يؤمن أن معنى أن تكون جيدًا هو أن تكون سعيدًا وأن تحظى بالأشياء التي تجلب السعادة مثل الثروة والقوة والسلطة، وهذه نقطة اختلاف بين نيتشه ودوستويفسكي، فمعنى أن تكون جيدًا عند دوستويفسكي هو أن تكون خيرًا، لكن نيتشه يشطب خيرًا ويضع سعيدًا مكانها، ودوستويفسكي يرى قوة الإنسان في ألا يصير عبدًا لرغباته، نيتشه يرى أن قوته في أن يشبع رغباته، لأنه هكذا سيصير سعيدًا، إن القوة والسعادة لدى نيتشه مرتبطان ببعضهما. ومرة أخرى يحاجج دوستويفسكي نيتشه، فيغرق المراهق في الديون، لا تنفعه خططه ولا إرادته الصلبة، لا وجود للسوبر مان، فالإنسان أضعف، ليس فقط أمام الطبيعة وإنما أيضًا أمام نفسه، فالمراهق الذي أراد أن يكون ثريًا ساقته أفعاله نفسها، اختياره الحر، إلى أن يصبح مديونًا. وينقلب الأمر عليه، بصنع يديه، حتى يصاب بنوع من الانغلاق على الذات، وفي النهاية لا يجد خلاصه في حلمه وسعيه لإشباع رغباته، لا يجد قوته ولا سعادته في ذلك، وإنما يجدهما في المسيح. هنا يدخل المراهق في التجربة التي يريد دوستويفسكي للناس أن يدخلوا فيها، فيعثر على خلاصه. وهنا أيضًا، كما في «الإخوة كارامازوف» و«الجريمة والعقاب»، يتطور البطل، للأسباب ذاتها الفنية والفلسفية.
تمجيد الحرب؟
في «الشياطين»، وهي الرواية السياسية في روايات دوستويفسكي، سنجد شخصيات نيتشوية كثيرة، هنا يظهر نيتشه السياسي إذا صح التعبير. بيوتر يريد أن يكوّن خلية ثورية، ويضم فيها عددًا غير قليل من المتمردين والثوريين، ولكي يختبرهم ويختبر ثقتهم به وثقتهم ببعضهم البعض يقتل واحدًا من الأعضاء وهو إيفان شاتوف. إنه يريد أن يختبر مدى الترابط بينهم، ولا يتردد في أن يكون ثمن ذلك هو قتل أحدهم. إن مبدأ الغاية تبرر الوسيلة موجود لدى البطل، وموجود لدى نيتشه، وكأن في نيتشه شق ميكافيللي يبرر الوسيلة للوصول إلى الغاية. يؤمن نيتشه بأن الحروب والشجاعة صنعت أكثر مما صنع حب الجار، وهكذا يكون بيوتر نيتشوي لتمجيده لحالة حرب يريد أن يدخلها ويريد لأجل الدخول فيها أن تكون لديه شبكة من متطوعين يمشون معه في الدرب، وهو مثل بطل «المراهق» نيتشوي أيضًا بكونه هو الآخر برجماتيًا، لكن بيوتر يختلف عن نيتشه في أمر جوهري، إنه اشتراكي ونيتشه غير ذلك، نيتشه لا يؤمن بأن على الطبقات الدنيا أن تطالب بحقها، إنه يرى في الاشتراكية حقدًا وحسدًا وتطلعًا لما عند الغير. إذا تخيلنا نيتشه ينظر إلى بيوتر، وبقية أبطال «الشياطين» الثوريين المتحمسين، سنراه معجبًا بحماستهم، بشجاعتهم، برغبتهم في أن يكونوا أشباهًا بالإله، برغبتهم في الهدم والتغيير، لكنه أيضًا سيراهم يوظفون كل ذلك في الطريق الخطأ، طريق الثورة لصالح الاشتراكية، لصالح الطبقات الدنيا التي لا يشفق نيتشه عليها. في خاتمة كتابه «نيتشه مفتتًا» يقول بيير بودو عن زرادشت إنه يقدم نفسه كآخر جندي صليبي في زمن تخلى عن الحروب الصليبية. زرداشت جندي صليبي، ليس بمعنى أنه جاء ليغزو أممًا، وإنما ليغزو أفكارًا، وإن كان نيتشه نفسه من ممجدي الحروب ومادحيها. بيوتر، بطل دوستويفسكي، يقدم نفسه كذلك أيضًا، جندي يريد أن يكوّن جيشه ليغير أفكارًا وأوضاعًا سياسية لكن في سبيل تغييرها لا بد من تهديد أمان الأنظمة، لا بد من الضغط عليها والإطاحة بها تمامًا إذا أمكن، لكن دوستويفسكي لا يكتب له النصر، لا يكتب لفلسفته ورؤيته وأفكاره بمعنى أدق. دوستويفسكي لا يريد حروبًا صليبية، لا يراها ستنفع البشرية وإنما ستدمرها، سواء كانت حروبًا بالمعنى الحرفي تهدد أنظمة حاكمة، هو نفسه لديه تحفظات عليها وانتقادات، لكنه يختلف في طريقة المعالجة، أو كانت حروبًا موجهة ضد أفكار وثقافات تريد أن تنسفها، هو أيضًا يختلف في الطريقة والمعالجة. دوستويفسكي يرفض الاشتراكية، مثل نيتشه، لكن لأسباب مختلفة، فالأول يرفضها لأنها في وجهة نظره تعادي المسيحية وتريد أن تحل محلها، يرفضها لما فيها من إلحاد رغم ما فيها من حب للفقراء والمستضعفين، وهو كان محبًا لهم جدًا متبنيًا في ذلك موقف المسيح. الثاني يرفضها لأنه يراها تطلعًا لما عند الغير، حتى أنه انتقد مبادئ الثورة الفرنسية، وإن كان رغم ذلك يرى أن الطبقات العليا والسلطوية هي التي من الممكن أن تبادر بمنح الطبقات الدنيا بقدر مما تحتاج إليه، كنوع من التفضل عليها، وهكذا كان موقفه من الفقراء والمستضعفين عكس موقف دوستويفسكي تمامًا.
نهايات متعارضة
وفي رواية «إنسان القبو» لدينا أيضًا بطل نيتشوي، نيتشوي بكونه متمردًا، محتجًا، وغير راضٍ عن الواقع، لا يريد أن تتقيد حريته، يرى الإنسان لا يساوي شيئًا دون رغباته ودون اختياره. بطل يقول في الصفحات الأولى من الرواية: «أفضل أن يفهم المرء المستحيلات والجدران الصخرية ويدركهما بدلًا من الوصول إلى اتفاق مع هذه المستحيلات ومع هذه الجدران الصخرية». ألا نجد فيما كتبه نيتشه ما يتفق مع ذلك؟ إن فلسفة نيتشه كلها هي ضد القيام باتفاق مع المستحيلات والجدران الصخرية، إنه يناطحها ويفضل أن يصطدم فيها بكل قوته ليفهمها ويهدمها عن أن يقيم مواءمات معها واتفاقات بالهدنة. إنه يكتب بمطرقة، والمطرقة سلاح من يفضل أن يفهم ويهدم الجدران الصخرية، مثل بطل دوستويفسكي، ودوستويفسكي نفسه كان يكتب بمطرقة، وهنا نقطة تلاقٍ بينه وبين نيتشه، نقطة تلاقٍ في طبيعة شخصية كل منهما، وليست في وجهات النظر، فكلاهما شجاع في طرح أفكاره ونقده، كلاهما مخلص لقضاياه ويكتب بكل طاقته، نيتشه يذهب مع الفلسفة إلى الآخر حتى أنها تشكل سلوكه فيشعر بها ويفكر بها، ودوستويفسكي أيضًا يذهب مع الأدب والدراما إلى أقصى الطريق، فيشكلان سلوكه ويفكر بهما ويحس بهما.
في كل من «الإخوة كارامازوف» و«الجريمة والعقاب» و«المراهق» و«الشياطين» و«إنسان القبو»، يمكن أن نتخيل نيتشه يقرأ ويُعجب بإلحاد إيفان وبفيدرو ودميتري وهما يشبعان رغباتهما، وبسعي راسكولينكوف ليكون سوبرمان، وبرغبة المراهق في الثروة، وبحماس الشياطين، وبأسئلة إنسان القبو ورغبته في الحرية. يتفق لكنه يختلف في النهاية. يمشي الطريق مع دوستويفسكي، مع أبطاله، معجبًا بهم، لكن تأتي النهاية لتناهضه، فتحدث الفرقة وتظهر نقاط الاختلاف، يصرخ في وجه دوستويفسكي: «لماذا فعلت بهم هكذا؟» فليست النهايات التي يضعها دوستويفسكي هي التي يريدها نيتشه، إنه لا يمشي أبدًا في الطريق، أي طريق، سواء كان طريق الحرية أو طريق الإنسان الأعلى أو رفض الاشتراكية، إلى آخره مع دوستويفسكي، لأن الغاية مختلفة، فلا بد من نقطة يفترقان فيها ويمضي كلاهما بعدها إلى طريقه الخاص.
إن قضية الحرية كانت شغلًا شاغلًا لدى نيتشه، ولدى دوستويفسكي أيضًا في كل أعماله. نيتشه يريد إنسانًا حرًا، ولكن حرًا بمعنى أن ينقلب على كل ما هو سائد، قديم، يعوقه، أما دوستويفسكي فيريد إنسانًا حرًا حرية مسؤولة، حرًا من أطماعه ومن عبودية نفسه لنفسه ولأفكاره. لأجل ذلك هو يقدم نماذج تريد الحرية التي يريدها نيتشه، فتقودها هذه الحرية في النهاية إلى جحيمها لتعرف أن هذه ليست هي الحرية النافعة، لكنه رغم ذلك يرى أن الإنسان لن يعرف الطريق الصواب إلا بالسير في الخطأ أولًا، لهذا فهو يفضل له أن يتحرك ويمشي في الخطأ حتى يعرف الصواب من أن يظل ساكنًا في منطقة رمادية، ولهذا جاءت شخصياته كلها متحركة غير ساكنة. الحرية عند دوستويفسكي، كما يقول نيقولا برديائف في كتابه «رؤية دوستويفسكي للعالم»: «الحرية في نظره تتصل بالعدالة الإنسانية والعدالة الإلهية... ويعكف على دراسة مصير الإنسان في الحرية ومصير الحرية في الإنسان، ورواياته جميعًا تمثل تجربة الحرية الإنسانية، والإنسان يبدأ في التمرد باسم هذه الحرية، متهيئًا لكل العذابات مستعدًا للجنون شريطة أن يشعر بأنه حر وهو يبحث في الوقت نفسه عن الحرية المتطرفة النهائية... وتشهد مصائر راسكولنيكوف وستافروجين وكيريلوف وإيفان كارامازوف على أن حرياتهم التي وجهت توجيهًا خاطئًا هي التي أضاعتهم». في المقابل فإن موقف نيتشه من الحرية مختلف تمامًا عن موقف دوستويفسكي، نيتشه يرى أن الحرية تكمن في تلبية الإنسان لرغباته وليس في تجاهلها أو كبتها أو الزهد فيها، إن في الزهد فيها، كما يرى هو، نوعًا من أنواع قتل ما هو إنساني وجميل في الإنسان، أليس موقف نيتشه هو نفسه موقف بطل دوستويفسكي في إنسان القبو؟ ألا يتساءل بطل دوستويفسكي ماذا يكون الإنسان دون رغباته؟ ماذا يتبقى منه؟ ألا يعتبر هذا سؤالًا نيتشويًا من المقام الأول؟ لكن ما موقف ديستويفسكي نفسه من رغبات الإنسان؟ ماذا يريد منه أن يفعل حيالها؟ لا يريد منه أن يكبتها فيصير مسخًا، ولا أن يطعمها فيصير عبدًا لها، إنه يريده أن يتحرر منها، وإذا لم يكن من سبيل إلى ذلك غير أن يلبيها فليفعل حتى تضره فيكره طعمها ويلفظها بكامل إرادته، وهنا نقطة اختلاف بينه وبين نيتشه.
كل من نيتشه ودوستويفسكي يرى أن الحرية واجبة للإنسان، هي مؤلمة لكن عليه أن يمشي في طريقها رغم ذلك، هذا الاتفاق بينهما ربما هو أكثر ما جعل نيتشه معجًبا بدوستويفسكي، وربما هو أوضح نقطة تلاقٍ بينهما، لكن هناك أيضًا اختلافًا جوهريًا، فالأول يريده أن يمشي مع الحرية ليصل إلى الإنسان الأعلى والثاني يريده أن يصل بالحرية إلى المسيح. هنا جوهر الاختلاف. دوستويفسكي لا يدين سعي الإنسان إلى الحرية ولا يريد أن يسلبها منه، لكنه يدين توجيهها التوجيه الخطأ. في كتابه «رؤية دوستويفسكي للعالم» يقولها نيقولا برديائف صراحة: «وثمة اختلاف كبير بين نيتشه ودوستويفسكي، فدوستويفسكي تعرف على ما في تأليه الإنسان من وهم، كما أنه ارتاد بعمق طريق الطغيان الإنساني، وكان يمتلك علمًا آخر، إذا كان يبصر نور المسيح. أما نيتشه فعلى العكس كانت تسيطر عليه فكرة الإنسان الأعلى التي اغتالت فيه فكرة الإنسان».
أبطال انفعاليون
بعد هذا العرض للشخصيات النيتشوية في روايات دوستويفسكي يبقى لنا أن نلقي نظرة على نقطتي تلاقٍ أخريين، كالنقطتين اللتين بدأنا بهما المقال، بين طبيعة نيتشه كفيلسوف وطبيعة شخصيات دوستويفسكي الروائية، وقد فضلت أن أؤجل ذكرهما لما بعد التعرض لروايات دوستويفسكي وفلسفة نيتشه والإشارة إلى الشخصيات النيتشوية عند الأول، ليكون الكلام مفهومًا أكثر، والنقطة الأولى هي التناقض والازدواجية، وهما صفة مشتركة في شخصيات كثيرة كتبها دوستويفسكي، ويوجدان أيضًا لدى نيتشه، إلى حد أن كارل ياسبرز قال عنه: «من الممكن أن نجد لدى نيتشه بصدد كل حكم نقيضه، فكأن له في الأشياء رأيين، وقد أمكن لمعظم الأطراف أن تختبئ خلف سلطته: الملحدون والمؤمنون، المحافظون والثوريون، الاشتراكيون والفرديون، العلماء المنهجيون والحالمون، السياسيون واللاسياسيون، أحرار الفكر والمتعصبون». نستطيع القول إن ياسبرز يتجنى على نيتشه بقدر ما، فلا أظن أن مؤمنًا يمكنه أن يختبئ وراء فلسفته، لكن ذلك أيضًا لا ينفي عنه صفة التناقض والازداوجية. وفي كتابه عن نيتشه، الصادر عن دار المعارف بمصر، يقول فؤاد زكريا في مقدمة الكتاب: «والمهمة الكبرى بالنسبة إلى دارس نيتشه في عصرنا الحالي ليست هي أن يتساءل: هل كان نيتشه فيلسوفًا عقليًا، فرديًا، متناقضًا مع نفسه؟ وإنما أن يتساءل: لم كان نيتشه فيلسوفًا لا عقليًا، فرديًا، متناقضًا مع نفسه؟» نواحي التناقض عند نيتشه كثيرة ويمكن أن يؤلف عنها كتابًا منفصلًا، لكن على سبيل المثال، كما يوضح فؤاد زكريا في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه، يمكن النظر إلى موقفه من العلم، وهو كان مؤمنًا به أشد إيمان واثقًا فيه أشد ثقة، ولهذا نجده يهاجم الميتافيزيقا هجومًا عنيفًا، على أنه تناقض مع إيمانه بالوجودية التي تؤمن، كما كان يؤمن هو بالضبط، بأن الإنسان متجدد وليس له ماهية ثابتة متحجرة، ولكن الوجودية لا تثق في العلم ثقة نيتشه فيه. أما شخصيات دوستويفسكي فهي مصابة أيضًا بالتناقض والازدواجية، لكنها تختلف في الدرجة والموضوعات، سنجدها مصابة بازدواجية في علاقاتها العاطفية، في حبها الأفلاطوني والشهواني، في علاقتها بالبشر، في أفكارها نحو الله والأخلاق. في «الإخوة كارامازوف» لدينا بطل يحب الناس وهو على مبعدة منهم، يحبهم حبًا يصور له أنه على استعداد أن يضحي بنفسه من أجل البشرية عامة، لكنه ما إن يقترب من أحدهم حتى تسوءه منه أبسط التصرفات، وربما يشعر بكراهية شديدة نحو أحد الناس لمجرد أنه يصدر صوتًا وهو يأكل. في «الجريمة والعقاب» لدينا بطل يجيب مرة على المحقق بأنه يؤمن بالله، ومرة أخرى يجيب على سونيا بأنه غير مؤمن بالله، بطل يحلم بحصان يضربونه مجموعة سكارى فيبكيه ويرى الحلم بشعًا، ثم هو نفسه يقتل امرأة عجوزًا، بطل قاتل ومشفق في آن. وفي «إنسان القبو» لدينا بطل يحتقر زملاءه ولكنه في أحيان أخرى يعتقد بأنهم أرفع منه. وشخصيات دوستويفسكي في كثير من الأحيان لا تقر بازدواجيتها وقد لا تراها أصلًا، وكذلك نيتشه لا يعترف بازدواجيته. نيتشه غير مرتكز على مذهب فلسفي بعينه، إنه يهاجم المذاهب كلها، وأبطال دوستويفسكي أيضًا غير مرتكزين، إنهم مثل نيتشه نفسيون، بمعنى أنهم انفعاليون، تحركهم المشاعر والانفعالات أكثر مما يحركهم العقل، أو لنقل إن أفكارهم مصدرها المشاعر والانفعالات، ولهذا يكونوا غير مرتكزين.
النقطة الثانية هي في التشابه بين نيتشه الذي كان يرى أن الحقيقة التي تحتاج إلى إثبات ليست بحقيقة، ولهذا كان كثيرًا ما يعرض أفكاره دون أن يكلف نفسه متاعب إثباتها، ولم تكن لديه أفكار محددة عن أشياء كثيرة كفكرته عن الحياة مثلًا، إلا اعتبارها بأنها إرادة القوة، لكنها فكرة أوسع من أن نعتبرها محددة ودقيقة، وبين شخصيات دوستويفسكي التي أيضًا كانت لا تثبت حقائقها، إما لأنها عاجزة عن ذلك بالكلام، أو لأنها لا تعرف أصلًا حقائقها وتصاب بقدر كبير من التشوش، إنها شخصيات عارفة لنفسها وجاهلة في آن. بطل «الجريمة والعقاب» لا يعرف بالضبط ملامح الفكرة السامية التي سيغير بها العالم، هو مشوش وينسحب تشوشه هذا على جريمته فتبدو جريمة مفككة ساذجة، غير متقنة، مضحكة ربما، جريمة مثل صاحبها مشوشة. خطة المراهق أيضًا للثراء هي خطة مشوشة ضعيفة تسوقه إلى الوقوع في الديون، في «الشياطين» أيضًا لدينا أبطال مثل سابقيهم، أبطال بينهم وبين أفكارهم هوة كبيرة، تجعلهم يبدون تافهين رغم قسوة وشيطنة تفكيرهم. الأمر نفسه في «الإخوة كارامازوف»، لدينا شخصيات لا تستطيع أن تعبر عن نفسها وحقيقتها وفي مقدمتهم إيفان ودميتري، حتى في رواية إنسان القبو، وهي التي جاءت بضمير المتكلم، والبطل فيها يحكي طيلة الرواية عن نفسه وعن مشاعره وأفكاره، إلا أنه لا يعرف نفسه تمام المعرفة. كانت حياتي كئيبة مشوشة، يقول في بداية الجزء الثاني من الرواية.
هكذا تكون نقاط الاتفاق بين نيتشه و دوستويفسكي، في رؤيتهما للعالم والإنسان والله، أقل بكثير من نقاط الاختلاف، والاختلاف بينهما هو الجوهري، لهذا فإن كل المقدمات المنطقية لروايات دوستويفسكي هي نقيض لفلسفات نيتشه ومناهضة لها، يناهض فلسفته القائلة بنفعية الإلحاد والنظر إليه على أنه خير فعل يقوم به إنسان على وجه الأرض. يناهض فلسفته المبشرة بالإنسان الأعلى. يناهض تبريره للقسوة، لإرادة القوة، يناهض فلسفته القائلة بأن حرية الإنسان وخلاصه تكمن في تلبية رغباته. يناهض زرداشته.
حصان تورين
دوستويفسكي لم يكن، رغم خلافه مع شخصياته، كارهًا لها، وإلا لما استطاع أن يرسمها بكل هذه الدقة
لنترك فلسفة نيتشه الآن جانبًا، وإن كنا لا يمكن أن نتحقق منه وهو في معزل عنها، فقد امتزجت فلسفته بحياته حتى صارت معجونةً فيها، ولكن لنفعل هذا حتى يتسنى لنا أن نلمس وجوده الشخصي، الدرامي، بعيدًا عن كتبه، في شخصيات دوستويفسكي ومصائرهم. سنراه أولًا في راسكولينكوف بوضوح من خلال جنون العظمة الذي كان لديه إذ أن راسكولينكوف، الذي رأى نفسه خارقًا، كان مصابًا أيضًا بالمرض نفسه، وكان إيفان في «الإخوة كارامازوف» أيضًا كذلك، وإن اختلف الاثنان، راسكولينكوف وإيفان، مع نيتشه في السبب الذي لأجله أحسا بجنون العظمة وفي مقدار إحساسهما به، إذ كان عند نيتشه أوضح وأعلى. في كتاب «غواية اللامعقول» نقرأ: «ونلمس ازدياد جنون العظمة لديه والذي يثير المشاعر والإشفاق أيضًا، بصورة واضحة في الخطاب الذي أرسله في ديسمبر عام 1888 إلى والدته ويقول فيه: بصفة عامة أصبح ابنك الذي كبر شخصًا مشهورًا الآن، ومن بين المعجبين بي عباقرة حقيقيون، ولا يحظى اليوم اسم مثل اسمي بالتقدير الكبير والتبجيل وترين أن هذه أعجب نكتة، فمن دون حسب ولا مرتبة رسمية ولا ثروة يعاملني الناس معاملة أمير صغير، وأنا أعني جميع الناس، حتى البائعة الجوالة التي لا تهدأ حتى تعثر على أحلى حبات العنب لديها لي». وكما أن شخصيات دوستويفسكي يصيبها التغير والتطور ككل الشخصيات الدرامية، سنرى تطور نيتشه أيضًا في كونه بدأ حياته دارسًا للاهوت البروتستانتي، ثم سيترك دراسة اللاهوت بعد فصل دراسي واحد مما خيب أمل والدته. في كتاب «الله في الفلسفة الحديثة» لجميس كولينز، بترجمة فؤاد كامل، والصادر عن دار آفاق للنشر والتوزيع، نقرأ قصيدة نظمها نيتشه في مطلع شبابه خاطب فيها الله قائلًا: «أريد أن أعرفك أيها الواحد المجهول/ أنت يا من تصل إلى أعمق أغوار نفسي/ وتكتسح حياتي كالعاصفة الهوجاء/ أنت يا من تند عن التصور/ ومع ذلك ترتبط بنا أشد الارتباط /أريد أن أعرفك بل أن أعبدك»، ثم في يونيو عام 1865 أرسل إلى أخته خطابًا قال فيه: «إن طرق الرجال تفترق، فإذا كنت ترغب في سلام الروح والطمأنينة فعليك بالإيمان، وإذا كنت ترغب في أن تكون نصيرًا للحقيقة فعليك بالشك». وبعد ذلك سيصرح، بكل عنف وحماس، بالإلحاد وسيقول عن نفسه إنه ملحد بالفطرة والمزاج، وسيقضي أغلب عمره متفرغًا بإخلاص لأفكاره، وفي نهاية رحلته مع الكتابة سيوقع رسائل أخيرة كئيبة باسم المصلوب، ثم يصيبه الصمت، التحول الدرامي الآخر، ففي عام 1889، في تورينو، كما تقول الحكاية، يجد سائق عربة وبيده سوط يضرب به حصانه بلا رحمة، فيلقي نيتشه نفسه على الحصان ويحضنه ويقول له: «أنا أفهمك»، ويخاطب أمه قائلًا: «أنا أحمق يا أماه» وتكون هذه العبارات هي آخر ما قاله، ثم يدخل بعدها في مرحلة صمت وجنون. إن هذا التحول الدرامي الأخير في حياة نيتشه هو أيضًا تحول دوستويفسكي في المقام الأول، بمعنى أنه موجود في أعمال دوستويفسكي، موجود في «الإخوة كارامازوف» عندما خرج إيفان بعد مقتل أبيه وسجن أخيه عن صمته وهذيانه، ليس المهم هنا هو أن يصمت المتكلم أو يتكلم الصامت، المهم هو التغير، الشعور بالمسؤولية، إيفان أحس بمسؤولية نحو أخيه وعائلته، ونيتشه، في تورينو، أحس بمسؤوليته نحو الحصان وقال له أنا أفهمك واحتضنه ليحميه، وبتصرفاته بعد ذلك ومحاولاته لإظهار براءة أخيه يكون إيفان نفسه قد قالها لديمتري ضمنيًا «أنا أفهمك» وسيسعى لإظهار براءته ليحميه من السجن ظلمًا. موجود أيضًا في «الجريمة والعقاب»، فقبل وقوع الجريمة يحلم راسكولنيكوف بنفسه وهو طفل صغير يمشي مع أبيه ويرى مجموعة من السكارى يعذبون فرسة هزيلة فيجري ويرتمي على الفرسة الميتة ويبكي. إن أناه في الماضي، أناه وهو طفل، وأناه في المستقبل، عندما سيعترف بجريمته ويدين أناه الأخرى التي أحلت القتل واستهانت به، هي التي تبكي الحصان وتشفق عليه، وكذلك نيتشه، فأناه التي حضنت حصان تورينو هي أناه في الماضي، قبل أن تسيطر عليه أفكاره، وأناه المستقبلية، التي ستصمت بعد الحادثة وتدخل في الجنون. راسكولنيكوف الحاسب نفسه سوبر مان وغير تقليدي، الزرادشت الباحث عن إنسان فائق، يصمت عن جريمته، ثم يتكلم ويعترف بها، في التخطيط لها والقيام بها وصمته عنها هو زرداشت متكلم باحث عن إنسان فائق والصامت فيه هو الإنسان العادي، وفي اعترافه بها وندمه عليها هو زرادشت صامت والمتكلم فيه هو الإنسان العادي المعترف بأنه ليس سوبر مان. حادثة حصان تورينو مع نيتشه هي صمت من نيتشه الزرادشتي السوبرمان ونطق من نيتشه العادي، وسنوات الصمت التي قضاها بعد ذلك يمكن، إذا جاز القول، معادلتها دراميًا بسنوات السجن التي قضاها راسكولنيكوف بعد الاعتراف بجريمته، واستمرارًا منا لتخيل دوستويفسكي حيًا يقرأ نيتشه ويعاصره، فإن دوستويفسكي كان سينظر لسنوات صمت نيتشه على أنها كذلك، سيراه مثل أبطاله، يحمل عبء حريته ويجن بها ثم يصل من خلال التجربة إلى الصفاء والسمو، كمثل حديد لا ينصهر إلا بالنار، وستكون النار التي انصهر فيها نيتشه في نظر دوستويفسكي هي مؤلفاته، فلسفته عن إرادة القوة والخير والشر والإنسان الفائق وموت الإله، وسيكون صمته هو انصهاره. أما الاعتراف أمام أمه بكونه أحمق، فهو أيضًا يمكن اعتباره اعترافًا دوستويفسكيًا، فمعظم أبطال دوستويفسكي يعترفون بحماقتهم، بعضهم يعترف بها منذ البداية وبعضهم يعترف بها عند اقتراب النهاية، عند الإفاقة من جموحهم والتحرر من سيطرة أفكارهم، أو انفعالاتهم، عليهم.
يبقى لنا أن نقول أخيرًا إن دوستويفسكي لم يكن، رغم خلافه مع شخصياته، كارهًا لها، وإلا لما استطاع أن يرسمها بكل هذه الدقة، إنه يفهمها جيدًا ويستوعب ما فيها ويشفق عليها ويحبها رغم خلافه معها.
***
(يمكن الرجوع إلى روايات دوستويفسكي موضوع البحث ومؤلفات نيتشه والكتب المشار إليها في نص الدراسة كمراجع)
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه